ناسك الزمن..ترنيمة رمضانية.
* فاروق شوشة.
* للشاعر محمود حسن إسماعيل.
...............
لشهر رمضان في ديوان الشعر العربي – قديمه و حديثه –آثار أدبية حافلة،تشتمل على منظومة من الشعر و النثر،توقفت عند رمضان: المعنى و الدلالة،و الرمز و الإيحاء،و عنيت بمواكبة هذا الحدث الإسلامي المتجدد في إستقباله و الحفاوة به،و الإفاضة في نفحاته الروحية و آثاره الإجتماعية، و تصوير ما يقترن به من بهجة و فرح و زينة،في دائرة واسعة امتلأت بالأذكار و الأدعية و الإبتهالات و الرسائل و التهاني،و لم نخل من صور الدعابة و الفكاهة،و الأسى لفراقه و توديعه،و التعبير عن إزدحام النفس بما خلّفه من خير عميم و بركة قائمة.
و على كثرة هذه الآثار الأدبية و تنوعها،فإنّ القليل منها هو الذي يستوقف النظر و المألوف في الكتابة الرمضانية التي أصبحت – إبتداء من العصر الفاطمي خاصة – لها تقاليدها و طرقها الممهدة و المألوفة،يسير فيها،و على هديها كل من يقترب من رمضان استلهاماً أو تصويراً أو محاكاة،إلا من كان حريصاً – من المبدعين – على تحقيق موقف مختلف،و صيغة متميّزة،و تعبير مغاير لما عرفه الناس و ألفوه و أصبحوا يتوقعونه باستمرار.
و ربّما كان مصطفى صادق الرافعي في طليعة هذه القلة القليلة التي حرصت على تمايزها و إختلافها،عندما صاغ قصيدته الرمضانية في إستقبال هذا الزائر الكريم،الذي لا يطيل اللبث أو الإقامة،لأنّه راحل كما يرحل الغمام الذي يخلّف أثره في الوجود،و الناس معه على حاليْن،فمنهم الكلِفُ المشوق،و منهم الشجيّ المستهام،فضلاً عن أنّه زائر يجمع "بني الإسلام" على خير السجايا،و يوحّد بينهم على الهمم العظام.
يقول الرافعي:
فديْتك زائراً في كل عامِ **** تُحيّا بالسلامة و السلامِ
و تُقبل كالغمام يفيض حينا **** و يبقى بعده أثر الغمامِ
و كم في الناس من كِلفٍ مشوقِ **** إليك،و كم شجيٍّ مُستهامِ
رمزْت له بألحاظ الليالي **** و قد عيّ الزمان عن الكلام
و لم أرَ قبل حبّك من حبيبِ **** كفى العشّاق لوعات الغرامِ
فلو تدري العوالم ما دريْنا **** لحنّت للصلاة و للصيامِ
بني الإسلام هذا خير ضيفٍ **** إذا غشىَ الكريم ذَرا الكرامِ
يلمّكموا على خير السجايا **** و يجمعكم على الهمم العظامِ.
..........
و في الطريق التي عبّدها مصطفى صادق الرافعي،جاءت قصيدة الشاعر محمود حسن إسماعيل التي سمّاها "الله و الزمن" و هي إحدى قصائد ديوانه "صوت من الله".
و اللافت للإنتباه أنّ القصيدتين تشتركان في وزن شعري واحد و قافية واحدة.بل إن مطلع القصيدتين يشير إلى فكرة الضيف أو الزائر الذي يزور مرّة في كلّ عام،و تستوجب زيارته التحية و السلام و الإهتمام.
لكن سرعان ما تأخذ قصيدة محمود حسن إسماعيل مسيرتها الخاصة و المتميّزة عندما تحلّق بصورها الشعرية الأخّاذة،من خلال عين لاقطة لشاعر لا يغفل عن الصورة البصرية و مُعادلها في النفس أو الروح.
من هنا يتسع مجال الإبداع الشعري لحديث الذنوب و السرائر و القلوب و المعاصي و التوبة، و الغواية و الغيوب.
