رشق الغزال...سوزان عليوان.
جهاد الترك.-جريدة "المستقبل" 2011/9/7
......................................
نصوص تبلغ ثلاثين تقريباً تتقاطع جميعاً في فضاء مغلّف، على الأرجح، بدلالات البوح. مردّ ذلك الى نمط من اللغة تمكنت مبكراً من تخطّي حواجز وعقبات وعراقيل مختلفة وهي تتسلل من خلف المفردات الى ذاكرة المشهد، الى شيء من ظلاله، الى وفرة من حوافز الرؤية.
البوح المقصود، في هذا السياق، يماثل تلك السكينة المتيقظة التي ينكشف فيها استدراج الظلال الى الصورة الشعرية. الظلّ يبوح أكثر مما يصرّح.
إنه الجسر الخفي الذي يربط بالضرورة بين اللغة في تعبيرها المباشر والهش من جهة، ودلالاتها المفتوحة على فضاء شاسع من المشاهد والمعاني والاشكال التي تستولد سواها من ذاكرة مشرّعة هي الأخرى على متاهات الرؤية.
النصوص، كما أرادتها سوزان عليوان في مجموعتها الجديدة "رشق الغزال" هي شيء كثير من هذا التصور الذي يقارب اللغة من المفترق الذي تنحدر منه المفردة الى أقدارها المتفلتة من الذاكرة الجاهزة الى الذاكرة المتكونة في متاهة المجهول.
لا ذاكرة جاهزة للمجهول المغرق في غموضه. لا ذاكرة جاهزة للغة وهي تتأهب لخوض هذه المغامرة على التخوم البعيدة للرؤية الشعرية.
تتميز نصوص عليوان بذلك المد الضبابي الذي يحمله هذا التصور الأولي الى النص، ثم يبقي عليه كذلك. لا فراغات في المشهد الشعري، وان بدا أحياناً ان البوح الناتج عن تسرّب هذا الضباب الكثيف الى متاهة النص، قد يوحي أحياناً بأن هناك حلقة مفقودة في هذه المعادلة.
لا شيء من هذا القبيل، على الأرجح، فالظلال المستدرجة الى النصوص بهدوء ورويّة ورؤية تجمع بين الصورة التي تلوح من البعيد وامتداداتها التي تبدو غامضة، في البدء، عناصر تحيل النص ضرباً مشوّقاً من محاولة لفكفكة بنية المفردة الواحدة. ومن ثم إعادة توظيفها في ما يتجاوزها الى ذاكرتها المغلقة فيها.
ولعل هذه الأخيرة لا تعود كذلك. تروح تتخلى، بالتدريج، عن إمعانها في انغلاقها على ذاتها لتصبح مشرّعة على احتمالاتها.
وهكذا دواليك. من احتمال الى احتمال آخر أكثر غموضاً ولكن أقرب الى مناطق الظلال، تضع عليوان نصوصها في مهبّ الصورة التي تقبل على نفسها ثم لا تلبث أن تشرّع ذاكرتها على سواها، ليس على سبيل الانتقال المفاجئ الى مشهد آخر. ولكن بغية أن تتمدد في ذاكرة أخرى. في ظل آخر. في متاهة أخرى وظلال مغايرة تفترضها هذه المتاهة.
الشاعرة أقرب، في هذا السياق، الى استدعاء ظلال المشهد لا المشهد عينه. تذهب مباشرة الى الصورة بعد أن تزول معالم هذه الأخيرة. وأيضاً بعد أن تصبح مستعدة لتتحول صورة أخرى بظلال أخرى. الصورة هي ظلالها، في هذا الإطار. يجري استقدامها الى النص بأشكالها المحتملة.
وبالتالي بلغتها المحتملة. وفوق هذا وهذاك بذاكرتها المحتملة أيضاً. معادلة احتمالية قبل أي شيء آخر، بدليل ان للمعنى الواحد دلالات مفتوحة على ذاتها، وفي الوقت عينه مفتوحة على سلسلة طويلة من الدلالات المستبطنة فيها.
