بسم الله الرحمن الرحيم
أعزاء منتدى جوهرة تيسمسيلت،لاحظت خلو المنتدى من النصوص التي تخص القضية الفلسطينية،لا تنسوا فلسطين الحبيبة في مواضيعكم،هذا أقل ما يمكن أن نقدمه،و في هذا الصدد قررت أن أنقل لكم هذا النص الذي يتحدث عن الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان أتمنى أن ينال إعجابكم.
......
من شعر المقاومة الفدائي و الأرض...........فدوى طوقان.
وراء المشهد البطولي الدامي، الذي يدور الآن في الأرض الفلسطينية المحتلة،ملاحم رائعة من الصمود و التضحية بالنفس و الإستشهاد حفاظا على الأرض و العرض و الهوية،و على اسم"فلسطين" الذي يظل آخر ما تنطق به شفاه المستشهدين،و أول ما يتردد على ألسنة الشعراء و أقلام المبدعين تمسكا بالجذور،و إعلاء لراية الوطن الذي تتشكل صورته من دماء المناضلين و أجساد الضحايا،و دموع الأرامل و الثكالى،و الأحزان الساكنة عيون الأطفال.
و في فترة من الزمن-سيطرت عليها كوابيس الظلام،و روح الحزن الغاضب،في أعقاب هزيمة يونيو 1967 كان صوت الشاعرة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان يمثل طاقة من النور و الأمل و شعاعات من اليقين،نابضا بالإرادة الصلبة،و العناد البطولي،و الإصرار على محو آثار الهزيمة،و العودة إلى فضاء الأمل و الإنتصار و الحرية.
و كنت محظوظا عندما اختارتني فدوى طوقان لتبعث إلي-من خلف أسوار السجن الكبير الذي تعيش
فيه-في بلدتها نابلس بالضفة الغربية-بعدد من رسائلها التي تحمل كلماتها النبيلة،و عددا من قصائدها الرائعة،التي أبدعتها قبل أن تلتمع في أفق شعر المقاومة أسماء شعرائها الشباب الجدد في ذلك الوقت محمود درويش و سميح القاسم و سالم جبران و توفيق زياد و راشد حسين و غيرهم من الشعراء الفلسطينيين في داخل الأرض المحتلة و خارجها.
كان شعر فدوى يمثل الأمومة الحقيقية لشعراء هذه الكوكبة-التي قدمت إبداعا شعريا مغايرا،و حساسية شعرية مختلفة،و لغة شعرية تألقت بمفردات الواقع اليومي الحي،و نجحت في التعامل الفني معه-و كان و لا يزال يحمل ذلك التوهج النادر الذي لم تنطفئ شعلته على مدار أكثر من نصف قرن من الإبداع،و لا تزال -و هي في ثمانينات العمر- تصغي لإهتزازات وجدانها المرهف الشديد الحساسية،في ارتطامه بتجارب الحياة و الوجود،و امتلائه بفيض هائل من الأحاسيس و المشاعر الجارفة،و العشق الحميم للوطن و الأرض الفلسطينية بكل ألوانها و عطورها و روائحها.
بحيث أصبحت دواوينها سجلا حيا ناطقا باللوحات الشعرية المعبرة و الصور الحية لطبيعة تمتزج
بالإنسان و قضيته،امتزاج حياة و مصير.
و من خلال شعرها انطلقت مفردات فلسطين إلى الذاكرة الحميمة لكل عربي و هو يقرأ عن نابلس وبيسان و جرزيم وطوباس ورفيديا،و يطالع هذه الجغرافيا الشعرية الحية،التي جسدت وجود فلسطين: خارطة و بشرا و نضالا.
و ظل هذا الشعر شاخصا-في دائرة الرؤيا و التصور و الذاكرة- محركا للهمم و العزائم قادحا لزناد الحس القومي و الوعي بقضية العرب الأولى: فلسطين.
...........
