بحثٌ عن الهوية!
ما كان سيحدث لو غادرت هذا اللبنان..
ما كان سيحدث لو قررت الحصول على هوية أخرى أو الإنتماء إلى وطن غير هذا الوطن؟
لكنت شهدت ولادة إنسان آخر..
لكانت امتلكتني أشواق العودة والحنين إلى أرضٍ باتت لسواي.. إلى وطن لن ينبت أبنائي.. إلى لبنان خسرته يوم اتخذت قرار المغادرة، يوم أبعدت عيني عن رؤية امتداد زرقته وارتفاع جباله..
لكنتُ همت على وجهي بحثاً عن هوية جديدة ألبسها.. عن انتماء آخر.. عن وجه لا يشبه وجه لبناني.. عن إنسان جديد سيولد.. عن دائرة نفوس غريبة تُصدر لي الهوية.. عن مبادئ مختلفة يرتشفها أبنائي..
لم تراودني أحلام الرحيل لأنني أفقد التوازن حين أقاوم جاذبية الخريطة الخضراء خوفاً من أن أعتمر مكان لا يشبه ذاكرتي.. لأني أكره جمال كل المدن التي تنافس جمال مدني.. لأني أعشق طلوع الفجر وغروب الشمس في وطني..
لم أغادر .. لأني أرفض الإرتباط بأرض رائحة ترابها لم تتخمّر تحت سماء وضياء وطني.. لأني أعجز عن تبني شعب لا يملك تقاليدي ولا يتمتع بثقافتي ولا تهمه مبادئي..
لأني أخشى مجيء الفصول دون أن أشهد ولادتها..
لأني أكره أن يبللني مطر لم تحبل به غيوم سمائي.. لأني أخاف أن أعتاد المياه المعلبة واستبدالها بينابيع قريتي.. لأني سأشتاق إلى كل ما أنبتته أرض لبنان وستنبته لأبنائي.. لن أغادر لئلا يخنقني ثقل الهواء الفارغ من عطر أشجار جبالنا..
لن أرحل طالما تراودني رغبة الصلاة بلغتي.. لغة الوطن.. لغة تصبغ صوري ومفرداتي.. تستحوذني فتمنعني من التواصل بلغة سواها.. لغة حفرت ذاكرتي ورسمت تاريخي.. لن أرحل ما دمت أشتهي لوطني حكاماً لن يولدوا إذا غادره جميع أبنائه..
لم تساورني هواجس الإرتحال لأن الوطن يلبسني كلما مشيت في شوارع لا تؤدي إلى منزلي.. يلبسني إذا ما أقمت في منزلٍ لا تقودني أروقته إلى غرفتي ومؤنة أمي ومدفأتي.. وإذا لم يغطي "نفناف الثلج" درج منزلي..
لن أغيب عن ملامح وطني ما دمت أفيق من شوقي إلى غناء الضفادع في أول الصيف.. وما دمت أغار من ابتسامات تجوب الأرض متحدية دموع أهلي.. ما دامت التساؤلات تتآكلني حول الشوارع والفصول، حول الورود والأشجار، حول عاداتنا وتقاليدنا، حول عجوز ينتظرني "بالعوافي" على مفرق طريق خلال نزهتي المسائية..
أخاف الرحيل أجل.. أخاف الرحيل لئلا تشرق الشمس دون أن أشهد طلوعها من على شرفة منزلي.. أخاف رحيل من أحبهم وأنا لست هاهنا.. أخاف أن تكبر الجبال وأنا بعيدة.. أخاف أن تهرم المنازل ولا أعود أعرفها.. أخاف أن أعتاد على غربتي فتفقدني محبتي لهذا الوطن..
كيف أرحل ما دامت بدائع الدنيا تسقط أمام تواضع معالم الوطن.. كيف أترك أوراق التفاح والتين والعنب تتهاوى دون أن أراقب تراقصها على طرقات غير معبدة.. كيف أرحل وأترك فنجان قهوتي وحيداً..
عاجزة أنا عن الرحيل.. أخاف أن أهجر بلادي.. لمن سأترك هذا اللبنان من بعدي.. إذا رحلت أنا من سيبقى.. من سيقرع جرس كنيستنا من سيصغي إلى المآذن.. لمن ستغني فيروز.. من سيراقب هطول المطر من خلف النافذة.. من سيبني صخور الوطن منازل قرميدية.. من سينبت حقول القمح ويعصر الزيتون.. من سيزيل الثلج عن غصون أرز الرب..
لا يغادرنا الوطن.. بل نحن نتخلى عن عبئ انتمائه..
أن نغادر الوطن.. يعني أن نغادر ذاتنا. أن ندفن صباحاتنا وأمسياتنا المصبوغة بنسائمه..
يختارنا الوطن، لا بل ينتمي إلينا بدل أن ننتمي إليه.. يختارنا كما يصطفي الرب أولياءه.. يناضل بوجه نزواتنا وبحثنا عن انتماءات أخرى.. يختارنا شهوداً لتاريخه وبناة لحضارته.. يمنحنا هويته، وما أعظم هذه الهوية، فإما أن ننتمي فنكون منه أو لا نكون..
أن ننتمي إلى وطن انتشلنا من عجقة الأوطان وأرادنا لتاريخه علامة.. أن تتنفس دماؤنا من هوائه وتنجبل ذاكرتنا بترابه وتصبغ الشمس أجسدنا الساجدة تحت عظمة مجده..
مجد هذا اللبنان منح لي فهل أرحل.. كيف أغادر وأتخلى عن جزئي من الوطن..
لا يغادرنا الوطن.. وإنما نغادره نحن.. نتخلى عمّن أنجب ذاكرتنا.. عمن نحت ملامحنا.. عمن شكّل صورنا وشخصنا وماضينا.. عمن خلق الإنسان بداخلنا.. نغادر الوطن كما تقلع الأشجار من جذورها.. نغادر فنتخلى عن هوية أبنائنا ولا يبقى من يشبهنا.. نغادر فندفن ذواتنا وتاريخنا..
لن أغادر لأني أعجز عن الإنتماء إلاّ إلى من أنجبني.. لبنان...