مبـادئ
التأميـن الإسـلامي.
التأميـن الإسـلامي.
* د. عبدالقادر جعفر
الحديث عن مبادئ التأمين الإسلامي يعني الحديث عن تعريفه، وأسسه، وأهدافه،
وكذا معوِّقاته.
- المبحث الأول: التعريف بالتأمين الإسلامي
والتعريف بالتأمين الإسلامي يُحتِّم التعريج السريع على التعريف بالتأمين
الوضعي، لأن هذا الأخير ليس مقصوداً بالبحث في هذا الباب.
- المطلب الأول: تعريف وجيز بنظام التأمين الوضعي
النظام في اللغة: الترتيب والاتساق. ويقال: نظام الأمر: قوامه وعماده.
والنظام: الطريقة.
والنظام في الإصطلاح: مجموعة القواعد والأحكام المتناسقة، المترتبة
والمتفاعلة فيما بينها.
أو هو: ضوابط الأعمال.
والتأمين في اللغة: مَنْ أمّن على دعائه، أي قال: آمين. وأمّن على الشيء:
دفع مالاً مقَسَّطاً لينال هو أو ورثته قدراً من المال متفقاً عليه، أو
تعويضاً عما فقد...وأمّن فلاناً: جعله في أمن، وأمّن فلاناً على كذا: جعله
أميناً عليه.
والتأمين في الإصطلاح: عقد يلتزم أحد طرفيه، وهو المؤمِّن، قِبَل الطرف
الآخر، وهو المستأمن، أداء ما يتفق عليه عند تحقق شرط أو حلول أجل، في نظير
مقابل نقدي معلوم.
أمّا نظام التأمين الوضعي، فهو:
- "تعاون منظم تنظيماً دقيقاً بين عدد كبير من الناس، معرضين جميعاً لخطر
واحد، حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم، تعاون الجميع في مواجهته،
بتضحية قليلة يبذلها كل منهم، يتلافون بها أضراراً جسيمة تحيق بمن نزل
الخطر به منهم لولا هذا التعاون".
- أو هو: "نظام لتوزيع الخسائر المالية، التي تلحق بالفرد في حياته أو
أمواله وممتلكاته، على مجموعة من الأفراد الذين يساهمون معه في تكوين رصيد
مالي لهذا الغرض".
ويبدو من التعريفين، وهما متقاربان، أنّ هناك تنظيماً للتعاون بين مجموعة
من الناس، معرضين للخطر، يساهمون جميعاً في إيجاد الرصيد المالي المعدّ
للتعويض عن الأضرار التي تلحق أحدهم، وأنّ هناك تبادلاً للمنفعة بين هؤلاء
المساهمين.
والتطبيق العملي للنظام المذكور يتمثل في العقود التي تبرمها شركات
التأمين، بمختلف أنواعها، مع المكتَتِبين، مما يحدد نوع هذا النظام ويبرز
حقيقته وطبيعته.
ويقوم هذا النظام، بمختلف أقسامه، على هدف ظاهر معلن، وهو تعويض المتضرر ما
لحقه، مما يدعو إلى القول: إنه نظام تعويض عن الأضرار بصورة مخصوصة، وليس
تأميناً للأموال والأنفس من أن تصاب بالأضرار.
يقول الأستاذ محمد نجاة الله صديقي: "التأمين يُعنى بالآثار المالية
للأخطار المحضة القابلة للقياس، وليس من شأنه درء هذه الأخطار أو التوقِّي
منها من طريق اتخاذ احتياطات السلامة منها... هذه التدابير ليست من صلب
العمل التأميني، فلا يهتم التأمين إلا بتصميم الوسائل لتعويض الشخص الذي
نزلت به خسارة مالية في أي حادث من الحوادث، فالوسيلة المستخدمة لهذا الغرض
– في ضوء المبدأ أعلاه – هي جمع مبلغ نقدي محدد من كل عضو من أعضاء مجموعة
كبيرة من الناس، تواجه مثل هذا الخطر، ومن ثم تعويض الشخص عن الخسارة
المالية التي لحقت به من جرّاء الحادث".
- المطلب الثاني: التعريف بنظام التأمين الإسلامي
لم تسبق صياغة تعريف لهذا النظام أو مفهوم له، إلاّ ما كان من بعض الباحثين
في التأمين التعاوني، كما سيأتي بعد قليل بحول الله. لكن وردت إشادة عامة
بالإسلام في تأمينه القائم على الزكاة، وغيرها من الموارد، بإسم التكافل
الإجتماعي، أو الضمان الإجتماعي، وذلك في مُقابَلة ما يُذكر عن التأمين
التجاري أو الضمان الإجتماعي، من خدمات وأهداف وخصائص.
