انسانية الرسالة النبوية وعالميتها و الغاية العليا من الخلقة و البعثة
شبكة النبأ المعلوماتية
2015-4-9
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء و المرسلين، ثم الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا و حبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد و على أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، و اللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، و لا حول و لا قوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول تبارك وتعالى:
(وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)([1])
و يقول جل اسمه:
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)([2])
الحديث يدور في هذه السلسلة من المباحث القادمة ـ بإذن الله تعالى ـ حول بعض البصائر القرآنية الكريمة التي تتعلق بهاتين الآيتين الكريمتين منطلقين من قوله تعالى: (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) حيث ان تلك الآية من سورة الفتح تندرج في إطار هذه الآية الكريمة كما سيتضح لاحقا ان شاء الله تعالى.
و هذه مجموعة من البصائر في هذه الآية الكريمة:
1) الآية تبين احد اهم مقاصد الشريعة و غاياتها: (الرحمة للعالمين)
إن الآية الشريفة تكشف عن واحد من أهم ـ ان لم يكن الأهم مطلقا ـ مقاصد الشريعة و أهدافها و غاياتها و عللها العامة إذ يقول جل اسمه (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) فهذا هو المقصد الاسمى من بعثة و إرسال الرسول الاكرم محمد المصطفى (صلى الله عليه و آله).
ما هي السمة التي تميز مسلمي العالم؟
ان من المعروف ان كل تجمّع أو شخص، له علامة او سمة مميزة تميزه عن غيره او له شعار او مظهر يوصف به، و الامر جارٍ في الشعوب و البلدان و الأمم و الحضارات، فمثلا الصناعة اليابانية تميزها سمة الإتقان و الإحكام كما يوصفون هم بالوداعة و السلام، و في المقابل فانه عندما يخطر في بال احدنا اسم الحكومة البريطانية فان اول شيء يقفز الى الذهن هو التآمر و الاستعمار!! لان البريطانيين على مر التاريخ كان يحوكون المؤامرات و المكائد للأمم و الشعوب و ما شعب فلسطين عنا ببعيد!
و لكن ماذا عندما يذكر اسم المسلم؟ و ما هو أول أمرٍ يخطر في بال أهل العالم؟
يقال: اذا اجتمع خمسة يابانيين فانهم سينتجون اختراعا! و اذا اجتمع خمسة بريطانيين فانهم يحوكون مؤامرة! و اذا اجتمع خمسة من المسلمين فانهم سيشكلون خمسة أحزاب و خمس جبهات و خمس نزاعات و غير ذلك!!
و بالطبع فان هذا مجرد مثل ليس الا... إذ من الواضح ان الكثير من المسلمين يتميزون بالطهارة و النزاهة و الورع و التقوى لكن الانطباع العام في الرأي العام العالمي عنهم هو التقاطع و التدابر و عدم الانسجام كما نشاهد ملامحه جليّة في العالمين العربي و الإسلامي.
و صفوة القول ان كل شيء له سمة تميزه و نعطي انطباعا عاماً، سلبياً أو إيجابياً.
ما هي السمة التي ميزت الرسول المصطفى (صلى الله عليه و آله)؟
و لكن ما هي سمة و علامة و ميّزة نبينا المصطفى محمد (صلى الله عليه و آله) عنه؟
ان الله تعالى يميز نبيه بعلامة فارقة لم يتميز بها أحد أبداً كما تميز بها هو (صلى الله عليه و آله) و هي (الرحمة للعالمين).
و اللافت للنظر ان الله تعالى لم يميزه بصفة أخرى حتى بمثل العدل و الذي هو من أجلى المستقلات العقلية، و رغم انه من اعظم الصفات المطلوبة على الاطلاق انه الا رغم ذلك لم يقل تعالى لنبيه (صلى الله عليه و آله) و ما أرسلناك الا لإقامة العدل أو الا للعدل بل قال (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
و من ذلك نعرف ان الرحمة هي ميّزة تسمو على العدل و هي افضل منه و ان كانت هناك حدود بينهما و مجال خاص – في الجملة – لكل منهما كما ستاتي الاشارة اليها في المستقبل ان شاء الله تعالى.
ثم ان ظاهر الحصر في الآية (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) انه حصر حقيقي، و الاستثناء استثناء تام، بمعنى: ليس الارسال الا لاجل الرحمة و للعالمين باجمعهم!
و في ذلك رسالة كبيرة الى كافة أهل العالم بل إلى العالمين جميعاً!
و الآن لنرجع إلى أنفسنا و لنسأل: ما هي السمة التي تميز المسلمين في العالم؟!! هل هي السمة التي تميز بها رسول الله (صلى الله عليه و آله) و هي الرحمة؟! ام هي سمة العنف و الحروب و الدمار و القتل الارهاب التي ألقت بظلالها على المسلمين جميعاً
ان العالم اليوم لا يعرف المسلمين بالرحمة و الانسانية و حقوق الانسان، بل ان العالم اليوم يعرف المسلمين اما بالجهل و التخلف أو بالاستبداد و سحق الحريات، او بالإرهاب الدموي الذي تشمئز منه النفوس و الارواح.
و ذلك كله على النقيض تماماً من الغاية الاسمى من بعثة الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله) و هي الرحمة للجميع و على مر العصور، بنص القرآن الكريم.
و استلهاماً من هذه البصيرة القرآنية المهمة فان على الإنسان ـ و خصوصا المؤمن ـ ان يُقيّم وضعه باستمرار، فرجل الدين مثلا عليه ان يحلل باستمرار ما الذي يميّزه من مكارم الاخلاق في هذه المنطقة او في تلك الدولة؟ و كذلك الأستاذ الجامعي او التاجر عليه ان يدرس باستمرار انه بماذا يُعرف؟ فقد يعرف بالعلم أو البلاغة أو بالثراء والمال لكن الأهم من ذلك كله ان يعرف بالرحمة و ان يكون كذلك، أو ليس الله تعالى يقول: (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)؟.
لنتميز بالرحمة و الخدمة أولاً ثم بالعلم أو الانجازات
ان المفروض في الإنسان سواء أكان عالما او فقيها او خطيبا او استاذا جامعيا او كان رئيس الدولة او غير ذلك ان يكون أولاً و ان يعرف ثانياً بأنه إنسان رحيم كما كانت هذه الصفة صفة رسول الله (صلى الله عليه و آله).
احد العلماء شوهد مرارا عديدة و هو يمر على صاحب بسطة يبيع بعض الخضار ثم يتخير من خسّة أوراقه المهترئة و اردأ أنواعه و لا يختار الطازج و الطري منه!! فيأخذ منه الأوراق الخارجية منه و هي عادة ما تكون غير محبذة و يترك للبقال الأوراق الداخلية الطرية و الطازجة ثم انه يدفع له ثمن الجيد الطري!!
و قد سئل بعد ذلك عن علة هذا الفعل فقال: ان هذا البقال فقير و انا اريد ان اساعده و ادخل السرور في قلبه فاعمد الى شراء ما لاقيمة فيه كالخس الرديء حتى اعينه من خلال ذلك، و اما بالنسبة لي فان أكل الخس الردئ هو نوع – و لو بسيط – من ترويض النفس!
ان على الإنسان ان يجاهد نفسه ليكون مظهر الرحمة في البيت و الأسرة او في المحلة والمدينة او في الدائرة و المعمل و في أي زمان و في أي مكان بحيث يعرفه كل من يحيطون به انه إنسان رحيم عطوف لا يكف عن الحنوّ عليهم و الرحمة بهم و عندها سيكون اتصافه بهذه الصفة أفضل دعوة للدين و للقيم و مكارم الأخلاق.
و لقد تميز الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله) بسمو أخلاقه و عظيم رحمته حتى سماه قومه بالصادق الأمين و وصفه الله تعالى بالرؤوف الرحيم (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)([3])
و مما يؤكد ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه و آله): ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَ أَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي))([4])
و قوله (صلى الله عليه و آله) ايضا: ((خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاس))([5])
و قد قيل في تفسير الرحمة في قوله تعالى (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) انها: المنفعة([6])، أي و ما ارسلناك الا نافعا للعالمين، و سيأتي كيف ان الرسول (صلى الله عليه و آله) نفع العالمين جميعاً.
و قال الأمير (صلوات الله عليه) في رسالته لمالك الاشتر: "و اشعر قلبك الرحمة بالرعية" و هذا أمر مولوي([7]) صريح لمالك، و لكل وال أيضاً([8]) و يستفاد منه أيضاً ان على كل إنسان ان يشعر نفسه بالرحمة فيهتز قلبه عندما يسمع بوجود يتيم معدم في محلته او في المحلة المجاورة او عندما يرى فقيراً أو مسكيناً من افراد عشيرة او العشيرة الاخرى المجاورة او في أي مكان اخر من العالم.
