الستائر
الزرقاء/ألفت أدلبي
وجدت نفسي منذ بضعة
شهور أنصت – على غير إرادتي – للكلمات التي كان يرددها الناس من حولي: "كيف
تحتمل الحياة بدون أطفال؟
وهل تحل السعادة في بيت يخلو من الأطفال؟
فالأطفال هم نبض الحياة، ضحكاتهم تُنسي المرء همومه، وتدفع السآمة بعيداً
عن حياته.." لقد طلبت مراراً من الجميع بألا يتدخل أحد في حياتي مؤكداً لهم
أني اخترت زوجتي بنفسي، وأني غير آسف على هذا الإختيار.
فلماذا تتسلل كلماتهم إلى قلبي هذه الأيام؟
هل بدأت السآمة تتسرب فعلاً إلى
حياتنا؟
كنّا أحياناً نقضي الأمسية بأكملها دون أن نتبادل كلمة واحدة. أنا أقرأ،
على حين تنصرف هي إلى بعض أشغال الإبرة، فإذا تثاءب أحدنا، أجابه الآخر
بتثاؤب مماثل.
لقد كنت أتحمل الملل قبل ذلك صابراً ولكنه بدأ يزعجني.
وكنت أتساءل عن سبب ما اعتزمت اتِّخاذه من قرار في هذه الأيام. لماذا تبدّل
موقفي من زوجتي؟ هل الأمر كله يعود إلى رغبتي في إنجاب الأطفال فحسب؟ وإذا
كان الأمر كذلك، ففيم صعوبة إتّخاذ القرار؟ وهل سأكون أوّل رجل ضحى بزوجته
من أجل الأطفال؟ إنّ الكثيرين من الرجال قد سبقوني إلى ذلك، ولم يستنكر
أحد تصرفهم.
والحق، لقد خدعت نفسي طويلاً، فلقد كان وراء الأمر فتاة جذابة سلبت لبي،
وما كان لجوئي إلى حرماننا من الأطفال وإلى السآمة التي تعشش في حياتنا،
إلا وسيلة لتبرير مسلكي وتهدئة ضميري حتى أستطيع التخلص من زوجتي المسكينة
لأحلّ محلها فتاة صغيرة لم تبلغ العشرين.
كانت هذه الفتاة جارة لأُمّي، فكت أقابلها كلما زرت أُمّي. لذلك ازدادت
زياراتي لأُمّي تدريجياً، حتى صرت أتردد عليها يومياً بعد أن كنت أزورها
مرّة واحدة في الأسبوع.
ولقد أبدت الفتاة إستعدادها لقبولي زوجاً على أن أطلِّق زوجتي أوّلاً ثم
أمنحها مبلغاً من الليرات الذهبية وأهدي لها عند عقد القران خاتماً به ماسة
ثمينة.
وكنت على إستعداد للموافقة على أي شيء، وكانت العقبة الوحيدة هي زوجتي
الطيبة التي لا تفكر إلا في إرضائي. لذلك بيّت النية على أن نتشاجر لأي
سبب، ثمّ أتخذ من ذلك ذريعة للطلاق. غير أني أخفقت في ذلك، فلم استطع أن
أجيب إبتسامة زوجتي بالعبوس. ولم أوفق في فرض شجار على من تقابل كل ما يصدر
عني، حتى وقاحتي، بحلم مذهل وقلب محب.
لقد حرت ولم أدرِ ماذا أفعل. كنت قد اشتريت الخاتم وأعددت المال، ولم يبق
أمامي إلا تطليق زوجتي لأعق على الفتاة التي أرغبها.
وبعد تفكير طويل اهتديت إلى حل بدا موفقاً. سوف أزعم لزوجتي أنني سأسافر إن
عملي يقتضيني السفر أحياناً – ثمّ أطلب منها أن تذهب إلى بيت أبيها في
أثناء غيابي، وبعد ذلك أكتب لها معترفاً بكل شيء، وهكذا تنتهي المسألة!
وفي الصباح التالي فاتحت زوجتي باعتزامي السفر بطريقة تعمدت أن تبدو عرضية
قدر الإمكان، ولكنني فوجئت بوجهها يشحب، وإذا بها ترتمي على الأريكة في وهن
وتقول بابتسامة تمزق نياط القلب: "لقد كنت أتوقع هذا من مدة".