من بين كل رسائل فدوى كانت الرسالة التي حملت إلي قصيدة من عيون التراث العربي للشاعر سعد بن ناشب الذي عاش في عصر الدولة الأموية زمن ولاية الحجاج على العراق.
رأت فدوى في القصيدة تعبيراحيا معاصرا عما تتعرض له بيوت الفلسطينيين على أيدي المحتل الإسرائيلي من هدم و تدمير و تحطيم و ما يلاقيه سكانها من إرهاب و بطش و تشريد و ترويع،و لا تزال الأرض الفلسطينية حتى اليوم-بعد الرسالة التي كتبتها فدوى بخمسة و ثلاثين عاما-تعيش هذا الواقع المأساوي المرعب.
و كان الشاعر سعد بن ناشب قد قال قصيدته عندما هدم الحجاج- بعسفه و بطشه و طغيانه -بيته في البصرة و أحرقه،فلم يتردد في إعلان تصميمه على غسل العار الذي لحق به،و بعثت فدوى برسالتها -و معها القصيدة-مؤكدة أن في إذاعتها و نشرها المعنى الذي تحرص على توصيله و تثبيته،و هو الصمود في وجه البطش و العدوان،و اليقين الواثق من حتمية النصر.
يقول سعد بن ناشب:
سأغسل عني العار بالسيف،جالبا..على قضاء الله،ما كان جالبا
و اذهل عن داري،و اجعل هدمها..لعرضي من باقي المدينة حاجبا
و يصغر في عيني تلادي،إذا انثنت..يميني بإدراك الذي كنت طالبا
فإن تهدموا بالغدر داري،فإنها..تراث كريم لا يبالي العواقبا
أخي غمرات لا يريد-على الذي..يهم به من مفظع الأمر-صاحبا
إذا هم لم تردع عزيمة همه..و لم يأت ما يأتي من الأمر هائبا
فيا لرزام رشحوا بي مقدما..إلى الموت خواضا إليه الكتائبا.
ثم يطلق سعد بن ناشب هذين البيتين اللذين أصبحا سائرين على كل لسان،وصفا لكل من ينهض للأمر دون خشية من العواقب غير مستشير سوى سيفه و عزيمته :
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه..و نكب عن ذكر العواقب جانبا
و لم يستشر في رأيه غير سيفه..و لم يرض إلا مقبض السيف صاحبا
...........
و في رسالتها التي أرفقت بها قصيدتها "الفدائي و الأرض"قالت فدوى في الثلاثين من سبتمبر 1967 اندلعت واحدة من أشد معارك المقاومة في روابي طوباس -محافظة نابلس-و قد استشهد فيها الفدائي مازن أبو غزالة استشهادا بطوليا رائعا.
فبعد مقاومة عنيدة استمرت ثلاثة أيام،نفذت الذخيرة و أصبح مازن وجها لوجه مع العدو،بعد أن تمكن من تغطية انسحاب رفاقه،و أخذ من وسطه قنبلتين فجرهما بين يديه،و تمزق،و مزق معه عددا من جنود العدو المحيطين به.
و قد وجدت في مفكرة مازن كلمات متوترة،صادقة،كان قد كتبها بتاريخ 15 يونيو شهر الحزن و الذهول،من هذه الكلمات "يا أهلي،يا شعبي،ماذا أكتب و لمن أكتب؟أرجو ألا أكتب إلا رسالة نصر".
و في صفحة أخرى" زغرد يا رصاص و اسكت يا قلم ".
و كانت كلمات مازن بمنزلة التحريك الشعري إبداع واحدة من أجمل قصائد فدوى طوقان،و أكثرها تعبيرا عن لغتها الشعرية الصافية الشفيفة،و وجدان أمومتها المفعمة بمحبة الحياة و الأرض و الإنسان،و معجمها الشعري الذي امتلأ بمفردات فلسطين حية شاخصة.
..........
تلك هي قصيدتها "الفدائي و الأرض"و التي تقول فيها:
الفدائي و الأرض.
