العفو..تاج المكارم.
* مركز نون للتأليف والترجمة.
...........................
- الظلم:
الظلم لغة: وضع الشيء في غير موضعه، فالشرك ظلم عظيم، لجعله موضع التوحيد عند المشركين.
وعرفاً هو: بخس الحقّ، والإعتداء على الآخرين، قولاً أو عملاً، كالسباب، والإغتياب، ومصادرة المال، واجترام الضرب أو القتل، ونحو ذلك من صور الظلامات الماديّة أو المعنويّة.
- أنواع الظلم:
يتنوّع الظلم صوراً نُشير إليها إشارة لامحة:
1- أوّل ما يتبادر إلى الذهن من أنواع الظلم هو ظلم الآخرين، سواء الظلم الفردي أو الإجتماعي، كأنّ يظلم الإنسان صديقه أو قريبه أو عائلته وأرحامه، أو كان تظلم جماعة جماعة أخرى، أو كأن يظلم حاكم رعيّته، أو رئيس مرؤوسيه.
وأبشع المظالم الإجتماعية، ظلم الضعفاء، الذين لا يستطيعون صدّ العدوان عنهم، ولا يملكون إلا الشكاة والضراعة إلى العادل الرحيم في أساهم وظلاماتهم.
2- ظلم الإنسان نفسه:
وهناك نوع من الظلم لا يلتفت إليه الكثير من الناس، وهو ظلم النفس، حيث يحسب الكثير منهم أنّهم أحرار إتّجاه ذواتهم، فيُسيئون إليها بأن يضعوها في المواضع التي لم يرِد الله لهم أن يضعوها فيه، وأن يبخسوا حقّها، ويعتدوا عليها.
وبكلمة مختصرة ظلم النفس يتحصّل بعصيان الله وعدم طاعته.
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10).
قال تعالى: (.. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (الطلاق/ 1).
و قيل "ظلم نفسه من عصى الله وأطاع الشيطان".
ومَن يظلم نفسه التي هي أحبّ إليه من أيِّ شيء سيظلم غيره، يقال : "كيف يعدل في غيره مَن يظلم نفسه؟!".
هذا وظلم النفس قد يغفره الله إذا اعترف الإنسان بذنبه وتاب إلى ربّه توبة نصوح، وهذا ما أكّد عليه النصّ القرآني: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (القصص/ 16).
ولكنّ ظلم الآخرين أكثر تعقيداً.
يقول رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله.
فأمّا الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله تعالى: (..إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ...) (المائدة/ 72).
وأمّا الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربّه، من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإنّ الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء الله.
وأمّا الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة.
ومن هنا كان من الحسن أن نعفو عمّن ظلمنا، لأنّنا إن لم نعفُ عنه، ابتعد عن رحمة الله، فكما تطلبون العفو من الله عن ظلم أنفسكم فاعفوا عن الناس عسى أن يغفر الله لكم.
"اللّهمّ إنّك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا..".
.............................
- العفو والمغفرة:
إنّ الله جلّ جلاله واسع الرحمة والمغفرة، كما وصف ذاته المقدّسة في محكم كتابه الكريم: (..إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء/ 43).
ونحن عبيده التائهين في ظلمات الدنيا لسنا بغنى عن عفوه ومغفرته الواسعة، "إلهي أفكّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليَّ بليّتي".
ولكن نحن عبيده المتجرِّئون على معصيته في حضرة قدسه، نرى خيره إلينا نازلاً وشرّنا إليه صاعداً، فهو يُقبل علينا بالعفو والمغفرة، ونحن نعصيه بل نزداد عصياناً، وكأنّنا لا نعلم بأنّ المغفرة الإلهيّة تتنزّل على مَن اجتنب الذنوب والمعاصي،"مَن تنزّه عن حُرمات الله سارع إليه عفو الله".
لذا دعونا نرفع أكفّنا ونتوجّه بقلب خاشع خائف مُنكسر مُتذلّل، وبعين باكية راجية رحمة الله ومغفرته،إلهي جودك بسط أملي، وعفوك أفضل من عملي...
إلهي إن أخذتني بجرمي أخذتك بعفوك، وإن أخذتني بذنوبي أخذتك بمغفرتك...
فلا تجعلني ممّن صرفت عنه وجهك، وحجبه سهوه عن عفوك".
- الصفح الجميل:
أن تتّصف بصفات الله جلّ جلاله وبأخلاق بيت النبوّة، فهو الجميل بعينه، والله تبارك وتعالى قد حثّنا على أن نكون من أهل الصفح الجميل عمّن ظلمنا وأساء إلينا، قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/ 85).