او عندما يسمع بسجين او شهيد مغدور من شهداء المؤمنين .
و الانسان بطبعه يغفل و ينسى بل قد يقسو قلبه فلا يعود يكترث لما يصيب الاخرين من مصائب أو تحل بهم من قوارع و لذلك فانه يحتاج الى اشعار نفسه و تلقينها بالرحمة بالآخرين.
ان على كل واحد منا عندما يرى يتيما ان لا يمر عليه مرور الكرام بل ان يفكر لو ان ولده كان هو هذا اليتيم فكم سيكون ذلك مؤلماً؟، و عليه ان يستشعر حالة قلبه آنذاك؟ و هل هذه الحالة التي تعيشها الان و في هذه اللحظة هي نفس الحالة التي تستشعرها لو كنت أنت اليتيم أو البائس الفقير أم كنت بحالة اخرى من الانكسار؟
نعم (و أشعر قلبك الرحمة) و روّض قلبك على ذلك و املأه بالحنان و العطف و المحبة للآخرين خاصة الأيتام و الأرامل و النازحين و المرضى و المغدورين من قبل الأعداء او السجناء المظلومين و كل من ابتلوا ببلية في هذه الحياة الدنيا.
فلا بد إذاً من أن نربي أنفسنا و أبنائنا و ذوينا و كل من يتأثر بنا على الرحمة و الرأفة و لا بد من ان نجعل أول هدف لنا في التربية (لأنفسنا و لأولادنا و ذوينا) هو ان نجعلهم قطعة من الرحمة و النفع للناس الآخرين.
و من الأساسي جداً التأكيد على ان يقوموا بذلك كله بدافع الرحمة و الحنان و ليس من منطلق التفكير في المردود و العائد المادي البحت.
البصيرة الثانية: إنسانية الرسالة المحمدية و عالميتها.
يروى لنا التاريخ ان شخصاً حكيماً سمع عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله) فشد الرحال إلى المدينة ليقيّم الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله) عن قرب ليكتشف انه هل هو نبي حقيقة او هو ملك من الملوك اتخذ دعوى الرسالة وسيلة لما يروم! فراقبه عن كثب فرأى النبي (صلى الله عليه و آله) خارجا من المسجد.. و اذا بامرأة عجوز تستوقفه (صلى الله عليه و آله) لتسأله فوقف (صلى الله عليه و آله) لها و اطال الحديث معها و لم يمضِ لشأنه حتى تركته تلك المرأة العجوز! و هذا الموقف جدير بالتأمل و التدبر فان النبي (صلى الله عليه و آله) كان قائداً عسكرياً (إضافة الى نُبوّته) كما كان منتصراً في مختلف حروبه و كانت له كل مظاهر القوة و العظمة الظاهرية أيضاً (إضافة للواقعية الحقيقية) و كان يقود دولة فتية قوية و في حالة حرب ايضا و مع ذلك تلطف بتلك المرأة المسنة و قضى حاجتها و اجاب عن كل اسئلتها!!
و هنا قال ذلك الرجل الذي جاء ليقيم النبي (صلى الله عليه و آله): ان ذلك من أخلاق الأنبياء و ليس من أخلاق الملوك... فاسلم على يدي رسول الله (صلى الله عليه و آله).
نعم، (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، ان هذه الاية الشريفة ـ في بصيرتنا الثانية ـ تكشف عن أمرين:
فهي تكشف عن إنسانية الرسالة المحمدية كما تكشف عن عالميتها.
اما الإنسانية فان (الرحمة) هي الجذر لكل مظاهرها و هي الأساس لكل فروعها، و هذا يعني فيما يعني ان تكون الإنسانية اولا ثم تكون التشريعات و القوانين المنظمة للافراد و المجتمعات منبعثة عن هذا الاصل الأصيل و المقصد الأساس؛ فقد قال امير المؤمنين : ((فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق))([9])، و لذا نجد ان كافة تشريعات الدين الإسلامي تنطلق من منطلق الرحمة كما أشار إلى ذلك أيضاً صاحب الجواهر معبّراً باليسر و السعة في التشريعات([10])، الأمر الذي يكشف عن إنسانية الإسلام في شتى تشريعاته.
و أما العالمية: فهي صريح قوله تعالى: (للعالمين)
لنقيّم أنفسنا على ضوء مقياسي الرحمة و العالمية
و انطلاقاً من ذلك كله علينا ان نقيم أنفسنا على ضوء هذين الأصليين باستمرار (الرحمة و العالمية) فهل نحن رحماء بالاخرين من أي لون كانوا أو صنف و في شتى بقاع الأرض؟ و هل نتعامل معهم بكل انسانية و هل أصبحت الرحمة و الحنان و الخدمة كعلامة و ماركة و ميزة ظاهرة لنا؟
و لنتوقف ههنا عند مظهرين و محكّين و محطتين من أهم المحطات التي يظهر بها حالنا و مدى تميزنا و عدمه:
1- فهل الزائرون للنجف أو كربلاء أو الكاظمية أو سامراء و مشهد و المدينة المنورة و مكة المشرفة، عندما يلتقون بنا – في المحلات و الأسواق و الشوارع و المشاهد و غيرها – يرون فينا الرحمة و الخدمة كطابع مميز لكل أهالي البلد؟
2- الطلاب الجامعيون الذين يذهبون الى مدن اخرى غربية او شرقية غير مسلمة فما هو الانطباع الذي يكوّنونه في أذهان الآخرين عن الاسلام؟ هل سيكونون قطعة من الرحمة و الانسانية و النفع كما يريد الاسلام منهم ذلك بالفعل؟
إحدى البلدان المجاورة لنا ابتعثت مائة ألف طالب جامعي إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليدرسوا في جامعاتها! فما هو الانطباع الذي أوجوده في أذهان الناس هنالك؟ لقد كان باستطاعتهم ان يغيروا أكثر شباب كل تلك الدولة لو التزموا بالاخلاق الإسلامية و الرحمة الإنسانية و الخدمة التي دعا اليها و حث عليها الاسلام المحمدي الاصيل.
ان المشكلة هي اننا – غالباً – لسنا عالمييّن في التفكير و التخطيط و لا في التنفيذ و لا في التواصل، فما هو مدى تواصلنا مع جميع المسلمين, بل مع البشرية جمعاء؟ هل لنا من السعة و الشمولية في التواصل مع الآخرين بحيث نكسبهم الى جانبنا و الى جانب حقوقنا المشروعة؟
كلا، ان مما يؤسف له ان الكثير منا لا يزال ذا تفكير ضيق لا يتجاوز التفكير في المعيشة او القليل من الانجازات على الصعيد الفردي او المحلي و لا يخرج الى الفضاءات الواسعة المختلفة، ان تفكيرنا تفكير محلي وليس عالمياً ولا يزال متقوقعا على منطقته أو حدود بلده في أحسن الحالات.
و ذلك كله رغم ان الرسالة التي نحملها و نتحملها ـ و هي الاسلام ـ هي رسالة الرحمة و هي رسالة العالمية (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) و هي رسالة خالدة الى الأبد و لا تتحدد بزمان او مكان معينين.
و في المقابل نرى ان تفكير الاخرين – الذين يحكمون العالم – هو تفكير لا يتحدد بحدود، إذ انه تفكير عابر للقارات و البلدان، و كل تفكير هذا شانه فانه هو الذي سيتحكم بمصائر الأمم إذا وفر سائر العوامل؛ لانه تفكير عالمي اممي واسع!
و صفوة القول في البصيرة الثانية التي نستفيدها من الآية الكريمة هي: ان نكون عالميين في تفكيرنا و تخطيطنا، و ان تكون السمة المييزة لنا: ان نكون قمة في الرحمة و قمة في المنفعة و العطاء.
