طارق النعمان
الدافع الأيديولوجي لتأسيس علم (الإعجاز القرآني)
لعلهالدافع الأيديولوجي لتأسيس علم (الإعجاز القرآني)
من المعروف أن القول بإعجاز النص القرآني قد مثّل مسلمة عقائدية بالنسبة
للمسلمين، لم يخرج عليها إلا النزر اليسير، وأن هذا النص قد تحول إلى
قابلة بالنسبة للثقافة العربية في طورها الاسلامي، لا على مستوى توليد
العديد والعديد من نصوص هذه الثقافة فحسب، بل على مستوى تكوّن المعارف
والعلوم أيضاً. ولعله معروف ـ أيضاً ـ ما كان لهذا النص من أثر وتأثير في
إنشاء الخطاب البلاغي عند العرب، إن بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولقد كان لمسلمة الإعجاز تحديداً دور بالغ الأهمية في ربط البلاغة بهذا
النص: إذ تعرضت هذه المسلمة؛ في خضم الصراع الثقافي والأيديولوجي العرقي
بين المسلمين وغيرهم من أبناء المم التي غزوها، إلى التشكيك، مما دفع
العديد من متكلمي المسلمين وغيرهم إلى تأليف العديد من الرسائل والكتب،
لتفنيد حجج الخصم، وتأكيد سلامة هذه المسلمة وتحققها في النص القرآني.
نخلص من هذا إلى أن كلاً من النص القرآني وإعجازه قد مثّل رافداً مهماً
لتشكل الخطاب البلاغي، إذ كان هذا الخطاب في جزء غير قليل منه خطاباً حول
النص. وفي هذا ما يوضح لنا كثافة الدور الأيديولوجي في تشكل الخطاب
البلاغي؛ إذ تشترك كل كتب إعجاز القرآن في حضور هذا الدافع فيها.
أما إذا نظرنا إلى عبدالقاهر فإننا سوف نجد أنه قد اشترك مع سواه من مؤلفي
تلك الرسائل والكتب في حضور هذا الدافع على نحو واضح وجلي، ليس على مستوى
تناوله لموضوع الإعجاز فحسب ـ في كتابه (دلائل الإعجاز) وفي رسالته
(الشافية) ـ بل أيضاً في كتابه الأول (أسرار البلاغة). فإذا كان كل من
كتابه (دلائل الإعجاز) ورسالته (الشافية: رسالة في إعجاز القرن) ينبئ على
نحو مباشر عن حضور هذا الدافع، من خلال حضوره الصريح في عنوان كل منهما،
فإنه يمكننا أن نجد هذا الدافع أيضاً سارياً في عمله الأول الي يقع في حيز
عملنا وهو (أسرار البلاغة)، وإن كان ليس على مستوى إثبات مسلمة الإعجاز،
ولكن على مستوى تنقية العقيدة والحفاظ عليها مما قد يشوبها من تصورات توقع
في العديد من المحاذير التي تهددها وتفتح أبواباً لتشكيكات الخصوم.
باختصار يمكننا أن نقول إن ثمة حضوراً لمستوى أيديولوجي داخل نص عبدالقاهر
ينبغي الكشف عنه ورصده في تجلياته المختلفة، الصريح منها والضمني، إذ يمثل
هذا المستوى مكوّناً أساساً من مكونات نصه، إلا أنه ينبغي التنبه إلى أنه
لا ينفرد وحده بالعمل.
فإذا كان هذا المستوى يمثل دافعاً وهدفاً في آن؛ فنيغبي التنبه أيضاً إلى
أنه ليس الدافع والهدف الوحيد لمشروع عبدالقاهر. كما ينبغي أن ننتبه أيضاً ـ
في عملنا هذا ـ إلى ما يمكن أن ينجرّ عن تحكيم هذا المستوى وحده في
معاينة نص عبدالقاهر. إذ إن ذلك سيعني أننا لن نقرأ المكونات الأخرى من
هذا النص غلا عبر وساطة هذا المستوى، وفي هذه الحالة لن يكون عملنا إلا
عملية إرجاع بسيطة، لا تخلو هي ذاتها من أيديولوجيا عن الكيفية التي تتشكل
بها المعرفة وتتحرك.
