من يقف خلف تسطيح الوعي؟!
بمستوى الوعي و اليقظة لدى أي مجتمع و أمة، يكون التغيير و التطوير، و لا فرق بين أن يكون هذا الوعي سياسياً يدفع ليس فقط نحو الاطاحة بالديكتاتوريات، و إنما بالثقافة الديكتاتورية و يسعى نحو ثقافة الديمقراطية و التعددية، و بين أن يكون اقتصادياً ايضاً، بحيث يدفع نحو النمو و التقدم و ايجاد الآليات و الاساليب و الشروط المطلوبة، كذلك الحال في الوعي الامني او الوعي الاجتماعي.
لذا نلاحظ أن المفكرين الساعين الى تغيير حقيقي في بلادهم، يتّسمون بالعمق و الشمولية في افكارهم و نظرياتهم، و يجعلون المجتمع يفكر بطريقة متكاملة في معالجته للأزمات و تحليله للظواهر. مثال ذلك؛ الديكتاتورية، كيف تتولد؟ و ما هي البيئة التي تنمو فيها؟ هذه الاسئلة و غيرها، حول قضايا و ظواهر عديدة، من شأنها ان تفتح آفاقاً للثقافة و المعرفة تفضي بالنتيجة الى صياغة حلول عملية.
إذن؛ نحن أمام تغيير حقيقي ثم مشروع بناء حضاري عظيم يشارك فيه الجميع، من صغير و كبير، و عالم و متعلم، و رجل و إمرأة، و جميع الشرائح و الفئات. و هنا تحديداً يحصل الاصطدام – في كثير من الاحيان- بين هذا الطموح الجماهيري العارم، و بين الطموح الفئوي الخاص لطامحين نحو السلطة و الباحثين عن مصالح شخصية او فئوية، و حتى لا تحصل القطيعة بين قمة الهرم و القاعدة او بين النخبة و الجماهير، حيث الحاجة دائماً قائمة في اقامة هذه العلاقة، نشهد جملة من الفعاليات الثقافية و الفكرية، بل حتى رعاية هذه الفعاليات بشكل رسمي بهيج، حيث هنالك التكريم و التبجيل و توزيع الهدايا و الامتيازات المغرية التي من شأنها ان تنسي كل شيء...!
لكن لماذا هذا الخوف من "تعميق الوعي" و نشر الثقافة الصحيحة و البناءة...؟
إن نظرة خاطفة على منهج و سلوك النخبة السياسية و الثقافية، يجيب بسهولة عن هذا السؤال القديم – الجديد.
إن الديكتاتورية – مثلاً- و العنف و الاستئثار بالسلطة و المال و غيرها من النوازع النفسية التي تستفحل عند كل طامح للظهور وا لاستئثار على حساب الآخرين. لذا نلاحظ هذه الحالة موجودة في رجال الانقلاب العسكري، كما نجدها ايضاً في بعض النخب الثقافية، كما تظهر حتى في بعض التجمعات الصغيرة داخل المجتمع. فليس من المهم معرفة لماذا اتخذ هذا القرار دون غيره، او من هو الذي يتخذ القرار؟ او من هم...؟! و لماذا يتم التركيز على هذا المحور و الجانب دون غيره؟ إنما المهم، المسايرة و الموافقة، ثم التصفيق و التهليل...
و لعل هذا يفسر بوضوح استمرار الديكتاتورية كمفهوم و تطبيق عملي في بلدان انتفضت وضحّت بالغالي و النفيس للقضاء على هذه الديكتاتورية، و كذلك بالنسبة للعنف، مثال ذلك، العراق، الذي عانى ما عانى من هذه الظاهرة المرضية الفتاكة، فمع وجود الكم الهائل من التنظير و التثقيف قبل و بعد حقبة الديكتاتورية (الصدامية)، نلاحظ العنف، ظاهرة اجتماعية و سلوك سياسي لا يمكن بأي حال من الاحوال المساس به. كذلك الحال بالنسبة للاستبداد بالرأي و الاستئثار بالسلطة و المال.
من هنا؛ نجد ان الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي يحذر بشدّة من ظاهرة التسطيح في الوعي و الثقافة في معظم احاديثه و مؤلفاته، و منها كتابه "لكيلا تتنازعوا" فهو عندما يعلّمنا الألف فانه يمضي بنا الى حيث تعلّم الياء ايضاً، فالقضية ليست في إثارة المشاعر و الاحاسيس ضد قضية معينة او ظاهرة، مثل الاستعمار – مثلاً- او الحاكم الظالم الذي يسرق قوت الشعب و يكبت الحريات، لان النتائج واضحة على ارض الواقع، إنما المهم البحث عن الخلفيات و الجذور، ثم المعالجة الناجعة و الحقيقية. فعندما يتحدث عن محاربة علماء الدين الناشطين في المجال الثقافي و الفكري، فانه يسلط الضوء على اسلوب السلطة في التعامل مع مكانة العالم بين الجماهير، فهي لا تلغي او تحارب هذه المكانة، إنما "تمدح و تكرم كل رجل دين لا يأمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر و لا يتدخل في الشؤون الاجتماعية، و كان المسؤولون في الدولة يزورون كل من هو على هذه الشاكلة...". و يتذكر سماحته في كتابه كيف أن اتهامات بالعمالة للاجنبي توجه الى علماء الدين الحقيقيين منذ العهد الملكي ثم الجمهوري.
