الأخضر فيض من الحياة و الخصب
* إعداد: حزامة حامد.
........
يبرز الأخضر كأكثر الألوان بهجة للعين و راحة النفس.هو لون الطبيعة و لون الخصب و لون النماء،و لون العنفوان.به نكون أكثر اكتمالاً،و انسجاماً،كما نكون أكثر توازناً مع أنفسنا و مع البيئة من حولنا.
يوحي الأخضر بالانبساط و الانسيابية،لكنه يطوي في تضاعيفه دلالات و معاني من الثراء و التنوع بحيث تجعله في مصاف الألوان الأغنى تعبيراً.
يحتل الأخضر مساحة هي الأكبر و الأكثر اتساعاً في العالم؛فهو لون الطبيعة،بكل التدرجات اللونية للأخضر المستقرة في أوراق النباتات و أغصان الشجر و سيقان الورد و الفاكهة في طور النضج و الحيوانات..إنه لون البيئة الأم،في أكثر صورها عنفواناً و جمالاً و خصباً و نماءً،ما يجعله لون الحياة الصحية و النضرة و اليافعة،و غير الملوثة.
كذلك،يعتبر الأخضر ثاني أكثر الألوان المفضلة لدى الناس،بعد الأزرق،فهو لون يوحي بالأمان،و يبعث على التوازن و الانسجام.
...
علمياً،الأخضر هو اللون المُدرك بصرياً،الذي يثيره ضوء يتألف من طيف تهيمن عليه طاقة بطول موجي يتراوح بين 520 و570 نانومتراً (النانومتر وحدة قياس في النظام المتري تساوي واحداً على مليار من المتر).
في نظام "الألوان الطرحيّة"،و هو النظام المتعلق بمزج الألوان و الأصباغ و الأحبار و الألوان
الطبيعية لخلق طيف من الألوان،لا يعتبر الأخضر لوناً أساسياً،إذ يتم "اختلاقه" من خليط اللونين الأزرق و الأصفر.
بناء على ذلك،يُصنّف الأخضر ضمن الألوان الأساسية المضافة.
و من المعروف أن الأخضر يحتل مساحة أكبر في الطيف الضوئي المرئي للعين البشرية مقارنة بمعظم الألوان الأخرى،كما يعدّ اللون الأكثر حساسية للعين،بحيث بالإمكان رؤية معظم درجاته،و هو ما يفسر اعتماده في مناظر الرؤية الليلية التي يستخدمها الجنود عادة في أماكن القتال المعتمة.
على أنه أياً ما كان عليه تكوينه العلمي أو تركيبته،فإن آفاق الأخضر و استخداماته و تأويلاته الدلالية تتخطى طوله الموجي بما لا يُقارن.
.......
- راحة واسترخاء:
لما كان الأخضر هو البساط الأكبر و الأكثر امتداداً للطبيعة الأم،من الطبيعي أن يكون هذا اللون هو الأكثر اقتراناً بالطبيعة و انعكاساً لكل ما تمثّله.
من هذا المنطلق،ترى العديد من مصممي و مهندسي الديكور يستعينون بالأخضر كخلفية في تصاميمهم لإشاعة جو من الراحة في المكان شبيه بالراحة التي نتلمسها و نحن في حضن الطبيعة،بعدما ثبت أن الأخضر لون مريح للعين،بل تبيّن علمياً أنه يحسّن النظر.
في الكثير من العيادات و المستشفيات،يشكل الأخضر لوناً بارزاً في المكان،سواء في استخدامه في المقاعد أو في طلاء الجدران،أو حتى في رداء الجراحين في غرف العمليات،و ذلك لمساعدة المرضى،المقبلين على الجراحة،للاسترخاء.
كما أن الأخضر يرمز إلى الأمان و الانطلاق،و هو ما يتضح في استخدامه في الإشارات المرورية في الشوارع كلون يعني الانطلاق الآمن و في أعلام السباقات،التي ترمز إلى إشارة الانطلاق.
من هنا برز تعبير "الحصول على الضوء الأخضر" كتعبير دارج و متداول عالمياً،أي الحصول على الموافقة للانطلاق في عمل أو مشروع ما.
يميز الأخضر،كلون،العديد من أنواع الفاكهة و الخضراوات،و من المعروف أنه كلما كانت الأطعمة التي نتناولها "خضراء"،أي قوامها الخضراوات الورقية أو تعتمد على ثمار الطبيعة في الأساس،كان ذلك أفضل للصحة.
تجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى أن كلمة "أخضر" في اللغة الإنجليزية هي (Green)،و هي مشتقة من فعل (Growan) في الإنجليزية القديمة،الذي يعني (to grow)، أي ينمو.
لذا اقترن الأخضر بالصحة و النمو.و حين نشير إلى أحدهم بأن "أصابعه خضراء"،فهذا يعني أنه كمزارع يتمتع بمقدرة فريدة من نوعها على جعل النباتات تنمو.
و لما كانت الفاكهة النيئة أو غير الناضجة تماماً خضراء،فهذا يعني أنها في طور النموّ.
و ينسب اللون الأخضر في النباتات بصورة رئيسية إلى مركب كيميائي يعرف باسم "الكلوروفيل"،و هو المركب المسؤول عن عملية التمثيل الضوئي (و هي عملية يتم فيها تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مركبات عضوية،خاصة السكريات،و ذلك باستخدام الطاقة من ضوء الشمس).
.......
كما النباتات في الطبيعة،هناك العديد من الحيوانات ذات اللون الأخضر أو تكيفت مع الطبيعة برداء خارجي أخضر كالضفادع و السحالي و الأفاعي و بعض انواع الحشرات،إضافة إلى العديد من الكائنات الأخرى التي يتحول لونها إلى الأخضر،متوافقة مع البيئة من حولها كنوع من الحماية المعروف بـ"الكاموفلاج" أي التمويه.
و لقد بات "الكاموفلاج" تكتيكاً عسكرياً متعارفاً عليه،فالبزات القتالية لمعظم جيوش العالم لونها أخضر في الغالب أو مرقعة بدرجات الأخضر على نحو يمثل تدرجات الأخضر في الطبيعة،و ذلك كي يتمكن الجنود من التماهي مع البيئة القتالية،التي تدور في معظم الأحوال في الغابات و الأدغال.
بالمقارنة،تميل بزات الجنود و العساكر الموجودين في بيئات صحراوية أو مكشوفة إلى اللونين البيج و الكاكي،المتوافقين مع لون رمال الصحراء.
.......
- رموز ثقافية مختلفة:
إن النمو،كأحد المعاني الأساسية للأخضر،لا يقترن بالنباتات و كائنات الطبيعة،بل حتى الإنسان له في "الاخضرار" نصيب.
فحين نصف أحدهم بأن "عوده أخضر" فهذا يعني أنه يتمتع بخبرة قليلة في الحياة أو غير ناضج تماماً، و أنه لم يزل في طور النمو،نفسياً و فكرياً،هذا التعبير أيضاً يستخدم في وصف من يتمتع بروح شابة ترفض الكبر،خاصة من الرجال العجائز الذي يصمدون في وجه الشيخوخة،جسداً و روحاً.
.....
في السياق ذاته،يستخدم الأخضر كأحد الألوان المعتمدة في أحزمة رياضة الجودو رمزاً للأشجار الخضراء؛فكما أن الشجرة الخضراء تكون في العادة طويلة و شامخة،هكذا أيضاً يجب أن يكون سعينا إلى المعرفة،بحيث نسعى إلى الأعلى و الأرفع دائماً.
على الرغم من أن الأخضر يوحي بالحياة و الخصب بصفة رئيسية إلا أنه لا يوجد ثمة إجماع ثقافي على دلالاته الإيجابية،ففي بعض الثقافات الأسيوية يرتبط الأخضر بالمرض و الغثيان،كما أنه في ثقافات أخرى رمز للفناء و التحلل،و هو رمز مستقى من العفن الذي يميل لونه إلى الأخضر.
كذلك،يقترن الأخضر في بعض الثقافات بالغيرة و الحسد.
و في بعض الخرافات ترقى إيحاءات الأخضر إلى مستوى الشر؛إذ يُقال إن الخياطات يرفضن استخدام خيط أخضر عشية عرض أزياء خشية أن يجلب ذلك سوء الحظ.
في الفولكلور الإنجليزي يقترن الأخضر بالسحر في طابعه الشرير،و في التقليد السلتي،نسبة إلى أيرلندا و شمال أوروبا،كان يتم تجنب الأخضر في الملابس لاقترانه،بحسب الخرافات المتداولة،بالموت و سوء الطالع.
...
