كيف تخرج فائزاً من رمضان؟
...............
ها نحن نودعك يا شهر الخير والإحسان.. يامن جلبت لنا البركة والغفران.. يا شهر الرحمة الذي جعل الله صيام نهاره فريضة من أعظم الفرائض، وقيام ليله بالعبادة والطاعة من أفضل الأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى خالقه، شهر وصفه رسول الله (صلى الله عليه و سلم)، بقوله: "قد جاءكم شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنّة وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر".
فهل استفدتم من جلال وعظمة هذا الشهر المبارك؟
هل عشتم رمضان كما أراد لكم خالقكم؟ وكيف تخرجون منه بأكبر قدر من المكاسب؟
في السطور التالية يحدثنا عدد من علماء الإسلام عن فريضة الصوم وما ينبغي أن يفعله المسلم في نهار رمضان ولياليه، ليحظى بكامل الأجر والثواب.
في البداية يوضح الداعية الدكتور أحمد عمر هاشم، أستاذ السنّة النبوية، عضو مجمع البحوث الإسلامية، الهدف من فريضة الصوم، وحكمة ما فيه من حرمان وتعذيب للنفس، فيقول:
الصوم عبادة يجب على الإنسان أن يؤدِّيها طائعاً مختاراً قانعاً بفوائدها ومنافعها العديدة، فالله – سبحانه وتعالى – لم يفرض على عباده ما يضرهم أو يفسد عليهم حياتهم، ولو أمعنا النظر في فرائض الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج، لوجدناها تحمل الخير الكثير للإنسان في دنياه وأخراه.
ويضيف: الصوم عمل إيجابي في حقيقته وروحه، وإن بدا سلبياً في مظهره، إذ هو كف النفس عما تشتهيه، بنية التقرُّب إلى الله تعالى، فهو بهذا عمل نفسي إرادي له ثقله في ميزان الحق والخير والقبول عند الله.
وقد اختار الله لهذا الصيام في الإسلام شهراً مباركاً كريماً، له في نفوس المسلمين مكان كريم، فهو الشهر الذي نزل فيه أوّل فوج من آيات القرآن العزيز، حملها الروح الأمين إلى قلب الرسول الكريم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق/ 1).
وجدير بشهر اصطفاه الله لينزل فيه أفضل كتبه إلى خيرة خلقه، أن يكون أهلا ليفرض فيه تلك العبادة السنوية، "الصيام".
ولقد فرض الله علينا الصيام في رمضان، وما فرضه إلا لأسرار عليا وحكم بالغة، نعرف منها ما نعرف ونجهل منها ما نجهل، ويكشف الزمن عن بعضها ما يكشف، فعلينا أن نتأمّل حكمة الله من هذا الجوع والعطش وأن ندرك سره تعالى في الصوم حتى نؤديه كما أراده الله لا كما اشتهاه الناس.
لقد فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلّب على نزعات شهوته ويتحكّم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة، فليس عجيباً أن ترتقى روح الصائم، ويتقرب من الملأ الأعلى، ويقرع أبواب السماء بدعائه فتفتح، ويدعو ربّه فيستجيب له، ويناديه فيقول: لبيك عبدي لبيك، وفي هذا المعنى يقول النّبي (صلى الله عليه و سلم): "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم".
وإذا كان في الصيام فرصة، أي فرصة، لتقوية الروح، ففيه فرصة أي فرصة لتقوية البدن، فإنّ كثيراً مما يصيب الناس من أمراض إنّما هو ناشىء من بطونهم التي يتخمونها بكل ما تشتهي، وقد قال (صلى الله عليه و سلم): "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلا، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنَفَسه".
وفي الصوم تقوية للإرادة وتربية على الصبر، فالصائم يجوع وأمامه شهي الغذاء، ويعطش وبين يديه بارد الماء، ويعف وبجانبه زوجته، لا رقيب عليه في ذلك إلّا ربّه، ولا سلطان إلّا ضميره، ولا تسنده إلّا إرادته القوية الواعية، يتكرّر ذلك نحو خمس عشرة ساعة أو أكثر في كل يوم وتسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين في كل عام، فأي مدرسة تقوم بتربية الإرادة الإنسانية وتعليم الصبر الجميل، كمدرسة الصيام التي يفتحها الإسلام إجبارياً للمسلمين في رمضان، وتطوعاً في غير رمضان؟
لقد كتب عالم نفساني ألماني بحثاً عن تقوية الإرادة أثبت فيه أنّ أعظم وسيلة لذلك هي الصوم.