في بهرة الذهول و الضياع
أضاء قنديل إلهي حنايا قلبه
وشع في العينين وهج جمرتين
و أطبق المفكرة
و هب مازن الفتى الشجاع
يحمل عبء حبه
و كل هم أرضه و شعبه
و كل أشتات المنى المبعثرة!
ّ***
ماض أنا أماه...ماض مع الرفاق
لموعدي...راض عن المصير
أحمله كصخرة مشدودة في عنقي
فمن هنا منطلقي...و كل ما لدي،كل النبض
و الحب و الإيثارة و العبادة
أبذله لأجلها،للأرض
مهرا،فما أعز منك يا...أماه،إلا الأرض!
يا ولدي!...يا كبدي!
أماه،موكب الفرح...لم يأت بعد
لكنه لابد أن يجيء
يحدو خطاه المجد
يا ولدي...يا...
لا تحزني إذا سقطت
قبل موعد الوصول...فدربنا طويلة شقية
و دون موعد الوصول ترتمي على المدى
سواحل الليل الجهنمية
نعبرها على مشاعل الدماء
لكن،يجيء بعدنا الفرح
لابد من مجيئه هذا الفرح
فيتساوى الأخذ و العطاء
يا ولدي...اذهب!
و حوطته أمه بسورتي قرآن
اذهب!...و عوذته باسم الله و الفرقان
كان مازن الفتى الأمير سيد الفرسان
كان مجدها و كبرياءها و كان
عطاءها الكبير للأوطان!
***
في خيمة الليل و في رحابة العراء
قامت تصلي...و رفعت إلى السماء وجهها
و كانت السماء...تطفح بالنجوم و الألغاز
.......................
يا يوم أسلمته للحياة...عجينة صغيرة مطيبة
بكل ما في أرضنا من طيب
يا يوم ألقمته ثديها الخصيب
و عانقت نشوتها...و اكتشفت معنى وجودها
في درة الحليب!
........................
يا ولدي...يا كبدي
من أجل هذا اليوم...من أجله ولدتك
من أجله أرضعتك...من أجله منحتك
دمي و كل النبض...و كل ما يمكن أن تمنحه أمومة
يا ولدي...يا غرسة كريمة
اقتلعت من أرضها الكريمة
اذهب، فما أعز منك يا
بني،إلا الأرض!
.........
"طوباس" وراء الربوات
آذان تتوتر في الظلمات...و عيون هاجر منها النوم
الريح وراء حدود الصمت
تندلع،تدمدم في الربوات
تلهث خلف النفس الضائع
تركض في دائرة الموت!
................................
يا ألف هلا بالموت!
و احترق النجم الهاوي و مرق
عبر الربوات...بوقا مشتعل الصوت
زارعا الإشعاع الحي على الربوات
في أرض لن يقهرها الموت!
أبدا لن يقهرها الموت!
............
كانت فدوى طوقان- في ذلك الزمان العصيب -الذي كنا نظنه ذروة المأساة(سبتمبر1967)فإذا به البداية الكارثية لما نعايشه اليوم في الأرض المحتلة و في الوطن العربي كله-كانت لا تكتفي بهذه
الصرخات الشعرية المدوية،الرافضة لليل الهزيمة و إعصارها الشيطاني و طوفانها الأسود،فقد تحولت إلى جيش محارب،طلقاته و ذخيرته كلمات مغموسة بدم القلب و عطر الشهداء،و قصائد متوهجة بإرادة النضال و البطولة و التحدي،و انهالت رسائلها الشعرية المقاتلة-التي نجحت في تسريبها سرا من نابلس حيث تقيم في الضفة الغربية-إلى أصدقاء لها في القاهرة و بيروت،و من العاصمتين تنتقل الرسائل إلى الصحف و الإذاعات.
و اختصتني فدوى بعدد من قصائدها الشهيرة التي جمعتها بعد ذلك في ديوانها "الليل و الفرسان" لتقديمها من خلال برنامج "لغتنا الجميلة" الذي بدأت كتابته و تقديمه في مستهل شهر سبتمبر1967،الشهر الذي كتبت فيها قصيدتها "الفدائي و الأرض" و من بعدها "لن أبكي"،"رسالة إلى طفلين في الضفة الشرقية كرمة و عمر"،"حمزة"،و غيرها من القصائد.