فلا شك أن كلاً من الدافع والهدف الأيديولوجي قد صاحب الأعمال السابقة على
مشروع عبدالقاهر للبرهنة على إعجاز القرآن، فهل يمكننا بناء على ذلك أن
نطابق بين عمله وعمل الآخرين وفق هذا الاتفاق في الدافع والهدف؟
بطبيعة الحال إن الجواب هو (لا) إذ إن صور البرهان في التدليل على إعجاز
القرآن قد اختلفت اختلافاً جلياً داخل تلك الأعمال، ومن ثم فإن تبين وتحديد
هذه الصورة، أي صورة البرهان، والكيفية التي يؤسس بها عبدالقاهر هذا
البرهان هو ما ينبغي أن نرصده. ولعله من المهم في هذا السياق أن نشير ـ
بداية ـ إلى أن كتاب (أسرار البلاغة) ـ على الأرجح ـ سابق لكتاب (دلائل
الإعجاز)، على العكس مما قد صرح به المستشرق ريتر في تحقيقه لهذا الكتاب من
أن (دلائل الإعجاز) هو الكتاب الأول، وأن (أسرار البلاغة) هو الكتاب
الثاني، وتبعه فيه كثيرون.
إن لهذه الإشارة أهميتها من حيث تكشف لنا عن أن مشروع عبدالقاهر منذ بدايته
لم يكن متوجهاً مباشرة إلى هدف عقائدي، بقدر ما كان يسعى إلى إنجاز هدف
معرفي، وأن دخوله إلى مجال البلاغة لم يكن دخولاً من طريق إعجاز القرآن
فحسب، وإن لم يمنع هذا أيضاً من حضور الدافع الأيديولوجي بوصفه مكوناً من
مكونات المستوى الأيديولوجي في كتاب (أسرار البلاغة) الذي يدور أغلب موضوعه
على رصد الطرائق والكيفيات التي يتشكل ويعمل بها المجاز. فعبدالقاهر في
هذا الكتاب يربط ربطاً واضحاً ومباشراً ـ في أحد نصوصه ـ بين أهمية إدراك
هذه الطرائق والكيفيات وبين سلامة المعتقد؛ إذ يقول:
(ومَن قدح في المجاز وهمّ بأن يصفه بغير الصدق فقد خبط خبطاً عظيماً ويهدف
لما لا يخفى، ولو لم يجب البحث عن حقيقة المجاز والعناية به حتى تحصّلَ
ضروبه وتضبط أقسامه إلا للسلامة من مثل هذه المقالة والخلاص مما نحا نحو
هذه الشبهة لكان من حق العاقل أن يتوفر عليه، ويصرف العناية إليه، فكيف
وبطالب الدين حاجة ماسة إليه من جهات يطول عدها، وللشيطان من جانب الجهل به
مداخل خفية يأتيهم منها فيسرق دينهم من حيث لا يشعرون، ويلقيهم في
الضلالة من حيث ظنوا أنهم يهتدون، وقد اقتسمهم البلاء فيه من جانبي
الإفراط والتفريط، فمن مغرور مغرى بنفيه دفعة، والبراءة منه جملة، يشمئز
من ذكره، وينبو عن اسمه، يرى لزوم الظواهر فرض لازم، وضرب الخيام حولها
حتم واجب، وآخر يغلو فيه ويُفرط، ويتجاوز حدّه ويخبط، فيعدل عن الظاهر
والمعنى عليه، ويسوم نفسه التعمق في التأويل ولا سبب يدعو إليه).