البصيرة الثالثة: هل الرحمة المهداة عامة ام خاصة بمن اتبع الهدى؟
في البصيرة الثالثة نجيب على تسائل مهم: كيف ان الرسول بعث و ارسل رحمة للعالمين في حين الكفار و الملحدين و المنافقين لا نصيب لهم من هذه الرحمة؟
و قد استشكل بعض المشركين على النبي ص بهذا الإشكال في زمانه عندما آذوه ثم زادوا في ايذاءه ثم ازدادوا عتوا و علوا و طغياناً و إيذاءاً فابتلاهم الله بالقحط حتى اضطروا (و لاحظوا درجة الاضطرار و شدته) إلى ان يأكلوا القراد([11]) (و من يتحمل ان يأكله!) و الوبر المخلوط بالدم (و من يعقل ان يستسيغه!)، و معنى ذلك أنهم اضطروا اشد درجات الاضطرار، الا انهم مع ذلك عاندوا و لجوا فلما ابتلاهم الله بالقحط حتى هذه الدرجة جاء وفد من قبل ابي سفيان الى النبي (صلى الله عليه و آله) و احتجوا عليه:
انت رحمة للعالمين فهل من مقتضى الرحمة ان نبتلى بمثل ما ابتلينا به و نحن قومك و عشيرتك؟!!
فهذا إذن هو موضع السؤال إذ من الواضح ان رحمة الرسول (صلى الله عليه و آله) في الواقع الخارجي شملت من اهتدى بهداه و تبع أوامره و نواهيه و لكن المتوهم يقول انها لم تشمل الجميع إذ لم تشمل كافة المسيحيين و اليهود و البوذيين و الملحدين و غيرهم؟ مع ان الآية صريحة حيث تقول: (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) أي للجميع و لم تقل و ما أرسلناك الا رحمة للمؤمنين او للمسلمين خاصة؟
و قد أجيب عن هذا السؤال بعدة وجوه و هناك وجوه غيرها يمكن ان تضاف إليها نذكر بعضها و نترك الباقي للمبحث اللاحق ان شاء الله تعالى:
1- رحمته (صلى الله عليه و آله) للعالمين تكوينية
1) و هو ما ذكره البعض و نضيف اليه بعض التطوير و هو ان يقال:
ان الرحمة للعالمين هي رحمة تكوينية فهي شاملة للجميع حتى الكفار منهم و ان عاندوا و لجوا، أي ان بعض انواع الرحمة قد شملتهم بلا شك و هي أنواع مهمة جداً و أساسية، و يرشد لأحد أنواعها في الحديث المشهور ((لولا الحجة لساخت الارض باهلها))
و قد ذكر المفسرون بعض مصاديق الرحمة التكوينية: ففي عهود الانبياء السابقين كان الانبياء اذا دعوا الناس الى الله تعالى و عاند المعاندون و لجوا، فان الله تعالى كان ينزل عليهم عذاب الاستئصال و الهلاك، فهناك الكثير من الامم اما خسف الله بها الأرض أو انها مسخت اما الى الدببة او الى القرود او الى العقارب و غير ذلك.
لكن هذا العذاب الرهيب رفع عن العالمين ببركة بعثة النبي محمد المصطفى (صلى الله عليه و آله) فقد رفعت هذه الأنواع من العذابات المختلفة من مسخ و خسف و استئصال و شبهها.
نعم قد يحصل احيانا زلزال يعقبه خسف في الأرض الا أن ذلك خسف جزئي مؤقت يحدث طبيعيا حسب حركة صفائح طبقات الارض و حسب المعادلات الطبيعية الجيلوجية و ليس بتدخل غيبي مباشر قاهر.
و بتعبير أخر: ان الرحمة للعالمين قد شملت الجميع حتى المعاندين منهم، و لولاها لعمتّهم صنوف و انواع من العذاب و منها و اهمها عذاب الاستئصال.
ففي عهود الأنبياء السابقين حدث ان قيل لهم مثلا (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)([12]) ثلاثة ايام فقط، اما في زمن الرسول (صلى الله عليه و آله) فقد سمح لهم بان يتمتعوا لمئات أو آلاف السنين لكن مع ذلك حيث كان الرسول و اهل بيته رحمة للعالمين فان هذه الرحمة قيّدت مقتضى العدل اذ كان مقتضى العدل غير ذلك كما هو واضح.
2- رحمة للعالمين بالتعريض و توفير مقوماتها
2) ان الرحمة تتقوم بتعريض الناس لها و توفير مقوماتها و تهيئة آلياتها و الأجواء الملائمة، لا بجبر الناس عليها فإذا لم ينتهزوا الفرصة الذهبية المتاحة لهم فالمشكلة فيهم و هم المقصرون حقاً.
توضيح ذلك بالمثال: اذا انتخب الناس شخصاً كرئيس للدولة فرأى الوضع المزري للناس من البطالة و الفقر و قلة الخدمات و غير ذلك فشكل لجنة من كبار الخبراء الاقتصاديين فوضعوا خططا متكاملة لحل مشكلة البطالة و الفقر ثم انه – أي الحاكم – التزم بتنفيذ الخطة فعبّد الشوارع و طرق المواصلات و شيّد المصانع و المعامل و اصلح جميع المرافق الحيوية و وفر فرص العمل و التوظيف و فتح باب السلف و القروض الميسرة غير الربحية لكل من يريد ان يفتتح مطبا او متجرا او مصنعا او غير ذلك فلا شك ان هذا الحاكم الحكيم يعد رحمة كبيرة لهذا البلد حيث وفر عوامل الانجاز و بواعث الانشغال و العمل...
لكن الشاب الكسول إذا لم يذهب ليتوظف و يعمل و لم يقم بأدنى جهد ليجتني الثمرة المهيأة أصلاً فبقي فقيرا معدما فلا شك ان المشكلة فيه و ليست في ذلك الحاكم الرحيم.
و الامر كذلك بالنسبة الى النبي الاكرم (صلى الله عليه و آله) فقد جاء بمنهج متكامل سياسيا و اقتصاديا و حقوقيا و في كل الحقول و أرى الناس السبيل و أرشدهم إلى الطريق و طبق كل ذلك عملياً في انموذج حكومته – و من ثَمَّ حكومة أمير المؤمنين و الإمام الحسن – المثالية في كل الجهات، و لو ان الناس التزموا بما جاء (صلى الله عليه و آله) به لتحولت الارض الى واحة خضراء بل الى المدينة الفاضلة بل إلى الجنة الواسعة قال تعالى: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَ الأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَ الأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)([13]) فالبشر هم من اعرض و انحرف عن جادة الصواب فالمشكلة فيهم و ليس في الرحمة الكبرى للعالمين.
مثال اخر: لو شاهد شخص كريم رحيم فقراء في المحلة ليس لهم من القوت الا الخبز اليابس فافتتح لهم مضيفا و ديوانا مفتوحا في كل يوم و وفّر فيه افضل الاطعمة و أفضل الخدمة و دعاهم بإلحاح و بأكبر قدر من الاحترام و التقدير، فلو ان هؤلاء الفقراء تكاسلوا و لم يذهبوا الى بيت ذلك الرجل المضياف فان ذلك لا يخدش أبداً بكونه رحمة كبيرة لهم فانهم هم الذين لم يأخذوا بها و تكاسلوا و رضوا بشيء من حطام الدنيا القليل.
من ملامح المخطط الاقتصادي لإمام المتقين
و قد وضع – و نفّذ – أمير المؤمنين ابان حكومته مخططاً اقتصاديا متكاملا كي لا يبقى في البلاد فقير واحد، و لا عاطل واحد عن العمل و لا شخص غير متزوج و قد حقق ذلك كله بالفعل مع كثرة المشاكل و الحروب التي تسبب بها الناكثون و القاسطون و المارقون و مع قصر مدة حكمه حيث كانت اربع سنوات و بضعة اشهر (و لا يوجد مثل هذه الحكومة على وجه الارض الى يومنا هذا) و لكن الناس هم الذين ضيّعوا حظهم بانقلابهم عليه كما انقلبوا على رسول الله (صلى الله عليه و آله) من قبل قال تعالى: (وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)([14]).
بل و فوق ذلك كله فان التاريخ يروي لنا ان الامام امر كل وال من ولاته ان يفرش سفرة عامة و يمد مائدة كبيرة جداً في الساحات المفتوحة، يوميا و لكل الناس في ولايته و يدعو الناس اليها كي لا يبقى فقير – إن وجد – أو حتى متكاسل أو غريب أو مضطر دون طعام جيد يومياً.
و في الكوفة بالذات كان الامام الحسن المجتبى مكلفا بالاستضافة بهذه السفرة و قد ذكر التاريخ: ان ما يقرب من عشرة الاف شخص كانوا يجتمعون على هذه السفرة، و هو عدد كبير جداً بمقياس تلك العصور.
و يروي المؤرخون أيضاً ان عشرة أصناف من الطعام كانت توضع على تلك الموائد و منها اللحم، و منها الدجاج، و منها السمك، في كل يوم وفي كل بلاد الاسلام!!
