الشافي/
بسام الطعان
وجد "ياسر" نفسه
فريسة سهلة لمرض غامض ومحبط، مرض زرع الخوف والأنين في جسده، يبدو أنّه في
عجلة من أمره، يريد أن يهوي عليه كشفرة المقصلة ويزيله من جغرافيا الحياة،
ولم يأت وحده، وإنما جاء معه إكتئاب شديد، لم يبق فيه ولو قيد شبر بغير
احتلال، اكتئاب دخل في جسده كالسهم، وشق روحه التي سرقها من قبل الشحوب
الرمادي الداهم.
كانت زوجته تجلس إلى جانبه، تواسيه.. تشجعه على النهوض من الفراش، تتأمّل
وجهه الذي يكاد يكون مفرغاً من الحياة، وتبكي بكاءً صامتاً، وكان ذلك
شبيهاً بتدفق كابوس مرعب بالنسبة لها.
حين استمر المرض في غزوه السريع، وداهمه طغيان الوجع، وظلت الأوهام تنحت في
أروقة صدره العذاب، وتراخى جسده، ونقصت همته، وصارت شمسه على حافة الأفول،
كان من الطبيعي أن يستجيب لدعوة زوجته التي حاولت أن تطرد المشهد
الخرائبي، وقالت له:
- تزود بقدر من بأس يا ياسر، واذهب إلى الطبيب.. إنّ الألم صعلوك أمام
الإرادة.
- عاد إلى البيت وقطيع من الأوهام يتسمر عند حافة عقله، بينما رأسه مدّلى
في أبد الصمت، والموت كأنّه يراه، ويحسه موجوداً معه، حضوره إلى جانبه يكاد
يلمسه، عيناه متعبتان، ونفسه كعادتها منطوية مستسلمة للحزن والخمول.
في كل يوم يمر، تغرق الأشياء حول "ياسر" في لون رمادي، تئن الدموع في
عينيه، تسكنه الوحشة، يجري الإحباط في شرايينه، ويصبح قلبه عصفوراً يختلج
في صدره الكسيح، بينما زوجته تنظر إلى وجوده الذابل وتحاول ما بوسعها
التخفيف عنه.
استشف في نظراتها التي حاولت أن تلملمها بعيداً عنه حزناً عميقاً، فقال
لها:
- أتمنى أن أفعل ذلك لكنني لا أستطيع.
رفعت رأسها، استغاثت بالله – جل جلاله – وتذكرت معاناة جميع الأنبياء
والصالحين، واجهشت بحرقة والتياع دموعها مستديرة صافية، قطرة بعد قطرة، وكل
قطرة تقيم في نفسها القلق، وتجعل الحزن يشحذ شفرته ويغرزها دون رحمة في
ثناياها، كيف لا وقد أصبح قلبها مسكَناً جميلاً له.
ذات يوم دافئ، نهض قبل أن ينهض الصبح من نومه، مضغ تعاسته كعلكة بائرة،
أسند رأسه إلى مسند السرير وهو يشعر بالشيخوخة تدب في كل أنحاء جسده، حاول
أن يهدهد حزنه الشامل، لكن الحزن زمجر في وجهه، وظل يسحقه دون هوادة، حاول
أن يتذكر كل تفاصيل الحلم، تجول في ردهات ذاكرته، لكنّه لم يستطيع أن يتذكر
إلا جملة واحدة سمعها في الحلم: "إنّه الشافي".
تاه في دروب الحلم الوعرة، وأصبحت نفسه مجرّد خيال، شبح، كائن يتحرّك
بصعوبة، وفي النهاية، قال لنفسه: "هل آن الأوان أم مازالت في الروح بقية؟
مرّت أيام أخرى، وظلت الجملة تعلو قلعة انكساره، همست في داخله المخاوف،
وطافت به الأوهام من جديد، ومع الهواجس والخيالات، الأسى واللوعة، الخوف
والشجاعة، الوعي واللاوعي، لمعت في ذهنه فكرة، دفعته من السرير دفعاً،
وهدّأت خواطره المتكدرة، فلم ينتظر طويلاً، أعلن بدء انتحار الخوف والصمت،
وبدء نمو أزهار التحدي، لملم بعضه ليطفو على قمة الصحة، يسمو نحو الخلاص،
ويحلم بالحياة، فالقلب متعب ويريد أن يقطع الدروب المعفرة بالعذاب، ارتدى
الفجر والوجع قميصاً بلا أزرار، وخرج كمكفوف يريد أن يخرج من ظلمته
الأبدية، خرج مع بؤسه وهزاله، احتسى غبش الفجر وطارد غزلان الخلاص، بينما
الكآبة لا تزال تجأر في خطواته وتسد باب الشفاء، وبشيء من صبر أيوب، سار
على الرصيف المغسول بمطر الصباح المبكر الذي أعادته المدينة، الألم يملأ
الفم والخاصرة ولا يهتم، فقد قرر البحث عن الشافي بعدما ضاق ذرعاً بحياة
الإكتئاب والعقاقير والرطوبة والظلام.