و يتنقل بفرشاته التصويرية القادرة على التجسيد و الإبهار باللون و الحركة،من المآذن التي تزيّنت لرمضان إلى حوريات الخلد،و مباخر النسّاك،وصولا إلى رمضان الذي هو في جوهره و حقيقته ناسك الزمن القويّ،و الشاعر نفسه طير غريب تائه يمرّ على زمنه،و هو يعزف للصبائح و الأماسي ذارفا أساه،و صداه يتبدد لا يفضي بشيء و لا يفصح من ملاذ أو اتجاه.
في قصيدة "الله و الزمن" حوار للنفس مع النفس،و إرتجاف للخلايا التي تعترف و تبوح،و تضرع بالدعاء و تأمل في التوبة.
و فيها هذا العناق الوجودي بين الشاعر و اللحظة الشعرية التي يقبض عليها،و الزمن الذي يتوهج بقدوم رمضان،و قد أصبح زماناً شعرياً و نبضاً إنسانياً روحياً و شجنا كونياً و وجودياً.
يقول محمود حسن إسماعيل:
أضيفٌ أنت حلَّ على الأنامِ **** و أقسم أن يحيّا بالصيام؟
قطعْتَ الدهر جوّابا وفيّا **** يعود مزاره في كلّ عام
تُخيّم،لا يحدّ حماكَ ركنٌ **** فكلّ الأرض مهدٌ للخيامِ
نسخْتَ شعائر الضيفانِ،لمّا **** قنعْتَ من الضيافة بالمُقامِ
و رحت تسنُّ للأجواد شرْعاً **** من الإحسان عُلْويّ النظامِ
بأنّ الجود حرمانٌ و زهدٌ **** أعزّ من الشرابِ أو الطعام!
***
أشهرٌ أنت أم رُؤيا متابِ **** تألّق طيفُها مثل الشهابِ؟
تمرّغ في ظلالك كلٌّ عاصٍ **** و كلُّ مُرجّسٍ دنسِ الإهابِ
فأنت مُحيِّر الآثام...تجري **** فتلحقها بأحلام العذاب
تراك شفيع توْبتها،فتَخزي **** و توأدُ تحت أجنحة الشبابِ
و أنت منارة الغفران،يأوي **** إليك اليائسون من المتابِ
و عند الله سؤْلك مُستجابٌ **** و لو حُمّلْت أوزار الترابِ
***
وقفتَ خطاكَ عند البائسينا **** فكنت لليلهم فلقاً مُبينا
تساقُ إليك أمواج التّحايا **** فتدفعها لبابِ المُعوزينا
فكمْ آهات محرومٍ حداها **** إليك البؤسُ،فانقلبت رنينا
فأنت مُفزّع البُخّالِ...تجري **** خطاك على حجارتهم مَعينا
و أنتَ مُلقّن الأيدي نداها **** و مُكْسبها التراحمَ و الحنينا
يخافُك كلُّ قارونٍ شحيحٍ **** فيخجل أن يردّ السّائلينا
***
و منذ تهلُّ ترهبُك الذنوبُ **** و تختشع السرائرُ و القلوبُ
و تفزعُ أن تُقابلك المعاصي **** فتهرعُ،أو تُقنّعُ،أو تذوبُ
و يُجفل أن يراك أخو هواها **** و لو قتلت مشاعره العيوبُ
كأنك فارسُ الأيام،تبدو **** فيصعقّها مُهنّدك الغضوبُ
كأنّ يكفّك البيضاء سرّا **** من النجوى،تكتَّمهُ الغيوبُ
تُجابهُ كلّ غيّانٍ عنيدٍ **** فيكتتمُ الغَواية أو يتوبُ
جعلتَ الناس في وقت المغيبِ **** عبيد ندائكَ العاتي الرّهيبِ
كم ارتقبوا الأذانَ كأنّ جُرحا **** يعذّبهم تلفّتَ للطبيبِ
و أتلعت الرقاب بهم،فلاحوا **** كركبانٍ على بلدٍ غريب
عُتاةُ الإنسِ أنت نسخْتَ منهم **** تذلُّلَ أوجهٍ و ضنَى جُنوبِ
فَيا...من لقمةٍ و حفيف ماءٍ **** يُقلّب روحهُ فوق اللهيب:
علامَ البغي و الطغيان؟ إني **** كفرْتُ بمنطق الدنيا العجيبِ!