و لكن ماذا عن المسلمين الآن؟
هكذا كان الرسول و الأمير و اهل البيت رحمة للعالمين لكن الناس اعرضوا عنهم و سلموا مقاليد امورهم إلى من ينهب ثرواتهم و يبدد احلامهم و يسومهم سوء العذاب!! و لا يزالون كذلك فان الدول الاسلامية في هذه العصور تمتلا خزائنها من عائدات النفط و هي بعشرات المليارات بل بمئات المليارات و هي نعمة عظيمة جداً و لم يسبق طوال التاريخ ان حظيت أمم بمثل هذه الثروات الهائلة لكن اغلب المسلمين مع ذلك يعيشون تحت خط الفقر.
ثم الأغرب من ذلك انك تجد هذه الحكومات تفرض ضرائب جديدة على الناس أو تزيد السابقة سنة بعد سنة رغم ان الضرائب هي من أشد المحرمات حتى ورد في الأحاديث ان العشار (آخذ العشر كضريبة) لا يستجاب له الدعاء حتى في الاسحار التي يستجاب فيها الدعاء!
عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ فِي حَدِيثٍ ((أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لَهُ يَا نَوْفُ إِنَّ دَاوُدَ (عليه السلام) - قَامَ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ إِنَّهَا سَاعَةٌ لَا يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ شُرْطِيّاً أَوْ صَاحِبَ عَرْطَبَةٍ وَ هُوَ الطُّنْبُورُ أَوْ صَاحِبَ كُوبَةٍ وَ هُوَ الطَّبْلُ))([15]).
فصفوة القول: ان الرحمة الإلهية للعالمين متوفر من خلال رسول الله (صلى الله عليه و آله) و اهل بيته الكرام الا ان الناس اعرضوا عنها و تركوها الى غيرها و لم ياخذوا بها فالمشكلة إذا هي في القابل و ليست في الفاعل، و هذا ما يشير إليه عدد من المفسرين، قال في مجمع البيان: (و قيل: إن الوجه في أنه نعمة على الكافر أنه عرّضه للإيمان و الثواب الدائم، و هداه و إن لم يهتد كمن قدم الطعام إلى جائع فلم يأكل، فإنه منعم عليه، و إن لم يقبل...)([16]).
3) و هو ما أشار إليه أمير المؤمنين و هو جواب دقيق و لطيف و مما يؤسف له انه غير معروف و غير مطروح و سيأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.
المخطط الاستعماري الرهيب المثلث الأضلاع
في الختام نقول:
ان الاستعمار اخطبوط هائل بحوزته مخططات جهنمية مدمرة و متنوعة، و قد اكتشف الغرب و الصهيونية العالمية في العقود الأخيرة طريقة شيطانية جديدة متميزة لضرب الاسلام و المسلمين في الصميم و نعبر عنها بمركب ثلاثي الأضلاع:
أ- استثارة القوة المتخيلة لمعاداة الإسلام
الضلع الاول: هو استثارة القوة المتخيلة لدى البشر في معاداة الإسلام و المسلمين، و هي خطة ذكية جدا؛ لانها تخرج الأمر عن دائرة الفكر و الحجة، اذ الفكر يقارع بالفكر و الحجة و اذا كان الأمر كذلك فالغلبة للمؤمنين بلاشك ؛ لان حجتهم قوية و ناصعة، لكن ان يقارع الفكر (الدين الاسلامي) بطريق منحرف ملتوٍ و هو (القوة المتخيلة المخطط لاستثارتها بطريقة عدوانية ضد الإسلام و المسلمين) فقد تكون الغلبة للباطل الا ان يشاء الله تعالى.
ب- استثارة كوامن العاطفة
الضلع الثاني: استثارة كوامن العاطفة و بأقوى صورها، و هي غير القوة المتخيلة.
و يوضح ذلك المثال المعروف في (المنطق): و هو ان يقال: اذا كان في الغرفة شخص ميت فان الكثير من الناس يخافون من النوم الى جواره رغم انهم قد يحبونه أشد الحب (و هذه هي العاطفة) و ما ذلك الا لاستثارة القوة المتخيلة و التي توسوس لهم و تخوفهم من ذلك الميت مع انه لا حراك فيه و ليس له حياة اصلا و لا يقدر على الايذاء باي شكل من الاشكال.
ج- دمجهما بالمنعكس الشرطي
الضلع الثالث: استخدام المعادلة المعروفة في علم النفس و هي: (المنعكس الشرطي)
و لقد أغرب الغرب في استخدام هذه المعادلة فمن جهة استثار المتخيلة و وجهها ضد الاسلام و المسلمين في قوالب تجسيدية و من جهة اخرى هيج العاطفة و اثار كامن البغضاء الممنهجة، و من جهة ثالثة استعمل معادلة المنعكس الشرطي أغرب استخدام و أقواه.
فتمت لديه أضلاع ثلاثة محكمة، و هذا مركب ثلاثي خطير ندر ان يوجد مثله على مر التاريخ – بل لعله لا نظير له - لضرب الاسلام و المسلمين في الصميم بخطة من أغرب و أبشع الخطط الشيطانية.
لقد كان الغرب دائباً في تصوير المسلمين على أنهم همج رعاع لا يعرفون شيئا و لكنه لم يحصد من ذلك شيئاً كثيراً فاخترع ذلك المركب الثلاثي الغريب. و الانموذج الظاهر الواضح الذي تجسد فيه هذا الثلاثي هو خلق طالبان و القاعدة و بناتها من داعش و النصرة و غيرها و سلطوا عليها اسطع الأضواء من خلال السينما و الافلام و مقاطع الفديو المنتشرة في كل برامج الانترنيت و التلفاز.
فداعش مثلا تحرق الناس و هم احياء او ترميهم من اعلى العمارات بطريقة وحشية و يقام بتصوير ذلك كله بكل احترافية و منهجية و من خلال ذلك يقومون باستثارة مخيلة العالم، و يقال بعد ذلك للناس: ان الاسلام يساوي داعش و داعش تساوي الوحشية!
ان الغرب لو اراد مقارعتنا بالحجج لدحضناه بحججنا و براهيننا الساطعة و لكنه عمد الى طرق اخرى ملتوية لمقارعتنا و هو ان خلق وحوشاً طائشة تملأ أسماع و أبصار و أذهان الناس بالدماء و العنف و الوحشية و التفجيرات و الأحقاد و البربرية، و جعل ماركة هذه الوحوش ما قبل التاريخية هي (الإسلام الأصيل)!!
و كما ننظر نحن إلى (شمر بن ذي الجوشن) أو (حرملة) أو ينظر العالم إلى هتلر و موسليني، يجري الآن مخططهم الثلاثي الأضلاع لينظر الناس إلى الإسلام ككل كذلك باعتبار ان هذه النماذج المشوهة هي التجسيد الأقوى للإسلام.
الموقف الاستراتيجي السليم من شارلي ابيدو و سلمان رشدي و...
لقد استثار الغرب القوة المتخيلة بقوة وشدة من خلال ذلك و غيره من العشرات من الحلقات المتسلسلة التي تصب كلها في هذا المنحى من قضية سلمان رشدي الى احداث سبتمبر الى القاعدة الى داعش الى قضية شارلي ابيدو و التي طُبعت بعد ردة الفعل العنيفة غير المدروسة بل البلهاء، بثلاث ملايين نسخة رغم انها لم يكن يطبع منها إلا الألوف! و قد وقع أولئك المهاجمون و من ناصر طريقتهم في نفس الفخ الذي نصبه لهم الغرب و هو: استفزاز مشاعر المسلمين – بدعوى حرية الرأي!! – ليقع بعضهم في الفخ المعد مسبقاً: ردود فعل دموية تنتج صناعة صورة مخيفة عن الإسلام و المسلمين في أذهان العالم عبر استثارة العواطف القوية و عبر تحريك عنيف للقوة المتخيلة كل ذلك في معادلة المنعكس الشرطي.
و كان الاولى ان يقوم المسلمين ـ بعد صدور الرسوم المسيئة ـ بطباعة خمسة ملايين نسخة باللغة الفرنسية([17]) من كتاب يتحدث عن رحمة رسول الاسلام و عظمته و اهدافه السامية فكان يشكل ذلك اكبر دعوة للإسلام و أكبر رد على تلك الرسوم.
لكن الذي ارادوا ان يثبتوه في مخيلة العالم من خلال إحداث جريدة شارلي ابيدو: ان المسلمين وحوش تقتل و تفجر حتى من يكتب و يعبر عن رأيه!!