وصل المسجد وفي وجهه شرخ يدل على انشطاره، أسند ظهره إلى الحائط، تنفس
الصعداء، أغمض عينيه للحظات، ثمّ دخل بخطوات بطيئة.. توضأ، وأمام القبلة
صلى ركعتي استخارة، توسل لله – عزّ وجلّ – أن يبعث له الدواء والشفاء.
خرج من المسجد، وفي الطريق إلى البيت خفق قلبه على نحو لم يخفق خلال
الأعوام التي عاشها، وفجأة تناثرت الكآبة ومعها التعاسة والوجع والخمول
والإنطواء والبؤس حطاماً، وأحس أن قلبه قد أصبح سماء خضراء لا تتسع لورقة
صفراء، وأنّ الحياة تفجرت في عروقه في أروع شكل لها.
حمل بيدر صحته..اتجه صوب بيته شاهراً فرحته، تحدوه مشاعر عذبة، وأمام
الباب، سمع صوت الحياة تنشد ألحانها في أعضائه، فربط قلبه بشريط من الفرح،
وأحس بأجنحة لا يراها تحمله، فتح الباب، وعندما رأته يتأبط الفرح والراحة،
وعلى شفتيه تلك الابتسامة الغائبة، بهتت زوجته وهتفت بصموت ضاحك:
- ما شاء الله يا ياسر، أرى الصحة تتلألأ على وجهك!
جلس أمام النافذة وهو يستمع في نشوة إلى رفيف الأجنحة، عصر رحيق الشمس بين
يديه، ومنح نفسه قطرة ضوء اشتاقت لها، طلب الطعام الذي هجره طويلاً بفرح
طفولي:
- تخلصي يا زوجتي من كل تلك الأدوية، لقد اهتديت إلى "الشافي".
البلاغ
بسام الطعان
وجد "ياسر" نفسه
فريسة سهلة لمرض غامض ومحبط، مرض زرع الخوف والأنين في جسده، يبدو أنّه في
عجلة من أمره، يريد أن يهوي عليه كشفرة المقصلة ويزيله من جغرافيا الحياة،
ولم يأت وحده، وإنما جاء معه إكتئاب شديد، لم يبق فيه ولو قيد شبر بغير
احتلال، اكتئاب دخل في جسده كالسهم، وشق روحه التي سرقها من قبل الشحوب
الرمادي الداهم.
كانت زوجته تجلس إلى جانبه، تواسيه.. تشجعه على النهوض من الفراش، تتأمّل
وجهه الذي يكاد يكون مفرغاً من الحياة، وتبكي بكاءً صامتاً، وكان ذلك
شبيهاً بتدفق كابوس مرعب بالنسبة لها.
حين استمر المرض في غزوه السريع، وداهمه طغيان الوجع، وظلت الأوهام تنحت في
أروقة صدره العذاب، وتراخى جسده، ونقصت همته، وصارت شمسه على حافة الأفول،
كان من الطبيعي أن يستجيب لدعوة زوجته التي حاولت أن تطرد المشهد
الخرائبي، وقالت له:
- تزود بقدر من بأس يا ياسر، واذهب إلى الطبيب.. إنّ الألم صعلوك أمام
الإرادة.
- عاد إلى البيت وقطيع من الأوهام يتسمر عند حافة عقله، بينما رأسه مدّلى
في أبد الصمت، والموت كأنّه يراه، ويحسه موجوداً معه، حضوره إلى جانبه يكاد
يلمسه، عيناه متعبتان، ونفسه كعادتها منطوية مستسلمة للحزن والخمول.
في كل يوم يمر، تغرق الأشياء حول "ياسر" في لون رمادي، تئن الدموع في
عينيه، تسكنه الوحشة، يجري الإحباط في شرايينه، ويصبح قلبه عصفوراً يختلج
في صدره الكسيح، بينما زوجته تنظر إلى وجوده الذابل وتحاول ما بوسعها
التخفيف عنه.
استشف في نظراتها التي حاولت أن تلملمها بعيداً عنه حزناً عميقاً، فقال
لها:
- أتمنى أن أفعل ذلك لكنني لا أستطيع.