هذا التوجه التسطيحي – إن صحّ التعبير- في الثقافة، هو الذي يجعل الناس لا يعيرون اهمية للمشاركة في مشاريع اجتماعية و ثقافية او حتى ما يتعلق بتطوير الخدمات في المناطق السكنية، مثل تشكيل لجان للنظافة او لمتابعة التبذير في الماء و الكهرباء و التجاوزات الحاصلة على المال العام، فضلاً عن المشاركة في مشاريع مثل تشييد المكتبات او صناديق التسليف او تشكيل منتديات قرآنية و غيرها، لان الكثير يعدونها ربما بمنزلة "التغريد خارج السرب" او السباحة عكس التيار و غير ذلك، فلا بأس من المسايرة و عدم إثارة المشاكل...! و هذا ما يعبّر عنه سماحة الامام الرحال بـ "مصادرة الوعي"، و عندما يقل منسوب الوعي، بالتأكيد تقل قدرة الانسان على تحمل المسؤولية الاجتماعية و الثقافية العامة.
ثم يتحدث سماحته عن تجاربه في هذا المجال، عندما يشير الى مخاوف البعض من الحديث عن الاقتصاد و حقوق العمال و الفلاحين خوفاً من اتهامهم باستنساخ النظريات الرأسمالية او الاشتراكية، او الحديث او الحريات الاسلامية خوفاً من الاتهام بالانحراف عن المبادئ و القيم...! او ربما الاتهام بتطبيق العكس، بفرض المزيد من القيود و الالتزامات غير المبررة، كما حصل في تجارب فاشلة في بعض البلاد.
و اذا كانت حقاً ثمة نوايا حقيقية للتغيير و التطوير التي تستحقها بلادنا، و في مقدمتها العراق، فلابد من العمق في التفكير و النفاذ في الرؤية فـ "بدون الرؤية لا يتحقق الوعي، كما انه بدون الممارسة الصحيحة لا تكمل الرؤية". و هذا يتطلب نهضة شاملة واسعة النطاق في القاعدة الجماهيرية تخرجنا من حالة التسطيح و التعويم في الافكار و عدم التوقف عند الظواهر ثم التباكي على النتائج المؤلمة.
.......
شبكة النبأ المعلوماتية: محمد علي جواد تقي 2015-2-9
بمستوى الوعي و اليقظة لدى أي مجتمع و أمة، يكون التغيير و التطوير، و لا فرق بين أن يكون هذا الوعي سياسياً يدفع ليس فقط نحو الاطاحة بالديكتاتوريات، و إنما بالثقافة الديكتاتورية و يسعى نحو ثقافة الديمقراطية و التعددية، و بين أن يكون اقتصادياً ايضاً، بحيث يدفع نحو النمو و التقدم و ايجاد الآليات و الاساليب و الشروط المطلوبة، كذلك الحال في الوعي الامني او الوعي الاجتماعي.
لذا نلاحظ أن المفكرين الساعين الى تغيير حقيقي في بلادهم، يتّسمون بالعمق و الشمولية في افكارهم و نظرياتهم، و يجعلون المجتمع يفكر بطريقة متكاملة في معالجته للأزمات و تحليله للظواهر. مثال ذلك؛ الديكتاتورية، كيف تتولد؟ و ما هي البيئة التي تنمو فيها؟ هذه الاسئلة و غيرها، حول قضايا و ظواهر عديدة، من شأنها ان تفتح آفاقاً للثقافة و المعرفة تفضي بالنتيجة الى صياغة حلول عملية.
إذن؛ نحن أمام تغيير حقيقي ثم مشروع بناء حضاري عظيم يشارك فيه الجميع، من صغير و كبير، و عالم و متعلم، و رجل و إمرأة، و جميع الشرائح و الفئات. و هنا تحديداً يحصل الاصطدام – في كثير من الاحيان- بين هذا الطموح الجماهيري العارم، و بين الطموح الفئوي الخاص لطامحين نحو السلطة و الباحثين عن مصالح شخصية او فئوية، و حتى لا تحصل القطيعة بين قمة الهرم و القاعدة او بين النخبة و الجماهير، حيث الحاجة دائماً قائمة في اقامة هذه العلاقة، نشهد جملة من الفعاليات الثقافية و الفكرية، بل حتى رعاية هذه الفعاليات بشكل رسمي بهيج، حيث هنالك التكريم و التبجيل و توزيع الهدايا و الامتيازات المغرية التي من شأنها ان تنسي كل شيء...!
لكن لماذا هذا الخوف من "تعميق الوعي" و نشر الثقافة الصحيحة و البناءة...؟
إن نظرة خاطفة على منهج و سلوك النخبة السياسية و الثقافية، يجيب بسهولة عن هذا السؤال القديم – الجديد.
