"سوق الصفارين" في بغداد يطوي آخر صفحات تاريخه.
.........
كان "سوق الصفارين" علامة من علامات العاصمة العراقية،حيث ظلت سيمفونية الأزاميل و المطارق تصدح من زواياه على مدى قرون،لكنه بات مهددا بالاندثار و معه تطوى صفحة من تاريخ عاصمة الرشيد.
دويتشه فيله تجولت في سوق النحاسين.
.......
لطالما تعالت في فضاء شارع الرشيد،أقدم شوارع العاصمة العراقية بغداد،معزوفة النقر على النحاس من سوق النحاسين،أو سوق الصفافير كما يطلق عليها باللهجة العراقية،فالصفر في اللهجة العراقية هو النحاس.
تلك الأصوات كانت ناجمة عن عملية تطويع المعدن لصنع الأواني المنزلية و أباريق الشاي و الملاعق و إطارات الصور و الفوانيس النحاسية المنقوشة بالزخارف،و غير ذلك.
و يعتبر هذا السوق من أقدم الأسواق في بغداد و ما لبث حاضراً في الأمثال التي يتداولها سكانها على امتداد الأزمان الماضية.
و في الأزقة الضيقة يعمل في المحال الصغيرة المتراصة إلى بعضها البعض حرفيون،توارثوا المهنة الشاقة و الممتعة،فجعلوا من هذا المكان معلماً تاريخياً،كان في أزمان أخرى مضت عامل جذب لكل من يزور عاصمة الرشيد و يبحث عن معالمها التاريخية.
لكن ما جاء به التغيير في العراق بدا واضحاً بقوة في السوق،ففي ظل غياب الدعم الحكومي للحرف اليدوية و الصناعات التقليدية و غياب الحماية من منافسة السلع المستوردة بدأت متاجر المشغولات الجاهزة الرخيصة تحل تدريجياً محل ورش النحاسين.
........
خفوت صوت سيمفونية الأزاميل و المطارق.
في أزمان مضت كانت سيمفونية الأزاميل و المطارق تصدح من بين زوايا الشارع الطويل بلا انقطاع حتى ساعات المساء،لكنها اليوم تراجعت إلى حد كبير.
العمل في هذه المجال ينقسم بحسب مراحل الإنتاج؛فهناك من يضرب على قطعة النحاس لتأخذ الشكل المطلوب،و هناك من ينقش عليها باستخدام المطرقة و الأزميل.
و بينما يختص الآخرون بتصميم الزخارف التي تنقش على صفائح النحاس،ينشغل الآخرون بصقل المنتج بعد زخرفته و تلميعه أو يلوّن بعض أجزاء الصفائح المطروقة لتضفي لمسات فنية أكثر جمالية على الأواني،و بعضهم يرصعها بالأحجار أو يطليها بالمينا.
و رغم تراجع حركة هذه السوق فإن وتيرة العمل هذه لم تتغير كثيراً ربما منذ إنشاء السوق في عصر الخلافة العباسية بالقرب من المدرسة المستنصرية التي كانت جامعة لعلوم ذلك الزمان.
و يعود تاريخ سوق الصفافير في بغداد إلى القرن الثالث عشر الميلادي؛فترة الخلافة العباسية و بالتحديد إلى عهد الخليفة المستنصر بالله (1226-1242)،الذي أمر بإنشاء أسواق عدة متخصصة كأسواق الوراقين و البزازين و العطارين و سوق الصفافير،و كان الغرض من إنشائها هو توفير المتطلبات اللازمة لطلبة و أساتذة المدارس في ذلك الوقت.
و كان سوق الصفافير يمدهم بما يحتاجون من فوانيس و قناديل و غيرها من الأواني و القدور و غيرها.
و يذكر الذين تعرضوا لتاريخ بغداد أن السوق كان مكاناً مناسباً لتعويد الخيول العسكرية على ضجيج المعارك،إذ كانت تمرر في السوق وسط ضجيج طرق المعادن لكي لا تفر أثناء الحروب عند سماعها صليل السيوف.
.........
ذكريات من الماضي الجميل.
"لي ذكريات جميلة تربطني بسوق الصفافير"،هذا ما قاله أحد الرواد السابقين لسوق الصفافير بصوت يضفي عليه الحزن،مبيناً أنه حتى ما بقي من السوق يعاني من الإهمال الكبير "و بات يلفظ أنفاسه الأخيرة".