رفعت رأسها، استغاثت بالله – جل جلاله – وتذكرت معاناة جميع الأنبياء
والصالحين، واجهشت بحرقة والتياع دموعها مستديرة صافية، قطرة بعد قطرة، وكل
قطرة تقيم في نفسها القلق، وتجعل الحزن يشحذ شفرته ويغرزها دون رحمة في
ثناياها، كيف لا وقد أصبح قلبها مسكَناً جميلاً له.
ذات يوم دافئ، نهض قبل أن ينهض الصبح من نومه، مضغ تعاسته كعلكة بائرة،
أسند رأسه إلى مسند السرير وهو يشعر بالشيخوخة تدب في كل أنحاء جسده، حاول
أن يهدهد حزنه الشامل، لكن الحزن زمجر في وجهه، وظل يسحقه دون هوادة، حاول
أن يتذكر كل تفاصيل الحلم، تجول في ردهات ذاكرته، لكنّه لم يستطيع أن يتذكر
إلا جملة واحدة سمعها في الحلم: "إنّه الشافي".
تاه في دروب الحلم الوعرة، وأصبحت نفسه مجرّد خيال، شبح، كائن يتحرّك
بصعوبة، وفي النهاية، قال لنفسه: "هل آن الأوان أم مازالت في الروح بقية؟
مرّت أيام أخرى، وظلت الجملة تعلو قلعة انكساره، همست في داخله المخاوف،
وطافت به الأوهام من جديد، ومع الهواجس والخيالات، الأسى واللوعة، الخوف
والشجاعة، الوعي واللاوعي، لمعت في ذهنه فكرة، دفعته من السرير دفعاً،
وهدّأت خواطره المتكدرة، فلم ينتظر طويلاً، أعلن بدء انتحار الخوف والصمت،
وبدء نمو أزهار التحدي، لملم بعضه ليطفو على قمة الصحة، يسمو نحو الخلاص،
ويحلم بالحياة، فالقلب متعب ويريد أن يقطع الدروب المعفرة بالعذاب، ارتدى
الفجر والوجع قميصاً بلا أزرار، وخرج كمكفوف يريد أن يخرج من ظلمته
الأبدية، خرج مع بؤسه وهزاله، احتسى غبش الفجر وطارد غزلان الخلاص، بينما
الكآبة لا تزال تجأر في خطواته وتسد باب الشفاء، وبشيء من صبر أيوب، سار
على الرصيف المغسول بمطر الصباح المبكر الذي أعادته المدينة، الألم يملأ
الفم والخاصرة ولا يهتم، فقد قرر البحث عن الشافي بعدما ضاق ذرعاً بحياة
الإكتئاب والعقاقير والرطوبة والظلام.
وصل المسجد وفي وجهه شرخ يدل على انشطاره، أسند ظهره إلى الحائط، تنفس
الصعداء، أغمض عينيه للحظات، ثمّ دخل بخطوات بطيئة.. توضأ، وأمام القبلة
صلى ركعتي استخارة، توسل لله – عزّ وجلّ – أن يبعث له الدواء والشفاء.
خرج من المسجد، وفي الطريق إلى البيت خفق قلبه على نحو لم يخفق خلال
الأعوام التي عاشها، وفجأة تناثرت الكآبة ومعها التعاسة والوجع والخمول
والإنطواء والبؤس حطاماً، وأحس أن قلبه قد أصبح سماء خضراء لا تتسع لورقة
صفراء، وأنّ الحياة تفجرت في عروقه في أروع شكل لها.
حمل بيدر صحته..اتجه صوب بيته شاهراً فرحته، تحدوه مشاعر عذبة، وأمام
الباب، سمع صوت الحياة تنشد ألحانها في أعضائه، فربط قلبه بشريط من الفرح،
وأحس بأجنحة لا يراها تحمله، فتح الباب، وعندما رأته يتأبط الفرح والراحة،
وعلى شفتيه تلك الابتسامة الغائبة، بهتت زوجته وهتفت بصموت ضاحك:
- ما شاء الله يا ياسر، أرى الصحة تتلألأ على وجهك!
جلس أمام النافذة وهو يستمع في نشوة إلى رفيف الأجنحة، عصر رحيق الشمس بين
يديه، ومنح نفسه قطرة ضوء اشتاقت لها، طلب الطعام الذي هجره طويلاً بفرح
طفولي:
- تخلصي يا زوجتي من كل تلك الأدوية، لقد اهتديت إلى "الشافي".
البلاغ