و مع ذلك،تظل معاني الحياة و النماء و البهجة و ما إلى ذلك من صفات إيجابية هي الأكثر حضوراً للأخضر و تمييزاً له في معظم الثقافات الإنسانية عبر التاريخ؛ففي مصر القديمة،كان الأخضر رمز البعث و الخلود؛فكان يتم تصوير أوزيريس،"إلهة البعث" عند المصريين ببشرة خضراء.
في العصور الوسطي،كان الأخضر رمزاً للحب و الأساس لرغبات الرجل الطبيعية.
و في ثقافة الأزتك الغابرة،اعتُبر الأخضر لوناً ملكياً،لأنه لون ريش طائر الكَتزَل الذي كان
يستخدمه زعماء قبائل الأزتك و وجهاؤها.
في الهند،يشكل الأخضر لون القلب "تشاكرا"،المعروف أيضاً بـ"أناهتا".
يقع تشاكرا في مركز منطقة الصدر و هو مرتبط بالقلب،و الرئتين،و الدورة الدموية و شبكة الأوعية القلبية و كامل منطقة الصدر.
و يعمل القلب تشاكرا على جسر الهوة بين العالمين المادي (أي الجسد) و الروحي.
و من شأن فتح القلب تشاكرا أن يسمح للشخص بأن يحب أكثر و يظهر تعاطفاً أكبر.
في الصين،يقترن الأخضر بالشرق،أي بشروق الشمس،و بالحياة و النمو.
و لما كانت للحجارة الكريمة دلالاتها،فإن حجر اليشب الأخضر في الثقافة الصينية يشير إلى الجمال
و الفضيلة.
أما في اليابان،فيُنظر إلى الأخضر بوصفه لون الحياة الأبدية.
و الأخضر هو الشعار الرسمي لأيرلندا،حيث يمث هذا اللون النابض،الصاخب بالحياة،المروج الخضراء التي تحتل المساحة الأكبر في البلاد.
في المناطق الجبلية من اسكتلندا،كان الناس،و لا يزالون،يرتدون الأخضر علامة على الرفعة و الشرف.
و في البرتغال يرمز الأخضر إلى الأمل لارتباطاته بفصل الربيع،المليء بالبهجة و الحبور.
...........
- دلالات دينية:
من الدلالات البارزة للأخضر تلك الدينية،ففي العديد من الأديان يقترن الأخضر بالبعث و النشور، فـ"إله الخصب" في الأساطير السلتية المندثرة كان مقترناً باللون الأخضر،و الأخضر هو اللون المرتبط بيوم الأحد في الكنيسة الكاثوليكية،و هو لون الأيرلنديين الكاثوليكيين مقابل اللون البرتقالي الذي يمثل الأيرلنديين البروتستانتيين.
كذلك،يعتبر الأخضر من ألوان احتفالات عيد الميلاد "الكريسماس" لدى السميحيين،إلى جانب اللون الأحمر.
بيد أن الإسلام يظل الديانة الأكثر تمثلاً بالأخضر و تمثيلاً له؛فقد جاء ذكر الأخضر في القرآن، بوصفه اللون المميز في الجنة،لجهة وصف مظاهر الطبيعة الغناء التي تظلل المؤمنين الأبرار في الفردوس،بل إن الأخضر هو اللون الغالب في ثياب أهل الجنة،كما ورد في العديد من الآيات القرآنية،من ذلك قوله تعالى: (أوْلَئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَ يَلْبَسُونَ ثياباً خُضْراً مِن سُندُس وَ إستَبْرَقَ مُتّكِئينَ فِيها عَلَى الأرَائِكِ
نِعْمَ الثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (سورة الكهف)،و قوله:(مُتّكئينَ عَلَى رَفْرَف خُضرٍ وَ عَبْقَريّ حِسَان) (سورة الرحمن).
و قال تعالى: (عَالِيهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إستَبرَقٌ وَ حُلُّوا أسَاوِرَ مِن فِضّةٍ وَ سَقاهُم رَبُّهُم شَرَاباً طَهُوراً) (سورة الإنسان).
لذا،ليس غريباً أن تتخذ العديد من الدول العربية و الإسلامية و الحركات الإسلامية عموماً اللون الأخضر رمزاً لها مثل علم المملكة العربية السعودية،على أن العلم الأكثر شهرة هو علم ليبيا، فهو العلم الوحيد في العالم الذي يتألف من لون واحد هو الأخضر،من دون أي تصميم أو كتابة أو إشارة من أي نوع.
الحديث عن أعلام الدول الإسلامية يعرج بنا إلى أعلام الكثير من الدول التي يشكل الأخضر مقوماً أساسياً فيها،لأسباب رمزية أو ثقافية أو جغرافية.