فعبدالقاهر يربط في هذا النص ربطاً واضحاً بين معرفة حقيقة المجاز،
والعناية به، والوعي بضروبه وأقسامه وبين سلامة المعتقد. ذلك أن عدم الوعي
به، وبأقسامه وضروبه وعياً دقيقاً، قد يؤدي إلى قرنه بالكذب، ومن ثم نفيه
عن النص القرآني، مما يؤدي إلى خلل في إدراك هذا النص، وهو ما يقوم به أهل
الظاهر، أو أهل التفريط ـ كما يسميهم عبدالقاهر ـ ومن ثم يقعون فيما
يريدون الفرار منه، أو على حد تعبير عبدالقاهر يوقعهم لاشيطان. وكذلك فإن
عدم الوعي الدقيق به يؤدي لدى آخرين وهم أهل الإفراط ـ من معتزلة وغيرهم ـ
إلى أنهم:
(ينسون أن احتمال اللفظ شرط في كل ما يُعدل به عن الظاهر، فهم يستكرهون
الألفاظ على ما لا تقله من المعاني، يدعون السليم من المعنى إلى السقيم
ويرون الفائدة حاضرة قد أبدت صفحتها وكشفت قناعها فيعرضون عنها حباً للتشوف
أو قصداً للتمويه وذهاباً في الضلالة).
إن عبدالقاهر يرد على أهل الإفراط انطلاقاً من مبدأ تأويلي مكين، وهو أن
احتمال اللفظ شرط في كل ما يُعدل به عن الظاهر، وأن للمجاز شروطاً، كما أنه
يرد على أهل التفريط من منكري المجاز بـ:
(أن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها ولم يخرج
الألفاظ عن دلالتها، وأن شيئاً من ذلك إن زيد إليه ما لم يكن قبل الشرع يدل
عليه، أو ضُمّن ما لم يتضمنه أتبع ببيان من عند النبي، وذلك كبيانه
للصلاة والحج والزكاة والصوم ـ كذلك لم يقض بتبديل عادات أهلها ولم ينقلهم
عن أساليبهم وطرقهم ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف
والاتساع. وهو يرى أن هذا وليد سوء نظر منهم ووضع الشيء في غير موضعه
وإخلال بالشريطة وخروج عن القانون وتوهم أن المعنى إذا دار في نفوسهم وعُقل
من تفسيرهم فقد فُهم من لفظ المفسر وحتى كأن الألفاظ تنقلب عن سجيتها
وتزول عن موضوعها فتحمل ما ليس من شأنها أن تحتمله).
ولكن حيث إن هدف عبدالقاهر ليس هو وضع كتاب في مجاز القرآن تحديداً ولكن
هدفه هو الوعي بالمجاز وإدراك حقيقته وأقسامه وضروبه، بما هو ظاهرة لغوية
مجاوزة للنص القرآني ـ كما أشار في نصه ضمنياً ـ إذا ما تم إدراكها وضبطها
على مستوى الكل (اللغة)، تم ضبطها على مستوى الجزء (النص القرآني)، وإنه
إذا لم تدرك وتضبط على هذا المستوى لن يمكن إدراكها داخل النص القرآني ـ
فإنه لا يهتم بمعالجات الطائفتين للأمثلة القرآنية، ولكن يهتم بهدفه الأساس
وهو إدراك وضبط حقيقة المجاز والإلمام بضروبه وأقسامه؛ ذلك أن معالجة
المجاز على مستوى النص القرآني لا يمكن لها أن تكون ناجعة بمعزل عن إدراك
كيفيات تواجده وعمله خارج النص القرآني؛ من ثم فهو لا يهدف إلى النقاش
التفصيلي فيما تقوله الطائفتان ذلك أن:
(ليس القصد ههنا بيان ذلك فأذكر أمثلته على أن كثيراً من هذا الفن مما يرغب
عن ذكره لسخفه، وإنما غرضي بما ذكرت أن أريك عظم الآفة في الجهل بحقيقة
المجاز وتحصيله، وأن الخطأ فيه مورّط صاحبه وفاضح له ومسقط قدره وجاعله
ضحكة يتفكه به وكاسيه عاراً يبقى على وجه الدهر).
يتجلى لنا من خلال هذه النصوص حضور كل من الدافع والهدف الأيديولوجي، إلا
أنه يتضح لنا أيضاً اختلاف الكيفية التي يراها عبدالقاهر ـ مقارنة بغيره ـ
لتحقيق هدفه، إن السبيل إلى ذلك ـ من منظور عبدالقاهر ـ هو امتلاك الظاهرة
والسيطرة عليها معرفياً.