إذا تُعتبر صفة العفو والصفح الجميل من أجمل مكارم الأخلاق التي يتخلق بها المؤمن في الدنيا والآخرة، بل هي تاج المكارم كما يُعبِّر الإمام علي : "العفو تاج المكارم"،و قد قيل : "ثلاث من مكارم الدنيا والآخرة: تعفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلُم إذا جُهِل عليك".
- مقام العافين عن الناس عند الله:
أن نكون من أهل العفو يعني أنّنا قد اتّصفنا بصفة أحبّها الله تعالى كما يقول رسول الرحمة (صلى الله عليه و سلم): "إنّ الله عفوّ يُحبُّ العفو".
إضافة إلى أنّنا سنكون من المحسنين الذين أيضاً حبّهم الله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134)، وعنه (ص) قال: رأيت ليلة أُسري بي قصوراً مستوية مُشرفة على الجنة.
فقلت: يا جبرائيل لمن هذا؟
فقال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يُحبُّ المحسنين".
فهنيئاً لمن فاز بهذا المقام، وهنيئاً لمن سيفوز بأجر الله تعالى الذي وعد به في محكم كتابه العزيز: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى/ 40).
قال رسول الله (ص): "إذا أوقِف العباد نادى منادٍ: ليقم من أجرُه على الله وليدخل الجنة، قيل: من ذا الذي أجرُه على الله؟
قال: العافون عن الناس".
"شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو والعدل".
كما إنّ من آثار وبركات التخلُّق بصفة العفو، أمور عدّة منها:
1- إنّ عفو الناس بعضهم عن بعض يُزيل الضغائن والأحقاد فيما بينهم، قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "تعافوا تسقط الضغائن بينكم".
2- إنّ اتصاف المؤمن بصفة العفو يزيده عزاً كما قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "عليكم بالعفو، فإنّ العفو لا يزيد العبد إلا عزّاً، فتعافوا يُعزّكم الله". لا تحسبوا أنّ العفو عن الآخرين فيه ذلٌّ لكم.
3- إنّ كثرة العفو والصفح الجميل عمّن ظلمنا يزيد في العمر، قال نبيُّ الرحمة (صلى الله عليه و سلم): "مَن كثُر عفوه مُدّفي عمره".
في المقابل قد حذّرنا أهل البيت من عقبات عدم اتّصافنا بصفة العفو،"قلّة العفو أقبح العيوب، والتسرُّع إلى الإنتقام أعظم الذنوب".
"شرُّ الناس مَن لا يعفو عن الزلّة، ولا يستر العورة".
نعم، هناك أناس لا ينبغي أن نعفو عنهم، وهم الذين يزيدهم العفو سوءاً وتكبّراً.
وقد أشارت روايات أهل البيت إلى نماذج من هؤلاء، "العفو يُفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم".
- فضيلة الإحسان:
لقد أمرنا المولى عزّوجلّ أن نكون من المحسنين ومن أهل الإحسان، وهو القائل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90)، والقائل: (.. وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77).
قال رسول الله (ص): "ألا أُخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟
العفو عمّن ظلمك.
وتصل مَن قطعك.
والإحسان إلى مَن أساء إليك.
وإعطاء مَن حرمك".
ولذا فإنّ من يمنع الإحسان فعاقبته وخيمة، "مَن كتم الإحسان عوقب بالحرمان"، إضافة إلى النهي عن المنّ على مَن نُحسن إليهم،"جمال الإحسان ترك الإمتنان".
هذا فضلاً عن أثر المنفعة للمؤمنين فيما بينهم وصلاح شؤونهم، وإشاعة المحبّة وروح الأخوّة بفضل إحسان بعضنا إلى بعض طبقاً لما أوصانا به المحسن جلّ جلاله وأهل بيت الإحسان .
"الإحسان محبّة"، و "مَن كثُر إحسانه أحبّه إخوانه".
بل بالإحسان نملك قلوب المؤمنين "بالإحسان تملك القلوب"، لذا فإنّ المحسن هو حيٌّ ولو نُقل إلى عالم الأموات، "المحسن حيٌّ وإن نُقِل إلى منازل الأموات".
هذا وإنّ من عظمة الإسلام العزيز أنّ رحمته لم تقتصر على المؤمنين بالله جلّ جلاله فقط، بل نعمة الإحسان وبركاتها تشمل حتّى المشركين بالله تعالى كبرياؤه، وتسري إلى أعقاب أعقابه.