فالأخضر أحد الألوان الثلاثة (إلى جانب الأحمر و الأسود،أو الأحمر و الذهبي) للقومية الأفريقية. لذا،تستخدم العديد من البلدان الإفريقية الأخضر في أعلامها،من بينها جنوب إفريقيا و السنغال و مالي و غانا و إثيوبيا و غينيا و زيمبابوي و بنين.
تجدر الإشارة هنا إلى الألوان التي ترمز إلى القومية الأفريقية أخذت في الأساس من العلم الإثيوبي، إحدى أقدم الدول المستقلة في أفريقيا.
و يمثل الأخضر في هذه الأعلام الطبيعة الغنية للقارة السمراء.
من الدول الأخرى التي تستخدم اللون الأخضر في علمها كرمز للطبيعة الغنية و النباتات الخضراء التي تغطي مساحة كبيرة فيها جامايكا،في أميركا اللاتينية.
كذلك يدخل الأخضر في علم الهند،رمزاً للخصب و الرفاه من جهة،و رمزاً للإسلام،ثاني أكبر ديانة في البلاد.
.........
- سياسة خضراء:
يميز الأخضر لون العديد من الأحجار الكريمة كالزمرد و اليشب و المالكايت و الزبرجد الزيتوني و التورمالين و غيرها،حيث يقال إن هذه الأحجار تجتذب المال و الرخاء و الثراء.
ثمة من يرى أن التزين بهذه الأحجار أو استخدامها بصورة من الصور يعمل على تعزيز الخصب،و يشيع التوازن في حياتنا،كما يجعلنا أقل توتراً و أكثر تكيفاً و استقراراً في البيئة من حولنا. حول ما يتعلق بالملابس،فإن الأخضر هو اللون الذي يجب أن نلجأ إليه حين نكون محبطين أو نسعى إلى إقامة علاقات طيبة و صحية مع من حولنا.
في بعض معانيه الضيقة،يقف الأخضر كرمز من رموز الرأسمالية،فهو لون ورقة الدولار الأميركي، العملة الأكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي،و بالتالي فكلمة "غرين" (أي أخضر) في اللهجة العامية،على الطريقة الأميركية،تعني الفلوس.
على أن الرمز الأكثر حضوراً و استخداماً للأخضر في الوقت الراهن هو البيئة و كل المفاهيم و السياسات و الاقتصاديات المرتبطة بها.
فهناك ما يعرف بـ"السياسة الخضراء"،و هي أيديولوجيا سياسية تضع نصب عينيها الأهداف البيئية،و تعمل على تحقيق هذه الأهداف من خلال إرساء ديمقراطية تنطلق من قاعدة شعبية عريضة. يدعم في العادة السياسة البيئية مناصرو البيئة و حُماتها الذين يعملون في الغالب من خلال "أحزاب الخُضر" الناشطة في أكثر من مئة دولة في العالم.
و "حزب الخضر" هو حزب سياسي يركز على حماية البيئة و السعي إلى استغلال موارد الطاقة النظيفة،كما تشمل أجندته برنامجاً سياسياً يقوم على نشر الديمقراطية في القاعدة الشعبية للمجتمعات و تبني سياسة اللاعنف و إرساء العدالة الاجتماعية،علماً بأن أحزاب الخضر ظهرت إلى حيز الوجود في سبعينات القرن الماضي.
في الإطار البيئي أيضاً،يبرز ما يعرف باسم "تأثير البيت الأخضر"،و هو التأثير الناجم عن البيوت الزجاجية أو البلاستيكية المستخدمة في بعض أنماط الزراعة،و التي تتسبب في تغيير درجة حرارة الأرض بصورة متزايدة،ما يسهم في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري،المسؤولة عن كوارث بيئية مردها التغيرات المناخية.
لذا،فإن من أولويات السياسة الخضراء في أي بلد محاربة ظاهرة الاحتباس الحراري و إقرار الخطط و البرامج اللازمة للسيطرة عليها.
و هكذا،ينطلق الأخضر من لون البيئة التي ندافع عنها و نحميها ليكون بيئة الروح التي نرتاح في فيئها،و الحياة اليانعة،النابضة بالطاقة و الحيوية.
فلتكن الروح خضراء و الجسد أخضر و التجربة خضراء،طازجة،لا تهرم.
.........
موقع البلاغ.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]* إعداد: حزامة حامد.