و كان مستمعوا هذه القصائد-عبر الإذاعة-و قراؤها على صفحات الصحف تنبض قلوبهم مع قلب فدوى التي نجحت بكلماتها في اختراق الأسوار و توصيل الصوت الفلسطيني الحقيقي إلى كل مكان لتبدد بعض ظلمات ليل الهزيمة.
و من بين ثنايا هذه القصائد،و غيرها من شعر فدوى،كان جمال جديد للعربية يتألق هو جمال الصدق و العنفوان،و هو شيء آخر غير جمال البلاغة و روعة الصور و التشبيهات و الإستعارات و ألوان البيان.
جمال مسقى بنبض الصدق،و احتراق الحرف،و زهو اللغة المعبرة،و روعة تشكيل القصيدةالشعرية
التي يمكن أن تكون تحقيقا أو رسالة أو وصية او حوارية أو تصويرا لحادثة أو رجع صدى لموقف أو حال أو كيانا يتشكل خارج كل هذه الأطر و الصيغ،لأن كيان الفجيعة و المواجهة التي تحمل عريها الكامل،و تلقي بالزيف و التردد و الهوان و اللامبالاة.
و ما أشد حاجة شعرنا اليوم إلى هذا الجمال النبيل الفريد،جمال الصدق و المواجهة،و جمال ارتفاع قامة المبدع إلى مستوى لغته القومية،و ارتفاع قامة اللغة التي يبدعها إلى مستوى الشموخ و الكبرياء.
و ليبارك الله في عمر هذا الكنز الجميل :فدوى طوقان،إنسانة و مبدعة.
.......
المصدر: فاروق شوشة،مجلة العربي،العدد529
ديسمبر2002.
أعزاء منتدى جوهرة تيسمسيلت،لاحظت خلو المنتدى من النصوص التي تخص القضية الفلسطينية،لا تنسوا فلسطين الحبيبة في مواضيعكم،هذا أقل ما يمكن أن نقدمه،و في هذا الصدد قررت أن أنقل لكم هذا النص الذي يتحدث عن الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان أتمنى أن ينال إعجابكم.
......
من شعر المقاومة الفدائي و الأرض...........فدوى طوقان.
وراء المشهد البطولي الدامي، الذي يدور الآن في الأرض الفلسطينية المحتلة،ملاحم رائعة من الصمود و التضحية بالنفس و الإستشهاد حفاظا على الأرض و العرض و الهوية،و على اسم"فلسطين" الذي يظل آخر ما تنطق به شفاه المستشهدين،و أول ما يتردد على ألسنة الشعراء و أقلام المبدعين تمسكا بالجذور،و إعلاء لراية الوطن الذي تتشكل صورته من دماء المناضلين و أجساد الضحايا،و دموع الأرامل و الثكالى،و الأحزان الساكنة عيون الأطفال.
و في فترة من الزمن-سيطرت عليها كوابيس الظلام،و روح الحزن الغاضب،في أعقاب هزيمة يونيو 1967 كان صوت الشاعرة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان يمثل طاقة من النور و الأمل و شعاعات من اليقين،نابضا بالإرادة الصلبة،و العناد البطولي،و الإصرار على محو آثار الهزيمة،و العودة إلى فضاء الأمل و الإنتصار و الحرية.
و كنت محظوظا عندما اختارتني فدوى طوقان لتبعث إلي-من خلف أسوار السجن الكبير الذي تعيش
فيه-في بلدتها نابلس بالضفة الغربية-بعدد من رسائلها التي تحمل كلماتها النبيلة،و عددا من قصائدها الرائعة،التي أبدعتها قبل أن تلتمع في أفق شعر المقاومة أسماء شعرائها الشباب الجدد في ذلك الوقت محمود درويش و سميح القاسم و سالم جبران و توفيق زياد و راشد حسين و غيرهم من الشعراء الفلسطينيين في داخل الأرض المحتلة و خارجها.
