حكاية الحياة/ يمنى طاهر عبدالمنعم
ككل شهر، تتجمع العائلة. نأتي إلى البيت الكبير، ونجلس نحتسي شاياً ساخناً، ونتجاذب أطراف الحديث. ذلك اليوم، يحمل في قلبي حباً هادئاً أحب أن أحرص عليه. ولكن، لا يهزّني الشوق إن لم آتِ لسبب ما. فأنا أعلم أني سأراهم في المرة المقبلة، والجميع سيكونون هنا كعادتهم. ربما لم يحدث ما يحرك في القلب كوامنه. فمشاعري تسير في هدوء حتى إذا بعثها أمر جديد، وحركها من سكونها، رأيت في صخبها عجباً كيف كانت هادئة في داخلي يوماً. جلسنا جميعاً في الصالون المعتاد بين ضحكة وبسمة وحديث جاد، ونقاش حاد، ودعابات وذكريات دارت في جلستنا. وكانت جدتي تجلس كعادتها فوق كرسيها العتيق. تتدلى من يدها سبحتها الصنوبرية، تلك التي تختزن ضوء النهار لتنير ضوءاً. لطيفاً في الليل. كانت تنظر إلينا بعين تتعلّق بين السماء والأرض، وكأنّها ليست في حضورها الكامل معنا، بل جزء منها يطرق أحادينا في اتزان وحنان، وجزء آخر معلق بشيء ما بعيداً، ربما في الماضي، ربّما في الآتي، لا أدري ولكني دوماً أرى خلف عينيها الكثير.
الجدة: "لا زلت أذكرها، صغيرة تقفز في مرح يسعد القلب. تلك الحبيبة إلى نفسي وقلبي، حفيدتي الصغيرة التي دوماً تسألني عيناها الكثير. حينما أُدير وجهي يميناً أو يساراً، أرى عينيها الصغيرتين تراقبانني بفضول وكأنهما تتفرسانني وتنفذان إلى أعماقي. هي تختلف عن الأحفاد الآخرين في ذلك الإهتمام. الكل يحسن المعاملة والأحترام والأدب. ولكنّها وحدها تحمل شيئاً وراء ذلك كله. وحدها تعيدني بعينيها صغيرة مثلها. وكأنّنا صديقتان من أزمان تختلف. أحبك أيتها الحفيدة وأحب إحساسك بي".
الحفيدة: "لا أدري سر تعجب صديقاتي من حديثي في الجامعة. فأنا أحكي لهنّ كثيراً عن جدتي، أتحدّث عن جمالها الذي لاتزال آثاره ظاهرة على وجهها العجوز. أحكي حزمها في الأمور الجادة، ورأيها الحكيم. أحكي عن أكلاتها التي تثير في الفم السرور والمتعة. أحكي حكاياتها التي تحمل عبق الماضي وأسرار الزمان الفائت، التي تحوي في داخلها سحراً له مذاق روحها الصبيّة. أحكي عن حضنها الدافىء الذي يلتقطني من وحشتي وألمي وتخبطي. أحكي لهنّ عنها طويلاً وكثيراً وهنّ يتعجبن منّي وأتعجب منهنّ. أو لم يعد لحديث الكبار متعة في زمان الحب والأشواق؟ عجباً".
الجدة: "جاءتني تتخبط في أعوامها الصغيرة. حائرة تنتحب، تحكيني عن مآسيها الكبيرة التي تلتمع في عينيها الصغيرتين. كانت تنفعل في الحديث وتتحرّك هنا وهناك، ترفع يديها وتُحرك عينيها، وتظن تلك المشكلة نهاية الحياة. وكنت أبتسم في داخلي من صغرها، وتدمع عيناي مع دموعها. كنت أُهدئها وأُجلسها بجواري. أحكي لها عما رأيت من الدنيا، فتهدأ، وتسمع، وتبكي لبكائي، وتفرح لفرحي. ثمّ أتركها تتصرّف كما تريد، فأراها دوماً كبيرة في أفعالها. وأتساءل: هل كان نضوجها من كثرة حديثها معي؟
أنا الجدة العجوز التي لا يبالي بحديثها الكثير. ولكنّها وحدها. ترى في عينيّ حكايات ووجوهاً تنير طريقها..ربّما".