***
تلفّتْ للمآذن حالياتٍ **** كحوريات خلدٍ سافراتِ
تفوحُ مباخرُ النسّاكِ منها **** فتحسبُها غصوناً عاطراتِ
تلألأُ حولها أطواق نورٍ **** سعيْن لعطرهِ مُتجمّلاتِ
كأنك حاملٌ وحْياً إليها **** وقفْن لسحْرهِ مُتلهفاتِ
إذا صاح الأذانُ بها أَرنّتْ **** بإلهام كموج البحْرِ عاتِ
يذكّر بالهداية كلّ ناسٍ **** و يوقظُ كلَّ غافٍ في الحياةِ
***
و هذا المُعجزُ العالي الرخيمُ **** أذانُ الله،و الذكرُ الحكيمُ
تلاهُ في سكونِ الليل تالٍ **** فكاد لهوله تهوي النجومُ
نداءٌ تفزعُ الأفلاكُ منه **** و يخشع في مساريه السّديمُ
على سمْع الهداةِ يضوعُ عطراً **** و تُقذفُ منه للغاوي رجومُ
أصاخ الكون مسحوراً إليه **** و خرّ لبأسهِ الأزلُ القديمُ
تنزّلَ فوق صدرك من عُلاهُ **** بشيرُ الوحي،و الدّينُ القويمُ
سلاماً ناسك الزمنِ القويِّ **** من القلب الحزين الشاعريّ
حملْتُ إليك أشواقي و سرّي **** لتحملها إلى الأفق العليِّ
تمائمي التعبُّد بالأغاني **** على نغماتِ قيثارٍ شقيِّ
أمرّ به على زمني غريباً **** كطيرٍ تاه في ظُلم العشيِّ
و أعزفُ للصبائح و الأماسي **** فينتفض الغناءُ لكلّ حيّ
كأني ما ذرفتُ أسى زماني **** و لا أفضى صدايَ بأيّ شيِّ!
***
طلعْتَ مُنوّرا فوق العبادِ **** فأيقظْ من تشبّثَ بالرقادِ
و قلْ للشرقِ: إنّ الكون يمشي **** على سُبلٍ مُغيّبة الرشادِ
فخذْ لزمانك الزادَ المُرجّى **** من الخلق القويم والإتحاد
و لا يوقفْكَ في التيار هوْلٌ **** فنار الهول..نورٌ للجهادِ
لقد ملّت تقلّبنا الليالي **** على و ضَرِ التنعّم و الفسادِ
شدا لك بالأذان خميلُ مصرٍ **** فقمْ و انشر صداهُ على البوادي.
........
نظرة واحدة إلى المعجم الشعري الذي خلع من خلاله الشاعر على رمضان تسمياته العديدة،تجعلنا نتأمل هذا الفيض من التجليات الروحية التي تدفق بها وجدان الشاعر و رفرف بها خياله المحلق. فشهر رمضان – بكل ما يمثله في قرارة النفس و قاع الضمير – رؤيا متاب،و مُحيّر الآثام و منارة الغفران و مُفزّع البُخّال،و ناسكُ الزمن القوي و فارس الأيام.
و كل صكٍّ من هذه الصكوك التعبيرية التي جعلها الشاعر تسميات لرمضان يختزن في داخله من الخبرة الإنسانية و الطاقة الإيجابية ما يُجسّد رؤيا الشاعر و عمق إتصاله بالوجدان الروحي العام.
