أدبُ "المقالة" وفنُّ "القول"
* د. عبدالعزيز شرف
لعلَّ أشهرَ تعريفٍ لأدب المقالة هو ما ذهب إليه "الدكتور جونسون" (1709-
1784م) الذي يقول فيه: "إن المقالة وثبةٌ عقليةٌ لا ينبغي أن يكون لها
ضابطٌ من نظامٍ، وهي قطعةٌ إنشائية لا تجري على نِسِقٍ معلوم، ولم يتمَّ
هضمُها في نفس صاحبِها، أمّا الإنشاء المنظَّم فليس من المقالِ في شيء".
وتذهب "دائرةُ المعارفِ البريطانية" إلى أن "المقالة هي إنشاء متوسِّط
الطول يُكتب نثراً عادة، ويعالج موضوعاً بعينه بطريقةٍ بسيطة موجَزة، على
أن يلتزم الكاتبُ حدودَ هذا الموضوع، ويكتب عنه من وجهة نظره هو".
ويذهب الأستاذ "سوارس" في كتابه "مقدمة لدراسة الأدب" إلى أن المقالات
قِسمان:
الأول: قِطَع إنشائية في موضوعٍ من الموضوعات؛ العلم أو الفلسفة أو التاريخ
أو النَّقد، وغرضُها الأول عرضًُ طائفةٍ من "المعلومات"، ومثل هذه
المقالات قابلة لأن تكبر حتى تُصبِحَ "بحوثاً".
الثاني: عبارة عن قِطَع في أسلوب استطرادي، تشتمل على وجهة نظر الكاتب؛ فهي
محاولة منه أن يسجِّل الآراء التي يثيرها الموضوع في فكره، والموضوعات لا
تقع تحت حَصْر، ولكنها يجب أن تصطبغَ بانفعالاتِ المؤلف وشخصيته.
ولعل مقالات "شارلز لامب" المسمّاة مقالات إيليا هي خيرُ مثالٍ لهذا
النَّمط من المقالات، والمقالات في هذا النَّمط لا يمكن أن تكبرَ لتُصبحَ
بحوثاً، إنها قِطَعٌ كاملةٌ بنفسها.
وإذا كان من الممكن التسليمُ للمقالة بصفة "عدم الانتظام" عند "جونسون"،
فإنه لا يمكن التسليمُ بعدم تمثُّلها، ذلك أن المقالةَ- كفنٍّ أدبيّ- تحتاج
إلى إعمال الفكر، حتى يتسنى لها أن تقولَ شيئاً ما، وحين تفتقرُ إلى
التَّصوُّرِ الذهني، فإنها لا يمكن أن تقدم نموذجاً محدَّدَ المعالم، ولذلك
ينبغي أن تكون المقالة قائمةً على بلاغةِ الإيجاز، معبِّرةً عن خلاصةٍ
للتَّجرِبةِ واضحة، ونتاجٍ للتأمُّل عميق.
وإذ نعود إلى تعريف "الدكتور جونسون" مرَّة أخرى، نتوقَّف أمام تأكيده على
"ضرورة افتقار المقالة إلى النِّظام" وإلى أن "المقالة لم يتم هضمُها
undigested في نفسِ صاحبها"- فنجد أن هذه الصفة الأخيرة، هي آخِرُ صفة يمكن
أن تنطبقَ على مقالات "مونتاني" أو "أديسون" أو "لامْب".
والكلمةُ الإنجليزية التي تُفيد معنى "المقالة" هي: essay، والكاتب الذي
اشتُهِرَ بكتابة المقالات يسمَّى essayist، وتؤكد المراجع التي تناولت هذا
الفنَّ الأدبيَّ، أن مبتكر الكلمة هو الكاتب الفرنسي "ميشيل دي مونتاني
(1533- 1592)، الذي أطلَق على كتاباتِه اسمَ المحاولات Essais؛ إحساساً منه
بأنه أمام لونٍ جديدٍ من الأدب، وربما من أجل ذلك أطلق "فرانسيس بيكون"
(1561- 1626) على كتاباته اسم "المقالات" أيضاً، وهو يُدرِك أن "الكلمة
حديثة، ولكن الشيء قديم".
وكلمة essay مشتقة من الفعل essayer، ومعناها يقيس أو يزن أو يختبر أو
يجرَّب، ومشتقة أيضاً من الاسم assay ومعناه اختبار المعادن مثل الذَّهب أو
الفضَّة لمعرفة جوهرها أو حقيقتها، ويُلاحِظ الدكتور إبراهيم إمام أن
"كلمة essay الإنجليزية ومرادفتها الفرنسية essai تتفقان إلى حدًّ كبيرٍ مع
المعنى اللفظيَّ لكلمة "مقال" العربية. فهذا اللفظ باشتقاقه من الأصل:
قال، والقول بمعنى الرأي أو الاتجاه، حتى لتتقارب المعاني اللفظيَّة
للكلمات الإنجليزيَّة والفَرنسيَّة والعربية".