و لقد كان من الحكمة و التعقل ان تكون ردة الفعل اما ردة فعل ايجابية من خلال التعريف بالاسلام و المسلمين عبر ملايين الكتب و مئات الأفلام الوثائقية و غيرها أو في أسوأ الفروض: التجاهل و الإهمال لأن مثل هذه الجريدة و رسومها حيث تفتقد أدنى درجات المنطق و الإنسانية، ستأول الى مزبلة التاريخ و لا يكترث لها أحداً أبداً، يقول الشاعر:
لو كل كلب عوى القمته حجرا
لأصبح الصخر مثقالا بدينار!
و صدقوا – و إن كنت أرى ضرورة الرد الإيجابي الفعال عبر ملايين الإصدارات – انه لو تجاهل الناس هذه الجريدة لما سمع بها إلا أولئك البؤساء الذين يشترونها (و كانوا قبل ردة الفعل العنيفة ألوفاً فصاروا بعد ردة الفعل العنيفة بالملايين!).
و حتى مثل سلمان رشدي فانه كتب كتب عديدة و لم يأبه به احد! و لم يعرفه أحد لكن ردة الفعل عليه من قبل المسلمين جعلت منه كتابا عالمياً تطبع منه ملايين النسخ! و كان من المقدر لهذا الكتاب – لأنه لا يمتلك أي مضمون علمي و لا أخلاقي و لا قيمة تاريخية له أبداً – ان يلتحق بنظيراته في زوايا المكتبات لتنسج عليه العنكبوت خيوطها! لكن إصدار فتوى بقتله هي التي جعلت الملايين من الناس تتلاحق لقراءة كتابه! و ما الذي جنيناه من الفتوى بالقتل؟ أليس إلا تكريس سمة العنف و الإرهاب في أذهان العالم بدل ان نجيب على كتابه – لو كنا صادقين – بطباعة مائة مليون كتاب عن الآيات الرحمانية؟
خلاصة القول: ان الاساءة الى النبي (صلى الله عليه و آله) أو إلى أي مقدس من مقدساتنا لهو من اعظم الجرائم لكن الكلام هو في كيفية التعامل معها؟ لا مناص إلا من التصدي لردها بكل حكمة و منطقية بحيث نقلب من خلال ردودنا المدروسة الأمر عليهم و نجعل من اسائتهم فرصة للترويج و للدفاع عن حقوقنا و شعائرنا و مقدساتنا فنثبت رحمة الاسلام كما قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...)، و الله المستعان.
و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و اله الطيبين الطاهرين
* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/writer10-
.................................
([1]) الانبياء 107
([2]) الفتح 29
([3]) التوبة: 128.
([4]) من لا يحضره الفقيه: ج3 ص555.
([5]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل ج12 ص391.
([6]) على تأمل في ذلك سيأتي بإذن الله تعالى.
([7]) حسب المختار في تعريف المولوي ووجهه كما فصلناه في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية).
([8]) فان الحكم عام وان كان طرف الخطاب شخصاً.
([9]) نهج البلاغة 427.
([10]) نقلنا كلام صاحب الجواهر حول قاعدة اليسر في بحوث العام الماضي، فراجع.
([11]) وهي حشرة تنمو على بدن الابل.
([12]) هود: 65.
([13]) الاعراف: 96.
([14]) آل عمران: 144.
([15]) وسائل الشيعة ج7 ص78.
([16]) تفسير مجمع البيان ج7 ص121.
([17]) ومائة مليون على الأقل بسائر اللغات.
.......
الموضوع يعبر عن الكاتب و ليس منتدى جوهرة الونشريس
شبكة النبأ المعلوماتية
2015-4-9
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء و المرسلين، ثم الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا و حبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد و على أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، و اللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، و لا حول و لا قوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول تبارك وتعالى:
(وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)([1])
و يقول جل اسمه:
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)([2])
الحديث يدور في هذه السلسلة من المباحث القادمة ـ بإذن الله تعالى ـ حول بعض البصائر القرآنية الكريمة التي تتعلق بهاتين الآيتين الكريمتين منطلقين من قوله تعالى: (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) حيث ان تلك الآية من سورة الفتح تندرج في إطار هذه الآية الكريمة كما سيتضح لاحقا ان شاء الله تعالى.
و هذه مجموعة من البصائر في هذه الآية الكريمة:
1) الآية تبين احد اهم مقاصد الشريعة و غاياتها: (الرحمة للعالمين)
إن الآية الشريفة تكشف عن واحد من أهم ـ ان لم يكن الأهم مطلقا ـ مقاصد الشريعة و أهدافها و غاياتها و عللها العامة إذ يقول جل اسمه (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) فهذا هو المقصد الاسمى من بعثة و إرسال الرسول الاكرم محمد المصطفى (صلى الله عليه و آله).
ما هي السمة التي تميز مسلمي العالم؟
ان من المعروف ان كل تجمّع أو شخص، له علامة او سمة مميزة تميزه عن غيره او له شعار او مظهر يوصف به، و الامر جارٍ في الشعوب و البلدان و الأمم و الحضارات، فمثلا الصناعة اليابانية تميزها سمة الإتقان و الإحكام كما يوصفون هم بالوداعة و السلام، و في المقابل فانه عندما يخطر في بال احدنا اسم الحكومة البريطانية فان اول شيء يقفز الى الذهن هو التآمر و الاستعمار!! لان البريطانيين على مر التاريخ كان يحوكون المؤامرات و المكائد للأمم و الشعوب و ما شعب فلسطين عنا ببعيد!
و لكن ماذا عندما يذكر اسم المسلم؟ و ما هو أول أمرٍ يخطر في بال أهل العالم؟
يقال: اذا اجتمع خمسة يابانيين فانهم سينتجون اختراعا! و اذا اجتمع خمسة بريطانيين فانهم يحوكون مؤامرة! و اذا اجتمع خمسة من المسلمين فانهم سيشكلون خمسة أحزاب و خمس جبهات و خمس نزاعات و غير ذلك!!
و بالطبع فان هذا مجرد مثل ليس الا... إذ من الواضح ان الكثير من المسلمين يتميزون بالطهارة و النزاهة و الورع و التقوى لكن الانطباع العام في الرأي العام العالمي عنهم هو التقاطع و التدابر و عدم الانسجام كما نشاهد ملامحه جليّة في العالمين العربي و الإسلامي.
و صفوة القول ان كل شيء له سمة تميزه و نعطي انطباعا عاماً، سلبياً أو إيجابياً.
ما هي السمة التي ميزت الرسول المصطفى (صلى الله عليه و آله)؟
و لكن ما هي سمة و علامة و ميّزة نبينا المصطفى محمد (صلى الله عليه و آله) عنه؟
ان الله تعالى يميز نبيه بعلامة فارقة لم يتميز بها أحد أبداً كما تميز بها هو (صلى الله عليه و آله) و هي (الرحمة للعالمين).
و اللافت للنظر ان الله تعالى لم يميزه بصفة أخرى حتى بمثل العدل و الذي هو من أجلى المستقلات العقلية، و رغم انه من اعظم الصفات المطلوبة على الاطلاق انه الا رغم ذلك لم يقل تعالى لنبيه (صلى الله عليه و آله) و ما أرسلناك الا لإقامة العدل أو الا للعدل بل قال (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
و من ذلك نعرف ان الرحمة هي ميّزة تسمو على العدل و هي افضل منه و ان كانت هناك حدود بينهما و مجال خاص – في الجملة – لكل منهما كما ستاتي الاشارة اليها في المستقبل ان شاء الله تعالى.
ثم ان ظاهر الحصر في الآية (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) انه حصر حقيقي، و الاستثناء استثناء تام، بمعنى: ليس الارسال الا لاجل الرحمة و للعالمين باجمعهم!
و في ذلك رسالة كبيرة الى كافة أهل العالم بل إلى العالمين جميعاً!
و الآن لنرجع إلى أنفسنا و لنسأل: ما هي السمة التي تميز المسلمين في العالم؟!! هل هي السمة التي تميز بها رسول الله (صلى الله عليه و آله) و هي الرحمة؟! ام هي سمة العنف و الحروب و الدمار و القتل الارهاب التي ألقت بظلالها على المسلمين جميعاً
ان العالم اليوم لا يعرف المسلمين بالرحمة و الانسانية و حقوق الانسان، بل ان العالم اليوم يعرف المسلمين اما بالجهل و التخلف أو بالاستبداد و سحق الحريات، او بالإرهاب الدموي الذي تشمئز منه النفوس و الارواح.
و ذلك كله على النقيض تماماً من الغاية الاسمى من بعثة الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله) و هي الرحمة للجميع و على مر العصور، بنص القرآن الكريم.