و يقول سلمان يوسف ذياب (64عاماً)،لدويتشه فيله: "أفضل عدم ارتياد سوق الصفافير في الوقت الراهن لكي لا اشوه الصورة القديمة التي لا تزال في مخيلتي من تلك الأيام الجميلة التي كانت تعج فيها المحال بروادها من مختلف الجنسيات".
و دعا ذياب الجهات المعنية إلى إعادة هيكلة السوق بـ"صورة تدل على تاريخه العريق و أن تدعم أصحاب المحال بمادة النحاس و كذلك منع دخول المستورد من السلع النحاسية المنافسة كالصينية و التركية و الهندية التي أخذت تنافس منتجات هذه السوق بشكل كبير لرخص أسعارها".
فاضل مهدي هادي أحد أقدم الصفارين في السوق يداعب النحاس بمطرقته منذ نعومة أظافره مستذكراً حكايات رسمت البسمة على وجهه قائلاً "في السابق كان وضع السوق مختلفاً تماماً عما هو عليه الآن،فقد كان مزدهراً برواده من السياح الأجانب و العرب".
و يضيف النقاش هادي (55 عاماً)،الذي ورث مهنة النقش على النحاس عن أبيه،إن السياح كانوا يتنافسون على اقتناء محتويات السوق من التحف البغدادية الذي نقشت عليه رسوم لمعالم بلاد الرافدين الأثرية و التاريخية مثل أسد بابل و الزقورة و الملوية و الحضر فضلاً عن الشخصيات التي حكمت العراق في السابق.
و يتحسر هادي على الزمن الجميل و هو يقول "لم يعد هناك من يرغب باقتناء الأشكال التي يجيد الصفارون صناعتها،فليس هناك من يبحث عن الأنتيك البغدادي القديم بمختلف ألوانه أشكاله النحاسية،الأمر الذي اجبر العديد من أصحاب المحال على هجر هذه المهنة و اللجوء إلى مهن أخرى".
.........
طغيان النحاسيات المستوردة.
غزوان سعدون هاشم،صاحب أحد المحال المتبقية في سوق الصفافير،يعزو من جانبه سبب الهجرة المستمرة من هذه المهنة إلى "طغيان الصناعات النحاسية المستوردة و قلة مادة النحاس في السوق و الإهمال الحكومي،و قلة السائحين بالإضافة إلى اتجاه بعض التجار إلى استيراد بعض المواد التي تنافس النحاسية كالزجاجيات".
و يضيف هاشم (32عاماً) لدويتشه فيله أن الصََّفار يشعر بالأسف،لأن رواد السوق توقفوا عن سماع أصوات المطارق التي كانت تدل القاصد إليهم في السابق من مسافة بعيدة،لكن في الوقت الحاضر تجد السوق قد توقفت عن العمل بصورة شبه تامة،بسبب عدم وجود المشتريين.
..............
ماذا تقول أمانة بغداد؟
و بعد أن تكرر الحديث عن الدعم و الاهتمام الحكومي توجهت دويتشه فيله إلى "أمانة بغداد" و طرحت على المتحدث الرسمي باسمها الانتقادات التي وجهها الصفارون،فأجاب حكيم عبد الزهرة بالقول إن الأمانة خصصت مبلغ 7 ملايين دولار أميركي لإعادة تأهيل المناطق التاريخية و الأثرية في بغداد و من ضمنها سوق الصفارين".
و يؤكد عبد الزهرة على أن عودة سوق الصفارين إلى حياته الطبيعية مقرون باستقرار الوضع الأمني في العراق،باعتبار أن اغلب رواده هم من السياح الأجانب،و في ظل انعدام حركة السياحة اُجبر العديد من أصحاب المهن إلى عزوف مهنهم و اللجوء إلى مهن أخرى،حسب تعبير المسؤول الحكومي.
لكن حتى مع هجر الكثير من النقاشين للسوق و غزو مهن أخرى لمحال هذا السوق القديم،تبقى القلة القليلة من هؤلاء الحرفيين مخلصة لمهنتها و تحاول أن تفتح لها منافذ جديدة رغم ضيق الأفق الذي وجدت نفسها فيه.
و قد يُسمع أحياناً صوت مطرقة هنا أو هناك.
..........
موقع صوت ألمانيا.
25.06.2011
مناف الساعدي ـ بغداد.
مراجعة: عبده جميل المخلافي.
........
فاضل مهدي هادي أحد أقدم الصفارين يتحسر على إندثار مهنته.