تقدم عليوان، بفضائها الضبابي، على اطلاق هذه الاحتمالات من معاقلها، وأيضاً على استخراج ذاكرة جديدة من ذاكرتها القديمة.
تفعل ذلك باختيارها نصاً قصيراً، في الأغلب، قد لا يوحي للوهلة الأولى بقدرته على استيعاب هذه التحولات المتعاقبة. ومع ذلك، لا يبدو ان في النص أثراً يذكر لممانعة من هذا النوع. ولأن صورتها الشعرية حمّالة أوجه تنحاز الى لغة تتكون في متاهة مترامية الأطراف، فإن قصر النص أو طوله أمران لا يعودان يتحكمان وحدهما بالدلالات الشعرية.
لا يغدو النص، في هذا المجال، مساحة هندسية مصممة، في الأساس، لتكون مستودعاً للاستيعاب فقط. يصبح منطوياً على هندسة داخلية أهم وأخطر تقوم على الايحاء خارج حدود اللغة المباشرة.
للمفردات وظلالها والمشاهد الناتجة عنها، ذاكرة بمقدورها أن توظف لحظة واحدة من مغامرة الظلال على نحو يجعل منها زمناً شعرياً لا يُقاس بالأمكنة والأزمنة على الاطلاق. لعله يُقاس بالقدرة على إعادة اكتشاف اللغة خارج الزمان والمكان.
............................................
مختارات من "رشق الغزال".
أنتظرك.
بأقصى ما يستطيعه يأس
بأقل قدر من ظلّي
أثق بالمطر
كزهرة غاردينيا
تضيئني بئر
حياتي حبر على سحابة
خطوتي خلفي
أنا أخطائي
الليل قطعة من القلق صافية
ولكل طائر شكل صليب.
.......................
هذه وجوهي.
ألوان مائية على غابة
بأهداب مسدلة
بلا أنوف
بأفواه من الكرز زاهدة
حولها
تحوم أسئلة غرباء
على جدرانها أعلّقها
أقترح مرايا
أطفالي ليسوا لي
صغارك أيضاً
وهل يعبأ نهر
بخاتم أو وريث؟
................
كل ما أحببت كسرني.
لشمس شتاء في شباك
لغراب يراقص غصناً غائماً
لبقعة قلبي على قميصي
لرجل ثلج ونادل ومجهول عبر الأسلاك
لهمهمة فيروز
لتذكرتك المهدورة
لرفاق الحفل والحانة
لغيابك الذي
في غيابك صار صديقي.
.......................
من خاتمة الخيال.
من مآل النفق الى نقطة انطلاقه
من زوال رغبتي في حوار أو حصاد
من زهر الليمون وتيجانه المداسة
من خفّة فراشة على قبر سحيق
بنداء الهاوية أبدأ حياتي
كمن يموت
مبتسماً
لا لشيء
سوى أنه أحبّ وسامح وحلّق
بلا راية
مع النسور.
...............
ربيع و رصاص.
ضفائر وجنازير
وليس الموت مجازاً
وليس في سحنته
ملمح من ملاك
ثورة إثر ثورة إثر ثورة
والحرية حورية
والسواحل مقابر تتراكم
في الزحام الحزين وحدي
في يدي مسبحتك العاجية
بخيطها الذي بلون التراب
بحبّات من حنانك تنفرط
في قطرات
لقرون أخّرها السيل
كحياة تفلت من بين الأصابع.
..........................
لدمعتي.
أجنحة لا تحصى
كبحيرة بجع
أحبك وأحوي أسراباً
من شمس وصفصافة
أغزل قفطاني
قصيدتك ذات الأكمام الوارفة
على مدار ضفافي
أحلم أنني
أروي الحكايا والغزلان.
.......................