و استلهاماً من هذه البصيرة القرآنية المهمة فان على الإنسان ـ و خصوصا المؤمن ـ ان يُقيّم وضعه باستمرار، فرجل الدين مثلا عليه ان يحلل باستمرار ما الذي يميّزه من مكارم الاخلاق في هذه المنطقة او في تلك الدولة؟ و كذلك الأستاذ الجامعي او التاجر عليه ان يدرس باستمرار انه بماذا يُعرف؟ فقد يعرف بالعلم أو البلاغة أو بالثراء والمال لكن الأهم من ذلك كله ان يعرف بالرحمة و ان يكون كذلك، أو ليس الله تعالى يقول: (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)؟.
لنتميز بالرحمة و الخدمة أولاً ثم بالعلم أو الانجازات
ان المفروض في الإنسان سواء أكان عالما او فقيها او خطيبا او استاذا جامعيا او كان رئيس الدولة او غير ذلك ان يكون أولاً و ان يعرف ثانياً بأنه إنسان رحيم كما كانت هذه الصفة صفة رسول الله (صلى الله عليه و آله).
احد العلماء شوهد مرارا عديدة و هو يمر على صاحب بسطة يبيع بعض الخضار ثم يتخير من خسّة أوراقه المهترئة و اردأ أنواعه و لا يختار الطازج و الطري منه!! فيأخذ منه الأوراق الخارجية منه و هي عادة ما تكون غير محبذة و يترك للبقال الأوراق الداخلية الطرية و الطازجة ثم انه يدفع له ثمن الجيد الطري!!
و قد سئل بعد ذلك عن علة هذا الفعل فقال: ان هذا البقال فقير و انا اريد ان اساعده و ادخل السرور في قلبه فاعمد الى شراء ما لاقيمة فيه كالخس الرديء حتى اعينه من خلال ذلك، و اما بالنسبة لي فان أكل الخس الردئ هو نوع – و لو بسيط – من ترويض النفس!
ان على الإنسان ان يجاهد نفسه ليكون مظهر الرحمة في البيت و الأسرة او في المحلة والمدينة او في الدائرة و المعمل و في أي زمان و في أي مكان بحيث يعرفه كل من يحيطون به انه إنسان رحيم عطوف لا يكف عن الحنوّ عليهم و الرحمة بهم و عندها سيكون اتصافه بهذه الصفة أفضل دعوة للدين و للقيم و مكارم الأخلاق.
و لقد تميز الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله) بسمو أخلاقه و عظيم رحمته حتى سماه قومه بالصادق الأمين و وصفه الله تعالى بالرؤوف الرحيم (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)([3])
و مما يؤكد ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه و آله): ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَ أَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي))([4])
و قوله (صلى الله عليه و آله) ايضا: ((خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاس))([5])
و قد قيل في تفسير الرحمة في قوله تعالى (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) انها: المنفعة([6])، أي و ما ارسلناك الا نافعا للعالمين، و سيأتي كيف ان الرسول (صلى الله عليه و آله) نفع العالمين جميعاً.
و قال الأمير (صلوات الله عليه) في رسالته لمالك الاشتر: "و اشعر قلبك الرحمة بالرعية" و هذا أمر مولوي([7]) صريح لمالك، و لكل وال أيضاً([8]) و يستفاد منه أيضاً ان على كل إنسان ان يشعر نفسه بالرحمة فيهتز قلبه عندما يسمع بوجود يتيم معدم في محلته او في المحلة المجاورة او عندما يرى فقيراً أو مسكيناً من افراد عشيرة او العشيرة الاخرى المجاورة او في أي مكان اخر من العالم.
او عندما يسمع بسجين او شهيد مغدور من شهداء المؤمنين .
و الانسان بطبعه يغفل و ينسى بل قد يقسو قلبه فلا يعود يكترث لما يصيب الاخرين من مصائب أو تحل بهم من قوارع و لذلك فانه يحتاج الى اشعار نفسه و تلقينها بالرحمة بالآخرين.
ان على كل واحد منا عندما يرى يتيما ان لا يمر عليه مرور الكرام بل ان يفكر لو ان ولده كان هو هذا اليتيم فكم سيكون ذلك مؤلماً؟، و عليه ان يستشعر حالة قلبه آنذاك؟ و هل هذه الحالة التي تعيشها الان و في هذه اللحظة هي نفس الحالة التي تستشعرها لو كنت أنت اليتيم أو البائس الفقير أم كنت بحالة اخرى من الانكسار؟
نعم (و أشعر قلبك الرحمة) و روّض قلبك على ذلك و املأه بالحنان و العطف و المحبة للآخرين خاصة الأيتام و الأرامل و النازحين و المرضى و المغدورين من قبل الأعداء او السجناء المظلومين و كل من ابتلوا ببلية في هذه الحياة الدنيا.
فلا بد إذاً من أن نربي أنفسنا و أبنائنا و ذوينا و كل من يتأثر بنا على الرحمة و الرأفة و لا بد من ان نجعل أول هدف لنا في التربية (لأنفسنا و لأولادنا و ذوينا) هو ان نجعلهم قطعة من الرحمة و النفع للناس الآخرين.
و من الأساسي جداً التأكيد على ان يقوموا بذلك كله بدافع الرحمة و الحنان و ليس من منطلق التفكير في المردود و العائد المادي البحت.
البصيرة الثانية: إنسانية الرسالة المحمدية و عالميتها.
يروى لنا التاريخ ان شخصاً حكيماً سمع عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله) فشد الرحال إلى المدينة ليقيّم الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله) عن قرب ليكتشف انه هل هو نبي حقيقة او هو ملك من الملوك اتخذ دعوى الرسالة وسيلة لما يروم! فراقبه عن كثب فرأى النبي (صلى الله عليه و آله) خارجا من المسجد.. و اذا بامرأة عجوز تستوقفه (صلى الله عليه و آله) لتسأله فوقف (صلى الله عليه و آله) لها و اطال الحديث معها و لم يمضِ لشأنه حتى تركته تلك المرأة العجوز! و هذا الموقف جدير بالتأمل و التدبر فان النبي (صلى الله عليه و آله) كان قائداً عسكرياً (إضافة الى نُبوّته) كما كان منتصراً في مختلف حروبه و كانت له كل مظاهر القوة و العظمة الظاهرية أيضاً (إضافة للواقعية الحقيقية) و كان يقود دولة فتية قوية و في حالة حرب ايضا و مع ذلك تلطف بتلك المرأة المسنة و قضى حاجتها و اجاب عن كل اسئلتها!!
و هنا قال ذلك الرجل الذي جاء ليقيم النبي (صلى الله عليه و آله): ان ذلك من أخلاق الأنبياء و ليس من أخلاق الملوك... فاسلم على يدي رسول الله (صلى الله عليه و آله).
نعم، (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، ان هذه الاية الشريفة ـ في بصيرتنا الثانية ـ تكشف عن أمرين:
فهي تكشف عن إنسانية الرسالة المحمدية كما تكشف عن عالميتها.
اما الإنسانية فان (الرحمة) هي الجذر لكل مظاهرها و هي الأساس لكل فروعها، و هذا يعني فيما يعني ان تكون الإنسانية اولا ثم تكون التشريعات و القوانين المنظمة للافراد و المجتمعات منبعثة عن هذا الاصل الأصيل و المقصد الأساس؛ فقد قال امير المؤمنين : ((فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق))([9])، و لذا نجد ان كافة تشريعات الدين الإسلامي تنطلق من منطلق الرحمة كما أشار إلى ذلك أيضاً صاحب الجواهر معبّراً باليسر و السعة في التشريعات([10])، الأمر الذي يكشف عن إنسانية الإسلام في شتى تشريعاته.
و أما العالمية: فهي صريح قوله تعالى: (للعالمين)
لنقيّم أنفسنا على ضوء مقياسي الرحمة و العالمية
و انطلاقاً من ذلك كله علينا ان نقيم أنفسنا على ضوء هذين الأصليين باستمرار (الرحمة و العالمية) فهل نحن رحماء بالاخرين من أي لون كانوا أو صنف و في شتى بقاع الأرض؟ و هل نتعامل معهم بكل انسانية و هل أصبحت الرحمة و الحنان و الخدمة كعلامة و ماركة و ميزة ظاهرة لنا؟
و لنتوقف ههنا عند مظهرين و محكّين و محطتين من أهم المحطات التي يظهر بها حالنا و مدى تميزنا و عدمه:
1- فهل الزائرون للنجف أو كربلاء أو الكاظمية أو سامراء و مشهد و المدينة المنورة و مكة المشرفة، عندما يلتقون بنا – في المحلات و الأسواق و الشوارع و المشاهد و غيرها – يرون فينا الرحمة و الخدمة كطابع مميز لكل أهالي البلد؟
2- الطلاب الجامعيون الذين يذهبون الى مدن اخرى غربية او شرقية غير مسلمة فما هو الانطباع الذي يكوّنونه في أذهان الآخرين عن الاسلام؟ هل سيكونون قطعة من الرحمة و الانسانية و النفع كما يريد الاسلام منهم ذلك بالفعل؟
إحدى البلدان المجاورة لنا ابتعثت مائة ألف طالب جامعي إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليدرسوا في جامعاتها! فما هو الانطباع الذي أوجوده في أذهان الناس هنالك؟ لقد كان باستطاعتهم ان يغيروا أكثر شباب كل تلك الدولة لو التزموا بالاخلاق الإسلامية و الرحمة الإنسانية و الخدمة التي دعا اليها و حث عليها الاسلام المحمدي الاصيل.