و من هنا يصبح ختام القصيدة طبيعياً و منطقياً حين يلتفت الشاعر إلى واقع حال الأُمّة التي يُفترض فيها أن تعيش التجربة الرمضانية،التي تطوف بها مرّة في كل عام باعتباره دعوة إلى الصحوة و اليقظة،لمن يتشبثون بالرقاد و ينقطعون عن حركة الحياة و إيقاع النهضة و التطور.
و الشاعر في نظرته هذه يتكئ على أمرين يرى فيهما زادا مُرجّى لإصلاح الحال و تحقيق الصحوة، أوّلهما الخلق القويم،و هو تعبير جامع شامل،يؤدي تحققه إلى صورة إنسان حقيقي،صادق الجوهر،لا زيف فيه و لا رياءٍ و لا مُداهنة،و ثانيهما الإتحاد: الإتحاد الذي نحن أحوج ما نكون إليه،و قد انفرط العقد،و تناثرت الحبّات،و أصبح حال الناس كحال أهل الجاهلية الذين وصفهم شوقي و هو يخاطب الرسول الكريم:
أتيْتَ و الناس فوضى،لا تمرُّ بهم **** إلا على صنمٍ قد هام في صنمِ
و الأرضُ مملوءة جوْراً،مُسخرةٌ **** لكل طاغية في الخلق مُحتكمِ
و الخلق يفتكُ أقواهم بأضعفهم **** كالليث بالبهمِ أو كالحوت بالبلم.
........
و يُعيد محمود حسن إسماعيل إلى المشهد الرمضاني جوهره و حقيقته و هو يؤكد أن نار الهول هي نور للجهاد،بعد أن ملّت الليالي تقلّب أحوالنا بين تنعم و فساد،كلاهما خطر على الأُمّة،و حرب على حقيقتها،و إساءة لوجهها و تاريخها و كيانها و حضارتها.
فليكن رمضان هذا العام مُحقّقا لبعض أمنيات الشاعر،مُجسّداً لبعض تطلعاته و أحلامه،في أُمّة قوية عزيزة،تتمسك بعرى إتحادها،و تنفر من تفرقها و تباعدها،و إنكسار شوكتها بين الأُمم.
.........
موقع البلاغ.
* فاروق شوشة.
* للشاعر محمود حسن إسماعيل.
...............
لشهر رمضان في ديوان الشعر العربي – قديمه و حديثه –آثار أدبية حافلة،تشتمل على منظومة من الشعر و النثر،توقفت عند رمضان: المعنى و الدلالة،و الرمز و الإيحاء،و عنيت بمواكبة هذا الحدث الإسلامي المتجدد في إستقباله و الحفاوة به،و الإفاضة في نفحاته الروحية و آثاره الإجتماعية، و تصوير ما يقترن به من بهجة و فرح و زينة،في دائرة واسعة امتلأت بالأذكار و الأدعية و الإبتهالات و الرسائل و التهاني،و لم نخل من صور الدعابة و الفكاهة،و الأسى لفراقه و توديعه،و التعبير عن إزدحام النفس بما خلّفه من خير عميم و بركة قائمة.
و على كثرة هذه الآثار الأدبية و تنوعها،فإنّ القليل منها هو الذي يستوقف النظر و المألوف في الكتابة الرمضانية التي أصبحت – إبتداء من العصر الفاطمي خاصة – لها تقاليدها و طرقها الممهدة و المألوفة،يسير فيها،و على هديها كل من يقترب من رمضان استلهاماً أو تصويراً أو محاكاة،إلا من كان حريصاً – من المبدعين – على تحقيق موقف مختلف،و صيغة متميّزة،و تعبير مغاير لما عرفه الناس و ألفوه و أصبحوا يتوقعونه باستمرار.
و ربّما كان مصطفى صادق الرافعي في طليعة هذه القلة القليلة التي حرصت على تمايزها و إختلافها،عندما صاغ قصيدته الرمضانية في إستقبال هذا الزائر الكريم،الذي لا يطيل اللبث أو الإقامة،لأنّه راحل كما يرحل الغمام الذي يخلّف أثره في الوجود،و الناس معه على حاليْن،فمنهم الكلِفُ المشوق،و منهم الشجيّ المستهام،فضلاً عن أنّه زائر يجمع "بني الإسلام" على خير السجايا،و يوحّد بينهم على الهمم العظام.