وكأنَّ "موناتني" حين أطلَق كلمة essais على كتابه بمعنى "محاولات" أو
"تجارب" كان- على حدَّ تعبير العقاد- يعتذر من ترسُّله فيها بغير تقيُّدٍ
بموضوع واحدٍ أو تعمُّق في التفكير، إذ كانت "المحاولة" في اصطلاح الفنانين
هي معالجةَ صنع التمثال من مادة رِخوة كالشَّمع وما إليه قبل صبِّه في
قوالب النُّحاس، أو نحته من الرُّخام، فأراد "مونتاني" بمقالاته أن تكون
محاولاتٍ "رخوة" من هذا القبيل، وقصرها على الأحاديثِ المستخفَّة،
والتجارِب الشخصية التي يتناجى بها الإخوان في ساعات السَّمر، وتزجية
الفراغ.
فلما تناول "بيكون" الكتابة المقالية أقلَّ فيها من الناحية الشخصيَّة،
وزاد فيها من الناحية الدراسية، فأصبحت مقالاتُه أقربَ إلى التركيز
والإدماجِ منها إلى التبسُّط والفكاهة، ولقيت مع ذلك رواجاً أيَّ رواج، ثم
نشأت الصِّحافةُ فاستقرَّت المقالةُ في مكانها الذي لا غِنى بنوعٍ آخر من
أنواع الكتابةِ الوجيزة، بعد أن كانت "محاولة" متردِّدة بين القبولِ
والإهمال.
"وانقسمت مواضيعُ المقالات على حسب الصحف والمجلات، فما كان للتسلية
والقراءة العامة فقد التزمت فيه طريقة "مونتاني" وتابعيه، وما كان منها
للدرس والقراءة الخاصة فقد غلبت عليه صبغةُ الجدِّ والإتقان، وقيل في تعريف
النمط الأول إنه أشبه شيء بحديثٍ شخصيًّ تُفاجِئه على غير انتظار، فهو
مزاجٌ من التفتُح والحيطة العارضة على مسمَعٍ من المترقبين والمتطلعين.
وقيل في تعريف النمط الآخر إنه درسٌ يلاحَظ فيه تلخيصُ المطولات، وتقريب
المتفرِّقات، وقد يبلغ الغاية من التركيز والإدماج".
ويذهب الدكتور زكي نجيب محمود، إلى أن كاتب المقالة الأدبية يجب أن يكون
لقارئه "محدثاً معلماً، بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديقٍ يُسامِره لا
أمام معلمٍ يُعنِّفه"، ولذلك يقول: "نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون
لقارئه زميلاً مخلصاً يحدَّثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقفَ منه موقفَ
المؤدَّب، يصطنع الوقارَ حين يَصبُّ في أذنِ سامعه الحكمة صبّا ثقيلاً.
نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيفٌ قد استقبله الكاتبُ
في حديقته ليُمتِعَه بحلو الحديث، لا أن يُحِسَّ كأنما الكاتب دفعه دفعاً
عنيفاً إلى مكتبته ليقرأ له فصلاً من كتاب"!
من أجل ذلك يشترط النُّقاد في المقالة الأدبية، أن تكون أقربَ إلى الحديث
والسَّمر منها إلى التعليم والتلقين، وأن يكون أسلوبُها عذباً سَلِساً
دفّاقاً؛ "ذلك أن المقالة إن أخذت تشذَّب أطرافَ اللفظِ هنا؛ وتُزخرِف
تركيبَ العبارة هناك، كان ذلك متنافِراً مع طبيعة السَّمر المحبَّب إلى
النُّفوس، هذا من حيثُ الشكل، وأما من حيثُ الموضوع فلا يجوز عند الناقد
الأدبيَّ أن تبحث المقالةُ في موضوعٍ مجرد، كأن تبحثَ –مثلاً- فضلَ النظام
الديمقراطي، أو معنى الجمال، أو قاعدة في علم النفس والتربية، لأن ذلك
يُبعدها عن روح المقالة بمعناها الصحيح، الذي يقتضي أن تعبِّر قبل كل شيء
عن تجربةٍ معينةٍ مسَّت نفس الأديب فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قرائه".
ولَمّا كانت "المقالة" تتكِئ على ظاهرةٍ مطروقةٍ معهودةٍ في الحياة
اليومية، لتنفُذَ خلالها إلى نقد الحياةِ القائمة نقداً خفيّا، يَستره
غِطاءٌ خفيفٌ من السُّخرية، ولمّا كانت كذلك تِسلُك في التعبير أسلوباً
سَلِساً مشرِقاً، فقد يُظَنُّ أحياناً أنها ضربٌ هيِّن من ضروبِ الأدب لا
يَدْنو من القصيدةِ والقصَّةِ والرواية.
والواقع- كما يقول الدكتور زكي نجيب محمود- على عكس ذلك، تأسيساً على أن
"أرفع الفن هو ما خفي فنُّه على النظرة العابرة، فما أكثر من ينجح في كتابة
القصَّة والقصيدة! وما أقل من يُجيد كتابة المقالة، وشأنُ الذي يَستخِف
بما تَطلُبه المقالة من فنٍّ كشأن الذي يَظن أن الشِّعر المرسَلَ أيسرُ من
القصيدِ المُقَفَّى، ولعل عسرَ المقالة ناشِئٌ من أنها ليس لها حدودٌ
مرسومةٌ يحفظها المبتدئ فينسج على موالها، كما يفعل في القصة أو القصيدة".