........
يبرز الأخضر كأكثر الألوان بهجة للعين و راحة النفس.هو لون الطبيعة و لون الخصب و لون النماء،و لون العنفوان.به نكون أكثر اكتمالاً،و انسجاماً،كما نكون أكثر توازناً مع أنفسنا و مع البيئة من حولنا.
يوحي الأخضر بالانبساط و الانسيابية،لكنه يطوي في تضاعيفه دلالات و معاني من الثراء و التنوع بحيث تجعله في مصاف الألوان الأغنى تعبيراً.
يحتل الأخضر مساحة هي الأكبر و الأكثر اتساعاً في العالم؛فهو لون الطبيعة،بكل التدرجات اللونية للأخضر المستقرة في أوراق النباتات و أغصان الشجر و سيقان الورد و الفاكهة في طور النضج و الحيوانات..إنه لون البيئة الأم،في أكثر صورها عنفواناً و جمالاً و خصباً و نماءً،ما يجعله لون الحياة الصحية و النضرة و اليافعة،و غير الملوثة.
كذلك،يعتبر الأخضر ثاني أكثر الألوان المفضلة لدى الناس،بعد الأزرق،فهو لون يوحي بالأمان،و يبعث على التوازن و الانسجام.
...
علمياً،الأخضر هو اللون المُدرك بصرياً،الذي يثيره ضوء يتألف من طيف تهيمن عليه طاقة بطول موجي يتراوح بين 520 و570 نانومتراً (النانومتر وحدة قياس في النظام المتري تساوي واحداً على مليار من المتر).
في نظام "الألوان الطرحيّة"،و هو النظام المتعلق بمزج الألوان و الأصباغ و الأحبار و الألوان
الطبيعية لخلق طيف من الألوان،لا يعتبر الأخضر لوناً أساسياً،إذ يتم "اختلاقه" من خليط اللونين الأزرق و الأصفر.
بناء على ذلك،يُصنّف الأخضر ضمن الألوان الأساسية المضافة.
و من المعروف أن الأخضر يحتل مساحة أكبر في الطيف الضوئي المرئي للعين البشرية مقارنة بمعظم الألوان الأخرى،كما يعدّ اللون الأكثر حساسية للعين،بحيث بالإمكان رؤية معظم درجاته،و هو ما يفسر اعتماده في مناظر الرؤية الليلية التي يستخدمها الجنود عادة في أماكن القتال المعتمة.
على أنه أياً ما كان عليه تكوينه العلمي أو تركيبته،فإن آفاق الأخضر و استخداماته و تأويلاته الدلالية تتخطى طوله الموجي بما لا يُقارن.
.......
- راحة واسترخاء:
لما كان الأخضر هو البساط الأكبر و الأكثر امتداداً للطبيعة الأم،من الطبيعي أن يكون هذا اللون هو الأكثر اقتراناً بالطبيعة و انعكاساً لكل ما تمثّله.
من هذا المنطلق،ترى العديد من مصممي و مهندسي الديكور يستعينون بالأخضر كخلفية في تصاميمهم لإشاعة جو من الراحة في المكان شبيه بالراحة التي نتلمسها و نحن في حضن الطبيعة،بعدما ثبت أن الأخضر لون مريح للعين،بل تبيّن علمياً أنه يحسّن النظر.
في الكثير من العيادات و المستشفيات،يشكل الأخضر لوناً بارزاً في المكان،سواء في استخدامه في المقاعد أو في طلاء الجدران،أو حتى في رداء الجراحين في غرف العمليات،و ذلك لمساعدة المرضى،المقبلين على الجراحة،للاسترخاء.
كما أن الأخضر يرمز إلى الأمان و الانطلاق،و هو ما يتضح في استخدامه في الإشارات المرورية في الشوارع كلون يعني الانطلاق الآمن و في أعلام السباقات،التي ترمز إلى إشارة الانطلاق.
من هنا برز تعبير "الحصول على الضوء الأخضر" كتعبير دارج و متداول عالمياً،أي الحصول على الموافقة للانطلاق في عمل أو مشروع ما.
يميز الأخضر،كلون،العديد من أنواع الفاكهة و الخضراوات،و من المعروف أنه كلما كانت الأطعمة التي نتناولها "خضراء"،أي قوامها الخضراوات الورقية أو تعتمد على ثمار الطبيعة في الأساس،كان ذلك أفضل للصحة.
تجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى أن كلمة "أخضر" في اللغة الإنجليزية هي (Green)،و هي مشتقة من فعل (Growan) في الإنجليزية القديمة،الذي يعني (to grow)، أي ينمو.
لذا اقترن الأخضر بالصحة و النمو.و حين نشير إلى أحدهم بأن "أصابعه خضراء"،فهذا يعني أنه كمزارع يتمتع بمقدرة فريدة من نوعها على جعل النباتات تنمو.
و لما كانت الفاكهة النيئة أو غير الناضجة تماماً خضراء،فهذا يعني أنها في طور النموّ.
و ينسب اللون الأخضر في النباتات بصورة رئيسية إلى مركب كيميائي يعرف باسم "الكلوروفيل"،و هو المركب المسؤول عن عملية التمثيل الضوئي (و هي عملية يتم فيها تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مركبات عضوية،خاصة السكريات،و ذلك باستخدام الطاقة من ضوء الشمس).
.......
كما النباتات في الطبيعة،هناك العديد من الحيوانات ذات اللون الأخضر أو تكيفت مع الطبيعة برداء خارجي أخضر كالضفادع و السحالي و الأفاعي و بعض انواع الحشرات،إضافة إلى العديد من الكائنات الأخرى التي يتحول لونها إلى الأخضر،متوافقة مع البيئة من حولها كنوع من الحماية المعروف بـ"الكاموفلاج" أي التمويه.
و لقد بات "الكاموفلاج" تكتيكاً عسكرياً متعارفاً عليه،فالبزات القتالية لمعظم جيوش العالم لونها أخضر في الغالب أو مرقعة بدرجات الأخضر على نحو يمثل تدرجات الأخضر في الطبيعة،و ذلك كي يتمكن الجنود من التماهي مع البيئة القتالية،التي تدور في معظم الأحوال في الغابات و الأدغال.
بالمقارنة،تميل بزات الجنود و العساكر الموجودين في بيئات صحراوية أو مكشوفة إلى اللونين البيج و الكاكي،المتوافقين مع لون رمال الصحراء.
.......
- رموز ثقافية مختلفة:
إن النمو،كأحد المعاني الأساسية للأخضر،لا يقترن بالنباتات و كائنات الطبيعة،بل حتى الإنسان له في "الاخضرار" نصيب.
فحين نصف أحدهم بأن "عوده أخضر" فهذا يعني أنه يتمتع بخبرة قليلة في الحياة أو غير ناضج تماماً، و أنه لم يزل في طور النمو،نفسياً و فكرياً،هذا التعبير أيضاً يستخدم في وصف من يتمتع بروح شابة ترفض الكبر،خاصة من الرجال العجائز الذي يصمدون في وجه الشيخوخة،جسداً و روحاً.
.....
في السياق ذاته،يستخدم الأخضر كأحد الألوان المعتمدة في أحزمة رياضة الجودو رمزاً للأشجار الخضراء؛فكما أن الشجرة الخضراء تكون في العادة طويلة و شامخة،هكذا أيضاً يجب أن يكون سعينا إلى المعرفة،بحيث نسعى إلى الأعلى و الأرفع دائماً.
على الرغم من أن الأخضر يوحي بالحياة و الخصب بصفة رئيسية إلا أنه لا يوجد ثمة إجماع ثقافي على دلالاته الإيجابية،ففي بعض الثقافات الأسيوية يرتبط الأخضر بالمرض و الغثيان،كما أنه في ثقافات أخرى رمز للفناء و التحلل،و هو رمز مستقى من العفن الذي يميل لونه إلى الأخضر.
كذلك،يقترن الأخضر في بعض الثقافات بالغيرة و الحسد.
و في بعض الخرافات ترقى إيحاءات الأخضر إلى مستوى الشر؛إذ يُقال إن الخياطات يرفضن استخدام خيط أخضر عشية عرض أزياء خشية أن يجلب ذلك سوء الحظ.
في الفولكلور الإنجليزي يقترن الأخضر بالسحر في طابعه الشرير،و في التقليد السلتي،نسبة إلى أيرلندا و شمال أوروبا،كان يتم تجنب الأخضر في الملابس لاقترانه،بحسب الخرافات المتداولة،بالموت و سوء الطالع.
...
و مع ذلك،تظل معاني الحياة و النماء و البهجة و ما إلى ذلك من صفات إيجابية هي الأكثر حضوراً للأخضر و تمييزاً له في معظم الثقافات الإنسانية عبر التاريخ؛ففي مصر القديمة،كان الأخضر رمز البعث و الخلود؛فكان يتم تصوير أوزيريس،"إلهة البعث" عند المصريين ببشرة خضراء.