إنّ الإسلام ليس دين استسلام وخمول، بل هو دين جهاد وكفاح متواصل، وأوّل عدة للجهاد هي الصبر والإرادة القوية، فإنّ مَنْ لم يجاهد نفسه هيهات أن يجاهد عدواً، ومَنْ لم ينتصر على نفسه وشهواتها هيهات أن ينتصر على عدوه، ومَنْ لم يصبر على جوع يوم هيهات أن يصبر على فراق أهله ووطنه من أجل هدف كبير، والصوم – بما فيه من صبر وفطام للنفوس – من أبرز وسائل الإسلام في إعداد المؤمن الصابر المرابط المجاهد، الذي يتحمل الشظف والجوع والحرمان ويرحب بالشدة والخشونة وقسوة العيش، مادام ذلك في سبيل الله.
ومن أسرار الصيام الإجتماعية أنّه تذكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين، تذكير يسمعه الصائم من صوت المعدة، ونداء الأمعاء، فإنّ الذي نبت في أحضان النعمة لم يعرف طعم الجوع، ولم يذق مرارة العطش، لعله يظن أنّ الناس كلّهم مثله.
وفي الصوم، قبل ذلك وبعده، تمام التسليم لله، وكمال العبودية لرب الناس ملك الناس إله الناس، وهذه الحكمة هي القدر المشترك في كل عبادة والهدف الأسمى من كل فريضة، ولن تكون العبادة عبادة، ولا العبد عبداً إلا بها.
- أخلاقيات الصيام/ الدكتور علي جمعة:
يتحدّث عن الآداب والأخلاقيات التي ينبغي أن يحرص عليها الصائم لكي يكتمل أجره وثوابه، ويقول: ينبغي أن تتجسّد في سلوكيات الصائم قيم وأخلاقيات الإسلام، وأن تكون سلوكياته متناسقة مع الحكمة من صيام رمضان، فيبتعد عن الخصام والشقاق وقطع صلة الأرحام، ويلزم نفسه الطريق المستقيم الذي ينتهي به إلى إرضاء الله – عزّ وجلّ – ليكون جزاؤه عند الله تعالى قبول صيامه والحصول على ثوابه، وهنا يلزم المسلم أن يوجه سلوكه إلى فعل الخير والبعد عن الشر.. بمعنى أن تكون أقواله وأعماله كلّها تتفق مع ما جاءت به الشريعة الإسلامية من التسامح والتواضع وحبّ الخير لكل الناس وبذل الجهد والعطاء.
وبالنسبة لقبول الصوم وعدم قبوله، فالصيام لله وهو يجازي به، فاستيفاء أركان الصيام يسقط المطالبة بقضاء الصوم ولكن ينقص بقدر ما ارتكب من المعاصي.
- هل يغفر كل الذنوب؟
وعن الذنوب والمعاصي التي يغفرها الصوم يقول الشيخ محمود عاشور: يقول رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "مَنْ صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، وهذا يوضح أنّ الصيام جزاؤه عظيم وثوابه جزيل، وللصيام آداب وأحكام يجب أن يلتزم بها المؤمن لينال الأجر العظيم والفضل الكبير من الله عزّ وجلّ، فمَن صام رمضان معتقداً وموقناً أنّ صومه فرضه الله تعالى، فاجتهد في تأدية هذه الفريضة، وحرص كلّ الحرص على سلامتها وتأديتها على الوجه الأكمل، فله جزاؤه عند الله تعالى، وعلامة ذلك ألا يستثقل الصوم ولا يرى أيامه طويلة وإنّما تكون عبادة محببة إلى نفس هذا الصائم.