الموقع الرئيسي للشاعرة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
جهاد الترك.-جريدة "المستقبل" 2011/9/7
......................................
نصوص تبلغ ثلاثين تقريباً تتقاطع جميعاً في فضاء مغلّف، على الأرجح، بدلالات البوح. مردّ ذلك الى نمط من اللغة تمكنت مبكراً من تخطّي حواجز وعقبات وعراقيل مختلفة وهي تتسلل من خلف المفردات الى ذاكرة المشهد، الى شيء من ظلاله، الى وفرة من حوافز الرؤية.
البوح المقصود، في هذا السياق، يماثل تلك السكينة المتيقظة التي ينكشف فيها استدراج الظلال الى الصورة الشعرية. الظلّ يبوح أكثر مما يصرّح.
إنه الجسر الخفي الذي يربط بالضرورة بين اللغة في تعبيرها المباشر والهش من جهة، ودلالاتها المفتوحة على فضاء شاسع من المشاهد والمعاني والاشكال التي تستولد سواها من ذاكرة مشرّعة هي الأخرى على متاهات الرؤية.
النصوص، كما أرادتها سوزان عليوان في مجموعتها الجديدة "رشق الغزال" هي شيء كثير من هذا التصور الذي يقارب اللغة من المفترق الذي تنحدر منه المفردة الى أقدارها المتفلتة من الذاكرة الجاهزة الى الذاكرة المتكونة في متاهة المجهول.
لا ذاكرة جاهزة للمجهول المغرق في غموضه. لا ذاكرة جاهزة للغة وهي تتأهب لخوض هذه المغامرة على التخوم البعيدة للرؤية الشعرية.
تتميز نصوص عليوان بذلك المد الضبابي الذي يحمله هذا التصور الأولي الى النص، ثم يبقي عليه كذلك. لا فراغات في المشهد الشعري، وان بدا أحياناً ان البوح الناتج عن تسرّب هذا الضباب الكثيف الى متاهة النص، قد يوحي أحياناً بأن هناك حلقة مفقودة في هذه المعادلة.
لا شيء من هذا القبيل، على الأرجح، فالظلال المستدرجة الى النصوص بهدوء ورويّة ورؤية تجمع بين الصورة التي تلوح من البعيد وامتداداتها التي تبدو غامضة، في البدء، عناصر تحيل النص ضرباً مشوّقاً من محاولة لفكفكة بنية المفردة الواحدة. ومن ثم إعادة توظيفها في ما يتجاوزها الى ذاكرتها المغلقة فيها.
ولعل هذه الأخيرة لا تعود كذلك. تروح تتخلى، بالتدريج، عن إمعانها في انغلاقها على ذاتها لتصبح مشرّعة على احتمالاتها.
وهكذا دواليك. من احتمال الى احتمال آخر أكثر غموضاً ولكن أقرب الى مناطق الظلال، تضع عليوان نصوصها في مهبّ الصورة التي تقبل على نفسها ثم لا تلبث أن تشرّع ذاكرتها على سواها، ليس على سبيل الانتقال المفاجئ الى مشهد آخر. ولكن بغية أن تتمدد في ذاكرة أخرى. في ظل آخر. في متاهة أخرى وظلال مغايرة تفترضها هذه المتاهة.
الشاعرة أقرب، في هذا السياق، الى استدعاء ظلال المشهد لا المشهد عينه. تذهب مباشرة الى الصورة بعد أن تزول معالم هذه الأخيرة. وأيضاً بعد أن تصبح مستعدة لتتحول صورة أخرى بظلال أخرى. الصورة هي ظلالها، في هذا الإطار. يجري استقدامها الى النص بأشكالها المحتملة.
وبالتالي بلغتها المحتملة. وفوق هذا وهذاك بذاكرتها المحتملة أيضاً. معادلة احتمالية قبل أي شيء آخر، بدليل ان للمعنى الواحد دلالات مفتوحة على ذاتها، وفي الوقت عينه مفتوحة على سلسلة طويلة من الدلالات المستبطنة فيها.