يقول الرافعي:
فديْتك زائراً في كل عامِ **** تُحيّا بالسلامة و السلامِ
و تُقبل كالغمام يفيض حينا **** و يبقى بعده أثر الغمامِ
و كم في الناس من كِلفٍ مشوقِ **** إليك،و كم شجيٍّ مُستهامِ
رمزْت له بألحاظ الليالي **** و قد عيّ الزمان عن الكلام
و لم أرَ قبل حبّك من حبيبِ **** كفى العشّاق لوعات الغرامِ
فلو تدري العوالم ما دريْنا **** لحنّت للصلاة و للصيامِ
بني الإسلام هذا خير ضيفٍ **** إذا غشىَ الكريم ذَرا الكرامِ
يلمّكموا على خير السجايا **** و يجمعكم على الهمم العظامِ.
..........
و في الطريق التي عبّدها مصطفى صادق الرافعي،جاءت قصيدة الشاعر محمود حسن إسماعيل التي سمّاها "الله و الزمن" و هي إحدى قصائد ديوانه "صوت من الله".
و اللافت للإنتباه أنّ القصيدتين تشتركان في وزن شعري واحد و قافية واحدة.بل إن مطلع القصيدتين يشير إلى فكرة الضيف أو الزائر الذي يزور مرّة في كلّ عام،و تستوجب زيارته التحية و السلام و الإهتمام.
لكن سرعان ما تأخذ قصيدة محمود حسن إسماعيل مسيرتها الخاصة و المتميّزة عندما تحلّق بصورها الشعرية الأخّاذة،من خلال عين لاقطة لشاعر لا يغفل عن الصورة البصرية و مُعادلها في النفس أو الروح.
من هنا يتسع مجال الإبداع الشعري لحديث الذنوب و السرائر و القلوب و المعاصي و التوبة، و الغواية و الغيوب.
و يتنقل بفرشاته التصويرية القادرة على التجسيد و الإبهار باللون و الحركة،من المآذن التي تزيّنت لرمضان إلى حوريات الخلد،و مباخر النسّاك،وصولا إلى رمضان الذي هو في جوهره و حقيقته ناسك الزمن القويّ،و الشاعر نفسه طير غريب تائه يمرّ على زمنه،و هو يعزف للصبائح و الأماسي ذارفا أساه،و صداه يتبدد لا يفضي بشيء و لا يفصح من ملاذ أو اتجاه.
في قصيدة "الله و الزمن" حوار للنفس مع النفس،و إرتجاف للخلايا التي تعترف و تبوح،و تضرع بالدعاء و تأمل في التوبة.
و فيها هذا العناق الوجودي بين الشاعر و اللحظة الشعرية التي يقبض عليها،و الزمن الذي يتوهج بقدوم رمضان،و قد أصبح زماناً شعرياً و نبضاً إنسانياً روحياً و شجنا كونياً و وجودياً.
يقول محمود حسن إسماعيل:
أضيفٌ أنت حلَّ على الأنامِ **** و أقسم أن يحيّا بالصيام؟
قطعْتَ الدهر جوّابا وفيّا **** يعود مزاره في كلّ عام
تُخيّم،لا يحدّ حماكَ ركنٌ **** فكلّ الأرض مهدٌ للخيامِ
نسخْتَ شعائر الضيفانِ،لمّا **** قنعْتَ من الضيافة بالمُقامِ
و رحت تسنُّ للأجواد شرْعاً **** من الإحسان عُلْويّ النظامِ
بأنّ الجود حرمانٌ و زهدٌ **** أعزّ من الشرابِ أو الطعام!