على أنّ عدم وجود تلك الصياغة لا يعني عدم وجود النظام ووسائله، فما أكثر
الخيرات التي حققها الإسلام للعباد دون أن يكون لها عنوان يشبه عناوين
الأنظمة الحديثة.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "وقبل أن يعرف المجتمع الغربي نظام التأمين
بقرون كان المجتمع الإسلامي يؤمِّن أفراده بطريقته الخاصة، إذ كان (بيت مال
المسلمين) هو شركة التأمين الكبرى التي يلجأ إليها كل مَن نكبه الدهر،
فيجد فيه العون والملاذ...".
ويقول الدكتور سليمان بن ثنيان: "ليس هناك على وجه الأرض، نظام يؤمِّن
الإنسانَ من غير شطط تأميناً حقيقياً، في عيشه وماله ونفسه ودينه، إلاّ
نظام الإسلام، هذا النظام الشامل الكامل الوافي بكل الإحتياجات".
ويقول الدكتور القرضاوي: "إنّ الزكاة جزء من نظام التكافل الإجتماعي في
الإسلام، ذلك التكافل الذي لم يعرفه الغرب إلاّ في دائرة ضيقة، هي دائرة
التكافل المعيشي، بمساعدة الفئات العاجزة والفقيرة. وعرَفه الإسلام في
دائرة أعمق وأفسح، بحيث يشمل جوانب الحياة المادية والمعنوية. فهناك
التكافل الأدبي، والتكافل العلمي، والتكافل السياسي، والتكافل الدفاعي،
والتكافل الجنائي، والتكافل الأخلاقي، والتكافل الإقتصادي، والتكافل
العبادي، والتكافل الحضاري، وأخيراً التكافل المعيشي، وهو الذي خصص اليوم
خطأ بإسم: التكافل الإجتماعي...
التكافل الإجتماعي إذن نظام أشمل وأوسع كثيراً من الزكاة، لأنه يتمثل في
عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها، ونواحي الإرتباطات البشرية جميعاً،
والزكاة خط واحد من هذه الخطوط، وهي تشمل ما يسمّى الآن بـ"التأمين
الإجتماعي" و"الضمان الإجتماعي" مجتمعين.
والفرق بين التأمين والضمان أن كل
فرد في التأمين يؤدي قسطاً من دخله، في نظير تأمينه عند عجزه الدائم أو
المؤقت.
أمّا في الضمان، فالدولة هي التي تقوم به من ميزانيتها العامة،
بدون أن يشترك أفراد المجتمع بأداء قسط معيّن...
إنّ الزكاة بذلك تعدُّ أوّل تشريع منظم في سبيل ضمان اجتماعي لا يعتمد على
الصدقات الفردية التطوعية، بل يقوم على مساعدات حكومية دورية منتظمة،
مساعدات غايتها تحقيق الكفاية لكل محتاج: الكفاية في المطعم والملبس
والمسكن وسائر الحاجات، لنفس الشخص ولمن يعوله في غير إسراف ولا تقتير...
وكان أوّل مظهر رسمي لهذا الضمان في سنة 1941م، حين اجتمعت كلمة إنجلترا
والولايات المتحدة الأمريكية في ميثاق الأطلنطي على وجوب تحقيق الضمان
الإجتماعي للأفراد.
ومع هذا لم يبلغ شأن الضمان الإسلامي في شموله لكل مواطن، وتحقيقه الكفاية
التامة لكل حاجاته الأساسية هو وأسرته، فضلاً عمّا ذهب إليه الإمام الشافعي
ومَن وافقه في تحقيق كفاية العمر للفقراء، وإغنائهم بالزكاة غنى دائماً لا
يحتاجون بعده إلى معونه أو مساعدة...".
هذا التوصيف للضمان الإجتماعي في الإسلام من خلال الزكاة ليس تحديداً
لمفهومه.
على أن الدكتور القرضاوي يميل إلى أن الزكاة أقرب للضمان منها إلى
التأمين، لأنها لا تعطي الفرد بمقدار ما دفع، كما هو الشأن في نظام
التأمين، وإنما تعطيه بقدر ما يحتاج إليه، قلَّ ذلك أو كثر.