تقدم عليوان، بفضائها الضبابي، على اطلاق هذه الاحتمالات من معاقلها، وأيضاً على استخراج ذاكرة جديدة من ذاكرتها القديمة.
تفعل ذلك باختيارها نصاً قصيراً، في الأغلب، قد لا يوحي للوهلة الأولى بقدرته على استيعاب هذه التحولات المتعاقبة. ومع ذلك، لا يبدو ان في النص أثراً يذكر لممانعة من هذا النوع. ولأن صورتها الشعرية حمّالة أوجه تنحاز الى لغة تتكون في متاهة مترامية الأطراف، فإن قصر النص أو طوله أمران لا يعودان يتحكمان وحدهما بالدلالات الشعرية.
لا يغدو النص، في هذا المجال، مساحة هندسية مصممة، في الأساس، لتكون مستودعاً للاستيعاب فقط. يصبح منطوياً على هندسة داخلية أهم وأخطر تقوم على الايحاء خارج حدود اللغة المباشرة.
للمفردات وظلالها والمشاهد الناتجة عنها، ذاكرة بمقدورها أن توظف لحظة واحدة من مغامرة الظلال على نحو يجعل منها زمناً شعرياً لا يُقاس بالأمكنة والأزمنة على الاطلاق. لعله يُقاس بالقدرة على إعادة اكتشاف اللغة خارج الزمان والمكان.
............................................
مختارات من "رشق الغزال".
أنتظرك.
بأقصى ما يستطيعه يأس
بأقل قدر من ظلّي
أثق بالمطر
كزهرة غاردينيا
تضيئني بئر
حياتي حبر على سحابة
خطوتي خلفي
أنا أخطائي
الليل قطعة من القلق صافية
ولكل طائر شكل صليب.
.......................
هذه وجوهي.
ألوان مائية على غابة
بأهداب مسدلة
بلا أنوف
بأفواه من الكرز زاهدة
حولها
تحوم أسئلة غرباء
على جدرانها أعلّقها
أقترح مرايا
أطفالي ليسوا لي
صغارك أيضاً
وهل يعبأ نهر
بخاتم أو وريث؟
................
كل ما أحببت كسرني.
لشمس شتاء في شباك
لغراب يراقص غصناً غائماً
لبقعة قلبي على قميصي
لرجل ثلج ونادل ومجهول عبر الأسلاك
لهمهمة فيروز
لتذكرتك المهدورة
لرفاق الحفل والحانة
لغيابك الذي
في غيابك صار صديقي.
.......................
من خاتمة الخيال.
من مآل النفق الى نقطة انطلاقه
من زوال رغبتي في حوار أو حصاد
من زهر الليمون وتيجانه المداسة
من خفّة فراشة على قبر سحيق
بنداء الهاوية أبدأ حياتي
كمن يموت
مبتسماً
لا لشيء
سوى أنه أحبّ وسامح وحلّق
بلا راية
مع النسور.
...............
ربيع و رصاص.
ضفائر وجنازير
وليس الموت مجازاً
وليس في سحنته
ملمح من ملاك
ثورة إثر ثورة إثر ثورة
والحرية حورية
والسواحل مقابر تتراكم
في الزحام الحزين وحدي
في يدي مسبحتك العاجية
بخيطها الذي بلون التراب
بحبّات من حنانك تنفرط
في قطرات
لقرون أخّرها السيل
كحياة تفلت من بين الأصابع.
..........................
لدمعتي.
أجنحة لا تحصى
كبحيرة بجع
أحبك وأحوي أسراباً
من شمس وصفصافة
أغزل قفطاني
قصيدتك ذات الأكمام الوارفة
على مدار ضفافي
أحلم أنني
أروي الحكايا والغزلان.
.......................
الموقع الرئيسي للشاعرة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]