النداء/
مي أبوسنّه
قاد سيارته مُسرعاً
محاولاً اللحاق بموعده مع أصدقائه، الذين اعتاد أن يلتقيهم بشكل شبه يومي
للسّهر معاً، حيث يدخنون ويشربون، مستمتعين بلحظات شبابهم من دون أي قيود.
فوجئ بتوقّف سيارته، حاول إدارتها مرّات عديدة لكنها لم تستجب، فنزل يسأل
عن أقرب "ورشة إصلاح السيارات".. لحُسن حظه أنه وجد "ورشة" قريبة، ذهب
إليها، واصطحب أحد الفتية العاملين فيها معه، ليُعاين العطل.
بعد فحص سريع، أخبره الفتى أنّ المشكلة بسيطة وأنّه يستطيع حلها، إنّما
يحتاج إلى نحو نصف ساعة من الوقت، وقف إلى جواره في إنتظار أن ينتهي من
إصلاحها، وهو غاضب لتأخره عن أصدقائه، فحالته النفسية ليست على ما يُرام
اليوم، وهو في أشد الحاجة إلى مُوافاتهم، في تَجمّعهم الذي يُنسيه مشكلاته
ويرفع من معنوياته.
لم تمضِ لحظات، حتى ارتفع نداء صلاة العشاء من المسجد المقابل، صوت
المؤذِّن الذي تَميَّز بخشوعه وتَقواه، جعله يشعر برعشة تسري في جسده. أهي
أوّل مرّة يسمع فيها الأذان؟ بالطبع لا. فهو يسمعه منذ مولده، لكنّه شعر
كما لو أنها المرّة الأولى التي يستمع فيها لهذا النداء، وكأنّما هو مُوجّه
إليه وحده هذه المرّة.
راودته فكرة غريبة، لم لا يدخل المسجد في إنتظار أن تكون سيارته قد جهزت؟
هو لم يدخل مسجداً من قبل في حياته، لا بل إنّه لا يعرف حتى كيف يُصلِّي.
نعم.. كلُّ ما يعرفه هو أن "بطاقته" تقول إنّه مسلم، بحسب ما هو مكتوب
عليها، كما أنّ أهله مسلمون أيضاً، لكن ذلك فقط بحكم الوراثة. فلم يسبق له
أن رأى أبَويه يُصلِّيان أو يصومان أو يُمارسان أي "طقس" من الطقوس
الدِّينية. لم يُحدِّثه أحد في الدِّين، ولم يحاول أن يتعمّق فيه. كلُّ ما
يذكره أنّه سأل أباه ذات مرّة وهو صغير: "لَمَ لا تصومون رمضان كما يفعل
زملائي في المدرسة؟". أجابه والده: "إنّ الإيمان في القلب" وأنْ "لا فائدة
من ممارسة طقوس شكلية.. المهم هو الإيمان بالله". منذ ذلك الوقت، لم يحاول
أن يسأل عن أي شيء له علاقة بالدِّين. ومع وصوله إلى سن المُراهقة، بدأ
بتجربة كل شيء، ولم يمنعه أحد عن القيام بما يُريد. فلم يكن أبواه يهتمان
بشؤونه، كان كل ما يشغلهما تلبية مطالبه المادية فقط.
قال للفتى الذي يُصلح السيارة، إنّه سيدخل المسجد لدقائق ويعود سريعاً.
عَبَر الطريق خطوات مُتردِّدة، ثمّ واصل طريقه إلى داخل المسجد. شعر كما لو
كان ليس من حقه دخول هذا المكان. خَلَع حذاءه على الباب ودخل.. وقف حائراً
لا يعرف ماذا يفعل.. إنّه لا يعرف حتى كيف يتوضأ أو كيف سيؤدِّي الصلاة.
ظَلَّ واقفاً دقائق معدودات، ثمّ هَمَّ بأن يعود خارجاً من المسجد. فُوجئ
بأحد الأشخاص وقد شعر بتردده، يسأله عمّا إذا كان يريد شيئاً. صَمَت لحظات،
مُتردّداً في أن يجيب، ثمّ رَدَّ بخجل، إنّه يريد الصلاة ولكنّها المرّة
الأولى التي يفعل فيها ذلك، ولا يعرف كيفيّة تأدية الصلاة. ابتسم الرجل
وربت على كتفه في حنو، واصطحبه إلى المكان الخاص بالوضوء. أراه كيف يتوضأ،
ثمّ خرَجَا لأداء الصلاة، بعد أن سمعا صوت المؤذن. وقفَا في الصف، ثمّ سأله
الرجل: كيف ستُصلِّي وأنت لا تحفظ شيئاً من القرآن؟ فوجئ الشاب لأنّه لم
يفكر في ذلك. كل ما يعرفه أنّه يريد أن يصلِّي الآن. يريد أن يخوض هذه
التجربة من دون أن يعرف قواعدها. اتَّفق الرجل معه على أن يجلس ليحضر إقامة
الصلاة، ثمّ ينتظره ليُعلّمه كيفية الصلاة.