لذا فإننا نجد عبدالقاهر يرفض رفضاً شديداً موقف أولئك الذين يدفعهم حرصهم
على العقيدة ـ في خضم صراعهم الأيديولوجي والثقافي ـ إلى أن يقرنوا بين
تميز العقيدة، واللغة التي تمارس بها هذه العقيدة، فيرون أن (البديع مقصور
على العرب ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة، وأربَتْ على كل لسان)، وأن
الاستعارة مقصورة على العرب، وليست في لسان غير لسانهم، وأنه ليس في
الألسنة للشيء الواحد (من الأسماء ما نعرف من اللغة، وكذلك لا نعرف فيها
الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة على ما تتناوله العربية، وكذلك
التصرف في الاستعارات والاشارات، ووجوه الاستعمالات البديعة) وأن مَن تتبع
جميع اللغات لم يجد فيها لغة تضاهي اللغة العربية و) أنه لا خفاء بميزاتها
على سائر اللغات وفضلها (و) أن لغتنا فيها من الاستعارت والألفاظ الحسنة
الموضوعة ما ليس مثله في غيرها من اللغات). إن مثل هذا المنظور الذي يرفع
العربية فوق كل لغة أخرى، يفضي من منظور عبدالقاهر، إلى عدم الوعي بظواهر
هذا العلم، كما يفضي إلى عدم إخضاع ظواهره إلى قوانين عقلية. وعليه فإن
المجاز أو الاستعارة ليس ظاهرة مختصة بالعربية ومقصورة عليها دون سواها من
اللغات، بل إن:
(وصف اللفظة بأنها حقيقة أو مجاز حكم فيها من حيث أن لها دلالة على الجملة
لا من حيث هي عربية أو فارسية أو سابقة في الوضع أو محدثة مولدة، فمن حق
الحد أن يكون بحيث يجري في جميع الألفاظ الدالة. ونظير هذا نظير أن تضع
حداً للاسم والصفة في أنك تضعه بحيث لو اعتبرت به لغة غير لغة العرب وجدته
يجري فيها جريانه في العربية لأنك تحد من جهة لا اختصاص لها بلغة دون لغة.
ألا ترى أن حدك الخبر بأنه (ما احتمل الصدق والكذب) مما لا يختص لساناً
دون لسان. ونظائر ذلك كثيرة وهو أحدج ما غفل عنه الناس ودخل عليهم اللبس
فيه حتى ظنوا أنه ليس لهذا العلم قوانين عقلية وأن مسائله مشبهة باللغة في
كونها اصطلاحاً يتوهم عليه النقل والتبديل ولقد فحش غلطهم فيه وليس هذا
موضع القول في ذلك).
إن هذا النص لعبدالقاهر يكشف عن خطورة مثل هذا المنظور في معاينة ظواهر
العلم، ويوضح أن مثل هذا المنظور هو وليد الغفلة واللبس، وأنه يفضي إلى عدم
القدرة على إدراك ظواهر هذا العلم وقوانينه ومحاصرتها معرفياً.
إذا كان كل من نص عبدالقاهر ونصوص أولئك تحضر فيها الأيديولوجيا فينبغي أن
ننتبه إلى أن آلية عملها في كل منهما مختلفة. فعلي حين يكون حضورها في نص
أولئك عائقاً وحائلاً دون إدراك ظواهر من قبيل الاستعارة والمجاز، ومفضياً
إلى التصور بأن كفاءة العربية مجاوزة لكفاءة أي لغة أخرى، على نحو تغدو
فيه هذه النصوص من قبيل القول المجاني الذي لا يعدو تمديداً لمجال
الأيديولوجيا ذاتها. أقول على حين نجد الأيديولوجيا تعمل على هذا النحو في
نصوص أولئك، فإننا نجد عبدالقاهر يسعى إلى السيطرة على ظواهر علمه
وامتلاكها معرفياً على نحو يمكنه من توظيف نتاج هذه المعرفة في تدعيم
أيديولوجيته.