ونحسب أن هذا المغزى الكبير، كان يَكمُنُ في الرُّؤيا الإبداعية، عند
مُبدِعي أدبِ المقالة: "موتاني" و"بيكون"، فسمَّياها "المحاولة" ، وهما
يُدرِكان أن "الاسم حديث، ولكنَّ الشيء قديم".
المقالة "وفن" القول
وحين عرَّف "جونسون" المقالة، تعريفاً يذهب إلى أنها "نزوةٌ عقليَّةٌ لا
ينبغي أن يكون لها ضابطٌ من نظام، ولا تَجري على نَسَقٍ معلوم"- كان ينظر
في طبيعة المقالة، ويراها أقرب إلى قطعةٍ مُشعَّثةٍ من "الأحراش"
الحوشِيَّة منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة، فالمقالة أقرب إلى الحديث،
والكتاب المقالي أقرب إلى المحدث والصديق، حتى لنذهب مع الدكتور زكي نجيب
محمود، إلى أن الكاتب المقالي هو "الذي تكفيه ظاهرةٌ ضئيلةٌ مما يعجُّ به
العالم من حوله، فيأخذها نقطةَ ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضُها
برقابِ بعضٍ دون أن يكونَ له أثرٌ قويٌ في استدعائها عن عَمْد وتدبيرٍ،
حتى إذا ما تكاملت من هذه الخواطر المتقاطِرة صورةٌ، عَمَدَ الكاتبُ إلى
إثباتها في رزانةٍ لا تظهر فيها حِدَّةُ العاطفة، وفي رفقٍ بالقارئ حتى لا
ينفر منه نفور الجواد الجموح، لأن واجب الأديب الحق أن يدفع القارئ إلى أن
يُمعِنَ في القراءة، كأنما هو يسرِّي عن نفسه المكروبة عناء اليوم؛ أو
يُزجي فراغه الثقيل، وهو كلما قرأ تسلل إلى نفسه ما شاع في سطور المقال من
نُكتةٍ خفيَّةٍ وسخريةٍ هادئة، دون شعور منه بأن الكاتب يَعمِد في كتابته
إلى النكتة والسخرية، فإذا بالقارئ آخر الأمر يضحك، أو يتأثر على أي صورةٍ
من الصور بهذه الصورة الخيالية التي أثبتها الكاتب ي مقالته، وقد يَعجَب
القارئ: كيف يمكن أن يكون في النُّفوسِ البشرية مثلُ هذه اللفتات واللمحات؟
ولكن لن يلبثَ حتى يتبيَّن أن هذا الذي عَجِبَ منه إنِّما هو جزء من نفسه
أو نفوس أصدقائه، فيُضجِره أن يكونَ على هذا النَّحو السَّخيف، فيكون هذا
الضجرُ منه أولَ خطوات الإصلاح المنشود".
ليس من قبيل الصدفة إذن أن تشتق كلمة "المقالة في اللغة العربية من "القول"
إذ لا يعدو معنى "المقالة" –لفظيّا- أنها شيء "يُقال"، فنقول للشخص: ما
أحسن قولك، وقيلك، ومقالك، وقالك، ومقالتك، ذلك أن المدللَ الحِسّيَّ لهذا
اللفظ هو "القول"، فإذا ذكر النابغةُ في معلقته وهو يعتذر إلى النعمان،
ويُحاوِل أن يردَّ التهمة التي ألصِقت به، وأن يقذفَ بها أعداءه:
"مقالةُ" أن قد قُلْتَ: سوف أنالُه *** وذلك من تِلقاءِ مِثْلِكَ رائعُ
فإنما هو يعني: "القول". وإذا قال العربي قبل الإسلام وبعده: هذه "مقالة"
صِدق، فإنما يريد ما نريده اليوم من تعبيرنا: هذا قولٌ صادِق أو حق.
فالمقالة- إذاً في صميم هذا الاستعمال العربي "كلامٌ شفويّ يرتبط بالنطق".
وإذا ذكرنا "المقالة" بعد ذلك في العصور التي ازدهرت فيها الثقافة العربية،
وفي هذه العصور التي نحياها أو أطرافاً منها- وجدنا "المقالة" كلامّا
"مكتوبا" على النحو الذي يُظهرنا على أضخم الفروق التي طرأت على استعمال
هذا اللفظ بين القديم والجديد.
ذلك أن هذا اللفظَ في حياتنا الثقافية، كان بهذا المفهوم "جزءاً أصيلاً من
هذه الثقافة، التي كانت تعتمد في أكثرها على الرواية، فكانت "المقالة"
كلاما منطوقاً.