ترى ماذا دهاها؟ هل قرأت أفكاري؟ وأردت أن أتكلم فخانني صوتي، ولم أستطع
النطق بحرف. فجلست بجوار زوجتي على الأريكة وكلانا لا ينطق، ولما دفعت يدي
في جيبي، كان أوّل ما لامس أصابعي علبة صغيرة من القطيفة. يالي من أحمق!
لقد تركت الخاتم في جيبي، وشعرت أني مجرم ضبط متلبساً بجريمته، فلابدّ من
أنها رأت الخاتم، وفهمت منه كل شيء.
وتجنبت النظر إلى وجهها خشية أن تلتقي عيناي وعيناها، على حين هي في مكانها
ساكنة لا تبدي حراكاً كأنّها قطعة من الحجر.
وبالرغم من حزنها البالغ، استطعت أن أحس مظاهر الإباء والعزة في كل خطوط
جلستها، كانت يداها مضمومتين في رقة. وفي أحد أصابعها كان يلمع خاتم
الزفاف.
ترى فيم تفكر؟ أتعود بالذاكرة إلى ذلك اليوم. يوم وضعت الخاتم في أصبعها
وأنا أقبل يديها؟ وكنت أحس بأني أسعد إنسان على وجه الأرض. وقد فأجأتني في
تلك اللحظات الجميلة ببكائها المفاجئ. ولما سألتها في قلق: "ماذا هنالك؟
إنّ هذه أسعد لحظات حياتنا ففيم البكاء". فأجابتني بصوت مرتعش: "ليتك تدرك
كم أحبك! وأي مخاطرة أقدم عليها بوضع هذا الخاتم في أصبعي؟ فأنت تعلم أنني
لن أستطيع أن أنجب لك أطفالاً. وأخشى اليوم الذي تنبذني فيه وتنزع من يدي
هذا الخاتم، فهل أقوى على إحتمال هذا اليوم؟" عندئذٍ طوقتها بذراعي وقلت:
"إنما أنت أعز ما لديَّ في الدنيا كلها، ولا أحب أن أسمع بعد اليوم مثل هذه
الكلمات التي تؤلمني".
أتراها تتذكر الآن أحداث ذلك اليوم؟ ولكن لماذا لا تبكي ما فقدت؟ لماذا لا
توبخني أو تعاتبني؟ أو أي شيء، ارحم من هذا الصمت الذي يحطم النفس؟ فهذه
اللحظة هي أقسى لحظة مرّت بنا في حياتنا معاً. فلما دق الهاتف فجأة تنفست
الصعداء وأسرعت أجيب نداءه كأنّما قد حررني من قيودي. كان الحديث في أمر
عديم الأهمية ولكنّه أتاح لي العذر للفكاك منها، فارتديت معطفي وخرجت أطوف
المدينة بسيارتي دون هدف أو غاية، وقد أصبحت فريسة أفكاري. وشعرت بحمى
تجتاح بدني فتمنيت أن أصاب في حادث فأتخلص بموتي من هذه الورطة.
ولما حان موعد العشاء عدت إلى البيت، وتوقفت طويلاً عند العتبة متردداً في
الدخول متسائلاً عما تفعله زوجتي في تلك اللحظة. وأخيراً أدرت المفتاح في
الباب، وتسللت إلى الداخل كاللص. كان كل شيء في البيت على أفضل نظام.
الأرضية والحوائط والنوافذ والمرايا كلها تلمع، والمزهريات قد ملئت بالزهور
– فيالها حقاً من ساحرة! كيف أمكنها أن تخلق كل هذا الكمال دون معونة
خادم، وبعد مثل هذه الصدمة؟ لعلها تريد أن تثبت لغريمتها أنها كانت ربة بيت
من أحسن طراز!
وفجأ ظهرت بنفسها على عتبة الباب: فالوجه مازال شاحباً، والعينان الحزينتان
كما هما، وقالت بصوت مختنق ودون أن تنظر ناحيتي: "أيمكن أن تأخذني في
سيارتك؟" فقلت بصوت مرتعش: "مادامت هذه رغبتك".