كان شعر فدوى يمثل الأمومة الحقيقية لشعراء هذه الكوكبة-التي قدمت إبداعا شعريا مغايرا،و حساسية شعرية مختلفة،و لغة شعرية تألقت بمفردات الواقع اليومي الحي،و نجحت في التعامل الفني معه-و كان و لا يزال يحمل ذلك التوهج النادر الذي لم تنطفئ شعلته على مدار أكثر من نصف قرن من الإبداع،و لا تزال -و هي في ثمانينات العمر- تصغي لإهتزازات وجدانها المرهف الشديد الحساسية،في ارتطامه بتجارب الحياة و الوجود،و امتلائه بفيض هائل من الأحاسيس و المشاعر الجارفة،و العشق الحميم للوطن و الأرض الفلسطينية بكل ألوانها و عطورها و روائحها.
بحيث أصبحت دواوينها سجلا حيا ناطقا باللوحات الشعرية المعبرة و الصور الحية لطبيعة تمتزج
بالإنسان و قضيته،امتزاج حياة و مصير.
و من خلال شعرها انطلقت مفردات فلسطين إلى الذاكرة الحميمة لكل عربي و هو يقرأ عن نابلس وبيسان و جرزيم وطوباس ورفيديا،و يطالع هذه الجغرافيا الشعرية الحية،التي جسدت وجود فلسطين: خارطة و بشرا و نضالا.
و ظل هذا الشعر شاخصا-في دائرة الرؤيا و التصور و الذاكرة- محركا للهمم و العزائم قادحا لزناد الحس القومي و الوعي بقضية العرب الأولى: فلسطين.
...........
من بين كل رسائل فدوى كانت الرسالة التي حملت إلي قصيدة من عيون التراث العربي للشاعر سعد بن ناشب الذي عاش في عصر الدولة الأموية زمن ولاية الحجاج على العراق.
رأت فدوى في القصيدة تعبيراحيا معاصرا عما تتعرض له بيوت الفلسطينيين على أيدي المحتل الإسرائيلي من هدم و تدمير و تحطيم و ما يلاقيه سكانها من إرهاب و بطش و تشريد و ترويع،و لا تزال الأرض الفلسطينية حتى اليوم-بعد الرسالة التي كتبتها فدوى بخمسة و ثلاثين عاما-تعيش هذا الواقع المأساوي المرعب.
و كان الشاعر سعد بن ناشب قد قال قصيدته عندما هدم الحجاج- بعسفه و بطشه و طغيانه -بيته في البصرة و أحرقه،فلم يتردد في إعلان تصميمه على غسل العار الذي لحق به،و بعثت فدوى برسالتها -و معها القصيدة-مؤكدة أن في إذاعتها و نشرها المعنى الذي تحرص على توصيله و تثبيته،و هو الصمود في وجه البطش و العدوان،و اليقين الواثق من حتمية النصر.
يقول سعد بن ناشب:
سأغسل عني العار بالسيف،جالبا..على قضاء الله،ما كان جالبا
و اذهل عن داري،و اجعل هدمها..لعرضي من باقي المدينة حاجبا
و يصغر في عيني تلادي،إذا انثنت..يميني بإدراك الذي كنت طالبا
فإن تهدموا بالغدر داري،فإنها..تراث كريم لا يبالي العواقبا
أخي غمرات لا يريد-على الذي..يهم به من مفظع الأمر-صاحبا
إذا هم لم تردع عزيمة همه..و لم يأت ما يأتي من الأمر هائبا
فيا لرزام رشحوا بي مقدما..إلى الموت خواضا إليه الكتائبا.