فإنّ الله عزّ وجلّ يغفر له ما تقدم من ذنبه، والمراد أيضاً أنّ الله عزّ وجلّ يغفر للصائم الصغائر من ذنوبه.. أمّا الكبائر فإنّها لا تكفر إلا بالتوبة منها، بمعنى ترك الذنب والعزم على ألا يعود، والندم على ما فات، ورد المظالم إلى أهلها.
فالصيام يُكّفر الصغائر فقط دون الكبائر، والدليل على ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما، إذا اجتنبت الكبائر".
فالحديث النبوي الشريف بيّن أنّ العبادات تزيل كل الذنوب ويغفر الله تعالى بها الزلات، لكن ما يجب التنبه له أنّ العبادات تعوِّد المسلم على الإبتعاد عن المعاصي، فإن وقعت صغيرة فإنّ الله عزّ وجلّ يغفرها للمؤمن ببركة طاعته، وعليه ألا يغتر بالحديث، فهذه العبادات لا تكفر كبائر الذنوب إنّما الذي يكفرها هو التوبة النصوح، وذلك بالعزم على ألا يعود المؤمن لما كان عليه، والندم على ما فعل، ورد المظالم إلى أهلها، وإن كانت هناك حقوق يمكن ردها.
- لا للكسل وإهمال العمل: وعن حكم الإسلام فيمن يصومون رمضان لكنّهم يتكاسلون عن أداء أعمالهم وواجباتهم الوظيفية، بدعوى الصيام، يقول الدكتور محمّد الشحات: الصيام فريضة فرضها الله عزّ وجلّ على عباده، لتكون زاداً لهم على تحصيل التقوى التي هي خير زاد، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183)..
وقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة/ 197)، وهذه التقوى من المفترض أنّها عاصم للإنسان من ارتكاب ما حرّمه الله تعالى والإكثار من عمل الخيرات، والتقرُّب إلى الله تعالى وهذا لا يتأتى إلا بأنّ يصوم الصائم عن المفطرات التي تتمثل في شهوات البطن، وهي الطعام والشراب، وشهوة الفرج، وأن يؤدِّي واجبه نحو مجتمعه وأهله.. وأن يقوم بواجباته في العمل الذي كُلّف به على أكمل وجه، بل أن يكون صيامه حثا له على إتقان العمل وجودته: لأنّ هذا من علامات تقوى الله وإخلاص العمل لوجهه، ولأنّه لا انفصال في مفهوم الإسلام للحياة بين العبادة والواجبات الإجتماعية، فكل منهما يرتبط بالآخر، وينبغي أن يكون التزام الصائم في أدائه عمله انعكاساً وترجمة للصيام عن كلُّ ما نهى الله تعالى عنه، فلا يجوز أن يستخدم الصائم صيامه ذريعة للتقصير في أداء واجباته أو الإهمال في القيام بالعمل المكلف به، ولعل هذا ملحوظ في أنّ الله تعالى رخّص للصائم المسافر بالفطر، لأنّه يؤدي عملاً نافعاً للمجتمع ولنفسه، وهو ملحظ إجتماعي يغفل عنه كثير من الصائمين، فيعتبر البعض أنّ الصوم يشفع لهم في تقصيره في أداء عمله، غير مدرك المقاصد الشرعية والأهداف السامية التي شرع من أجلها الصوم الذي يربط بين العبادة والمعاملة، وهو ما يعبر عنه قول رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". وهي معانٍ ما أحوجنا إلى أن نتدبرها ونعي حقائقها، لأنّ هذا هو مفهوم عبادة الإسلام الحقة في نظر الإسلام.
- الصوم..والإنتاج:
ويرى المفكِّر الإسلامي الدكتور محمود حمدي أنّ الصوم من العبادات التي تضاعف من فرص العمل والإنتاج، وليس كما يعتقد أو يتوهم البعض يقلل من الإنتاج، ويقول: صوم المسلمين يأتي في شهر معيّن من العام، طبقا للتقويم الهجري، ويبدأ صيام كل يوم بالامتناع التام عن الطعام والشراب وعن كلّ الشهوات، من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وهذا يعني أنّ المسلم يقضي نهار يومه كلّه – وهو وقت العمل المعتاد – وهو صائم، ولعل هذا هو السبب الذي من أجله يتوهم البعض أنّ الصوم الإسلامي بهذه الطريقة يقلل حركة الإنتاج لدى الفرد والمجتمع.
