ألبوم ندى..!
نزار شهاب الدين
الصورة الأولى
كقطرةٍ من القمرْ
أحملُِها على يدِيْ كقطرةٍ من القمرْ
تقبضُ فوقَ
إصبعي بكفِّها فتنبِضُ النجومُ
تنبتُ الطيورُ
يرقصُ المطرْ
لم
يبدُ في الصورة قلبيْ
وهْو – راقصًا – يُعيدُ خفقَهُ من حيثما ابتدَا
ولا
دميْ الذي أضاءَ بالحنانِ والنِدَا
لكنْ بدَا
مِنَ اختلاجِ الرُّوحِ
في الأشياءِ حولهَا
أنّ اسمَها: ندى
الصورة الثانية
كيف لعينينِ دقيقتينِ أن تحتويا – في لحظةٍ – خلاصةَ الفرحْ
وتطفئا
كلَّ الذي يحيطُنا من القتامةْ؟
كيف تطيرُ الشفتانِ كاليمامةْ
وتنقُرانِ
في خريف القلبِ شلالَ أغانٍ
ومروجًا وسماواتٍ وأقواسَ قُزحْ؟
كيف
لهذه الفتاةِ أن تَلُمَّ كلَّ، كلَّ الكونِ في ابتسامةْ؟!
الصورة الثالثة
في لعبة الاختباءْ
ضبطتُها تحتَ الفراش تختبئْ
ترقبُ في تحفزٍ وفي
انتشاءْ
ناديتُها.. صاحتْ وكركرتْ
قامتْ لتجريْ فانطلقتُ خلفَها
أمسكتُها،
درتُ بها في لحظةٍ تمهلَ الزمانُ فيها مثلما نشاءْ
(يا للثواني! هذه
اللحظة كانت مثلَ عمْرٍ ممتلئْ!)
ثم سمعنا أمَّها تبحث عنَّا
ضممتُها
تحتَ الفراشِ واختبأنا عن عيون أمِّها
والضَّحِكُ المكتومُ لا يكاد
ينطفئْ!
الصورة الرابعة
شاحبةً كالشمعة التي تكاد لا تضيءُ فوقَنا استلقتْ
ورأسُها على صدريْ
التعِبْ
- قُصَّ عليَّ قصةً
- نعمْ ندايَ.. كان يا ما
كانْ
في سالفِ العصرِ والـ...
- جديدةً يا أبي!
قالت
بعينين بريئتين لم يخفتْ – برغم الجوعِ – فيهما الشغبْ
- يا لكِ
أنتِ! حاضرٌ.. ماذا نقولْ؟
(ولست أدري ما الذي ذكّرني بها، بها فقطْ!)
-
يومًا من الأيامِ كان ناسٌ مثلُنا
يحيَوْنَ في مدينةٍ صغيرةٍ جميلةْ
تزدان
بالإيمان والفضيلةْ
بحكمة الشيوخِ وابتسامةِ الطفولةْ
وقوةِ الشبابِ
والبطولةْ
كان اسمُها أرضَ (مِيافَرقينَ)
- يشبه اسمَ
أرضِنا!
- وكان جيشٌ همجيٌ مرعبٌ يدور في العالمِ كلهِ
يمزِّقُ
القرى ويمحقُ الحضارةْ
جنودُه لا يعرفونَ غير حدِّ السيفِ والنيرانِ
والدمارْ
جيشُ التتارْ
كلُّ البلادِ أشفقتْ من بطشِهم
واستسلمت
لهمْ
لكنْ (مِيافَرقينُ)، هذه المدينةُ الصغيرةُ الكبيرةْ
أبتْ،
فحوصرتْ
من كل من حولَها
مِنَ التتارِ
منْ عدوِّها
ومنْ
إخوانها!