وإذا كانت "المقالة" قد نشأت جُمَلاً قصيرةً مُجمَلةً جامعةً تكاد تجري
مجرى الأمثال، ثم طالت وفصلت فأصبحت "أحاديث" ومحاولات"- فإن تصورها كفن
أدبي بعيداً عن أصلها القولي يبعد بها كثيراً عن ماهيتها ووظيفتها، ولذلك
يُظهرنا تطور الفن المقالي على وجوهٍ اكتسبها من طبيعة القول، فاتجهت
المقالة في الجد، واتجهت في الهزل، كما يتجه القول نفسه، حين يُصبح الجدُّ
فيه "كل كلام أوجبه الرأي، وصدر عنه، وقصد به قائله موضعه، وكان مما تدعوا
الحاجة إليه. وباستعمال ذلك، والإمساك عما سواه أوصت الحكماء فقالوا: "من
علم أن كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه".
ولسوف يرى أن النماذج المقالية الباقية في الآداب العالمية، هي التي التزمت
بالنافع والمفيد من القول، حين اتجهت في اتجاه الجد، وحين اتجهت أيضاً،
لتؤدي وظيفةً إنسانية مقابلة، اكتسبتها المقالة من القول نفسه، حين يتجه
إلى التعبير عن حاجة الإنسان إلى الضحك، الأمر الذي أدى إلى أن تكتسب
"المقالة" سمة من سماتها الأصيلة، تظهر في شيوع روح الفكاهة أو السخرية بين
سطورها، حتى حين تعالج موضوعاً "جاداً"، وأصبحت هذه السمة من أهم السمات
التي تُصادفنا في كتابات "المقاليين" الكبار على مر العصور.
بل إن من المقالة ما اكتسب طابعاً ساخراً أو "كاريكاتيريا" وأصبح شارةً على
فن من فنون المقالة في الآداب العالمية.
ويذهب النقاد المعاصرون إلى أن المقالة يجب أن تصدر عن قلقٍ يُحسه الأديب
مما يحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمةٍ
هادئةٍ خفيفةٍ، وهي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل الصارخ، أو قل
يجب أن يكون سخطاً مما يعبِّر عنه الساخط بهزةٍ في كتفيه، ومط في شفتيه،
مصطبغاً بفكاهة ٍ لطيفة، لا أن يكون سخطاً مما يدفع الساخط إلى تحطيم
الأثاث، وتمزيق الثياب. هذا السخط على الحياة القائمة في هدوءٍ وفكاهة، هذا
السخط الذي لم يبلغ أن يكونَ ثورةً عنيفة، هو موضوعُ المقالة الأدبية
بمعناها الصحيح، فإن تضرَّمت في نفس الأديب ثورةٌ كاسِحةٌ جامحة، فلا يُجيز
له نقدهُ الأدب أن يتخذ المقالة متنفسا لثورته؛ وليسلك- إن أراد- سلبيهُ
إلى المنابر يُلقي ثورته في خطبته، لأنها تحتمل من الخطيب أعنف ألوان
التقريع، أو ليلتمس سبيلاً إلى القصيدة- إن كان شاعراً- لأن القصائد لا
تتنافر بطبعها مع الحماس المشتعل. شرط المقالة الأدبية أن يشيع فيها "لون
باهِت من التفكُّه الجميل، فإن التمست في مقالة الأديب نقمةً على وضع من
أوضاع الناس فلم تَجِدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة
الحلوة المستساغة فلم تُصِبه- فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في
كثير أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة". وحَسبُنا أن نقرأ
مقالات "أديسون" (1672- 1719)، لنجد فيها صورةً أدبية لمزج السخط بالفكاهة،
كوسيلة من وسائل الإصلاح.
وكأن "المقالة" هنا امتدادٌ للقول، حين يتجه به الحكماءُ والعقلاء، في
اتجاه الترويح عن النفس، واستدعاء النشاط، ومقالة الملل كي لا يصيب القلوب،
حتى لنقول مع الحكيم العربي: "روِّحوا القلوب؛ تَعِ الذكر"، فنقول معه
أيضاً: "روحوا عن القلوب، فإن لها سآمة كسآمة الأبدان".
وكلُّ ما كان من "دعاء إلى بر، وتعطفٍ، وإصلاحٍ، وتألفٍ، وخير يُجتلَب، وشر
يُجتنب فهو من أحسن الكلام وجميله". و"ما يستعمل أهل العقل والحكمة،
ويثابرون عليه ولا يرون تركه والسكوت عنه،لأن ترك استعمال الحسن قبيحٌ،
ورأيَ من أهمله غيرُ صحيح".
وإذا كانت "المقالة" امتداداً للحسن من القول- فإنها تنأى عن القبيح من
الكلام في سفساف الأمور وأراذلها، وتتجه صوب الفصيح من الكلام، مما وافق
لغة العرب، ولم يخرج عما عليه أهل الأدب" و"حق من ينشأ في العرب يستعمل
الاقتداء بلغتهم، ولا يخرج عن جملة ألفاظهم، ولا تقنع من نفسه بمخالفتهم
فيخطئوه ويُلحَّنوه".