ثمّ نظرت إلى الحقيبتين وسألتني: "أتحملهما أم أحملهما بنفسي؟" ولم تلبث أن
أضافت: "بل أني سأحملهما بنفسي، فإني أقدر على ذلك..".
فأسرعت أحمل الحقيبتين عنها صامتاً، ثمّ وضعتهما في صندوق السيارة وأنا
أتساءل: أهكذا ينتهي كل ما بيننا؟ وهل الأمر بهذه البساطة؟
وأغلقت زوجتي باب البيت الخارجي ببطء، وألقت عليه نظرة وداعية طويلة، ثمّ
ركبت السيارة، واستقرت في المقعد الخلفي، فأوشكت أن أطلب منها أن تجلس إلى
جواري كعادتها، ولكني توقفت مدركاً أن ذلك لا يتمشى بالطبع مع مقتضى الحال.
وأدرت السيارة بيد مرتعشة، وتهيأت للسير، ولكنها أوقفتني بصيحة مفاجئة:
"انتظر. انتظر قليلاً، فقد نسيت أن أغلق نافذة حجرة الإستقبال، وستائرنا
الزرقاء ستبهت بفعل أشعة الشمس".
فأوقفت السيارة، وعادت هي إلى البيت لتغلق النافذة، وارتميت برأسي مرهقاً
على عجلة القيادة وأغلقت عينيّ.
وفكرت في نفسي: يا للمسكينة وماذا يهمها الآن من أمر الستائر الزرقاء؟
وتذكرت المشقة التي كابدتها في الطواف بالمتاجر للعثور على هذا اللون
الأزرق البديع، والأيام الطويلة التي أنفقتها في تطريز هذه الستائر تطريزاً
حظي بإعجاب كل من زارنا.
ووجدت نفسي أهتف قائلاً: "بل أنت أم فعلاً. أم هذا البيت، فأنت التي
ابدعته، وها أنتِ ترغبين في حمايته من كل الشرور والمحافظة على سلامته كما
تفعل الأُم الرءوم لطفلها... إنّه طفلك الذي لم تحمليه في أحشائك قط..
فيالي من وحش قاس يريد أن يسلب إمرأة بيتها الذي تحبه".
فقفزت من السيارة، وعبرت الحديقة في خطوتين، واندفعت إلى الداخل فإذا بي
أمام زوجتي وجهاً لوجه، فأمسكت بيدها وجذبتها إلى الحجرة قائلاً: "أليس
الأفضل أن تظلي هنا يا حبيبتي لتعني بنفسك بالستائر الزرقاء"؟
ففهمت مرادي، وألقت بنفسها في أقرب مقعد، ثمّ انفجرت تبكي لأوّل مرّة منذ
الصباح. لقد وجدت في نفسها القوة الكافية لتحبس دموع الحزن، ولكنها لم تقو
على حبس دموع الفرح.
إنّ ستائرنا الزرقاء تضفي جمالاً خاصاً على بيتنا؛ كما أنها تحجب رؤية مَن
يريد أن يتطفل على حياتنا.
وأهم من ذلك كله أدركت أنّ هذه الستائر التي ترمز لمحبة زوجتي وتفانيها،
إنما هي أيضاً إنعكاسة للمحبة التي ترفق وتتأنى وتستر العيوب... ترفقت بي
زوجتي وصبرت متأنية. كما كان في محبتها العاملة الفاعلة غطاء لعيوبي...
تفانت هي وفوق هذا التفاني كانت ستائر محبتها تغلف حياتي بأفضال كثيرة.. لم
اكتشفها إلا وأنا على وشك إتّخاذ قرار مدمر بحرماني منها...
وجدت نفسي مرّة أخرى أركع أمامها واقبل يديها. وأخرجت الخاتم الماسي من
جيبي، ووضعته في أصبعها، فسقطت دموعها الحارة على وجهي، وشعرت فجأة بخفة
غريبة، كأنّما ألقيت عن كاهلي عبئاً ثقيلاً. ولابدّ أنّ الشعور الذي
انتابني في تلك اللحظة هو الشعور الذي ينتاب الغريق عندما يصل إلى البر بعد
صراع طويل مع الأمواج.