......................
- هل قابلنا إحسان الله بالإحسان؟
إنّ من أسماء المولى عزّوجلّ (المحسن)؛ وإحسانه يشمل مخلوقاته جميعاً لا سيّما أشرفهم وأكرمهم في الخليقة وهم البشر؛ حيث أنعم عليهم بالخير والبركات وجعل كلّ الكائنات في خدمتهم.
ولكن نحن عبيده هل قابلنا هذا الإحسان بالإحسان كما أمرنا الله تعالى في محكم كتابه: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) (الرحمن/ 60)، أم إنّنا قابلناه بالذنوب والمعاصي والسيِّئات؟! ألا نستحي من أنفسنا أن نُكافئ المحسن بجزيل النعم بالإساءة وبالأعمال القبيحة الصادرة عنّا؟
"عادة اللئام المكافأة بالقبيح عن الإحسان"، "شرُّ الناس مَن كافأ على الجميل بالقبيح".
هل نحن من اللئام..؟! وهل نحن من شرِّ الناس..؟!
فلنقف مع أنفسنا ولو قليلاً ونُحاسبها ونسألها إلى أين نحن ذاهبون؟! وكيف لنا أن نردَّ الجميل ونُقابل الإحسان بالإحسان؟
لكي نعرف الجواب الصائب ونسلك الطريق الصحيح، علينا أن نعود إلى منبع الحكمة والهدى..
وروي أنّ النبي (صلى الله عليه و سلم) سُئل عن الإحسان، فقال (ص): "أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك".
إذاً، لكي نكون من المحسنين لابدّ أن نأتي بأعمالنا على وجه حسن؛ أي الإخلاص لله وحده وطاعته، قال تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 112).
وبالنتيجة: إنّ الله سبحانه في غنىً عنّا ونحن الفقراء إليه، أليس هو القائل: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا...) (الإسراء/ 7)، (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت/ 6).
- مقام المحسن عند الله:
إنّ الله سبحانه يُحبُّ المحسنين: (.. وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة/ 195)، بل (.. إنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69)، وإنّ رحمته قريبة منهم: (.. إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56).
المصدر: كتاب مظاهر الرحمة.
.................
موقع البلاغ.
* مركز نون للتأليف والترجمة.
...........................
- الظلم:
الظلم لغة: وضع الشيء في غير موضعه، فالشرك ظلم عظيم، لجعله موضع التوحيد عند المشركين.
وعرفاً هو: بخس الحقّ، والإعتداء على الآخرين، قولاً أو عملاً، كالسباب، والإغتياب، ومصادرة المال، واجترام الضرب أو القتل، ونحو ذلك من صور الظلامات الماديّة أو المعنويّة.
- أنواع الظلم:
يتنوّع الظلم صوراً نُشير إليها إشارة لامحة:
1- أوّل ما يتبادر إلى الذهن من أنواع الظلم هو ظلم الآخرين، سواء الظلم الفردي أو الإجتماعي، كأنّ يظلم الإنسان صديقه أو قريبه أو عائلته وأرحامه، أو كان تظلم جماعة جماعة أخرى، أو كأن يظلم حاكم رعيّته، أو رئيس مرؤوسيه.
وأبشع المظالم الإجتماعية، ظلم الضعفاء، الذين لا يستطيعون صدّ العدوان عنهم، ولا يملكون إلا الشكاة والضراعة إلى العادل الرحيم في أساهم وظلاماتهم.
2- ظلم الإنسان نفسه:
وهناك نوع من الظلم لا يلتفت إليه الكثير من الناس، وهو ظلم النفس، حيث يحسب الكثير منهم أنّهم أحرار إتّجاه ذواتهم، فيُسيئون إليها بأن يضعوها في المواضع التي لم يرِد الله لهم أن يضعوها فيه، وأن يبخسوا حقّها، ويعتدوا عليها.
وبكلمة مختصرة ظلم النفس يتحصّل بعصيان الله وعدم طاعته.
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10).
قال تعالى: (.. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (الطلاق/ 1).
و قيل "ظلم نفسه من عصى الله وأطاع الشيطان".
ومَن يظلم نفسه التي هي أحبّ إليه من أيِّ شيء سيظلم غيره، يقال : "كيف يعدل في غيره مَن يظلم نفسه؟!".
هذا وظلم النفس قد يغفره الله إذا اعترف الإنسان بذنبه وتاب إلى ربّه توبة نصوح، وهذا ما أكّد عليه النصّ القرآني: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (القصص/ 16).