إن هذه الكيفية لعمل الأيديولوجيا لدى عبدالقاهر ليست مقصورة فقط على نص لا
تعلن فيه الأيديولوجيا عن حضورها الصريح كـ(الأسرار)، بل نجدها أيضاً في
نصه الآخر (دلائل الإعجاز) الذي ينعكس حضور الأيديولوجيا فيه بداية من
عنوانه. فإذا كان عبدالقاهر يسعى في (دلائل الإعجاز) إلى البرهنة على
مجاوزة النص القرآني لغيره من النصوص المنجزة أو التي يمكن إنجازها، وهو
الأمر الذي لا يخلو من مصادرة، فإن الكيفية التي حاول بها عبدالقاهر إنجاز
هذا الهدف كيفية مختلفة عن الكيفية التي حاول بها سابقوه إنجازه.
فإذا نظرنا إلى محاولة سابقة لعبدالقاهر وهي محاولة الباقلاني في إعجاز
القرآن ـ مع ملاحظة أن كلاً منهما أشعري ـ سوف نجد أن السبيل التي سلكها
الأخير لتحقيق هذا الهدف هي الغض من النصوص الشعرية المتميزة والمتفق على
مكانتها داخل الثقافة العربية كمعلقة امرئ القيس وغيرها من النصوص الأخرى،
إذ يرى أن الوسيلة لتحقيق هدفه هي:
(أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها، وصحة نظمها، وجودة بلاغتها، ورشاقة
معانيها، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها، مع كونه من الموصوفين بالتقدم
في الصناعة، والمعروفين بالحذق في البراعة، فنقفك على مواضع خللها وعلى
تفاوت نظمها، وعلى اختلاف فصولها، وعلى كثرة فضولها، وعلى شدة تعسفها، وبعض
تكلفها) ذلك أن (نظم القرآن جنس متميز وأسلوب متخصص، وقبيل عن النظير
متخلص، فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه، فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامرئ
القيس في أجود أشعاره، وما نبين لك من عواره، على التفصيل وذلك قوله:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ
بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمالِ
الذي يتعصبون له ويدعون محاسن الشعر، يقولون هذا من البديع، لأنه وقف
واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر العهد والمنزل والحبيب، وتوجع واستوجع، كله في
بيت ونحو ذلك.
وإنما بينا هذا لئلا يقع لك ذهابنا عن مواضع المحاسن ـ إن كانت ولا غفلتنا
عن مواضع الصناعة إن وجدت.
تأمل ـ أرشدك الله، وانظر ـ هداك الله: أنت تعلم أنه ليس في البيتين شيء قد
سبق في ميدانه شاعراً، ولا تقدم به صانعاً. وفي لفظه ومعناه خلل:
فأول ذلك: أنه استوقف مَن يبكي لذكر الحبيب، وذكراه لا تقتضي بكاء
الخَلِيّ، وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا، على أن يبكي لبكائه ويرق
لصديقه في شدة بُرَحائِهِ، فأما أن يبكي على حبيب صديقه، وعشيق رفيقه فأمر
محال.
فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضاً عاشقاً، صح الكلام من وجه، وفسد المعنى
من وجه آخر! لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه، وأن يدعو غيره إلى
التغازل عليه، والتواجد معه فيه!
ثم في البيتين ما لا يفيد، من ذكر هذه المواضع، وتسمية هذه الأماكن: من
(الدخول) و(حومل) و(توضح) و(المقراة) و(سقط اللوى)، وقد كان يكفيه أن يذكر
في التعريف بعض هذا، وهذا التطويل إذا لم يفد كان ضرباً من العيّ!
ثم إن قوله: (لم يعف رسمها)، ذكر الأصمعي من محاسنه: أنه باقٍ فنحن نحزن
على مشاهدته، فلو عفا لاسترحنا. وهذا بأن يكون من مساويه أولى، لأنه إن كان
صادق الود، فلا يزيده عفاء الرسوم إلا جدة عهد وشدة وجد. وإنما فزع
الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة، خشية أن يعاب عليه، فيقال: أي فائدة لأن
يعرفنا أنه لم يعف رسم منازل حبيبه؟ وأي معنى لهذا الحشو؟ فذكر ما يمكن أن
يذكر، ولكن لم يخلصه ـ بانتصاره له ـ من الخلل.
ثم في هذه الكلمة خلل آخر، لأنه عقّب البيت بأن قال:
فهل عند رسم دارس من معول!