.........
كان "سوق الصفارين" علامة من علامات العاصمة العراقية،حيث ظلت سيمفونية الأزاميل و المطارق تصدح من زواياه على مدى قرون،لكنه بات مهددا بالاندثار و معه تطوى صفحة من تاريخ عاصمة الرشيد.
دويتشه فيله تجولت في سوق النحاسين.
.......
لطالما تعالت في فضاء شارع الرشيد،أقدم شوارع العاصمة العراقية بغداد،معزوفة النقر على النحاس من سوق النحاسين،أو سوق الصفافير كما يطلق عليها باللهجة العراقية،فالصفر في اللهجة العراقية هو النحاس.
تلك الأصوات كانت ناجمة عن عملية تطويع المعدن لصنع الأواني المنزلية و أباريق الشاي و الملاعق و إطارات الصور و الفوانيس النحاسية المنقوشة بالزخارف،و غير ذلك.
و يعتبر هذا السوق من أقدم الأسواق في بغداد و ما لبث حاضراً في الأمثال التي يتداولها سكانها على امتداد الأزمان الماضية.
و في الأزقة الضيقة يعمل في المحال الصغيرة المتراصة إلى بعضها البعض حرفيون،توارثوا المهنة الشاقة و الممتعة،فجعلوا من هذا المكان معلماً تاريخياً،كان في أزمان أخرى مضت عامل جذب لكل من يزور عاصمة الرشيد و يبحث عن معالمها التاريخية.
لكن ما جاء به التغيير في العراق بدا واضحاً بقوة في السوق،ففي ظل غياب الدعم الحكومي للحرف اليدوية و الصناعات التقليدية و غياب الحماية من منافسة السلع المستوردة بدأت متاجر المشغولات الجاهزة الرخيصة تحل تدريجياً محل ورش النحاسين.
........
خفوت صوت سيمفونية الأزاميل و المطارق.
في أزمان مضت كانت سيمفونية الأزاميل و المطارق تصدح من بين زوايا الشارع الطويل بلا انقطاع حتى ساعات المساء،لكنها اليوم تراجعت إلى حد كبير.
العمل في هذه المجال ينقسم بحسب مراحل الإنتاج؛فهناك من يضرب على قطعة النحاس لتأخذ الشكل المطلوب،و هناك من ينقش عليها باستخدام المطرقة و الأزميل.
و بينما يختص الآخرون بتصميم الزخارف التي تنقش على صفائح النحاس،ينشغل الآخرون بصقل المنتج بعد زخرفته و تلميعه أو يلوّن بعض أجزاء الصفائح المطروقة لتضفي لمسات فنية أكثر جمالية على الأواني،و بعضهم يرصعها بالأحجار أو يطليها بالمينا.
و رغم تراجع حركة هذه السوق فإن وتيرة العمل هذه لم تتغير كثيراً ربما منذ إنشاء السوق في عصر الخلافة العباسية بالقرب من المدرسة المستنصرية التي كانت جامعة لعلوم ذلك الزمان.
و يعود تاريخ سوق الصفافير في بغداد إلى القرن الثالث عشر الميلادي؛فترة الخلافة العباسية و بالتحديد إلى عهد الخليفة المستنصر بالله (1226-1242)،الذي أمر بإنشاء أسواق عدة متخصصة كأسواق الوراقين و البزازين و العطارين و سوق الصفافير،و كان الغرض من إنشائها هو توفير المتطلبات اللازمة لطلبة و أساتذة المدارس في ذلك الوقت.
و كان سوق الصفافير يمدهم بما يحتاجون من فوانيس و قناديل و غيرها من الأواني و القدور و غيرها.
و يذكر الذين تعرضوا لتاريخ بغداد أن السوق كان مكاناً مناسباً لتعويد الخيول العسكرية على ضجيج المعارك،إذ كانت تمرر في السوق وسط ضجيج طرق المعادن لكي لا تفر أثناء الحروب عند سماعها صليل السيوف.
.........
ذكريات من الماضي الجميل.
"لي ذكريات جميلة تربطني بسوق الصفافير"،هذا ما قاله أحد الرواد السابقين لسوق الصفافير بصوت يضفي عليه الحزن،مبيناً أنه حتى ما بقي من السوق يعاني من الإهمال الكبير "و بات يلفظ أنفاسه الأخيرة".