ثم يطلق سعد بن ناشب هذين البيتين اللذين أصبحا سائرين على كل لسان،وصفا لكل من ينهض للأمر دون خشية من العواقب غير مستشير سوى سيفه و عزيمته :
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه..و نكب عن ذكر العواقب جانبا
و لم يستشر في رأيه غير سيفه..و لم يرض إلا مقبض السيف صاحبا
...........
و في رسالتها التي أرفقت بها قصيدتها "الفدائي و الأرض"قالت فدوى في الثلاثين من سبتمبر 1967 اندلعت واحدة من أشد معارك المقاومة في روابي طوباس -محافظة نابلس-و قد استشهد فيها الفدائي مازن أبو غزالة استشهادا بطوليا رائعا.
فبعد مقاومة عنيدة استمرت ثلاثة أيام،نفذت الذخيرة و أصبح مازن وجها لوجه مع العدو،بعد أن تمكن من تغطية انسحاب رفاقه،و أخذ من وسطه قنبلتين فجرهما بين يديه،و تمزق،و مزق معه عددا من جنود العدو المحيطين به.
و قد وجدت في مفكرة مازن كلمات متوترة،صادقة،كان قد كتبها بتاريخ 15 يونيو شهر الحزن و الذهول،من هذه الكلمات "يا أهلي،يا شعبي،ماذا أكتب و لمن أكتب؟أرجو ألا أكتب إلا رسالة نصر".
و في صفحة أخرى" زغرد يا رصاص و اسكت يا قلم ".
و كانت كلمات مازن بمنزلة التحريك الشعري إبداع واحدة من أجمل قصائد فدوى طوقان،و أكثرها تعبيرا عن لغتها الشعرية الصافية الشفيفة،و وجدان أمومتها المفعمة بمحبة الحياة و الأرض و الإنسان،و معجمها الشعري الذي امتلأ بمفردات فلسطين حية شاخصة.
..........
تلك هي قصيدتها "الفدائي و الأرض"و التي تقول فيها:
الفدائي و الأرض.
في بهرة الذهول و الضياع
أضاء قنديل إلهي حنايا قلبه
وشع في العينين وهج جمرتين
و أطبق المفكرة
و هب مازن الفتى الشجاع
يحمل عبء حبه
و كل هم أرضه و شعبه
و كل أشتات المنى المبعثرة!
ّ***
ماض أنا أماه...ماض مع الرفاق
لموعدي...راض عن المصير
أحمله كصخرة مشدودة في عنقي
فمن هنا منطلقي...و كل ما لدي،كل النبض
و الحب و الإيثارة و العبادة
أبذله لأجلها،للأرض
مهرا،فما أعز منك يا...أماه،إلا الأرض!
يا ولدي!...يا كبدي!
أماه،موكب الفرح...لم يأت بعد
لكنه لابد أن يجيء
يحدو خطاه المجد
يا ولدي...يا...
لا تحزني إذا سقطت
قبل موعد الوصول...فدربنا طويلة شقية
و دون موعد الوصول ترتمي على المدى
سواحل الليل الجهنمية
نعبرها على مشاعل الدماء
لكن،يجيء بعدنا الفرح
لابد من مجيئه هذا الفرح
فيتساوى الأخذ و العطاء
يا ولدي...اذهب!
و حوطته أمه بسورتي قرآن
اذهب!...و عوذته باسم الله و الفرقان
كان مازن الفتى الأمير سيد الفرسان
كان مجدها و كبرياءها و كان
عطاءها الكبير للأوطان!
***
في خيمة الليل و في رحابة العراء
قامت تصلي...و رفعت إلى السماء وجهها
و كانت السماء...تطفح بالنجوم و الألغاز
.......................
يا يوم أسلمته للحياة...عجينة صغيرة مطيبة
بكل ما في أرضنا من طيب
يا يوم ألقمته ثديها الخصيب
و عانقت نشوتها...و اكتشفت معنى وجودها
في درة الحليب!
........................
يا ولدي...يا كبدي
من أجل هذا اليوم...من أجله ولدتك
من أجله أرضعتك...من أجله منحتك
دمي و كل النبض...و كل ما يمكن أن تمنحه أمومة
يا ولدي...يا غرسة كريمة
اقتلعت من أرضها الكريمة
اذهب، فما أعز منك يا
بني،إلا الأرض!