فذكر أبو عبيدة: أنه رجع فأكذب نفسه).
لعل في إيراد هذا النص ـ على طوله ـ ما يكشف لنا عن صورة حضور الأيديولوجيا
والكيفية التي تمارس بها وجودها عند الباقلاني، وما يكشف أيضاً عن
المعيارية الأخلاقية والمنطقية الضيقة التي يحكمها في النصوص التي يعاينها،
فبدلاً من أن يقوم الباقلاني بتعيين مكونات تميز النص القرآني واختصاص
أسلوبه وما يفرده عن غيره من النصوص الشعرية وغير الشعرية نجده يجمل النعت
بأن نظم القرآن جنس متميز، وأسلوب متخصص .. إلى آخر ما يسعه من أوصاف
مجملة دونما أي تعيين لمكونات هذا التميز والتخصص والانفراد، وعلى حين قد
يتوقع أنه سيقارن بين النص القرآني والنص الشعري، انطلاقاً من التنبه إلى
الاختلاف النوعي والوظيفي بين طبيعة الخطابين ـ نجد أنه ليس ثمة أي ضرب من
ضروب المقارنة التي يمكن توقعها، وأن الكيفية التي ارتآاها الباقلاني
للتدليل على إعجاز النص القرآني وإثبات قيمته هي سلب القيمة من غيره من
النصوص المجمع على قيمتها وتميزها، وليس إدراك مكونات هذه القيمة في النص
القرآني ذاته، مما جعل محاولته كلها في حيز الاستدلال المبني على مقدمات
مغلوطة. في مقابل هذا فإننا لو نظرنا إلى الكيفية التي سعى بها عبدالقاهر
إلى إنجاز الهدف ذاته ـ التدليل على إعجاز النص القرآني ـ وجدنا استراتيجية
مخالفة كلية؛ إذ يرى عبدالقاهر أن إدراك مزية النص القرآني لا يمكن أن
تتأسس، إلا انطلاقاً من إدراك الآلية التي تتحقق بها المزية في أي نص آخر؛
ومن ثم فلا سبيل إلى إدراك إعجاز هذا النص ـ من منظوره ـ إلا بإدراك
الكيفيات التي تتحقق بها المزية في النصوص المختلفة، شعرية كانت أم غير
شعرية، وهو ما لا يتحقق بدوره إلا بتأسيس معرفة بالكيفيات التي تعمل بها
اللغة، وبإدراك اختلاف مستويات الأداء اللغوي ذاته.
يتجلى لنا هذا الوعي منذ بداية (الدلائل) في دفاعه الشديد عن كل من الشعر
والنحو، إذ ليس من قبيل المصادفة، أو الاضطراب في الترتيب الذي ينعته به
البعض في هذا الكتاب ـ أن يصدر (الدلائل) بالدفاع عن كل من الشعر والنحو،
إذ أن هذين معاً هما السبيل إلى إدراك الهدف الذي يسعى إلى بلوغه. ولعل في
ايراد هذا النص لعبدالقاهر ما يكشف عن هذه الرؤية وعن المخالفة بينه وبين
غيره في السبيل التي يراها لإنجاز هدفه:
(إلا أن ههنا نكتة، إن أنت تأملتها تأمل المتثبت، ونظرت فيها نظر المتأني،
رجوت أن يحسن ظنك، وأن تنشط للإصغاء إلى ما أورده عليك، = وهي أنّا إذا
سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنهم حين سمعوا القرآن، وحين تُحدوا إلى
معارضته،/ سمعوا كلاماً لم يسمعوا قط مثله، وأنهم رازوا أنفسهم فأحسوا
بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه أو يقع قريباً منه = لكان محالاً
أن يدعوا إلى معارضته وقد تُحُدُّوا إليه، وقُرِّعوا فيه، وطولبوا به، وأن
يتعرضوا لشبا الأسنة، ويقتحموا موارد الموت.