ويضيف: الصوم في حقيقة الأمر بريء من هذه التهمة، فالصوم يفترض فيه أنّه يعمل على تصفية النفوس والتسامي بالأرواح، وهذا من شأنه أن يمدّ الفرد بطاقة روحية تجعله أقدر على الإنتاج والعمل أكثر مما لو لم يكن صائماً، وهذه الطاقة الروحية قوة لا يستهان بها، وقد حارب المسلمون في غزوة بدر وهم صائمون وانتصروا.
ويقول: ما نراه في بعض البلاد الإسلامية من قلة الإنتاج في شهر الصوم يرجع إلى أسباب أخرى غير الصوم.. فمن عادة الكثيرين أن يظللوا متيقظين في شهر الصوم معظم الليل، ولا يأخذون قسطاً كافياً من النوم، فنجدهم، نظرا لذلك، متعبين أثناء النهار، ومن هنا يقل إنتاجهم، ويقبلون على أعمالهم ببطء وفي تثاقل، ويعتذرون عن ذلك بأنّهم صائمون، وقد يكون اعتذارهم هذا في أوّل النهار، ولو كان للصوم أي تأثير على النشاط فإنّ ذلك لا يكون في أوّل النهار، بل يكون في فترة متأخرة منه.
لقد ثبت أنّ للصوم فوائد كثيرة صحية وروحية وإجتماعية وتربوية.. فالمفروض أنّه فرصة سنوية للمراجعة والتأمّل والتقييم والنقد الذاتي، على المستويين الفردي والإجتماعي، بهدف القضاء على السلبيات والتخلص من الكثير من الأمراض الإجتماعية، وهذا من شأنه أن يدفع حركة المجتمع بخطى أسرع، وبإخلاص أكثر، وبوعي أفضل.
..........
البلاغ
...............
ها نحن نودعك يا شهر الخير والإحسان.. يامن جلبت لنا البركة والغفران.. يا شهر الرحمة الذي جعل الله صيام نهاره فريضة من أعظم الفرائض، وقيام ليله بالعبادة والطاعة من أفضل الأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى خالقه، شهر وصفه رسول الله (صلى الله عليه و سلم)، بقوله: "قد جاءكم شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنّة وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر".
فهل استفدتم من جلال وعظمة هذا الشهر المبارك؟
هل عشتم رمضان كما أراد لكم خالقكم؟ وكيف تخرجون منه بأكبر قدر من المكاسب؟
في السطور التالية يحدثنا عدد من علماء الإسلام عن فريضة الصوم وما ينبغي أن يفعله المسلم في نهار رمضان ولياليه، ليحظى بكامل الأجر والثواب.
في البداية يوضح الداعية الدكتور أحمد عمر هاشم، أستاذ السنّة النبوية، عضو مجمع البحوث الإسلامية، الهدف من فريضة الصوم، وحكمة ما فيه من حرمان وتعذيب للنفس، فيقول:
الصوم عبادة يجب على الإنسان أن يؤدِّيها طائعاً مختاراً قانعاً بفوائدها ومنافعها العديدة، فالله – سبحانه وتعالى – لم يفرض على عباده ما يضرهم أو يفسد عليهم حياتهم، ولو أمعنا النظر في فرائض الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج، لوجدناها تحمل الخير الكثير للإنسان في دنياه وأخراه.
ويضيف: الصوم عمل إيجابي في حقيقته وروحه، وإن بدا سلبياً في مظهره، إذ هو كف النفس عما تشتهيه، بنية التقرُّب إلى الله تعالى، فهو بهذا عمل نفسي إرادي له ثقله في ميزان الحق والخير والقبول عند الله.
وقد اختار الله لهذا الصيام في الإسلام شهراً مباركاً كريماً، له في نفوس المسلمين مكان كريم، فهو الشهر الذي نزل فيه أوّل فوج من آيات القرآن العزيز، حملها الروح الأمين إلى قلب الرسول الكريم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق/ 1).