في العصور الوسطي،كان الأخضر رمزاً للحب و الأساس لرغبات الرجل الطبيعية.
و في ثقافة الأزتك الغابرة،اعتُبر الأخضر لوناً ملكياً،لأنه لون ريش طائر الكَتزَل الذي كان
يستخدمه زعماء قبائل الأزتك و وجهاؤها.
في الهند،يشكل الأخضر لون القلب "تشاكرا"،المعروف أيضاً بـ"أناهتا".
يقع تشاكرا في مركز منطقة الصدر و هو مرتبط بالقلب،و الرئتين،و الدورة الدموية و شبكة الأوعية القلبية و كامل منطقة الصدر.
و يعمل القلب تشاكرا على جسر الهوة بين العالمين المادي (أي الجسد) و الروحي.
و من شأن فتح القلب تشاكرا أن يسمح للشخص بأن يحب أكثر و يظهر تعاطفاً أكبر.
في الصين،يقترن الأخضر بالشرق،أي بشروق الشمس،و بالحياة و النمو.
و لما كانت للحجارة الكريمة دلالاتها،فإن حجر اليشب الأخضر في الثقافة الصينية يشير إلى الجمال
و الفضيلة.
أما في اليابان،فيُنظر إلى الأخضر بوصفه لون الحياة الأبدية.
و الأخضر هو الشعار الرسمي لأيرلندا،حيث يمث هذا اللون النابض،الصاخب بالحياة،المروج الخضراء التي تحتل المساحة الأكبر في البلاد.
في المناطق الجبلية من اسكتلندا،كان الناس،و لا يزالون،يرتدون الأخضر علامة على الرفعة و الشرف.
و في البرتغال يرمز الأخضر إلى الأمل لارتباطاته بفصل الربيع،المليء بالبهجة و الحبور.
...........
- دلالات دينية:
من الدلالات البارزة للأخضر تلك الدينية،ففي العديد من الأديان يقترن الأخضر بالبعث و النشور، فـ"إله الخصب" في الأساطير السلتية المندثرة كان مقترناً باللون الأخضر،و الأخضر هو اللون المرتبط بيوم الأحد في الكنيسة الكاثوليكية،و هو لون الأيرلنديين الكاثوليكيين مقابل اللون البرتقالي الذي يمثل الأيرلنديين البروتستانتيين.
كذلك،يعتبر الأخضر من ألوان احتفالات عيد الميلاد "الكريسماس" لدى السميحيين،إلى جانب اللون الأحمر.
بيد أن الإسلام يظل الديانة الأكثر تمثلاً بالأخضر و تمثيلاً له؛فقد جاء ذكر الأخضر في القرآن، بوصفه اللون المميز في الجنة،لجهة وصف مظاهر الطبيعة الغناء التي تظلل المؤمنين الأبرار في الفردوس،بل إن الأخضر هو اللون الغالب في ثياب أهل الجنة،كما ورد في العديد من الآيات القرآنية،من ذلك قوله تعالى: (أوْلَئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَ يَلْبَسُونَ ثياباً خُضْراً مِن سُندُس وَ إستَبْرَقَ مُتّكِئينَ فِيها عَلَى الأرَائِكِ
نِعْمَ الثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (سورة الكهف)،و قوله:(مُتّكئينَ عَلَى رَفْرَف خُضرٍ وَ عَبْقَريّ حِسَان) (سورة الرحمن).
و قال تعالى: (عَالِيهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إستَبرَقٌ وَ حُلُّوا أسَاوِرَ مِن فِضّةٍ وَ سَقاهُم رَبُّهُم شَرَاباً طَهُوراً) (سورة الإنسان).
لذا،ليس غريباً أن تتخذ العديد من الدول العربية و الإسلامية و الحركات الإسلامية عموماً اللون الأخضر رمزاً لها مثل علم المملكة العربية السعودية،على أن العلم الأكثر شهرة هو علم ليبيا، فهو العلم الوحيد في العالم الذي يتألف من لون واحد هو الأخضر،من دون أي تصميم أو كتابة أو إشارة من أي نوع.
الحديث عن أعلام الدول الإسلامية يعرج بنا إلى أعلام الكثير من الدول التي يشكل الأخضر مقوماً أساسياً فيها،لأسباب رمزية أو ثقافية أو جغرافية.