بدأت الصلاة، وكان الإمام يَؤمُّ المصلِّين واقفين خلفه بخشوع ومُردِّدين
وراءه، والشاب يرقب ما يحدث منبهراً. في الحقيقة سبق له أن رأى المصلِّين
من قبل على "شاشة التلفاز"، لكنّه لم يتوقف يوماً عند انتظام الصفوف
وتَوحُّد القلوب في خشوع، وهي تصلِّي خاشعة لله الواحد، شَعَر وكأنّه انتقل
إلى عالم آخر، من نُور تَسوده السَّكينة والهدوء والسَّلام الداخلي.
فرغ المصلون من أداء الصلاة، وأتاه الرجل الذي لاحظ مدَى تأثره، بدأ في
تحفيظه "الفاتحة" و"قل هو الله أحد". انتهَى من حفظهما سريعاً، واتَّفق معه
على أن يتبعه في أقواله وحركاته، ثمّ صلَّيَا معاً. وبمجرد أن انتهى من
قراءة "الفاتحة"، لم يشعر إلّا بالدموع وهي تَنهمرُ من عينيه، ولم يدرِ
لذلك سبباً. وبعد أن انتهت الصَّلاة وفرغ من السلام، انْكفأ ساجداً على
الأرض مرّة أخرى، ودموعه تُبلِّل المكان الذي سَجَد عليه، وهو لا يدري سرَّ
بكائه.
راقبه الرجل في صمت متأثراً، وهو يراه في ذلك الخشوع، ثمّ آثَر أن ينسحب
ليتركه في هذه الحالة الروحانية.
ظل يبكي ويَجهَش باكياً بصوت مرتفع، ولا يقول شيئاً، حتى تعب من البكاء،
فتمدَّد على الأرض ونام، ربّما لم يَنَم طويلاً، لكنّه شعر وكأنّها المرّة
الأولى التي ينام فيها نوماً عميقاً مسترخياً لا يدري شيئاً، ولم يشعر سوى
بيد تَربت على كتفه لتُوقظه، فتح عينيه ليجد الفتى الذي كان يصلح سيارته،
قال له إنّه انتظره بعد أن أصلح السيارة، لكنّه تأخَّر، فذهب إلى البحث عنه
داخل المسجد إلى أن وجده نائماً. صمت بعضاً من الوقت، وكأنَّ حال لسانه لا
يَقوَى على الكلام.. كأنّه يحلَم أو يعيش تجربة خيالية.
عَاوَد الفتى الكلام وهو يحثّ الشاب على تسلُّم سيارته، لأنّه تأخر على
"الورشة". نهض الشاب مُتثاقلاً وخَرجَا معاً من باب المسجد، وقف ليرتدي
حذاءه. نظر خلفه إلى المسجد وكأنّه لا يُريد أن يخرج منه.. لا يُريد أن
يترك وطنه الذي كان تائهاً عنه.. لا يُريد أن يَخرُج إلى تلك الدنيا
الصاخبة، التي لا تعرف الحقيقة.
فجأةً، ارتفع رنين "هاتفه المحمول" ليُخرجه من تأمُّلاته.. إنّه أحد
أصدقائه الذين كانوا في إنتظاره. من المؤكد أنهم قلقوا عليه لتأخره.
ظل ينظر طويلاً إلى "الهاتف" ولا يردّ. ثمّ فجأة، أمسك به وألقاه بعيداً.
نظر إليه الفتى دَهِشَاً، وكأنّه قد فعل شيئاً مجنوناً.. سائلاً إيَّاه:
"ألا تُريد الهاتف؟". أجابه: لا. فانطلق الأخير يبحث عنه مُمنِّياً النّفس
ألا يكون قد حدث شيء لـ"الهاتف" ليأخذه لنفسه، وبالفعل وجده الفتى ووضعه في
جيبه ثمّ انطلق ليلحَق بالشاب.
وصلا إلى السيارة، تأكّد الشاب من إصلاحها، بعدما عرف سبب عطلها. أعطَى
الفتى أجرته، ثمّ قاد سيارته مُنطلقاً.. ذهب في طريق آخر.. غير ذاك الذي
كان يَنوي أن يسلكه.. في طريق يبحث فيه عن المتعة الحقيقية والسَّعادة
الروحيّة.. الأبدية.