= فقيل لنا: قد سمعنا ما قلتم، فخبِّرونا عنهم، عماذا عجزوا؟ أعن معانٍ من
دقة معنيه وحسنها وصحتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟
فإن قلتم (عن الألفاظ) فماذا أعجزهم من اللفظ، أم ما بهرهم منه؟
= فقلنا: أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه،/
وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مَضرِب
كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظةٍ وتنبيهٍ، وإعلام وتذكير، وترغيب
وترهيب، ومع كل حجة وبرهان، وصفة وتبيان = وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة،
وعُشراً عُشراً، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها،
ولفظة ينكر شأنها، أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحرى وأخلق، بل
وجدوا اتساقاً بهر العقول، وأعجز الجمهور، ونظاماً والتئاماً، وإتقاناً
وإحكاماً، لم يدع في نفس بليغ منهم، ولوحك بيافوخه السماء، موضع طمع، حتى
خَرِست الألسن عن أن تدعي وتقول، وخذيت القروم فلم تملك أن تصول. نعم، فإذا
كان هذا هو الذي يذكر في جواب السائل، فبنا أن ننظر: أي أشبه بالفتى في
عقله ودينه، وأزيد له في علمه ويقينه، أأن يقلد في ذلك، ويحفظ متن الدليل
وظاهر لفظه، ولا يبحث عن/ تفسير المزايا والخصائص ما هي؟ ومن أين كثرت
الكثرة العظيمة، واتسعت الاتساع المجاوز لوسع الخلق وطاقة البشر؟ وكيف يكون
أن تظهر في ألفاظ محصورة، وكلم معدودة معلومة، بأن يؤتى ببعضها في إثر
بعض لطائف لا يحصرها العدد، ولا ينتهي بها الأمد؟ أم أن يبحث عن ذلك كله،
ويستقصى النظر في جميعه، ويتتبعه شيئاً فشيئاً، ويستقصيه باباً فباباً،
حتى يعرف كلاً منه بشاهده ودليله، ويعلمه بتفسيره وتأويله، ويوثق بتصويره
وتمثيله، ولا يكون كمن قيل فيه:
يقولون أقوالاً ولا يعلمونها
ولو قيل: هاتوا حقِّقوا، لم يحققوا
= قد قطعت عذر المتهاون، ودللت على ما أضاع من حظه، وهديته لرشده، وصح/ أن
لا غنى بالعاقل عن معرفة هذه الأمور، والوقوف عليها، والإحاطة بها، وأن
الجهة التي منها يقفُ، والسبب الذي به يعرف، استقراء كلام العرب وتتبع
أشعارهم والنظر فيها).
إن هذا النص يوضح لنا، على نحو جلي، الاختلاف بين صورة الممارسة
الأيديولوجية في نص عبدالقاهر وصورتها في نص غيره. فعبدالقاهر ـ في هذا
النص ـ يسائل محاوره الضمني: أي أشبه بالفتى في عقله ودينه، وأزيد له في
علمه ويقينه، أأن يقلد ويحفظ متن الدليل، دونما بحث عن تفسير المزايا
والخصائص، وتساؤل عن الكيفية التي يعمل بها الكلم، أم أن يبحث عن ذلك كله
ويستقصي النظر في جميعه ويتتبعه تتبعاً دقيقاً حتى يعرف كل منه بشاهده
ودليله، ويعلم بتفسيره وتأويله؟
والسبيل إلى إنجاز ذلك ـ في منظور عبدالقاهر ـ هو استقراء كلام العرب وتتبع
أشعارهم.
لعله يمكننا القول ـ وفق ذلك ـ إن الممارسة الأيديولوجية في نص عبدالقاهر
تعمل في ظل ممارسة نظرية تضبط خطاها وتوجهها ـ إلى حد بعيد ـ وتعصمها من أن
تتحول إلى خطاب أيديولوجي محض، كما هو الحال عند غيره. قد يتصور أن هذا
الحكم مؤسس على هذا النص فحسب إلا أن الأمر خلاف هذا تماماً، ذلك أن ثمة
حضوراً لممارسة نظرية واضحة وجلية في مجمل نص عبدالقاهر ـ بشقيه (الأسرار)
و(الدلائل) ـ يمكن الكشف عنها ومعاينتها بجلاء.
* المصدر : اللفظ والمعنى بين الايديولوجيا والتأسيس المعرفي للعلم /ط11994
م.
البلاغ