و يقول سلمان يوسف ذياب (64عاماً)،لدويتشه فيله: "أفضل عدم ارتياد سوق الصفافير في الوقت الراهن لكي لا اشوه الصورة القديمة التي لا تزال في مخيلتي من تلك الأيام الجميلة التي كانت تعج فيها المحال بروادها من مختلف الجنسيات".
و دعا ذياب الجهات المعنية إلى إعادة هيكلة السوق بـ"صورة تدل على تاريخه العريق و أن تدعم أصحاب المحال بمادة النحاس و كذلك منع دخول المستورد من السلع النحاسية المنافسة كالصينية و التركية و الهندية التي أخذت تنافس منتجات هذه السوق بشكل كبير لرخص أسعارها".
فاضل مهدي هادي أحد أقدم الصفارين في السوق يداعب النحاس بمطرقته منذ نعومة أظافره مستذكراً حكايات رسمت البسمة على وجهه قائلاً "في السابق كان وضع السوق مختلفاً تماماً عما هو عليه الآن،فقد كان مزدهراً برواده من السياح الأجانب و العرب".
و يضيف النقاش هادي (55 عاماً)،الذي ورث مهنة النقش على النحاس عن أبيه،إن السياح كانوا يتنافسون على اقتناء محتويات السوق من التحف البغدادية الذي نقشت عليه رسوم لمعالم بلاد الرافدين الأثرية و التاريخية مثل أسد بابل و الزقورة و الملوية و الحضر فضلاً عن الشخصيات التي حكمت العراق في السابق.
و يتحسر هادي على الزمن الجميل و هو يقول "لم يعد هناك من يرغب باقتناء الأشكال التي يجيد الصفارون صناعتها،فليس هناك من يبحث عن الأنتيك البغدادي القديم بمختلف ألوانه أشكاله النحاسية،الأمر الذي اجبر العديد من أصحاب المحال على هجر هذه المهنة و اللجوء إلى مهن أخرى".
.........
طغيان النحاسيات المستوردة.
غزوان سعدون هاشم،صاحب أحد المحال المتبقية في سوق الصفافير،يعزو من جانبه سبب الهجرة المستمرة من هذه المهنة إلى "طغيان الصناعات النحاسية المستوردة و قلة مادة النحاس في السوق و الإهمال الحكومي،و قلة السائحين بالإضافة إلى اتجاه بعض التجار إلى استيراد بعض المواد التي تنافس النحاسية كالزجاجيات".
و يضيف هاشم (32عاماً) لدويتشه فيله أن الصََّفار يشعر بالأسف،لأن رواد السوق توقفوا عن سماع أصوات المطارق التي كانت تدل القاصد إليهم في السابق من مسافة بعيدة،لكن في الوقت الحاضر تجد السوق قد توقفت عن العمل بصورة شبه تامة،بسبب عدم وجود المشتريين.
..............
ماذا تقول أمانة بغداد؟
و بعد أن تكرر الحديث عن الدعم و الاهتمام الحكومي توجهت دويتشه فيله إلى "أمانة بغداد" و طرحت على المتحدث الرسمي باسمها الانتقادات التي وجهها الصفارون،فأجاب حكيم عبد الزهرة بالقول إن الأمانة خصصت مبلغ 7 ملايين دولار أميركي لإعادة تأهيل المناطق التاريخية و الأثرية في بغداد و من ضمنها سوق الصفارين".
و يؤكد عبد الزهرة على أن عودة سوق الصفارين إلى حياته الطبيعية مقرون باستقرار الوضع الأمني في العراق،باعتبار أن اغلب رواده هم من السياح الأجانب،و في ظل انعدام حركة السياحة اُجبر العديد من أصحاب المهن إلى عزوف مهنهم و اللجوء إلى مهن أخرى،حسب تعبير المسؤول الحكومي.
لكن حتى مع هجر الكثير من النقاشين للسوق و غزو مهن أخرى لمحال هذا السوق القديم،تبقى القلة القليلة من هؤلاء الحرفيين مخلصة لمهنتها و تحاول أن تفتح لها منافذ جديدة رغم ضيق الأفق الذي وجدت نفسها فيه.
و قد يُسمع أحياناً صوت مطرقة هنا أو هناك.
..........
موقع صوت ألمانيا.
25.06.2011
مناف الساعدي ـ بغداد.
مراجعة: عبده جميل المخلافي.
........
فاضل مهدي هادي أحد أقدم الصفارين يتحسر على إندثار مهنته.