الحفيدة: "أمي..سأذهب لأطمئن على جدتي. دخلت غرفة جدتي التي أحست بألم خفيف فذهبت تستريح. دخلت وأغلقت الباب خلفي.رأيت في عينيها تلك النظرة المُعلقة بين السماء والأرض، شعرت بخوف في داخلي، أزالته ابتسامتها المطمئنة، فابتسمت لها. سألتني: "بماذا ستتذكرينني؟".
أطرقت قليلاً وأجبت: "بحكاياتك التي أعيشها كل لحظة، سأتذكرك في الصباح بحكاية الشمس الأبدية. وسأتذكرك في المساء بحكاية الليل السريّة. سأتذكرك بين صخب الحياة، لأني رأيتها من بين عينيك. سأتذكر غنوتك الحلوة عن المطر كلما رأيت مطراً. سأتذكرك حينما أرى زوجي بحكاية الأمير والأميرة. أنت معي دوماً، ترافقينني في حياتي التي سأحياها".
دمعت جدتي وابتسمت. وعاودنا سمرنا ودعاباتنا قليلاً، ثمّ تركتها تستريح، وأطفأت المصباح وأغلقت الباب خلفي بهدوء وخرجت إلى الصالون.
في الشهر التالي، تجمّعنا كعادتنا، جلسنا في الصالون المعتاد. كان هناك أمر يدفعني بشدة إلى المجيء. احتسينا الشاي، وتجاذبنا أطراف حديث باهت حزين. كان كرسيّ جدتي العتيق في مكانه، لكنه وحده هذه المرة، فقد ذهبت جدتي. فجأة، سالت دموع ساخنة على وجنتيّ. وشعرت بخفقان يضطرب متأججاً في داخلي وبإرتعاش لا يهدأ في فمي. كلما أردت أن أتكلّم، ونظرت إلى سبحتها الصنوبرية التي كنت أداعبها في يدي. تلك التي كانت لا تفارقها، تلك التي كانت تختزن نور النهار لتضيء لها ضوءاً لطيفاً في الليل. رأيت فيها ابتسامتها وحكاياتها، فابتسمت من بين دموعي.. ابتسمت لها هامشة وقلت في نفسي: "أنا مثلك أحن إلى حضنها الدافئ، مثلما تحنين أنتِ إلى أصابعها المؤمنة".
البلاغ
ككل شهر، تتجمع العائلة. نأتي إلى البيت الكبير، ونجلس نحتسي شاياً ساخناً، ونتجاذب أطراف الحديث. ذلك اليوم، يحمل في قلبي حباً هادئاً أحب أن أحرص عليه. ولكن، لا يهزّني الشوق إن لم آتِ لسبب ما. فأنا أعلم أني سأراهم في المرة المقبلة، والجميع سيكونون هنا كعادتهم. ربما لم يحدث ما يحرك في القلب كوامنه. فمشاعري تسير في هدوء حتى إذا بعثها أمر جديد، وحركها من سكونها، رأيت في صخبها عجباً كيف كانت هادئة في داخلي يوماً. جلسنا جميعاً في الصالون المعتاد بين ضحكة وبسمة وحديث جاد، ونقاش حاد، ودعابات وذكريات دارت في جلستنا. وكانت جدتي تجلس كعادتها فوق كرسيها العتيق. تتدلى من يدها سبحتها الصنوبرية، تلك التي تختزن ضوء النهار لتنير ضوءاً. لطيفاً في الليل. كانت تنظر إلينا بعين تتعلّق بين السماء والأرض، وكأنّها ليست في حضورها الكامل معنا، بل جزء منها يطرق أحادينا في اتزان وحنان، وجزء آخر معلق بشيء ما بعيداً، ربما في الماضي، ربّما في الآتي، لا أدري ولكني دوماً أرى خلف عينيها الكثير.
الجدة: "لا زلت أذكرها، صغيرة تقفز في مرح يسعد القلب. تلك الحبيبة إلى نفسي وقلبي، حفيدتي الصغيرة التي دوماً تسألني عيناها الكثير. حينما أُدير وجهي يميناً أو يساراً، أرى عينيها الصغيرتين تراقبانني بفضول وكأنهما تتفرسانني وتنفذان إلى أعماقي. هي تختلف عن الأحفاد الآخرين في ذلك الإهتمام. الكل يحسن المعاملة والأحترام والأدب. ولكنّها وحدها تحمل شيئاً وراء ذلك كله. وحدها تعيدني بعينيها صغيرة مثلها. وكأنّنا صديقتان من أزمان تختلف. أحبك أيتها الحفيدة وأحب إحساسك بي".