ولكنّ ظلم الآخرين أكثر تعقيداً.
يقول رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله.
فأمّا الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله تعالى: (..إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ...) (المائدة/ 72).
وأمّا الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربّه، من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإنّ الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء الله.
وأمّا الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة.
ومن هنا كان من الحسن أن نعفو عمّن ظلمنا، لأنّنا إن لم نعفُ عنه، ابتعد عن رحمة الله، فكما تطلبون العفو من الله عن ظلم أنفسكم فاعفوا عن الناس عسى أن يغفر الله لكم.
"اللّهمّ إنّك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا..".
.............................
- العفو والمغفرة:
إنّ الله جلّ جلاله واسع الرحمة والمغفرة، كما وصف ذاته المقدّسة في محكم كتابه الكريم: (..إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء/ 43).
ونحن عبيده التائهين في ظلمات الدنيا لسنا بغنى عن عفوه ومغفرته الواسعة، "إلهي أفكّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليَّ بليّتي".
ولكن نحن عبيده المتجرِّئون على معصيته في حضرة قدسه، نرى خيره إلينا نازلاً وشرّنا إليه صاعداً، فهو يُقبل علينا بالعفو والمغفرة، ونحن نعصيه بل نزداد عصياناً، وكأنّنا لا نعلم بأنّ المغفرة الإلهيّة تتنزّل على مَن اجتنب الذنوب والمعاصي،"مَن تنزّه عن حُرمات الله سارع إليه عفو الله".
لذا دعونا نرفع أكفّنا ونتوجّه بقلب خاشع خائف مُنكسر مُتذلّل، وبعين باكية راجية رحمة الله ومغفرته،إلهي جودك بسط أملي، وعفوك أفضل من عملي...
إلهي إن أخذتني بجرمي أخذتك بعفوك، وإن أخذتني بذنوبي أخذتك بمغفرتك...
فلا تجعلني ممّن صرفت عنه وجهك، وحجبه سهوه عن عفوك".
- الصفح الجميل:
أن تتّصف بصفات الله جلّ جلاله وبأخلاق بيت النبوّة، فهو الجميل بعينه، والله تبارك وتعالى قد حثّنا على أن نكون من أهل الصفح الجميل عمّن ظلمنا وأساء إلينا، قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/ 85).
إذا تُعتبر صفة العفو والصفح الجميل من أجمل مكارم الأخلاق التي يتخلق بها المؤمن في الدنيا والآخرة، بل هي تاج المكارم كما يُعبِّر الإمام علي : "العفو تاج المكارم"،و قد قيل : "ثلاث من مكارم الدنيا والآخرة: تعفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلُم إذا جُهِل عليك".
- مقام العافين عن الناس عند الله:
أن نكون من أهل العفو يعني أنّنا قد اتّصفنا بصفة أحبّها الله تعالى كما يقول رسول الرحمة (صلى الله عليه و سلم): "إنّ الله عفوّ يُحبُّ العفو".
إضافة إلى أنّنا سنكون من المحسنين الذين أيضاً حبّهم الله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134)، وعنه (ص) قال: رأيت ليلة أُسري بي قصوراً مستوية مُشرفة على الجنة.
فقلت: يا جبرائيل لمن هذا؟
فقال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يُحبُّ المحسنين".
فهنيئاً لمن فاز بهذا المقام، وهنيئاً لمن سيفوز بأجر الله تعالى الذي وعد به في محكم كتابه العزيز: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى/ 40).
قال رسول الله (ص): "إذا أوقِف العباد نادى منادٍ: ليقم من أجرُه على الله وليدخل الجنة، قيل: من ذا الذي أجرُه على الله؟
قال: العافون عن الناس".
"شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو والعدل".
كما إنّ من آثار وبركات التخلُّق بصفة العفو، أمور عدّة منها:
1- إنّ عفو الناس بعضهم عن بعض يُزيل الضغائن والأحقاد فيما بينهم، قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "تعافوا تسقط الضغائن بينكم".
2- إنّ اتصاف المؤمن بصفة العفو يزيده عزاً كما قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "عليكم بالعفو، فإنّ العفو لا يزيد العبد إلا عزّاً، فتعافوا يُعزّكم الله". لا تحسبوا أنّ العفو عن الآخرين فيه ذلٌّ لكم.
3- إنّ كثرة العفو والصفح الجميل عمّن ظلمنا يزيد في العمر، قال نبيُّ الرحمة (صلى الله عليه و سلم): "مَن كثُر عفوه مُدّفي عمره".