*كاتبة سورية
البلاغ
الزرقاء/ألفت أدلبي
وجدت نفسي منذ بضعة
شهور أنصت – على غير إرادتي – للكلمات التي كان يرددها الناس من حولي: "كيف
تحتمل الحياة بدون أطفال؟
وهل تحل السعادة في بيت يخلو من الأطفال؟
فالأطفال هم نبض الحياة، ضحكاتهم تُنسي المرء همومه، وتدفع السآمة بعيداً
عن حياته.." لقد طلبت مراراً من الجميع بألا يتدخل أحد في حياتي مؤكداً لهم
أني اخترت زوجتي بنفسي، وأني غير آسف على هذا الإختيار.
فلماذا تتسلل كلماتهم إلى قلبي هذه الأيام؟
هل بدأت السآمة تتسرب فعلاً إلى
حياتنا؟
كنّا أحياناً نقضي الأمسية بأكملها دون أن نتبادل كلمة واحدة. أنا أقرأ،
على حين تنصرف هي إلى بعض أشغال الإبرة، فإذا تثاءب أحدنا، أجابه الآخر
بتثاؤب مماثل.
لقد كنت أتحمل الملل قبل ذلك صابراً ولكنه بدأ يزعجني.
وكنت أتساءل عن سبب ما اعتزمت اتِّخاذه من قرار في هذه الأيام. لماذا تبدّل
موقفي من زوجتي؟ هل الأمر كله يعود إلى رغبتي في إنجاب الأطفال فحسب؟ وإذا
كان الأمر كذلك، ففيم صعوبة إتّخاذ القرار؟ وهل سأكون أوّل رجل ضحى بزوجته
من أجل الأطفال؟ إنّ الكثيرين من الرجال قد سبقوني إلى ذلك، ولم يستنكر
أحد تصرفهم.
والحق، لقد خدعت نفسي طويلاً، فلقد كان وراء الأمر فتاة جذابة سلبت لبي،
وما كان لجوئي إلى حرماننا من الأطفال وإلى السآمة التي تعشش في حياتنا،
إلا وسيلة لتبرير مسلكي وتهدئة ضميري حتى أستطيع التخلص من زوجتي المسكينة
لأحلّ محلها فتاة صغيرة لم تبلغ العشرين.
كانت هذه الفتاة جارة لأُمّي، فكت أقابلها كلما زرت أُمّي. لذلك ازدادت
زياراتي لأُمّي تدريجياً، حتى صرت أتردد عليها يومياً بعد أن كنت أزورها
مرّة واحدة في الأسبوع.
ولقد أبدت الفتاة إستعدادها لقبولي زوجاً على أن أطلِّق زوجتي أوّلاً ثم
أمنحها مبلغاً من الليرات الذهبية وأهدي لها عند عقد القران خاتماً به ماسة
ثمينة.
وكنت على إستعداد للموافقة على أي شيء، وكانت العقبة الوحيدة هي زوجتي
الطيبة التي لا تفكر إلا في إرضائي. لذلك بيّت النية على أن نتشاجر لأي
سبب، ثمّ أتخذ من ذلك ذريعة للطلاق. غير أني أخفقت في ذلك، فلم استطع أن
أجيب إبتسامة زوجتي بالعبوس. ولم أوفق في فرض شجار على من تقابل كل ما يصدر
عني، حتى وقاحتي، بحلم مذهل وقلب محب.
لقد حرت ولم أدرِ ماذا أفعل. كنت قد اشتريت الخاتم وأعددت المال، ولم يبق
أمامي إلا تطليق زوجتي لأعق على الفتاة التي أرغبها.
وبعد تفكير طويل اهتديت إلى حل بدا موفقاً. سوف أزعم لزوجتي أنني سأسافر إن
عملي يقتضيني السفر أحياناً – ثمّ أطلب منها أن تذهب إلى بيت أبيها في
أثناء غيابي، وبعد ذلك أكتب لها معترفاً بكل شيء، وهكذا تنتهي المسألة!
وفي الصباح التالي فاتحت زوجتي باعتزامي السفر بطريقة تعمدت أن تبدو عرضية
قدر الإمكان، ولكنني فوجئت بوجهها يشحب، وإذا بها ترتمي على الأريكة في وهن
وتقول بابتسامة تمزق نياط القلب: "لقد كنت أتوقع هذا من مدة".