- كانوا محاصرينَ مثلَنا؟
- نعمْ
-
هل كان عندهم بناتٌ لا يَجدنَ مثليَ الحليبْ؟
وأمهاتٌ لا يَجدنَ مثلَ
أميَ الدواءْ؟
- نعم، وظلوا هكذا عامًا ونصفْ
عامًا ونصفًا
والدماءُ والدموعُ لم تزدهم
غيرَ بأسٍ واصطبارْ
قالت بصوتٍ نائمٍ:
-
ماذا جرى بعدَ الحصارْ؟
- ألم تنامي بعدُ يا صغيرتي؟
-
ماذا جرى.. بعدَ الحصارِ.. يا أبي؟ ماذا...
غفَتْ، فأطلقتُ لدمعيَ
العنانَ هامسًا:
- ماتوا جميعًا يا ندى تحت سنابكِ التتارْ..
الصورة الخامسة
ضممتُها تحتَ جدارِ المسجدِ المهدَّمِ القديمْ
في الليل يبدأ الجحيمْ
يلتمع
الفُسْفورُ في السماءِ
ثم فوقَ أرضِ الشارعِ المحروثِ بالقذائفْ
يعلو
بكاءٌ لرضيعٍ راقدٍ جِوارَنا
وأمه تعجز عن إسكاتهِ
يهتز فوقنَا
الجدار من قذيفةٍ قريبةٍ
تهمس ليْ وهي تضمُّني بشدةٍ:
"أبيْ،
الجدارُ خائفْ!"
كأنها كانت ترى..
فبعد يومينِ تهاوى في تعبْ
عدنا
من البحثِ عن الطعامِ في الأنقاضِ
كي نراه كومةً من الترابِ واللهبْ
تبدو
خلالَها يدُ الرضيعِ في اللفائفْ!
الصورة السادسة و الأخيرة
لا شيء يوقفُ الرَّصاصَ خلفَنا
أشد كفَّها ونجري في سباقٍ خاسرٍ
نحو
بناءٍ في الأفقْ
نجري بلا توقفٍ
تُحاصرُ النارُ الجهاتِ، يعزفُ
الرصاصُ حولَنا - معربدًا - نشيدَهْ
أرنو إليها
لم تكن خائفةً
كانت
سعيدةً لأنها معي
كانت سعيدةْ!
أقاومُ اليأسَ وأجريْ بخطًى عنيدةْ
يقترب
البناءُ كالسرابِ بعض شيءٍ
(لعله ليس سباقًا خاسرًا)
- هيا
ندى، كدنا نصل
- تعبت.. يا.. أبي.. كفى.. جريًا
-
شيئًا قليلاً بعدُ يا صغيرتي
وبعدهُ سنستريح في فراشٍ دافئٍ
وسوف
أحكي لندايَ قصةً جديدةً هذا المساءْ
- حقًا؟!
- نعم،
اجري فقط معي
...
...
- أبي
- نعم
-
ما عدتُ.. أهوَى الجريَ.. يا أبي..
الجري متعبٌ.. ولن ألعبَ بعدُ لعبة
الإختباءْ
- لا بأس يا حبيبتي
في لحظةٍ كالحلمِ لاحَ
مدخلُ البناءِ بعدَ خطوتينْ
- ها نحن يا ندى
تعثرتْ..
حملتُها
بسرعةٍ
قفزتُ نحوهُ
ألقيتُ نفسي لاهثًا خلفَ الجدارِ
والرصاصُ
حولَهُ يئزُّ غاضبا
هتفتُ ضاحكًا:
- ندى، لقد فعلتِها،
لقدْ...
لكنها كانت قريبةً بعيدةْ
كانت بنصف بسمةٍ أخيرةٍ
تنزف من
فمٍ دقيقٍ دمَها الحالِمَ بالحكايةِ الجديدةْ
وكفُّها تضمُّ كفيَ
الوحيدةْ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مستوحاة من
قصة استشهاد "ندى أبو مرضي" ذات السنوات الست في حرب غزة 2009.
لها أون لاين
أمهات بلا حدود