***
أشهرٌ أنت أم رُؤيا متابِ **** تألّق طيفُها مثل الشهابِ؟
تمرّغ في ظلالك كلٌّ عاصٍ **** و كلُّ مُرجّسٍ دنسِ الإهابِ
فأنت مُحيِّر الآثام...تجري **** فتلحقها بأحلام العذاب
تراك شفيع توْبتها،فتَخزي **** و توأدُ تحت أجنحة الشبابِ
و أنت منارة الغفران،يأوي **** إليك اليائسون من المتابِ
و عند الله سؤْلك مُستجابٌ **** و لو حُمّلْت أوزار الترابِ
***
وقفتَ خطاكَ عند البائسينا **** فكنت لليلهم فلقاً مُبينا
تساقُ إليك أمواج التّحايا **** فتدفعها لبابِ المُعوزينا
فكمْ آهات محرومٍ حداها **** إليك البؤسُ،فانقلبت رنينا
فأنت مُفزّع البُخّالِ...تجري **** خطاك على حجارتهم مَعينا
و أنتَ مُلقّن الأيدي نداها **** و مُكْسبها التراحمَ و الحنينا
يخافُك كلُّ قارونٍ شحيحٍ **** فيخجل أن يردّ السّائلينا
***
و منذ تهلُّ ترهبُك الذنوبُ **** و تختشع السرائرُ و القلوبُ
و تفزعُ أن تُقابلك المعاصي **** فتهرعُ،أو تُقنّعُ،أو تذوبُ
و يُجفل أن يراك أخو هواها **** و لو قتلت مشاعره العيوبُ
كأنك فارسُ الأيام،تبدو **** فيصعقّها مُهنّدك الغضوبُ
كأنّ يكفّك البيضاء سرّا **** من النجوى،تكتَّمهُ الغيوبُ
تُجابهُ كلّ غيّانٍ عنيدٍ **** فيكتتمُ الغَواية أو يتوبُ
جعلتَ الناس في وقت المغيبِ **** عبيد ندائكَ العاتي الرّهيبِ
كم ارتقبوا الأذانَ كأنّ جُرحا **** يعذّبهم تلفّتَ للطبيبِ
و أتلعت الرقاب بهم،فلاحوا **** كركبانٍ على بلدٍ غريب
عُتاةُ الإنسِ أنت نسخْتَ منهم **** تذلُّلَ أوجهٍ و ضنَى جُنوبِ
فَيا...من لقمةٍ و حفيف ماءٍ **** يُقلّب روحهُ فوق اللهيب:
علامَ البغي و الطغيان؟ إني **** كفرْتُ بمنطق الدنيا العجيبِ!
***
تلفّتْ للمآذن حالياتٍ **** كحوريات خلدٍ سافراتِ
تفوحُ مباخرُ النسّاكِ منها **** فتحسبُها غصوناً عاطراتِ
تلألأُ حولها أطواق نورٍ **** سعيْن لعطرهِ مُتجمّلاتِ
كأنك حاملٌ وحْياً إليها **** وقفْن لسحْرهِ مُتلهفاتِ
إذا صاح الأذانُ بها أَرنّتْ **** بإلهام كموج البحْرِ عاتِ
يذكّر بالهداية كلّ ناسٍ **** و يوقظُ كلَّ غافٍ في الحياةِ
***
و هذا المُعجزُ العالي الرخيمُ **** أذانُ الله،و الذكرُ الحكيمُ
تلاهُ في سكونِ الليل تالٍ **** فكاد لهوله تهوي النجومُ
نداءٌ تفزعُ الأفلاكُ منه **** و يخشع في مساريه السّديمُ
على سمْع الهداةِ يضوعُ عطراً **** و تُقذفُ منه للغاوي رجومُ
أصاخ الكون مسحوراً إليه **** و خرّ لبأسهِ الأزلُ القديمُ
تنزّلَ فوق صدرك من عُلاهُ **** بشيرُ الوحي،و الدّينُ القويمُ
سلاماً ناسك الزمنِ القويِّ **** من القلب الحزين الشاعريّ
حملْتُ إليك أشواقي و سرّي **** لتحملها إلى الأفق العليِّ
تمائمي التعبُّد بالأغاني **** على نغماتِ قيثارٍ شقيِّ
أمرّ به على زمني غريباً **** كطيرٍ تاه في ظُلم العشيِّ
و أعزفُ للصبائح و الأماسي **** فينتفض الغناءُ لكلّ حيّ
كأني ما ذرفتُ أسى زماني **** و لا أفضى صدايَ بأيّ شيِّ!