ان المشكلة هي اننا – غالباً – لسنا عالمييّن في التفكير و التخطيط و لا في التنفيذ و لا في التواصل، فما هو مدى تواصلنا مع جميع المسلمين, بل مع البشرية جمعاء؟ هل لنا من السعة و الشمولية في التواصل مع الآخرين بحيث نكسبهم الى جانبنا و الى جانب حقوقنا المشروعة؟
كلا، ان مما يؤسف له ان الكثير منا لا يزال ذا تفكير ضيق لا يتجاوز التفكير في المعيشة او القليل من الانجازات على الصعيد الفردي او المحلي و لا يخرج الى الفضاءات الواسعة المختلفة، ان تفكيرنا تفكير محلي وليس عالمياً ولا يزال متقوقعا على منطقته أو حدود بلده في أحسن الحالات.
و ذلك كله رغم ان الرسالة التي نحملها و نتحملها ـ و هي الاسلام ـ هي رسالة الرحمة و هي رسالة العالمية (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) و هي رسالة خالدة الى الأبد و لا تتحدد بزمان او مكان معينين.
و في المقابل نرى ان تفكير الاخرين – الذين يحكمون العالم – هو تفكير لا يتحدد بحدود، إذ انه تفكير عابر للقارات و البلدان، و كل تفكير هذا شانه فانه هو الذي سيتحكم بمصائر الأمم إذا وفر سائر العوامل؛ لانه تفكير عالمي اممي واسع!
و صفوة القول في البصيرة الثانية التي نستفيدها من الآية الكريمة هي: ان نكون عالميين في تفكيرنا و تخطيطنا، و ان تكون السمة المييزة لنا: ان نكون قمة في الرحمة و قمة في المنفعة و العطاء.
البصيرة الثالثة: هل الرحمة المهداة عامة ام خاصة بمن اتبع الهدى؟
في البصيرة الثالثة نجيب على تسائل مهم: كيف ان الرسول بعث و ارسل رحمة للعالمين في حين الكفار و الملحدين و المنافقين لا نصيب لهم من هذه الرحمة؟
و قد استشكل بعض المشركين على النبي ص بهذا الإشكال في زمانه عندما آذوه ثم زادوا في ايذاءه ثم ازدادوا عتوا و علوا و طغياناً و إيذاءاً فابتلاهم الله بالقحط حتى اضطروا (و لاحظوا درجة الاضطرار و شدته) إلى ان يأكلوا القراد([11]) (و من يتحمل ان يأكله!) و الوبر المخلوط بالدم (و من يعقل ان يستسيغه!)، و معنى ذلك أنهم اضطروا اشد درجات الاضطرار، الا انهم مع ذلك عاندوا و لجوا فلما ابتلاهم الله بالقحط حتى هذه الدرجة جاء وفد من قبل ابي سفيان الى النبي (صلى الله عليه و آله) و احتجوا عليه:
انت رحمة للعالمين فهل من مقتضى الرحمة ان نبتلى بمثل ما ابتلينا به و نحن قومك و عشيرتك؟!!
فهذا إذن هو موضع السؤال إذ من الواضح ان رحمة الرسول (صلى الله عليه و آله) في الواقع الخارجي شملت من اهتدى بهداه و تبع أوامره و نواهيه و لكن المتوهم يقول انها لم تشمل الجميع إذ لم تشمل كافة المسيحيين و اليهود و البوذيين و الملحدين و غيرهم؟ مع ان الآية صريحة حيث تقول: (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) أي للجميع و لم تقل و ما أرسلناك الا رحمة للمؤمنين او للمسلمين خاصة؟
و قد أجيب عن هذا السؤال بعدة وجوه و هناك وجوه غيرها يمكن ان تضاف إليها نذكر بعضها و نترك الباقي للمبحث اللاحق ان شاء الله تعالى:
1- رحمته (صلى الله عليه و آله) للعالمين تكوينية
1) و هو ما ذكره البعض و نضيف اليه بعض التطوير و هو ان يقال:
ان الرحمة للعالمين هي رحمة تكوينية فهي شاملة للجميع حتى الكفار منهم و ان عاندوا و لجوا، أي ان بعض انواع الرحمة قد شملتهم بلا شك و هي أنواع مهمة جداً و أساسية، و يرشد لأحد أنواعها في الحديث المشهور ((لولا الحجة لساخت الارض باهلها))
و قد ذكر المفسرون بعض مصاديق الرحمة التكوينية: ففي عهود الانبياء السابقين كان الانبياء اذا دعوا الناس الى الله تعالى و عاند المعاندون و لجوا، فان الله تعالى كان ينزل عليهم عذاب الاستئصال و الهلاك، فهناك الكثير من الامم اما خسف الله بها الأرض أو انها مسخت اما الى الدببة او الى القرود او الى العقارب و غير ذلك.
لكن هذا العذاب الرهيب رفع عن العالمين ببركة بعثة النبي محمد المصطفى (صلى الله عليه و آله) فقد رفعت هذه الأنواع من العذابات المختلفة من مسخ و خسف و استئصال و شبهها.
نعم قد يحصل احيانا زلزال يعقبه خسف في الأرض الا أن ذلك خسف جزئي مؤقت يحدث طبيعيا حسب حركة صفائح طبقات الارض و حسب المعادلات الطبيعية الجيلوجية و ليس بتدخل غيبي مباشر قاهر.
و بتعبير أخر: ان الرحمة للعالمين قد شملت الجميع حتى المعاندين منهم، و لولاها لعمتّهم صنوف و انواع من العذاب و منها و اهمها عذاب الاستئصال.
ففي عهود الأنبياء السابقين حدث ان قيل لهم مثلا (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)([12]) ثلاثة ايام فقط، اما في زمن الرسول (صلى الله عليه و آله) فقد سمح لهم بان يتمتعوا لمئات أو آلاف السنين لكن مع ذلك حيث كان الرسول و اهل بيته رحمة للعالمين فان هذه الرحمة قيّدت مقتضى العدل اذ كان مقتضى العدل غير ذلك كما هو واضح.
2- رحمة للعالمين بالتعريض و توفير مقوماتها
2) ان الرحمة تتقوم بتعريض الناس لها و توفير مقوماتها و تهيئة آلياتها و الأجواء الملائمة، لا بجبر الناس عليها فإذا لم ينتهزوا الفرصة الذهبية المتاحة لهم فالمشكلة فيهم و هم المقصرون حقاً.
توضيح ذلك بالمثال: اذا انتخب الناس شخصاً كرئيس للدولة فرأى الوضع المزري للناس من البطالة و الفقر و قلة الخدمات و غير ذلك فشكل لجنة من كبار الخبراء الاقتصاديين فوضعوا خططا متكاملة لحل مشكلة البطالة و الفقر ثم انه – أي الحاكم – التزم بتنفيذ الخطة فعبّد الشوارع و طرق المواصلات و شيّد المصانع و المعامل و اصلح جميع المرافق الحيوية و وفر فرص العمل و التوظيف و فتح باب السلف و القروض الميسرة غير الربحية لكل من يريد ان يفتتح مطبا او متجرا او مصنعا او غير ذلك فلا شك ان هذا الحاكم الحكيم يعد رحمة كبيرة لهذا البلد حيث وفر عوامل الانجاز و بواعث الانشغال و العمل...
لكن الشاب الكسول إذا لم يذهب ليتوظف و يعمل و لم يقم بأدنى جهد ليجتني الثمرة المهيأة أصلاً فبقي فقيرا معدما فلا شك ان المشكلة فيه و ليست في ذلك الحاكم الرحيم.