إن الديكتاتورية – مثلاً- و العنف و الاستئثار بالسلطة و المال و غيرها من النوازع النفسية التي تستفحل عند كل طامح للظهور وا لاستئثار على حساب الآخرين. لذا نلاحظ هذه الحالة موجودة في رجال الانقلاب العسكري، كما نجدها ايضاً في بعض النخب الثقافية، كما تظهر حتى في بعض التجمعات الصغيرة داخل المجتمع. فليس من المهم معرفة لماذا اتخذ هذا القرار دون غيره، او من هو الذي يتخذ القرار؟ او من هم...؟! و لماذا يتم التركيز على هذا المحور و الجانب دون غيره؟ إنما المهم، المسايرة و الموافقة، ثم التصفيق و التهليل...
و لعل هذا يفسر بوضوح استمرار الديكتاتورية كمفهوم و تطبيق عملي في بلدان انتفضت وضحّت بالغالي و النفيس للقضاء على هذه الديكتاتورية، و كذلك بالنسبة للعنف، مثال ذلك، العراق، الذي عانى ما عانى من هذه الظاهرة المرضية الفتاكة، فمع وجود الكم الهائل من التنظير و التثقيف قبل و بعد حقبة الديكتاتورية (الصدامية)، نلاحظ العنف، ظاهرة اجتماعية و سلوك سياسي لا يمكن بأي حال من الاحوال المساس به. كذلك الحال بالنسبة للاستبداد بالرأي و الاستئثار بالسلطة و المال.
من هنا؛ نجد ان الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي يحذر بشدّة من ظاهرة التسطيح في الوعي و الثقافة في معظم احاديثه و مؤلفاته، و منها كتابه "لكيلا تتنازعوا" فهو عندما يعلّمنا الألف فانه يمضي بنا الى حيث تعلّم الياء ايضاً، فالقضية ليست في إثارة المشاعر و الاحاسيس ضد قضية معينة او ظاهرة، مثل الاستعمار – مثلاً- او الحاكم الظالم الذي يسرق قوت الشعب و يكبت الحريات، لان النتائج واضحة على ارض الواقع، إنما المهم البحث عن الخلفيات و الجذور، ثم المعالجة الناجعة و الحقيقية. فعندما يتحدث عن محاربة علماء الدين الناشطين في المجال الثقافي و الفكري، فانه يسلط الضوء على اسلوب السلطة في التعامل مع مكانة العالم بين الجماهير، فهي لا تلغي او تحارب هذه المكانة، إنما "تمدح و تكرم كل رجل دين لا يأمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر و لا يتدخل في الشؤون الاجتماعية، و كان المسؤولون في الدولة يزورون كل من هو على هذه الشاكلة...". و يتذكر سماحته في كتابه كيف أن اتهامات بالعمالة للاجنبي توجه الى علماء الدين الحقيقيين منذ العهد الملكي ثم الجمهوري.
هذا التوجه التسطيحي – إن صحّ التعبير- في الثقافة، هو الذي يجعل الناس لا يعيرون اهمية للمشاركة في مشاريع اجتماعية و ثقافية او حتى ما يتعلق بتطوير الخدمات في المناطق السكنية، مثل تشكيل لجان للنظافة او لمتابعة التبذير في الماء و الكهرباء و التجاوزات الحاصلة على المال العام، فضلاً عن المشاركة في مشاريع مثل تشييد المكتبات او صناديق التسليف او تشكيل منتديات قرآنية و غيرها، لان الكثير يعدونها ربما بمنزلة "التغريد خارج السرب" او السباحة عكس التيار و غير ذلك، فلا بأس من المسايرة و عدم إثارة المشاكل...! و هذا ما يعبّر عنه سماحة الامام الرحال بـ "مصادرة الوعي"، و عندما يقل منسوب الوعي، بالتأكيد تقل قدرة الانسان على تحمل المسؤولية الاجتماعية و الثقافية العامة.
ثم يتحدث سماحته عن تجاربه في هذا المجال، عندما يشير الى مخاوف البعض من الحديث عن الاقتصاد و حقوق العمال و الفلاحين خوفاً من اتهامهم باستنساخ النظريات الرأسمالية او الاشتراكية، او الحديث او الحريات الاسلامية خوفاً من الاتهام بالانحراف عن المبادئ و القيم...! او ربما الاتهام بتطبيق العكس، بفرض المزيد من القيود و الالتزامات غير المبررة، كما حصل في تجارب فاشلة في بعض البلاد.
و اذا كانت حقاً ثمة نوايا حقيقية للتغيير و التطوير التي تستحقها بلادنا، و في مقدمتها العراق، فلابد من العمق في التفكير و النفاذ في الرؤية فـ "بدون الرؤية لا يتحقق الوعي، كما انه بدون الممارسة الصحيحة لا تكمل الرؤية". و هذا يتطلب نهضة شاملة واسعة النطاق في القاعدة الجماهيرية تخرجنا من حالة التسطيح و التعويم في الافكار و عدم التوقف عند الظواهر ثم التباكي على النتائج المؤلمة.
.......
شبكة النبأ المعلوماتية: محمد علي جواد تقي 2015-2-9