وإذا كان اللحن "يُستملَح من الجواري والإماء، وذوات الحداثة من النساء،
فلأن ذلك يجري مَجْرى الغرارة منهن وقلة التجربة، وفي ذلك يقول الشاعر:
وحديث ألذُّه هو مما
تشتهيه النفوسُ يوزَن وزنا
منطقٌ صائبٌ وتلحن أحيا ناً
وأحلى الحديث ما كان لحنا
المصدر: كتاب أدب المقالة
البلاغ
* د. عبدالعزيز شرف
لعلَّ أشهرَ تعريفٍ لأدب المقالة هو ما ذهب إليه "الدكتور جونسون" (1709-
1784م) الذي يقول فيه: "إن المقالة وثبةٌ عقليةٌ لا ينبغي أن يكون لها
ضابطٌ من نظامٍ، وهي قطعةٌ إنشائية لا تجري على نِسِقٍ معلوم، ولم يتمَّ
هضمُها في نفس صاحبِها، أمّا الإنشاء المنظَّم فليس من المقالِ في شيء".
وتذهب "دائرةُ المعارفِ البريطانية" إلى أن "المقالة هي إنشاء متوسِّط
الطول يُكتب نثراً عادة، ويعالج موضوعاً بعينه بطريقةٍ بسيطة موجَزة، على
أن يلتزم الكاتبُ حدودَ هذا الموضوع، ويكتب عنه من وجهة نظره هو".
ويذهب الأستاذ "سوارس" في كتابه "مقدمة لدراسة الأدب" إلى أن المقالات
قِسمان:
الأول: قِطَع إنشائية في موضوعٍ من الموضوعات؛ العلم أو الفلسفة أو التاريخ
أو النَّقد، وغرضُها الأول عرضًُ طائفةٍ من "المعلومات"، ومثل هذه
المقالات قابلة لأن تكبر حتى تُصبِحَ "بحوثاً".
الثاني: عبارة عن قِطَع في أسلوب استطرادي، تشتمل على وجهة نظر الكاتب؛ فهي
محاولة منه أن يسجِّل الآراء التي يثيرها الموضوع في فكره، والموضوعات لا
تقع تحت حَصْر، ولكنها يجب أن تصطبغَ بانفعالاتِ المؤلف وشخصيته.
ولعل مقالات "شارلز لامب" المسمّاة مقالات إيليا هي خيرُ مثالٍ لهذا
النَّمط من المقالات، والمقالات في هذا النَّمط لا يمكن أن تكبرَ لتُصبحَ
بحوثاً، إنها قِطَعٌ كاملةٌ بنفسها.
وإذا كان من الممكن التسليمُ للمقالة بصفة "عدم الانتظام" عند "جونسون"،
فإنه لا يمكن التسليمُ بعدم تمثُّلها، ذلك أن المقالةَ- كفنٍّ أدبيّ- تحتاج
إلى إعمال الفكر، حتى يتسنى لها أن تقولَ شيئاً ما، وحين تفتقرُ إلى
التَّصوُّرِ الذهني، فإنها لا يمكن أن تقدم نموذجاً محدَّدَ المعالم، ولذلك
ينبغي أن تكون المقالة قائمةً على بلاغةِ الإيجاز، معبِّرةً عن خلاصةٍ
للتَّجرِبةِ واضحة، ونتاجٍ للتأمُّل عميق.
وإذ نعود إلى تعريف "الدكتور جونسون" مرَّة أخرى، نتوقَّف أمام تأكيده على
"ضرورة افتقار المقالة إلى النِّظام" وإلى أن "المقالة لم يتم هضمُها
undigested في نفسِ صاحبها"- فنجد أن هذه الصفة الأخيرة، هي آخِرُ صفة يمكن
أن تنطبقَ على مقالات "مونتاني" أو "أديسون" أو "لامْب".
والكلمةُ الإنجليزية التي تُفيد معنى "المقالة" هي: essay، والكاتب الذي
اشتُهِرَ بكتابة المقالات يسمَّى essayist، وتؤكد المراجع التي تناولت هذا
الفنَّ الأدبيَّ، أن مبتكر الكلمة هو الكاتب الفرنسي "ميشيل دي مونتاني
(1533- 1592)، الذي أطلَق على كتاباتِه اسمَ المحاولات Essais؛ إحساساً منه
بأنه أمام لونٍ جديدٍ من الأدب، وربما من أجل ذلك أطلق "فرانسيس بيكون"
(1561- 1626) على كتاباته اسم "المقالات" أيضاً، وهو يُدرِك أن "الكلمة
حديثة، ولكن الشيء قديم".
وكلمة essay مشتقة من الفعل essayer، ومعناها يقيس أو يزن أو يختبر أو
يجرَّب، ومشتقة أيضاً من الاسم assay ومعناه اختبار المعادن مثل الذَّهب أو
الفضَّة لمعرفة جوهرها أو حقيقتها، ويُلاحِظ الدكتور إبراهيم إمام أن
"كلمة essay الإنجليزية ومرادفتها الفرنسية essai تتفقان إلى حدًّ كبيرٍ مع
المعنى اللفظيَّ لكلمة "مقال" العربية. فهذا اللفظ باشتقاقه من الأصل:
قال، والقول بمعنى الرأي أو الاتجاه، حتى لتتقارب المعاني اللفظيَّة
للكلمات الإنجليزيَّة والفَرنسيَّة والعربية".