***
طلعْتَ مُنوّرا فوق العبادِ **** فأيقظْ من تشبّثَ بالرقادِ
و قلْ للشرقِ: إنّ الكون يمشي **** على سُبلٍ مُغيّبة الرشادِ
فخذْ لزمانك الزادَ المُرجّى **** من الخلق القويم والإتحاد
و لا يوقفْكَ في التيار هوْلٌ **** فنار الهول..نورٌ للجهادِ
لقد ملّت تقلّبنا الليالي **** على و ضَرِ التنعّم و الفسادِ
شدا لك بالأذان خميلُ مصرٍ **** فقمْ و انشر صداهُ على البوادي.
........
نظرة واحدة إلى المعجم الشعري الذي خلع من خلاله الشاعر على رمضان تسمياته العديدة،تجعلنا نتأمل هذا الفيض من التجليات الروحية التي تدفق بها وجدان الشاعر و رفرف بها خياله المحلق. فشهر رمضان – بكل ما يمثله في قرارة النفس و قاع الضمير – رؤيا متاب،و مُحيّر الآثام و منارة الغفران و مُفزّع البُخّال،و ناسكُ الزمن القوي و فارس الأيام.
و كل صكٍّ من هذه الصكوك التعبيرية التي جعلها الشاعر تسميات لرمضان يختزن في داخله من الخبرة الإنسانية و الطاقة الإيجابية ما يُجسّد رؤيا الشاعر و عمق إتصاله بالوجدان الروحي العام.
و من هنا يصبح ختام القصيدة طبيعياً و منطقياً حين يلتفت الشاعر إلى واقع حال الأُمّة التي يُفترض فيها أن تعيش التجربة الرمضانية،التي تطوف بها مرّة في كل عام باعتباره دعوة إلى الصحوة و اليقظة،لمن يتشبثون بالرقاد و ينقطعون عن حركة الحياة و إيقاع النهضة و التطور.
و الشاعر في نظرته هذه يتكئ على أمرين يرى فيهما زادا مُرجّى لإصلاح الحال و تحقيق الصحوة، أوّلهما الخلق القويم،و هو تعبير جامع شامل،يؤدي تحققه إلى صورة إنسان حقيقي،صادق الجوهر،لا زيف فيه و لا رياءٍ و لا مُداهنة،و ثانيهما الإتحاد: الإتحاد الذي نحن أحوج ما نكون إليه،و قد انفرط العقد،و تناثرت الحبّات،و أصبح حال الناس كحال أهل الجاهلية الذين وصفهم شوقي و هو يخاطب الرسول الكريم:
أتيْتَ و الناس فوضى،لا تمرُّ بهم **** إلا على صنمٍ قد هام في صنمِ
و الأرضُ مملوءة جوْراً،مُسخرةٌ **** لكل طاغية في الخلق مُحتكمِ
و الخلق يفتكُ أقواهم بأضعفهم **** كالليث بالبهمِ أو كالحوت بالبلم.
........
و يُعيد محمود حسن إسماعيل إلى المشهد الرمضاني جوهره و حقيقته و هو يؤكد أن نار الهول هي نور للجهاد،بعد أن ملّت الليالي تقلّب أحوالنا بين تنعم و فساد،كلاهما خطر على الأُمّة،و حرب على حقيقتها،و إساءة لوجهها و تاريخها و كيانها و حضارتها.
فليكن رمضان هذا العام مُحقّقا لبعض أمنيات الشاعر،مُجسّداً لبعض تطلعاته و أحلامه،في أُمّة قوية عزيزة،تتمسك بعرى إتحادها،و تنفر من تفرقها و تباعدها،و إنكسار شوكتها بين الأُمم.
.........
موقع البلاغ.