الحفيدة: "لا أدري سر تعجب صديقاتي من حديثي في الجامعة. فأنا أحكي لهنّ كثيراً عن جدتي، أتحدّث عن جمالها الذي لاتزال آثاره ظاهرة على وجهها العجوز. أحكي حزمها في الأمور الجادة، ورأيها الحكيم. أحكي عن أكلاتها التي تثير في الفم السرور والمتعة. أحكي حكاياتها التي تحمل عبق الماضي وأسرار الزمان الفائت، التي تحوي في داخلها سحراً له مذاق روحها الصبيّة. أحكي عن حضنها الدافىء الذي يلتقطني من وحشتي وألمي وتخبطي. أحكي لهنّ عنها طويلاً وكثيراً وهنّ يتعجبن منّي وأتعجب منهنّ. أو لم يعد لحديث الكبار متعة في زمان الحب والأشواق؟ عجباً".
الجدة: "جاءتني تتخبط في أعوامها الصغيرة. حائرة تنتحب، تحكيني عن مآسيها الكبيرة التي تلتمع في عينيها الصغيرتين. كانت تنفعل في الحديث وتتحرّك هنا وهناك، ترفع يديها وتُحرك عينيها، وتظن تلك المشكلة نهاية الحياة. وكنت أبتسم في داخلي من صغرها، وتدمع عيناي مع دموعها. كنت أُهدئها وأُجلسها بجواري. أحكي لها عما رأيت من الدنيا، فتهدأ، وتسمع، وتبكي لبكائي، وتفرح لفرحي. ثمّ أتركها تتصرّف كما تريد، فأراها دوماً كبيرة في أفعالها. وأتساءل: هل كان نضوجها من كثرة حديثها معي؟
أنا الجدة العجوز التي لا يبالي بحديثها الكثير. ولكنّها وحدها. ترى في عينيّ حكايات ووجوهاً تنير طريقها..ربّما".
الحفيدة: "أمي..سأذهب لأطمئن على جدتي. دخلت غرفة جدتي التي أحست بألم خفيف فذهبت تستريح. دخلت وأغلقت الباب خلفي.رأيت في عينيها تلك النظرة المُعلقة بين السماء والأرض، شعرت بخوف في داخلي، أزالته ابتسامتها المطمئنة، فابتسمت لها. سألتني: "بماذا ستتذكرينني؟".
أطرقت قليلاً وأجبت: "بحكاياتك التي أعيشها كل لحظة، سأتذكرك في الصباح بحكاية الشمس الأبدية. وسأتذكرك في المساء بحكاية الليل السريّة. سأتذكرك بين صخب الحياة، لأني رأيتها من بين عينيك. سأتذكر غنوتك الحلوة عن المطر كلما رأيت مطراً. سأتذكرك حينما أرى زوجي بحكاية الأمير والأميرة. أنت معي دوماً، ترافقينني في حياتي التي سأحياها".
دمعت جدتي وابتسمت. وعاودنا سمرنا ودعاباتنا قليلاً، ثمّ تركتها تستريح، وأطفأت المصباح وأغلقت الباب خلفي بهدوء وخرجت إلى الصالون.
في الشهر التالي، تجمّعنا كعادتنا، جلسنا في الصالون المعتاد. كان هناك أمر يدفعني بشدة إلى المجيء. احتسينا الشاي، وتجاذبنا أطراف حديث باهت حزين. كان كرسيّ جدتي العتيق في مكانه، لكنه وحده هذه المرة، فقد ذهبت جدتي. فجأة، سالت دموع ساخنة على وجنتيّ. وشعرت بخفقان يضطرب متأججاً في داخلي وبإرتعاش لا يهدأ في فمي. كلما أردت أن أتكلّم، ونظرت إلى سبحتها الصنوبرية التي كنت أداعبها في يدي. تلك التي كانت لا تفارقها، تلك التي كانت تختزن نور النهار لتضيء لها ضوءاً لطيفاً في الليل. رأيت فيها ابتسامتها وحكاياتها، فابتسمت من بين دموعي.. ابتسمت لها هامشة وقلت في نفسي: "أنا مثلك أحن إلى حضنها الدافئ، مثلما تحنين أنتِ إلى أصابعها المؤمنة".
البلاغ