وكأنَّ "موناتني" حين أطلَق كلمة essais على كتابه بمعنى "محاولات" أو
"تجارب" كان- على حدَّ تعبير العقاد- يعتذر من ترسُّله فيها بغير تقيُّدٍ
بموضوع واحدٍ أو تعمُّق في التفكير، إذ كانت "المحاولة" في اصطلاح الفنانين
هي معالجةَ صنع التمثال من مادة رِخوة كالشَّمع وما إليه قبل صبِّه في
قوالب النُّحاس، أو نحته من الرُّخام، فأراد "مونتاني" بمقالاته أن تكون
محاولاتٍ "رخوة" من هذا القبيل، وقصرها على الأحاديثِ المستخفَّة،
والتجارِب الشخصية التي يتناجى بها الإخوان في ساعات السَّمر، وتزجية
الفراغ.
فلما تناول "بيكون" الكتابة المقالية أقلَّ فيها من الناحية الشخصيَّة،
وزاد فيها من الناحية الدراسية، فأصبحت مقالاتُه أقربَ إلى التركيز
والإدماجِ منها إلى التبسُّط والفكاهة، ولقيت مع ذلك رواجاً أيَّ رواج، ثم
نشأت الصِّحافةُ فاستقرَّت المقالةُ في مكانها الذي لا غِنى بنوعٍ آخر من
أنواع الكتابةِ الوجيزة، بعد أن كانت "محاولة" متردِّدة بين القبولِ
والإهمال.
"وانقسمت مواضيعُ المقالات على حسب الصحف والمجلات، فما كان للتسلية
والقراءة العامة فقد التزمت فيه طريقة "مونتاني" وتابعيه، وما كان منها
للدرس والقراءة الخاصة فقد غلبت عليه صبغةُ الجدِّ والإتقان، وقيل في تعريف
النمط الأول إنه أشبه شيء بحديثٍ شخصيًّ تُفاجِئه على غير انتظار، فهو
مزاجٌ من التفتُح والحيطة العارضة على مسمَعٍ من المترقبين والمتطلعين.
وقيل في تعريف النمط الآخر إنه درسٌ يلاحَظ فيه تلخيصُ المطولات، وتقريب
المتفرِّقات، وقد يبلغ الغاية من التركيز والإدماج".
ويذهب الدكتور زكي نجيب محمود، إلى أن كاتب المقالة الأدبية يجب أن يكون
لقارئه "محدثاً معلماً، بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديقٍ يُسامِره لا
أمام معلمٍ يُعنِّفه"، ولذلك يقول: "نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون
لقارئه زميلاً مخلصاً يحدَّثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقفَ منه موقفَ
المؤدَّب، يصطنع الوقارَ حين يَصبُّ في أذنِ سامعه الحكمة صبّا ثقيلاً.
نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيفٌ قد استقبله الكاتبُ
في حديقته ليُمتِعَه بحلو الحديث، لا أن يُحِسَّ كأنما الكاتب دفعه دفعاً
عنيفاً إلى مكتبته ليقرأ له فصلاً من كتاب"!
من أجل ذلك يشترط النُّقاد في المقالة الأدبية، أن تكون أقربَ إلى الحديث
والسَّمر منها إلى التعليم والتلقين، وأن يكون أسلوبُها عذباً سَلِساً
دفّاقاً؛ "ذلك أن المقالة إن أخذت تشذَّب أطرافَ اللفظِ هنا؛ وتُزخرِف
تركيبَ العبارة هناك، كان ذلك متنافِراً مع طبيعة السَّمر المحبَّب إلى
النُّفوس، هذا من حيثُ الشكل، وأما من حيثُ الموضوع فلا يجوز عند الناقد
الأدبيَّ أن تبحث المقالةُ في موضوعٍ مجرد، كأن تبحثَ –مثلاً- فضلَ النظام
الديمقراطي، أو معنى الجمال، أو قاعدة في علم النفس والتربية، لأن ذلك
يُبعدها عن روح المقالة بمعناها الصحيح، الذي يقتضي أن تعبِّر قبل كل شيء
عن تجربةٍ معينةٍ مسَّت نفس الأديب فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قرائه".
ولَمّا كانت "المقالة" تتكِئ على ظاهرةٍ مطروقةٍ معهودةٍ في الحياة
اليومية، لتنفُذَ خلالها إلى نقد الحياةِ القائمة نقداً خفيّا، يَستره
غِطاءٌ خفيفٌ من السُّخرية، ولمّا كانت كذلك تِسلُك في التعبير أسلوباً
سَلِساً مشرِقاً، فقد يُظَنُّ أحياناً أنها ضربٌ هيِّن من ضروبِ الأدب لا
يَدْنو من القصيدةِ والقصَّةِ والرواية.
والواقع- كما يقول الدكتور زكي نجيب محمود- على عكس ذلك، تأسيساً على أن
"أرفع الفن هو ما خفي فنُّه على النظرة العابرة، فما أكثر من ينجح في كتابة
القصَّة والقصيدة! وما أقل من يُجيد كتابة المقالة، وشأنُ الذي يَستخِف
بما تَطلُبه المقالة من فنٍّ كشأن الذي يَظن أن الشِّعر المرسَلَ أيسرُ من
القصيدِ المُقَفَّى، ولعل عسرَ المقالة ناشِئٌ من أنها ليس لها حدودٌ
مرسومةٌ يحفظها المبتدئ فينسج على موالها، كما يفعل في القصة أو القصيدة".