ترى ماذا دهاها؟ هل قرأت أفكاري؟ وأردت أن أتكلم فخانني صوتي، ولم أستطع
النطق بحرف. فجلست بجوار زوجتي على الأريكة وكلانا لا ينطق، ولما دفعت يدي
في جيبي، كان أوّل ما لامس أصابعي علبة صغيرة من القطيفة. يالي من أحمق!
لقد تركت الخاتم في جيبي، وشعرت أني مجرم ضبط متلبساً بجريمته، فلابدّ من
أنها رأت الخاتم، وفهمت منه كل شيء.
وتجنبت النظر إلى وجهها خشية أن تلتقي عيناي وعيناها، على حين هي في مكانها
ساكنة لا تبدي حراكاً كأنّها قطعة من الحجر.
وبالرغم من حزنها البالغ، استطعت أن أحس مظاهر الإباء والعزة في كل خطوط
جلستها، كانت يداها مضمومتين في رقة. وفي أحد أصابعها كان يلمع خاتم
الزفاف.
ترى فيم تفكر؟ أتعود بالذاكرة إلى ذلك اليوم. يوم وضعت الخاتم في أصبعها
وأنا أقبل يديها؟ وكنت أحس بأني أسعد إنسان على وجه الأرض. وقد فأجأتني في
تلك اللحظات الجميلة ببكائها المفاجئ. ولما سألتها في قلق: "ماذا هنالك؟
إنّ هذه أسعد لحظات حياتنا ففيم البكاء". فأجابتني بصوت مرتعش: "ليتك تدرك
كم أحبك! وأي مخاطرة أقدم عليها بوضع هذا الخاتم في أصبعي؟ فأنت تعلم أنني
لن أستطيع أن أنجب لك أطفالاً. وأخشى اليوم الذي تنبذني فيه وتنزع من يدي
هذا الخاتم، فهل أقوى على إحتمال هذا اليوم؟" عندئذٍ طوقتها بذراعي وقلت:
"إنما أنت أعز ما لديَّ في الدنيا كلها، ولا أحب أن أسمع بعد اليوم مثل هذه
الكلمات التي تؤلمني".
أتراها تتذكر الآن أحداث ذلك اليوم؟ ولكن لماذا لا تبكي ما فقدت؟ لماذا لا
توبخني أو تعاتبني؟ أو أي شيء، ارحم من هذا الصمت الذي يحطم النفس؟ فهذه
اللحظة هي أقسى لحظة مرّت بنا في حياتنا معاً. فلما دق الهاتف فجأة تنفست
الصعداء وأسرعت أجيب نداءه كأنّما قد حررني من قيودي. كان الحديث في أمر
عديم الأهمية ولكنّه أتاح لي العذر للفكاك منها، فارتديت معطفي وخرجت أطوف
المدينة بسيارتي دون هدف أو غاية، وقد أصبحت فريسة أفكاري. وشعرت بحمى
تجتاح بدني فتمنيت أن أصاب في حادث فأتخلص بموتي من هذه الورطة.
ولما حان موعد العشاء عدت إلى البيت، وتوقفت طويلاً عند العتبة متردداً في
الدخول متسائلاً عما تفعله زوجتي في تلك اللحظة. وأخيراً أدرت المفتاح في
الباب، وتسللت إلى الداخل كاللص. كان كل شيء في البيت على أفضل نظام.
الأرضية والحوائط والنوافذ والمرايا كلها تلمع، والمزهريات قد ملئت بالزهور
– فيالها حقاً من ساحرة! كيف أمكنها أن تخلق كل هذا الكمال دون معونة
خادم، وبعد مثل هذه الصدمة؟ لعلها تريد أن تثبت لغريمتها أنها كانت ربة بيت
من أحسن طراز!
وفجأ ظهرت بنفسها على عتبة الباب: فالوجه مازال شاحباً، والعينان الحزينتان
كما هما، وقالت بصوت مختنق ودون أن تنظر ناحيتي: "أيمكن أن تأخذني في
سيارتك؟" فقلت بصوت مرتعش: "مادامت هذه رغبتك".