البلاغ
مي أبوسنّه
قاد سيارته مُسرعاً
محاولاً اللحاق بموعده مع أصدقائه، الذين اعتاد أن يلتقيهم بشكل شبه يومي
للسّهر معاً، حيث يدخنون ويشربون، مستمتعين بلحظات شبابهم من دون أي قيود.
فوجئ بتوقّف سيارته، حاول إدارتها مرّات عديدة لكنها لم تستجب، فنزل يسأل
عن أقرب "ورشة إصلاح السيارات".. لحُسن حظه أنه وجد "ورشة" قريبة، ذهب
إليها، واصطحب أحد الفتية العاملين فيها معه، ليُعاين العطل.
بعد فحص سريع، أخبره الفتى أنّ المشكلة بسيطة وأنّه يستطيع حلها، إنّما
يحتاج إلى نحو نصف ساعة من الوقت، وقف إلى جواره في إنتظار أن ينتهي من
إصلاحها، وهو غاضب لتأخره عن أصدقائه، فحالته النفسية ليست على ما يُرام
اليوم، وهو في أشد الحاجة إلى مُوافاتهم، في تَجمّعهم الذي يُنسيه مشكلاته
ويرفع من معنوياته.
لم تمضِ لحظات، حتى ارتفع نداء صلاة العشاء من المسجد المقابل، صوت
المؤذِّن الذي تَميَّز بخشوعه وتَقواه، جعله يشعر برعشة تسري في جسده. أهي
أوّل مرّة يسمع فيها الأذان؟ بالطبع لا. فهو يسمعه منذ مولده، لكنّه شعر
كما لو أنها المرّة الأولى التي يستمع فيها لهذا النداء، وكأنّما هو مُوجّه
إليه وحده هذه المرّة.
راودته فكرة غريبة، لم لا يدخل المسجد في إنتظار أن تكون سيارته قد جهزت؟
هو لم يدخل مسجداً من قبل في حياته، لا بل إنّه لا يعرف حتى كيف يُصلِّي.
نعم.. كلُّ ما يعرفه هو أن "بطاقته" تقول إنّه مسلم، بحسب ما هو مكتوب
عليها، كما أنّ أهله مسلمون أيضاً، لكن ذلك فقط بحكم الوراثة. فلم يسبق له
أن رأى أبَويه يُصلِّيان أو يصومان أو يُمارسان أي "طقس" من الطقوس
الدِّينية. لم يُحدِّثه أحد في الدِّين، ولم يحاول أن يتعمّق فيه. كلُّ ما
يذكره أنّه سأل أباه ذات مرّة وهو صغير: "لَمَ لا تصومون رمضان كما يفعل
زملائي في المدرسة؟". أجابه والده: "إنّ الإيمان في القلب" وأنْ "لا فائدة
من ممارسة طقوس شكلية.. المهم هو الإيمان بالله". منذ ذلك الوقت، لم يحاول
أن يسأل عن أي شيء له علاقة بالدِّين. ومع وصوله إلى سن المُراهقة، بدأ
بتجربة كل شيء، ولم يمنعه أحد عن القيام بما يُريد. فلم يكن أبواه يهتمان
بشؤونه، كان كل ما يشغلهما تلبية مطالبه المادية فقط.
قال للفتى الذي يُصلح السيارة، إنّه سيدخل المسجد لدقائق ويعود سريعاً.
عَبَر الطريق خطوات مُتردِّدة، ثمّ واصل طريقه إلى داخل المسجد. شعر كما لو
كان ليس من حقه دخول هذا المكان. خَلَع حذاءه على الباب ودخل.. وقف حائراً
لا يعرف ماذا يفعل.. إنّه لا يعرف حتى كيف يتوضأ أو كيف سيؤدِّي الصلاة.
ظَلَّ واقفاً دقائق معدودات، ثمّ هَمَّ بأن يعود خارجاً من المسجد. فُوجئ
بأحد الأشخاص وقد شعر بتردده، يسأله عمّا إذا كان يريد شيئاً. صَمَت لحظات،
مُتردّداً في أن يجيب، ثمّ رَدَّ بخجل، إنّه يريد الصلاة ولكنّها المرّة
الأولى التي يفعل فيها ذلك، ولا يعرف كيفيّة تأدية الصلاة. ابتسم الرجل
وربت على كتفه في حنو، واصطحبه إلى المكان الخاص بالوضوء. أراه كيف يتوضأ،
ثمّ خرَجَا لأداء الصلاة، بعد أن سمعا صوت المؤذن. وقفَا في الصف، ثمّ سأله
الرجل: كيف ستُصلِّي وأنت لا تحفظ شيئاً من القرآن؟ فوجئ الشاب لأنّه لم
يفكر في ذلك. كل ما يعرفه أنّه يريد أن يصلِّي الآن. يريد أن يخوض هذه
التجربة من دون أن يعرف قواعدها. اتَّفق الرجل معه على أن يجلس ليحضر إقامة
الصلاة، ثمّ ينتظره ليُعلّمه كيفية الصلاة.