ونحسب أن هذا المغزى الكبير، كان يَكمُنُ في الرُّؤيا الإبداعية، عند
مُبدِعي أدبِ المقالة: "موتاني" و"بيكون"، فسمَّياها "المحاولة" ، وهما
يُدرِكان أن "الاسم حديث، ولكنَّ الشيء قديم".
المقالة "وفن" القول
وحين عرَّف "جونسون" المقالة، تعريفاً يذهب إلى أنها "نزوةٌ عقليَّةٌ لا
ينبغي أن يكون لها ضابطٌ من نظام، ولا تَجري على نَسَقٍ معلوم"- كان ينظر
في طبيعة المقالة، ويراها أقرب إلى قطعةٍ مُشعَّثةٍ من "الأحراش"
الحوشِيَّة منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة، فالمقالة أقرب إلى الحديث،
والكتاب المقالي أقرب إلى المحدث والصديق، حتى لنذهب مع الدكتور زكي نجيب
محمود، إلى أن الكاتب المقالي هو "الذي تكفيه ظاهرةٌ ضئيلةٌ مما يعجُّ به
العالم من حوله، فيأخذها نقطةَ ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضُها
برقابِ بعضٍ دون أن يكونَ له أثرٌ قويٌ في استدعائها عن عَمْد وتدبيرٍ،
حتى إذا ما تكاملت من هذه الخواطر المتقاطِرة صورةٌ، عَمَدَ الكاتبُ إلى
إثباتها في رزانةٍ لا تظهر فيها حِدَّةُ العاطفة، وفي رفقٍ بالقارئ حتى لا
ينفر منه نفور الجواد الجموح، لأن واجب الأديب الحق أن يدفع القارئ إلى أن
يُمعِنَ في القراءة، كأنما هو يسرِّي عن نفسه المكروبة عناء اليوم؛ أو
يُزجي فراغه الثقيل، وهو كلما قرأ تسلل إلى نفسه ما شاع في سطور المقال من
نُكتةٍ خفيَّةٍ وسخريةٍ هادئة، دون شعور منه بأن الكاتب يَعمِد في كتابته
إلى النكتة والسخرية، فإذا بالقارئ آخر الأمر يضحك، أو يتأثر على أي صورةٍ
من الصور بهذه الصورة الخيالية التي أثبتها الكاتب ي مقالته، وقد يَعجَب
القارئ: كيف يمكن أن يكون في النُّفوسِ البشرية مثلُ هذه اللفتات واللمحات؟
ولكن لن يلبثَ حتى يتبيَّن أن هذا الذي عَجِبَ منه إنِّما هو جزء من نفسه
أو نفوس أصدقائه، فيُضجِره أن يكونَ على هذا النَّحو السَّخيف، فيكون هذا
الضجرُ منه أولَ خطوات الإصلاح المنشود".
ليس من قبيل الصدفة إذن أن تشتق كلمة "المقالة في اللغة العربية من "القول"
إذ لا يعدو معنى "المقالة" –لفظيّا- أنها شيء "يُقال"، فنقول للشخص: ما
أحسن قولك، وقيلك، ومقالك، وقالك، ومقالتك، ذلك أن المدللَ الحِسّيَّ لهذا
اللفظ هو "القول"، فإذا ذكر النابغةُ في معلقته وهو يعتذر إلى النعمان،
ويُحاوِل أن يردَّ التهمة التي ألصِقت به، وأن يقذفَ بها أعداءه:
"مقالةُ" أن قد قُلْتَ: سوف أنالُه *** وذلك من تِلقاءِ مِثْلِكَ رائعُ
فإنما هو يعني: "القول". وإذا قال العربي قبل الإسلام وبعده: هذه "مقالة"
صِدق، فإنما يريد ما نريده اليوم من تعبيرنا: هذا قولٌ صادِق أو حق.
فالمقالة- إذاً في صميم هذا الاستعمال العربي "كلامٌ شفويّ يرتبط بالنطق".
وإذا ذكرنا "المقالة" بعد ذلك في العصور التي ازدهرت فيها الثقافة العربية،
وفي هذه العصور التي نحياها أو أطرافاً منها- وجدنا "المقالة" كلامّا
"مكتوبا" على النحو الذي يُظهرنا على أضخم الفروق التي طرأت على استعمال
هذا اللفظ بين القديم والجديد.
ذلك أن هذا اللفظَ في حياتنا الثقافية، كان بهذا المفهوم "جزءاً أصيلاً من
هذه الثقافة، التي كانت تعتمد في أكثرها على الرواية، فكانت "المقالة"
كلاما منطوقاً.
وإذا كانت "المقالة" قد نشأت جُمَلاً قصيرةً مُجمَلةً جامعةً تكاد تجري
مجرى الأمثال، ثم طالت وفصلت فأصبحت "أحاديث" ومحاولات"- فإن تصورها كفن
أدبي بعيداً عن أصلها القولي يبعد بها كثيراً عن ماهيتها ووظيفتها، ولذلك
يُظهرنا تطور الفن المقالي على وجوهٍ اكتسبها من طبيعة القول، فاتجهت
المقالة في الجد، واتجهت في الهزل، كما يتجه القول نفسه، حين يُصبح الجدُّ
فيه "كل كلام أوجبه الرأي، وصدر عنه، وقصد به قائله موضعه، وكان مما تدعوا
الحاجة إليه. وباستعمال ذلك، والإمساك عما سواه أوصت الحكماء فقالوا: "من
علم أن كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه".