وجدير بشهر اصطفاه الله لينزل فيه أفضل كتبه إلى خيرة خلقه، أن يكون أهلا ليفرض فيه تلك العبادة السنوية، "الصيام".
ولقد فرض الله علينا الصيام في رمضان، وما فرضه إلا لأسرار عليا وحكم بالغة، نعرف منها ما نعرف ونجهل منها ما نجهل، ويكشف الزمن عن بعضها ما يكشف، فعلينا أن نتأمّل حكمة الله من هذا الجوع والعطش وأن ندرك سره تعالى في الصوم حتى نؤديه كما أراده الله لا كما اشتهاه الناس.
لقد فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلّب على نزعات شهوته ويتحكّم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة، فليس عجيباً أن ترتقى روح الصائم، ويتقرب من الملأ الأعلى، ويقرع أبواب السماء بدعائه فتفتح، ويدعو ربّه فيستجيب له، ويناديه فيقول: لبيك عبدي لبيك، وفي هذا المعنى يقول النّبي (صلى الله عليه و سلم): "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم".
وإذا كان في الصيام فرصة، أي فرصة، لتقوية الروح، ففيه فرصة أي فرصة لتقوية البدن، فإنّ كثيراً مما يصيب الناس من أمراض إنّما هو ناشىء من بطونهم التي يتخمونها بكل ما تشتهي، وقد قال (صلى الله عليه و سلم): "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلا، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنَفَسه".
وفي الصوم تقوية للإرادة وتربية على الصبر، فالصائم يجوع وأمامه شهي الغذاء، ويعطش وبين يديه بارد الماء، ويعف وبجانبه زوجته، لا رقيب عليه في ذلك إلّا ربّه، ولا سلطان إلّا ضميره، ولا تسنده إلّا إرادته القوية الواعية، يتكرّر ذلك نحو خمس عشرة ساعة أو أكثر في كل يوم وتسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين في كل عام، فأي مدرسة تقوم بتربية الإرادة الإنسانية وتعليم الصبر الجميل، كمدرسة الصيام التي يفتحها الإسلام إجبارياً للمسلمين في رمضان، وتطوعاً في غير رمضان؟
لقد كتب عالم نفساني ألماني بحثاً عن تقوية الإرادة أثبت فيه أنّ أعظم وسيلة لذلك هي الصوم.
إنّ الإسلام ليس دين استسلام وخمول، بل هو دين جهاد وكفاح متواصل، وأوّل عدة للجهاد هي الصبر والإرادة القوية، فإنّ مَنْ لم يجاهد نفسه هيهات أن يجاهد عدواً، ومَنْ لم ينتصر على نفسه وشهواتها هيهات أن ينتصر على عدوه، ومَنْ لم يصبر على جوع يوم هيهات أن يصبر على فراق أهله ووطنه من أجل هدف كبير، والصوم – بما فيه من صبر وفطام للنفوس – من أبرز وسائل الإسلام في إعداد المؤمن الصابر المرابط المجاهد، الذي يتحمل الشظف والجوع والحرمان ويرحب بالشدة والخشونة وقسوة العيش، مادام ذلك في سبيل الله.
ومن أسرار الصيام الإجتماعية أنّه تذكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين، تذكير يسمعه الصائم من صوت المعدة، ونداء الأمعاء، فإنّ الذي نبت في أحضان النعمة لم يعرف طعم الجوع، ولم يذق مرارة العطش، لعله يظن أنّ الناس كلّهم مثله.
وفي الصوم، قبل ذلك وبعده، تمام التسليم لله، وكمال العبودية لرب الناس ملك الناس إله الناس، وهذه الحكمة هي القدر المشترك في كل عبادة والهدف الأسمى من كل فريضة، ولن تكون العبادة عبادة، ولا العبد عبداً إلا بها.