في المقابل قد حذّرنا أهل البيت من عقبات عدم اتّصافنا بصفة العفو،"قلّة العفو أقبح العيوب، والتسرُّع إلى الإنتقام أعظم الذنوب".
"شرُّ الناس مَن لا يعفو عن الزلّة، ولا يستر العورة".
نعم، هناك أناس لا ينبغي أن نعفو عنهم، وهم الذين يزيدهم العفو سوءاً وتكبّراً.
وقد أشارت روايات أهل البيت إلى نماذج من هؤلاء، "العفو يُفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم".
- فضيلة الإحسان:
لقد أمرنا المولى عزّوجلّ أن نكون من المحسنين ومن أهل الإحسان، وهو القائل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90)، والقائل: (.. وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77).
قال رسول الله (ص): "ألا أُخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟
العفو عمّن ظلمك.
وتصل مَن قطعك.
والإحسان إلى مَن أساء إليك.
وإعطاء مَن حرمك".
ولذا فإنّ من يمنع الإحسان فعاقبته وخيمة، "مَن كتم الإحسان عوقب بالحرمان"، إضافة إلى النهي عن المنّ على مَن نُحسن إليهم،"جمال الإحسان ترك الإمتنان".
هذا فضلاً عن أثر المنفعة للمؤمنين فيما بينهم وصلاح شؤونهم، وإشاعة المحبّة وروح الأخوّة بفضل إحسان بعضنا إلى بعض طبقاً لما أوصانا به المحسن جلّ جلاله وأهل بيت الإحسان .
"الإحسان محبّة"، و "مَن كثُر إحسانه أحبّه إخوانه".
بل بالإحسان نملك قلوب المؤمنين "بالإحسان تملك القلوب"، لذا فإنّ المحسن هو حيٌّ ولو نُقل إلى عالم الأموات، "المحسن حيٌّ وإن نُقِل إلى منازل الأموات".
هذا وإنّ من عظمة الإسلام العزيز أنّ رحمته لم تقتصر على المؤمنين بالله جلّ جلاله فقط، بل نعمة الإحسان وبركاتها تشمل حتّى المشركين بالله تعالى كبرياؤه، وتسري إلى أعقاب أعقابه.
......................
- هل قابلنا إحسان الله بالإحسان؟
إنّ من أسماء المولى عزّوجلّ (المحسن)؛ وإحسانه يشمل مخلوقاته جميعاً لا سيّما أشرفهم وأكرمهم في الخليقة وهم البشر؛ حيث أنعم عليهم بالخير والبركات وجعل كلّ الكائنات في خدمتهم.
ولكن نحن عبيده هل قابلنا هذا الإحسان بالإحسان كما أمرنا الله تعالى في محكم كتابه: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) (الرحمن/ 60)، أم إنّنا قابلناه بالذنوب والمعاصي والسيِّئات؟! ألا نستحي من أنفسنا أن نُكافئ المحسن بجزيل النعم بالإساءة وبالأعمال القبيحة الصادرة عنّا؟
"عادة اللئام المكافأة بالقبيح عن الإحسان"، "شرُّ الناس مَن كافأ على الجميل بالقبيح".
هل نحن من اللئام..؟! وهل نحن من شرِّ الناس..؟!
فلنقف مع أنفسنا ولو قليلاً ونُحاسبها ونسألها إلى أين نحن ذاهبون؟! وكيف لنا أن نردَّ الجميل ونُقابل الإحسان بالإحسان؟
لكي نعرف الجواب الصائب ونسلك الطريق الصحيح، علينا أن نعود إلى منبع الحكمة والهدى..
وروي أنّ النبي (صلى الله عليه و سلم) سُئل عن الإحسان، فقال (ص): "أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك".
إذاً، لكي نكون من المحسنين لابدّ أن نأتي بأعمالنا على وجه حسن؛ أي الإخلاص لله وحده وطاعته، قال تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 112).
وبالنتيجة: إنّ الله سبحانه في غنىً عنّا ونحن الفقراء إليه، أليس هو القائل: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا...) (الإسراء/ 7)، (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت/ 6).
- مقام المحسن عند الله:
إنّ الله سبحانه يُحبُّ المحسنين: (.. وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة/ 195)، بل (.. إنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69)، وإنّ رحمته قريبة منهم: (.. إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56).
المصدر: كتاب مظاهر الرحمة.
.................
موقع البلاغ.