ولسوف يرى أن النماذج المقالية الباقية في الآداب العالمية، هي التي التزمت
بالنافع والمفيد من القول، حين اتجهت في اتجاه الجد، وحين اتجهت أيضاً،
لتؤدي وظيفةً إنسانية مقابلة، اكتسبتها المقالة من القول نفسه، حين يتجه
إلى التعبير عن حاجة الإنسان إلى الضحك، الأمر الذي أدى إلى أن تكتسب
"المقالة" سمة من سماتها الأصيلة، تظهر في شيوع روح الفكاهة أو السخرية بين
سطورها، حتى حين تعالج موضوعاً "جاداً"، وأصبحت هذه السمة من أهم السمات
التي تُصادفنا في كتابات "المقاليين" الكبار على مر العصور.
بل إن من المقالة ما اكتسب طابعاً ساخراً أو "كاريكاتيريا" وأصبح شارةً على
فن من فنون المقالة في الآداب العالمية.
ويذهب النقاد المعاصرون إلى أن المقالة يجب أن تصدر عن قلقٍ يُحسه الأديب
مما يحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمةٍ
هادئةٍ خفيفةٍ، وهي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل الصارخ، أو قل
يجب أن يكون سخطاً مما يعبِّر عنه الساخط بهزةٍ في كتفيه، ومط في شفتيه،
مصطبغاً بفكاهة ٍ لطيفة، لا أن يكون سخطاً مما يدفع الساخط إلى تحطيم
الأثاث، وتمزيق الثياب. هذا السخط على الحياة القائمة في هدوءٍ وفكاهة، هذا
السخط الذي لم يبلغ أن يكونَ ثورةً عنيفة، هو موضوعُ المقالة الأدبية
بمعناها الصحيح، فإن تضرَّمت في نفس الأديب ثورةٌ كاسِحةٌ جامحة، فلا يُجيز
له نقدهُ الأدب أن يتخذ المقالة متنفسا لثورته؛ وليسلك- إن أراد- سلبيهُ
إلى المنابر يُلقي ثورته في خطبته، لأنها تحتمل من الخطيب أعنف ألوان
التقريع، أو ليلتمس سبيلاً إلى القصيدة- إن كان شاعراً- لأن القصائد لا
تتنافر بطبعها مع الحماس المشتعل. شرط المقالة الأدبية أن يشيع فيها "لون
باهِت من التفكُّه الجميل، فإن التمست في مقالة الأديب نقمةً على وضع من
أوضاع الناس فلم تَجِدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة
الحلوة المستساغة فلم تُصِبه- فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في
كثير أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة". وحَسبُنا أن نقرأ
مقالات "أديسون" (1672- 1719)، لنجد فيها صورةً أدبية لمزج السخط بالفكاهة،
كوسيلة من وسائل الإصلاح.
وكأن "المقالة" هنا امتدادٌ للقول، حين يتجه به الحكماءُ والعقلاء، في
اتجاه الترويح عن النفس، واستدعاء النشاط، ومقالة الملل كي لا يصيب القلوب،
حتى لنقول مع الحكيم العربي: "روِّحوا القلوب؛ تَعِ الذكر"، فنقول معه
أيضاً: "روحوا عن القلوب، فإن لها سآمة كسآمة الأبدان".
وكلُّ ما كان من "دعاء إلى بر، وتعطفٍ، وإصلاحٍ، وتألفٍ، وخير يُجتلَب، وشر
يُجتنب فهو من أحسن الكلام وجميله". و"ما يستعمل أهل العقل والحكمة،
ويثابرون عليه ولا يرون تركه والسكوت عنه،لأن ترك استعمال الحسن قبيحٌ،
ورأيَ من أهمله غيرُ صحيح".
وإذا كانت "المقالة" امتداداً للحسن من القول- فإنها تنأى عن القبيح من
الكلام في سفساف الأمور وأراذلها، وتتجه صوب الفصيح من الكلام، مما وافق
لغة العرب، ولم يخرج عما عليه أهل الأدب" و"حق من ينشأ في العرب يستعمل
الاقتداء بلغتهم، ولا يخرج عن جملة ألفاظهم، ولا تقنع من نفسه بمخالفتهم
فيخطئوه ويُلحَّنوه".
وإذا كان اللحن "يُستملَح من الجواري والإماء، وذوات الحداثة من النساء،
فلأن ذلك يجري مَجْرى الغرارة منهن وقلة التجربة، وفي ذلك يقول الشاعر:
وحديث ألذُّه هو مما
تشتهيه النفوسُ يوزَن وزنا
منطقٌ صائبٌ وتلحن أحيا ناً
وأحلى الحديث ما كان لحنا
المصدر: كتاب أدب المقالة
البلاغ