فالأخضر أحد الألوان الثلاثة (إلى جانب الأحمر و الأسود،أو الأحمر و الذهبي) للقومية الأفريقية. لذا،تستخدم العديد من البلدان الإفريقية الأخضر في أعلامها،من بينها جنوب إفريقيا و السنغال و مالي و غانا و إثيوبيا و غينيا و زيمبابوي و بنين.
تجدر الإشارة هنا إلى الألوان التي ترمز إلى القومية الأفريقية أخذت في الأساس من العلم الإثيوبي، إحدى أقدم الدول المستقلة في أفريقيا.
و يمثل الأخضر في هذه الأعلام الطبيعة الغنية للقارة السمراء.
من الدول الأخرى التي تستخدم اللون الأخضر في علمها كرمز للطبيعة الغنية و النباتات الخضراء التي تغطي مساحة كبيرة فيها جامايكا،في أميركا اللاتينية.
كذلك يدخل الأخضر في علم الهند،رمزاً للخصب و الرفاه من جهة،و رمزاً للإسلام،ثاني أكبر ديانة في البلاد.
.........
- سياسة خضراء:
يميز الأخضر لون العديد من الأحجار الكريمة كالزمرد و اليشب و المالكايت و الزبرجد الزيتوني و التورمالين و غيرها،حيث يقال إن هذه الأحجار تجتذب المال و الرخاء و الثراء.
ثمة من يرى أن التزين بهذه الأحجار أو استخدامها بصورة من الصور يعمل على تعزيز الخصب،و يشيع التوازن في حياتنا،كما يجعلنا أقل توتراً و أكثر تكيفاً و استقراراً في البيئة من حولنا. حول ما يتعلق بالملابس،فإن الأخضر هو اللون الذي يجب أن نلجأ إليه حين نكون محبطين أو نسعى إلى إقامة علاقات طيبة و صحية مع من حولنا.
في بعض معانيه الضيقة،يقف الأخضر كرمز من رموز الرأسمالية،فهو لون ورقة الدولار الأميركي، العملة الأكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي،و بالتالي فكلمة "غرين" (أي أخضر) في اللهجة العامية،على الطريقة الأميركية،تعني الفلوس.
على أن الرمز الأكثر حضوراً و استخداماً للأخضر في الوقت الراهن هو البيئة و كل المفاهيم و السياسات و الاقتصاديات المرتبطة بها.
فهناك ما يعرف بـ"السياسة الخضراء"،و هي أيديولوجيا سياسية تضع نصب عينيها الأهداف البيئية،و تعمل على تحقيق هذه الأهداف من خلال إرساء ديمقراطية تنطلق من قاعدة شعبية عريضة. يدعم في العادة السياسة البيئية مناصرو البيئة و حُماتها الذين يعملون في الغالب من خلال "أحزاب الخُضر" الناشطة في أكثر من مئة دولة في العالم.
و "حزب الخضر" هو حزب سياسي يركز على حماية البيئة و السعي إلى استغلال موارد الطاقة النظيفة،كما تشمل أجندته برنامجاً سياسياً يقوم على نشر الديمقراطية في القاعدة الشعبية للمجتمعات و تبني سياسة اللاعنف و إرساء العدالة الاجتماعية،علماً بأن أحزاب الخضر ظهرت إلى حيز الوجود في سبعينات القرن الماضي.
في الإطار البيئي أيضاً،يبرز ما يعرف باسم "تأثير البيت الأخضر"،و هو التأثير الناجم عن البيوت الزجاجية أو البلاستيكية المستخدمة في بعض أنماط الزراعة،و التي تتسبب في تغيير درجة حرارة الأرض بصورة متزايدة،ما يسهم في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري،المسؤولة عن كوارث بيئية مردها التغيرات المناخية.
لذا،فإن من أولويات السياسة الخضراء في أي بلد محاربة ظاهرة الاحتباس الحراري و إقرار الخطط و البرامج اللازمة للسيطرة عليها.
و هكذا،ينطلق الأخضر من لون البيئة التي ندافع عنها و نحميها ليكون بيئة الروح التي نرتاح في فيئها،و الحياة اليانعة،النابضة بالطاقة و الحيوية.
فلتكن الروح خضراء و الجسد أخضر و التجربة خضراء،طازجة،لا تهرم.
.........
موقع البلاغ.
عدل سابقا من قبل In The Zone في الخميس يناير 31, 2013 10:40 pm عدل 1 مرات