.........
"طوباس" وراء الربوات
آذان تتوتر في الظلمات...و عيون هاجر منها النوم
الريح وراء حدود الصمت
تندلع،تدمدم في الربوات
تلهث خلف النفس الضائع
تركض في دائرة الموت!
................................
يا ألف هلا بالموت!
و احترق النجم الهاوي و مرق
عبر الربوات...بوقا مشتعل الصوت
زارعا الإشعاع الحي على الربوات
في أرض لن يقهرها الموت!
أبدا لن يقهرها الموت!
............
كانت فدوى طوقان- في ذلك الزمان العصيب -الذي كنا نظنه ذروة المأساة(سبتمبر1967)فإذا به البداية الكارثية لما نعايشه اليوم في الأرض المحتلة و في الوطن العربي كله-كانت لا تكتفي بهذه
الصرخات الشعرية المدوية،الرافضة لليل الهزيمة و إعصارها الشيطاني و طوفانها الأسود،فقد تحولت إلى جيش محارب،طلقاته و ذخيرته كلمات مغموسة بدم القلب و عطر الشهداء،و قصائد متوهجة بإرادة النضال و البطولة و التحدي،و انهالت رسائلها الشعرية المقاتلة-التي نجحت في تسريبها سرا من نابلس حيث تقيم في الضفة الغربية-إلى أصدقاء لها في القاهرة و بيروت،و من العاصمتين تنتقل الرسائل إلى الصحف و الإذاعات.
و اختصتني فدوى بعدد من قصائدها الشهيرة التي جمعتها بعد ذلك في ديوانها "الليل و الفرسان" لتقديمها من خلال برنامج "لغتنا الجميلة" الذي بدأت كتابته و تقديمه في مستهل شهر سبتمبر1967،الشهر الذي كتبت فيها قصيدتها "الفدائي و الأرض" و من بعدها "لن أبكي"،"رسالة إلى طفلين في الضفة الشرقية كرمة و عمر"،"حمزة"،و غيرها من القصائد.
و كان مستمعوا هذه القصائد-عبر الإذاعة-و قراؤها على صفحات الصحف تنبض قلوبهم مع قلب فدوى التي نجحت بكلماتها في اختراق الأسوار و توصيل الصوت الفلسطيني الحقيقي إلى كل مكان لتبدد بعض ظلمات ليل الهزيمة.
و من بين ثنايا هذه القصائد،و غيرها من شعر فدوى،كان جمال جديد للعربية يتألق هو جمال الصدق و العنفوان،و هو شيء آخر غير جمال البلاغة و روعة الصور و التشبيهات و الإستعارات و ألوان البيان.
جمال مسقى بنبض الصدق،و احتراق الحرف،و زهو اللغة المعبرة،و روعة تشكيل القصيدةالشعرية
التي يمكن أن تكون تحقيقا أو رسالة أو وصية او حوارية أو تصويرا لحادثة أو رجع صدى لموقف أو حال أو كيانا يتشكل خارج كل هذه الأطر و الصيغ،لأن كيان الفجيعة و المواجهة التي تحمل عريها الكامل،و تلقي بالزيف و التردد و الهوان و اللامبالاة.
و ما أشد حاجة شعرنا اليوم إلى هذا الجمال النبيل الفريد،جمال الصدق و المواجهة،و جمال ارتفاع قامة المبدع إلى مستوى لغته القومية،و ارتفاع قامة اللغة التي يبدعها إلى مستوى الشموخ و الكبرياء.
و ليبارك الله في عمر هذا الكنز الجميل :فدوى طوقان،إنسانة و مبدعة.
.......
المصدر: فاروق شوشة،مجلة العربي،العدد529
ديسمبر2002.
عدل سابقا من قبل In The Zone في السبت نوفمبر 10, 2012 3:25 pm عدل 2 مرات