- أخلاقيات الصيام/ الدكتور علي جمعة:
يتحدّث عن الآداب والأخلاقيات التي ينبغي أن يحرص عليها الصائم لكي يكتمل أجره وثوابه، ويقول: ينبغي أن تتجسّد في سلوكيات الصائم قيم وأخلاقيات الإسلام، وأن تكون سلوكياته متناسقة مع الحكمة من صيام رمضان، فيبتعد عن الخصام والشقاق وقطع صلة الأرحام، ويلزم نفسه الطريق المستقيم الذي ينتهي به إلى إرضاء الله – عزّ وجلّ – ليكون جزاؤه عند الله تعالى قبول صيامه والحصول على ثوابه، وهنا يلزم المسلم أن يوجه سلوكه إلى فعل الخير والبعد عن الشر.. بمعنى أن تكون أقواله وأعماله كلّها تتفق مع ما جاءت به الشريعة الإسلامية من التسامح والتواضع وحبّ الخير لكل الناس وبذل الجهد والعطاء.
وبالنسبة لقبول الصوم وعدم قبوله، فالصيام لله وهو يجازي به، فاستيفاء أركان الصيام يسقط المطالبة بقضاء الصوم ولكن ينقص بقدر ما ارتكب من المعاصي.
- هل يغفر كل الذنوب؟
وعن الذنوب والمعاصي التي يغفرها الصوم يقول الشيخ محمود عاشور: يقول رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "مَنْ صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، وهذا يوضح أنّ الصيام جزاؤه عظيم وثوابه جزيل، وللصيام آداب وأحكام يجب أن يلتزم بها المؤمن لينال الأجر العظيم والفضل الكبير من الله عزّ وجلّ، فمَن صام رمضان معتقداً وموقناً أنّ صومه فرضه الله تعالى، فاجتهد في تأدية هذه الفريضة، وحرص كلّ الحرص على سلامتها وتأديتها على الوجه الأكمل، فله جزاؤه عند الله تعالى، وعلامة ذلك ألا يستثقل الصوم ولا يرى أيامه طويلة وإنّما تكون عبادة محببة إلى نفس هذا الصائم.
فإنّ الله عزّ وجلّ يغفر له ما تقدم من ذنبه، والمراد أيضاً أنّ الله عزّ وجلّ يغفر للصائم الصغائر من ذنوبه.. أمّا الكبائر فإنّها لا تكفر إلا بالتوبة منها، بمعنى ترك الذنب والعزم على ألا يعود، والندم على ما فات، ورد المظالم إلى أهلها.
فالصيام يُكّفر الصغائر فقط دون الكبائر، والدليل على ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما، إذا اجتنبت الكبائر".
فالحديث النبوي الشريف بيّن أنّ العبادات تزيل كل الذنوب ويغفر الله تعالى بها الزلات، لكن ما يجب التنبه له أنّ العبادات تعوِّد المسلم على الإبتعاد عن المعاصي، فإن وقعت صغيرة فإنّ الله عزّ وجلّ يغفرها للمؤمن ببركة طاعته، وعليه ألا يغتر بالحديث، فهذه العبادات لا تكفر كبائر الذنوب إنّما الذي يكفرها هو التوبة النصوح، وذلك بالعزم على ألا يعود المؤمن لما كان عليه، والندم على ما فعل، ورد المظالم إلى أهلها، وإن كانت هناك حقوق يمكن ردها.
- لا للكسل وإهمال العمل: وعن حكم الإسلام فيمن يصومون رمضان لكنّهم يتكاسلون عن أداء أعمالهم وواجباتهم الوظيفية، بدعوى الصيام، يقول الدكتور محمّد الشحات: الصيام فريضة فرضها الله عزّ وجلّ على عباده، لتكون زاداً لهم على تحصيل التقوى التي هي خير زاد، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183)..
وقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة/ 197)، وهذه التقوى من المفترض أنّها عاصم للإنسان من ارتكاب ما حرّمه الله تعالى والإكثار من عمل الخيرات، والتقرُّب إلى الله تعالى وهذا لا يتأتى إلا بأنّ يصوم الصائم عن المفطرات التي تتمثل في شهوات البطن، وهي الطعام والشراب، وشهوة الفرج، وأن يؤدِّي واجبه نحو مجتمعه وأهله.. وأن يقوم بواجباته في العمل الذي كُلّف به على أكمل وجه، بل أن يكون صيامه حثا له على إتقان العمل وجودته: لأنّ هذا من علامات تقوى الله وإخلاص العمل لوجهه، ولأنّه لا انفصال في مفهوم الإسلام للحياة بين العبادة والواجبات الإجتماعية، فكل منهما يرتبط بالآخر، وينبغي أن يكون التزام الصائم في أدائه عمله انعكاساً وترجمة للصيام عن كلُّ ما نهى الله تعالى عنه، فلا يجوز أن يستخدم الصائم صيامه ذريعة للتقصير في أداء واجباته أو الإهمال في القيام بالعمل المكلف به، ولعل هذا ملحوظ في أنّ الله تعالى رخّص للصائم المسافر بالفطر، لأنّه يؤدي عملاً نافعاً للمجتمع ولنفسه، وهو ملحظ إجتماعي يغفل عنه كثير من الصائمين، فيعتبر البعض أنّ الصوم يشفع لهم في تقصيره في أداء عمله، غير مدرك المقاصد الشرعية والأهداف السامية التي شرع من أجلها الصوم الذي يربط بين العبادة والمعاملة، وهو ما يعبر عنه قول رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". وهي معانٍ ما أحوجنا إلى أن نتدبرها ونعي حقائقها، لأنّ هذا هو مفهوم عبادة الإسلام الحقة في نظر الإسلام.
- الصوم..والإنتاج:
ويرى المفكِّر الإسلامي الدكتور محمود حمدي أنّ الصوم من العبادات التي تضاعف من فرص العمل والإنتاج، وليس كما يعتقد أو يتوهم البعض يقلل من الإنتاج، ويقول: صوم المسلمين يأتي في شهر معيّن من العام، طبقا للتقويم الهجري، ويبدأ صيام كل يوم بالامتناع التام عن الطعام والشراب وعن كلّ الشهوات، من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وهذا يعني أنّ المسلم يقضي نهار يومه كلّه – وهو وقت العمل المعتاد – وهو صائم، ولعل هذا هو السبب الذي من أجله يتوهم البعض أنّ الصوم الإسلامي بهذه الطريقة يقلل حركة الإنتاج لدى الفرد والمجتمع.
ويضيف: الصوم في حقيقة الأمر بريء من هذه التهمة، فالصوم يفترض فيه أنّه يعمل على تصفية النفوس والتسامي بالأرواح، وهذا من شأنه أن يمدّ الفرد بطاقة روحية تجعله أقدر على الإنتاج والعمل أكثر مما لو لم يكن صائماً، وهذه الطاقة الروحية قوة لا يستهان بها، وقد حارب المسلمون في غزوة بدر وهم صائمون وانتصروا.
ويقول: ما نراه في بعض البلاد الإسلامية من قلة الإنتاج في شهر الصوم يرجع إلى أسباب أخرى غير الصوم.. فمن عادة الكثيرين أن يظللوا متيقظين في شهر الصوم معظم الليل، ولا يأخذون قسطاً كافياً من النوم، فنجدهم، نظرا لذلك، متعبين أثناء النهار، ومن هنا يقل إنتاجهم، ويقبلون على أعمالهم ببطء وفي تثاقل، ويعتذرون عن ذلك بأنّهم صائمون، وقد يكون اعتذارهم هذا في أوّل النهار، ولو كان للصوم أي تأثير على النشاط فإنّ ذلك لا يكون في أوّل النهار، بل يكون في فترة متأخرة منه.
لقد ثبت أنّ للصوم فوائد كثيرة صحية وروحية وإجتماعية وتربوية.. فالمفروض أنّه فرصة سنوية للمراجعة والتأمّل والتقييم والنقد الذاتي، على المستويين الفردي والإجتماعي، بهدف القضاء على السلبيات والتخلص من الكثير من الأمراض الإجتماعية، وهذا من شأنه أن يدفع حركة المجتمع بخطى أسرع، وبإخلاص أكثر، وبوعي أفضل.
..........
البلاغ