ثمّ نظرت إلى الحقيبتين وسألتني: "أتحملهما أم أحملهما بنفسي؟" ولم تلبث أن
أضافت: "بل أني سأحملهما بنفسي، فإني أقدر على ذلك..".
فأسرعت أحمل الحقيبتين عنها صامتاً، ثمّ وضعتهما في صندوق السيارة وأنا
أتساءل: أهكذا ينتهي كل ما بيننا؟ وهل الأمر بهذه البساطة؟
وأغلقت زوجتي باب البيت الخارجي ببطء، وألقت عليه نظرة وداعية طويلة، ثمّ
ركبت السيارة، واستقرت في المقعد الخلفي، فأوشكت أن أطلب منها أن تجلس إلى
جواري كعادتها، ولكني توقفت مدركاً أن ذلك لا يتمشى بالطبع مع مقتضى الحال.
وأدرت السيارة بيد مرتعشة، وتهيأت للسير، ولكنها أوقفتني بصيحة مفاجئة:
"انتظر. انتظر قليلاً، فقد نسيت أن أغلق نافذة حجرة الإستقبال، وستائرنا
الزرقاء ستبهت بفعل أشعة الشمس".
فأوقفت السيارة، وعادت هي إلى البيت لتغلق النافذة، وارتميت برأسي مرهقاً
على عجلة القيادة وأغلقت عينيّ.
وفكرت في نفسي: يا للمسكينة وماذا يهمها الآن من أمر الستائر الزرقاء؟
وتذكرت المشقة التي كابدتها في الطواف بالمتاجر للعثور على هذا اللون
الأزرق البديع، والأيام الطويلة التي أنفقتها في تطريز هذه الستائر تطريزاً
حظي بإعجاب كل من زارنا.
ووجدت نفسي أهتف قائلاً: "بل أنت أم فعلاً. أم هذا البيت، فأنت التي
ابدعته، وها أنتِ ترغبين في حمايته من كل الشرور والمحافظة على سلامته كما
تفعل الأُم الرءوم لطفلها... إنّه طفلك الذي لم تحمليه في أحشائك قط..
فيالي من وحش قاس يريد أن يسلب إمرأة بيتها الذي تحبه".
فقفزت من السيارة، وعبرت الحديقة في خطوتين، واندفعت إلى الداخل فإذا بي
أمام زوجتي وجهاً لوجه، فأمسكت بيدها وجذبتها إلى الحجرة قائلاً: "أليس
الأفضل أن تظلي هنا يا حبيبتي لتعني بنفسك بالستائر الزرقاء"؟
ففهمت مرادي، وألقت بنفسها في أقرب مقعد، ثمّ انفجرت تبكي لأوّل مرّة منذ
الصباح. لقد وجدت في نفسها القوة الكافية لتحبس دموع الحزن، ولكنها لم تقو
على حبس دموع الفرح.
إنّ ستائرنا الزرقاء تضفي جمالاً خاصاً على بيتنا؛ كما أنها تحجب رؤية مَن
يريد أن يتطفل على حياتنا.
وأهم من ذلك كله أدركت أنّ هذه الستائر التي ترمز لمحبة زوجتي وتفانيها،
إنما هي أيضاً إنعكاسة للمحبة التي ترفق وتتأنى وتستر العيوب... ترفقت بي
زوجتي وصبرت متأنية. كما كان في محبتها العاملة الفاعلة غطاء لعيوبي...
تفانت هي وفوق هذا التفاني كانت ستائر محبتها تغلف حياتي بأفضال كثيرة.. لم
اكتشفها إلا وأنا على وشك إتّخاذ قرار مدمر بحرماني منها...
وجدت نفسي مرّة أخرى أركع أمامها واقبل يديها. وأخرجت الخاتم الماسي من
جيبي، ووضعته في أصبعها، فسقطت دموعها الحارة على وجهي، وشعرت فجأة بخفة
غريبة، كأنّما ألقيت عن كاهلي عبئاً ثقيلاً. ولابدّ أنّ الشعور الذي
انتابني في تلك اللحظة هو الشعور الذي ينتاب الغريق عندما يصل إلى البر بعد
صراع طويل مع الأمواج.
*كاتبة سورية
البلاغ