وفي غيبة الإسلام وما جاء به من خير، وهيمنة التأمين الوضعي، ظهرت محاولات
من بعض الكُتّاب لتقديم الصورة البديلة لشركات التأمين التجاري. تمثل تلك
الصورة المؤسسات التعاونية التكافلية التي رأوا فيها مخرجاً من الوقوع في
المحاذير المتعلقة بالتجاري. ووضعوا لها شروطاً من أهمّها:
1- أن يدفع الفرد المساهم نصيبه المفروض عليه (؟!) في ماله على وجه التبرع
قياماً بحق الأخوة.
2- إذا أريد استغلال هذا المال المدخر فبالوسائل المشروعة وحدها.
3- لا يجوز لفرد أن يتبرع بشيء على أساس أن يعوّض بمبلغ معيّن إذا حلّ به
حادث، ولكن يُعطى من مال الجماعة بقدر ما يعوّض خسارته أو بعضها، على حسب
ما تسمح به حال الجماعة.
4- التبرُّع هبة، والرجوع فيها حرام (علي رأي) لحديث: "الراجع في هبته
كالراجع في قيئه".
ويرون أنه إذا توفرت هذه الشروط في أي تعاون تكافلي بين النقابات والهيئات
في بلادنا.. فيكون هذا التعاون من صميم مبادئ الإسلام، بل الشريعة تباركه،
وتعتبر مَن يساهم فيه مسلماً متعاطفاً متراحماً، له في يوم العرض الأكبر
أجره وثوابه...
واستفادة من صيغة التأمين التبادلي الوضعي، وما أدخل عليها من قيود سابقة،
تبلورت فكرة التأمين التعاوني (الإسلامي)، وصياغة تعريف له.
فعرّف الدكتور حسين حامد حسن التأمين الإسلامي بإعتباره نظاماً بأنه:
"تعاون مجموعة من الأشخاص يسمون (هيئة المشتركين) يتعرضون لخطر أو أخطار
معينة على سبيل التبرع، على تلافي آثار الأخطار التي قد يتعرض لها أحدهم،
أو بعضهم بتعويضه عن الضرر الناتج من وقوع هذه الأخطار، وذلك بالتزام كل
منهم بدفع مبلغ معين، يسمى: (القسط) أو (الإشتراك)، تحدِّده وثيقة التأمين
أو (عقد الإشتراك)، وتتولى شركات التأمين الإسلامية إدارة عمليات التأمين
واستثمار أمواله نيابة عن هيئة المشتركين في مقابل حصة معلومة من عائد
استثمار هذه الأموال بإعتبارها مضارِباً، أو مبلغاً معلوماً بإعتبارها
وكيلاً، أو هما معاً".
وأورد الدكتور صالح بن حميد هذا التعريف وأدخل عليه تعديلات طفيفة، منها:
"أن ينتفي قصد الربح، وأن يقيد استثمار الأموال بما يتفق مع أحكام الشريعة
الإسلامية".
وعرَّفه الدكتور حسين حامد بإعتباره عقداً بأنه: "اتفاق بين شركة التأمين
الإسلامي بإعتبارها ممثلة لهيئة المشتركين وشخص (طبيعي أو اعتباري) على
قبوله عضواً في هيئة المشتركين، والتزامه بدفع مبلغ معلوم يسمى (القسط) على
سبيل التبرع منه ومن عوائد استثماره لأعضاء هذه الهيئة، على أن تدفع له
الشركة، نيابة عن هذه الهيئة، من أموال التأمين التي تجمع منه ومن غيره من
المشتركين، التعويض عن الضرر الفعلي الذي أصابه من وقوع خطر معيّن، وذلك في
التأمين على الأشياء والتأمين من المسؤولية المدنية، أو مبلغ التأمين،
وذلك في التأمين على الأشخاص على النحو الذي تحدده وثيقة التأمين ويبين
أسسه النظام الأساسي للشركة".
لكن الذي يُلاحَظ ابتداء على هذا التعريف هو أنه تعريف للتأمين التبادلي
الذي ظهر في الغرب، مع قيود خاصة تتعلق بنوع قصد الدخول في التأمين من
الطرفين، وطريقة استثمار الأموال. فهو لم يُخرِج التأمين الذي يريد تعريفَه
من دائرة التأمين الوضعي، لأن تلك القيود لا تكسبه وصف (الإسلامي)، لأن
جوهره ولُبَّه يبقى غير إسلامي، فما ينفع تثقيف ظاهره؟
وقد حاول الدكتور سليمان بن ثنيان أن يُقدِّم صورة جائزة لنظام التقاعد
خاصة، فقال: "إنه يشترط لصحة أي عقد معاوضة انطباق شروط العقود الاسلامي
الصحيحة عليه.