بدأت الصلاة، وكان الإمام يَؤمُّ المصلِّين واقفين خلفه بخشوع ومُردِّدين
وراءه، والشاب يرقب ما يحدث منبهراً. في الحقيقة سبق له أن رأى المصلِّين
من قبل على "شاشة التلفاز"، لكنّه لم يتوقف يوماً عند انتظام الصفوف
وتَوحُّد القلوب في خشوع، وهي تصلِّي خاشعة لله الواحد، شَعَر وكأنّه انتقل
إلى عالم آخر، من نُور تَسوده السَّكينة والهدوء والسَّلام الداخلي.
فرغ المصلون من أداء الصلاة، وأتاه الرجل الذي لاحظ مدَى تأثره، بدأ في
تحفيظه "الفاتحة" و"قل هو الله أحد". انتهَى من حفظهما سريعاً، واتَّفق معه
على أن يتبعه في أقواله وحركاته، ثمّ صلَّيَا معاً. وبمجرد أن انتهى من
قراءة "الفاتحة"، لم يشعر إلّا بالدموع وهي تَنهمرُ من عينيه، ولم يدرِ
لذلك سبباً. وبعد أن انتهت الصَّلاة وفرغ من السلام، انْكفأ ساجداً على
الأرض مرّة أخرى، ودموعه تُبلِّل المكان الذي سَجَد عليه، وهو لا يدري سرَّ
بكائه.
راقبه الرجل في صمت متأثراً، وهو يراه في ذلك الخشوع، ثمّ آثَر أن ينسحب
ليتركه في هذه الحالة الروحانية.
ظل يبكي ويَجهَش باكياً بصوت مرتفع، ولا يقول شيئاً، حتى تعب من البكاء،
فتمدَّد على الأرض ونام، ربّما لم يَنَم طويلاً، لكنّه شعر وكأنّها المرّة
الأولى التي ينام فيها نوماً عميقاً مسترخياً لا يدري شيئاً، ولم يشعر سوى
بيد تَربت على كتفه لتُوقظه، فتح عينيه ليجد الفتى الذي كان يصلح سيارته،
قال له إنّه انتظره بعد أن أصلح السيارة، لكنّه تأخَّر، فذهب إلى البحث عنه
داخل المسجد إلى أن وجده نائماً. صمت بعضاً من الوقت، وكأنَّ حال لسانه لا
يَقوَى على الكلام.. كأنّه يحلَم أو يعيش تجربة خيالية.
عَاوَد الفتى الكلام وهو يحثّ الشاب على تسلُّم سيارته، لأنّه تأخر على
"الورشة". نهض الشاب مُتثاقلاً وخَرجَا معاً من باب المسجد، وقف ليرتدي
حذاءه. نظر خلفه إلى المسجد وكأنّه لا يُريد أن يخرج منه.. لا يُريد أن
يترك وطنه الذي كان تائهاً عنه.. لا يُريد أن يَخرُج إلى تلك الدنيا
الصاخبة، التي لا تعرف الحقيقة.
فجأةً، ارتفع رنين "هاتفه المحمول" ليُخرجه من تأمُّلاته.. إنّه أحد
أصدقائه الذين كانوا في إنتظاره. من المؤكد أنهم قلقوا عليه لتأخره.
ظل ينظر طويلاً إلى "الهاتف" ولا يردّ. ثمّ فجأة، أمسك به وألقاه بعيداً.
نظر إليه الفتى دَهِشَاً، وكأنّه قد فعل شيئاً مجنوناً.. سائلاً إيَّاه:
"ألا تُريد الهاتف؟". أجابه: لا. فانطلق الأخير يبحث عنه مُمنِّياً النّفس
ألا يكون قد حدث شيء لـ"الهاتف" ليأخذه لنفسه، وبالفعل وجده الفتى ووضعه في
جيبه ثمّ انطلق ليلحَق بالشاب.
وصلا إلى السيارة، تأكّد الشاب من إصلاحها، بعدما عرف سبب عطلها. أعطَى
الفتى أجرته، ثمّ قاد سيارته مُنطلقاً.. ذهب في طريق آخر.. غير ذاك الذي
كان يَنوي أن يسلكه.. في طريق يبحث فيه عن المتعة الحقيقية والسَّعادة
الروحيّة.. الأبدية.
البلاغ