المدرسة...خطوة أولى نحو الإستقلالية
الرحلة الأولى إلى المدرسة كأنها مغامرة نحو المجهول (بلال جاويش) الذهاب
إلى المدرسة للمرّة الأولى...تجربة صعبة غالباً ما تكون مصحوبة بالبكاء.
قلّة من الأطفال تتقبّل الانفصال عن أمّهاتها، وقلّة من الأمهات أيضاً
تتقبّل الأمر بروح رياضيّة. نسمع حكايات كثيرة عن آلام الطفل والأم، نعتقد
لوهلة أنه ذاهب إلى الحرب أو إلى مغامرة غير محمودة العواقب. قليلون يدركون
أن مشهد الصراخ المألوف في أيّام الدّراسة الأولى ليس بالضرورة مشهداً
صحيًّا.
سناء الخوري
«إلى أين أنتم ذاهبون؟ لماذا تتركونني؟» سؤالٌ قرأته كارول في عيون ابنها
فادي عندما تركته عند باب المدرسة للمرّة الأولى في حياته. ما أحسته كارول
تشعر به العديد من الأمهات عند الانفصال عن أطفالهنّ في اليوم الأوّل
لهؤلاء في المدرسة. لحظة صعبة على الأم والطفل، وخاصةً أنّ معظم الأطفال
يترجمون قلقهم بالعويل والبكاء.
تشير نجلاء حمادة، أستاذة فلسفة التحليل النفسي في الجامعة اللبنانيّة
الأميركيّة، وصاحبة خبرة طويلة في إدارة المدارس، أنّ عاملين رئيسيّين
يؤثّران على كيفيّة تعامل الطفل مع تجربة الانفصال عن أمّه للدخول إلى
المجتمع الكبير الذي تمثّله المدرسة.
العامل الأوّل نفسي، ويرتبط بمدى شعور الطفل بالأمان داخل المنزل، ذلك أن
فقدان الطفل للطمأنينة داخل العائلة، ينعكس على كلّ تصرفاته، ويجعله خائفاً
من مواجهة أيّ جديد.
«فعندما يشعر الطفل بأنّ أهله قلقون عليه باستمرار،
يمتصّ هذا القلق»، وفي المقابل عندما يحسّ أنّ أهله متحمّسون لاستقلاليته،
يتشجّع ويُقبل على المدرسة بفرح وحماسة.
أمّا العامل الثاني فيعتمد على تنمية الأهل لميل الولد إلى الإقبال على
المعرفة، إذ تقول حمادة إنّ تنمية هذه الرغبة عند الطفل، من خلال تعويده
على الكتب والأقلام في المنزل، سلوك يجعله يدرك أنّ المدرسة مكان ممتع
وجميل، فلا يخاف منها كأنّها عالم جديد ومجهول بالنسبة له.
بالطبع تختلف ردّات الفعل من طفل لآخر، حتّى بين الإخوة، ففي الوقت الذي
كانت جانيت متحمّسة للذهاب إلى المدرسة، كان شقيقها شكيب يخاف من الاختلاط،
ويطلب من أمّه أن تبقى ممسكةً بيده كي لا يضيع، كما تخبرنا أمّهما عفيفة
دون أن تنكر شعورها بما يشبه تأنيب الضمير عندما تتركهما.
بعض الأمهات يذهبن أبعد بكثير من الإحساس بالذنب. فعندما أوصلت حلا ابنها
إلى المدرسة للمرّة الأولى، نشبت معركة بينها وبين المعلّمة، إذ راحت هي
تشدّه من جهة والمعلّمة تشدّه من جهة أخرى، ذلك لأنّ حلا لم تتمكّن من تركه
هكذا بكلّ بساطة، حتّى إنّها أخذت تبكي.
في الأسبوع الأوّل، لم ترسله إلى المدرسة بانتظام، كانت رغبتها بالبقاء إلى
جانبه أقوى من إدراكها لأهميّة أن يعبر خطوته الأولى نحو الاستقلاليّة. في
المقابل، كانت وفاء تنتظر بفارغ الصبر ذهاب ابنها المشاغب إلى المدرسة،
لكي ترتاح قليلاً وتفرغ بعض الوقت الخاص لنفسها. هنا تلفت حمادة إلى أنّ
التعلّق الزائد، يؤثّر سلباً على شخصيّة الطفل، فإذا لم تشعره أمّه بأنّه
مستقلّ، يصبح دخوله في المجتمع صعباً ويتحوّل إلى شخص اتكالي.
من جهتها، يجدر بالأمّ أن تدرك أنّ ابنها «ليس رجلها أو إصبعها أو جزءاً من
جسدها»، بل إنّه كائن آخر، له شخصيّته المستقلّة، وعوضاً عن القلق المفرط،
يجب أن تعطي الأمّ نفسها المجال لتفرح بابنها وهو يكبر. فبين الأمّ التي
تنتظر بفارغ الصبر ذهاب أولادها إلى المدرسة لترتاح وتبدأ «صبحيتها»، وبين
الأمّ التي تتمسّك بطفلها بطريقة تقتل شخصيّته، ترى حمادة أنّ تصرّف الأولى
قد يكون أسلم لناحية نموّ شخصيّة الطفل.
أمّا بالنسبة للأمّ العاملة التي تضطر إلى ترك أولادها في سنّ مبكّرة في
الحضانة، فيكون شعور الانفصال في هذه المرحلة أصعب بكثير منه في اليوم
الأوّل للمدرسة، كما حصل مع كارول التي أجبرتها ظروف العمل على ترك ابنتها
في الحضانة وهي لا تزال رضيعة. هنا تشير حمادة إلى أنّ ظروف العمل هذه رغم
موضوعيّتها، صعبة على الطفل، وخاصةً في عمر صغير، ولكنّها لفتت في الوقت
عينه إلى أنّ نوعيّة الوقت الذي تقضيه الأمّ مع طفلها أهمّ من كميّة الوقت،
إذ يجب أن تظهر الأمّ للطفل المقدار الذي يحتاج إليه من الحب والاحترام
والحنان، حتّى لو كان الوقت الذي تمضيه معه قصيراً.
رغم الخبرة التي قد يكتسبها الطفل والأمّ في فترة الحضانة، يحتفظ الدخول
إلى المدرسة بتحدياته الخاصّة.
تنصح نجلاء حمادة بأن تكون الساعات المدرسيّة في الأيام الأولى قليلة، حتّى
لا يملّ الطفل ويعتاد تدريجيًّا على الابتعاد عن المنزل. وتختم حمادة بأن
الانفصال في اليوم الأوّل للمدرسة يجب أن يتخطّاه الطفل كإنسان طبيعي،
والإنسان الطبيعي لا يخاف التجربة الجديدة في الحياة. فليست المشكلة في أن
يبتعد أولادنا عنّا، بل المشكلة هي حين يتشرّب الطفل عدم الإقبال على
الحياة والخوف من التجارب الجديدة.
البلاغ