وعليه، فيمكن تصوُّر صحة معاشات التقاعد لو توفرت فيها هذه الشروط، ومنها:
1- أن تكون إختيارية غير إجبارية.
2- أن تستثمر حصيلتها بالطرق المشروعة، كالمضاربة ونحوها، وأن تجنب أي نوع
من الإستثمارات الربوية.
3- أن يُعاد في النهاية جميع ما اقتطع من راتب الموظف مع ربحه إن حصل ربح،
دون زيادة أو نقصان، جملة واحدة، أو على أقساط صحيحة شرعاً.
4- أن يُسَلَّم المبلغ لصاحب المعاش إن كان حياً، ولورثته إن كان ميتاً.
5- أن لا يُحَال بين صاحبها وبين الحصول عليها متى رغب في ذلك.
6- اعتبار هذا النظام شركة مضاربة إسلامية تتولاها الدولة، أو تشرف
عليها".
وما يقترحه الدكتور سليمان بن ثنيان ليس تعريفاً للتأمين الإسلامي، وإنما
هو اقتراح لصورة نظام تقاعد سالم من المحاذير الشرعية، وهذه الصورة
المقترحة بقيودها هي مضاربة شرعية معروفة، وفيها غنى عن نظام المعاشات
الوضعي، وأكثر نفعاً للمسلم مما صاغه غيره، وأقرب إلى الشرع، ولأن الفرد من
خلالها يتمكن من توفير المال الذي يَسُدُّ به حاجاته الصحية والمالية.
ومع أهمية ما اقتُرِح، خصوصاً عند تعذُّر الرجوع إلى الاسلام ومنهاجه، فإنه
لا يفي بإبراز معالم نظام التأمين الإسلامي الشامل المتكامل الذي يتطلع
إليه المسلمون.
والذي أراه – والله أعلم – أنّ نظام التأمين الإسلامي، هو: "ما شرَعَهُ
الله تعالى من الأحكام لمنع أسباب الأضرار الصحية والمالية، والوقاية منها،
والتخفيف من آثارها بالوسائل الممكنة، والتعويض عنها من مال مَن ترتب
عليه، وهو الأصل، أو من مورد الزكاة وغيره، عند عجزه. كل ذلك في ظل شريعة
الاسلام، ودولته، وكفاءة القائمين عليها، وتحقيق حدِّ الكفاية للفرد
والأمّة، وحسن تربيتهم".
وهذا التعريف يشمل كل العناصر الضرورية المهمة في تأمين الأنفس والأموال،
وهي:
- منع أسباب الأضرار الصحية والمالية، بأية طريق كانت.
- شرعية اتخاذ تدابير الوقاية والسلامة من الأضرار، ووجوب ذلك.
- شرعية اتخاذ وسائل التخفيف من آثار الأضرار المتوقعة أو الواقعة.
- شرعية التعويض عنها من مال الذي ترتب التعويض في ذمته، وهو الأصل، أو
باستحقاقه المساعدة من مال بيت الزكاة، أو غيرها من الموارد، أو من مساعدات
المحسنين.
- ان نظام التأمين هذا لا يقوم إلا على أساس وجود دولة الاسلام، المتميزة
بالعمل بشريعة الله، وكفاءة القائمين عليها من الحُكّام ونوابهم، وأمانتهم،
وتحقيق الكفاية للفرد والأمّة، وتربية اسلامية شاملة لهم، تصل بهم إلى
مستوى الرُّشد الذي يحول دون إقدامهم على الإضرار بأنفسهم أو بغيرهم، أو
التساهل في ذلك.
وبذلك يكون نظام الاسلام التأميني أشمل من أن يكون نظاماً للتعويضات عن
الأضرار بعد وقوعها، وإن كان ذلك جزءاً منه، وإنما حرصه الأول هو منع وجود
أسبابها، وضرورة اتقائها، والتخفيف من آثارها، والحدّ من استفحالها
وتوسعها، ثم بترميمها بالتعويض المباشر ممن وجب عليه حتى يكون أكثر حرصاً
على عدم مباشرتها، وأكثر احترازاً من التسبب في حدوثها.
وتنفيذ هذا النظام هو مهمة الدولة الأولى التي يجب عليها إقامته، والإشراف
عليه، لا أن يوكل إلى مؤسسات تجارية أو إستغلالية.
المصدر: كتاب نظام التأمين الإسلامي.
البلاغ