و الامر كذلك بالنسبة الى النبي الاكرم (صلى الله عليه و آله) فقد جاء بمنهج متكامل سياسيا و اقتصاديا و حقوقيا و في كل الحقول و أرى الناس السبيل و أرشدهم إلى الطريق و طبق كل ذلك عملياً في انموذج حكومته – و من ثَمَّ حكومة أمير المؤمنين و الإمام الحسن – المثالية في كل الجهات، و لو ان الناس التزموا بما جاء (صلى الله عليه و آله) به لتحولت الارض الى واحة خضراء بل الى المدينة الفاضلة بل إلى الجنة الواسعة قال تعالى: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَ الأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَ الأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)([13]) فالبشر هم من اعرض و انحرف عن جادة الصواب فالمشكلة فيهم و ليس في الرحمة الكبرى للعالمين.
مثال اخر: لو شاهد شخص كريم رحيم فقراء في المحلة ليس لهم من القوت الا الخبز اليابس فافتتح لهم مضيفا و ديوانا مفتوحا في كل يوم و وفّر فيه افضل الاطعمة و أفضل الخدمة و دعاهم بإلحاح و بأكبر قدر من الاحترام و التقدير، فلو ان هؤلاء الفقراء تكاسلوا و لم يذهبوا الى بيت ذلك الرجل المضياف فان ذلك لا يخدش أبداً بكونه رحمة كبيرة لهم فانهم هم الذين لم يأخذوا بها و تكاسلوا و رضوا بشيء من حطام الدنيا القليل.
من ملامح المخطط الاقتصادي لإمام المتقين
و قد وضع – و نفّذ – أمير المؤمنين ابان حكومته مخططاً اقتصاديا متكاملا كي لا يبقى في البلاد فقير واحد، و لا عاطل واحد عن العمل و لا شخص غير متزوج و قد حقق ذلك كله بالفعل مع كثرة المشاكل و الحروب التي تسبب بها الناكثون و القاسطون و المارقون و مع قصر مدة حكمه حيث كانت اربع سنوات و بضعة اشهر (و لا يوجد مثل هذه الحكومة على وجه الارض الى يومنا هذا) و لكن الناس هم الذين ضيّعوا حظهم بانقلابهم عليه كما انقلبوا على رسول الله (صلى الله عليه و آله) من قبل قال تعالى: (وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)([14]).
بل و فوق ذلك كله فان التاريخ يروي لنا ان الامام امر كل وال من ولاته ان يفرش سفرة عامة و يمد مائدة كبيرة جداً في الساحات المفتوحة، يوميا و لكل الناس في ولايته و يدعو الناس اليها كي لا يبقى فقير – إن وجد – أو حتى متكاسل أو غريب أو مضطر دون طعام جيد يومياً.
و في الكوفة بالذات كان الامام الحسن المجتبى مكلفا بالاستضافة بهذه السفرة و قد ذكر التاريخ: ان ما يقرب من عشرة الاف شخص كانوا يجتمعون على هذه السفرة، و هو عدد كبير جداً بمقياس تلك العصور.
و يروي المؤرخون أيضاً ان عشرة أصناف من الطعام كانت توضع على تلك الموائد و منها اللحم، و منها الدجاج، و منها السمك، في كل يوم وفي كل بلاد الاسلام!!
و لكن ماذا عن المسلمين الآن؟
هكذا كان الرسول و الأمير و اهل البيت رحمة للعالمين لكن الناس اعرضوا عنهم و سلموا مقاليد امورهم إلى من ينهب ثرواتهم و يبدد احلامهم و يسومهم سوء العذاب!! و لا يزالون كذلك فان الدول الاسلامية في هذه العصور تمتلا خزائنها من عائدات النفط و هي بعشرات المليارات بل بمئات المليارات و هي نعمة عظيمة جداً و لم يسبق طوال التاريخ ان حظيت أمم بمثل هذه الثروات الهائلة لكن اغلب المسلمين مع ذلك يعيشون تحت خط الفقر.
ثم الأغرب من ذلك انك تجد هذه الحكومات تفرض ضرائب جديدة على الناس أو تزيد السابقة سنة بعد سنة رغم ان الضرائب هي من أشد المحرمات حتى ورد في الأحاديث ان العشار (آخذ العشر كضريبة) لا يستجاب له الدعاء حتى في الاسحار التي يستجاب فيها الدعاء!
عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ فِي حَدِيثٍ ((أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لَهُ يَا نَوْفُ إِنَّ دَاوُدَ (عليه السلام) - قَامَ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ إِنَّهَا سَاعَةٌ لَا يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ شُرْطِيّاً أَوْ صَاحِبَ عَرْطَبَةٍ وَ هُوَ الطُّنْبُورُ أَوْ صَاحِبَ كُوبَةٍ وَ هُوَ الطَّبْلُ))([15]).
فصفوة القول: ان الرحمة الإلهية للعالمين متوفر من خلال رسول الله (صلى الله عليه و آله) و اهل بيته الكرام الا ان الناس اعرضوا عنها و تركوها الى غيرها و لم ياخذوا بها فالمشكلة إذا هي في القابل و ليست في الفاعل، و هذا ما يشير إليه عدد من المفسرين، قال في مجمع البيان: (و قيل: إن الوجه في أنه نعمة على الكافر أنه عرّضه للإيمان و الثواب الدائم، و هداه و إن لم يهتد كمن قدم الطعام إلى جائع فلم يأكل، فإنه منعم عليه، و إن لم يقبل...)([16]).
3) و هو ما أشار إليه أمير المؤمنين و هو جواب دقيق و لطيف و مما يؤسف له انه غير معروف و غير مطروح و سيأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.
المخطط الاستعماري الرهيب المثلث الأضلاع
في الختام نقول:
ان الاستعمار اخطبوط هائل بحوزته مخططات جهنمية مدمرة و متنوعة، و قد اكتشف الغرب و الصهيونية العالمية في العقود الأخيرة طريقة شيطانية جديدة متميزة لضرب الاسلام و المسلمين في الصميم و نعبر عنها بمركب ثلاثي الأضلاع:
أ- استثارة القوة المتخيلة لمعاداة الإسلام
الضلع الاول: هو استثارة القوة المتخيلة لدى البشر في معاداة الإسلام و المسلمين، و هي خطة ذكية جدا؛ لانها تخرج الأمر عن دائرة الفكر و الحجة، اذ الفكر يقارع بالفكر و الحجة و اذا كان الأمر كذلك فالغلبة للمؤمنين بلاشك ؛ لان حجتهم قوية و ناصعة، لكن ان يقارع الفكر (الدين الاسلامي) بطريق منحرف ملتوٍ و هو (القوة المتخيلة المخطط لاستثارتها بطريقة عدوانية ضد الإسلام و المسلمين) فقد تكون الغلبة للباطل الا ان يشاء الله تعالى.
ب- استثارة كوامن العاطفة
الضلع الثاني: استثارة كوامن العاطفة و بأقوى صورها، و هي غير القوة المتخيلة.
و يوضح ذلك المثال المعروف في (المنطق): و هو ان يقال: اذا كان في الغرفة شخص ميت فان الكثير من الناس يخافون من النوم الى جواره رغم انهم قد يحبونه أشد الحب (و هذه هي العاطفة) و ما ذلك الا لاستثارة القوة المتخيلة و التي توسوس لهم و تخوفهم من ذلك الميت مع انه لا حراك فيه و ليس له حياة اصلا و لا يقدر على الايذاء باي شكل من الاشكال.
ج- دمجهما بالمنعكس الشرطي
الضلع الثالث: استخدام المعادلة المعروفة في علم النفس و هي: (المنعكس الشرطي)
و لقد أغرب الغرب في استخدام هذه المعادلة فمن جهة استثار المتخيلة و وجهها ضد الاسلام و المسلمين في قوالب تجسيدية و من جهة اخرى هيج العاطفة و اثار كامن البغضاء الممنهجة، و من جهة ثالثة استعمل معادلة المنعكس الشرطي أغرب استخدام و أقواه.
فتمت لديه أضلاع ثلاثة محكمة، و هذا مركب ثلاثي خطير ندر ان يوجد مثله على مر التاريخ – بل لعله لا نظير له - لضرب الاسلام و المسلمين في الصميم بخطة من أغرب و أبشع الخطط الشيطانية.
لقد كان الغرب دائباً في تصوير المسلمين على أنهم همج رعاع لا يعرفون شيئا و لكنه لم يحصد من ذلك شيئاً كثيراً فاخترع ذلك المركب الثلاثي الغريب. و الانموذج الظاهر الواضح الذي تجسد فيه هذا الثلاثي هو خلق طالبان و القاعدة و بناتها من داعش و النصرة و غيرها و سلطوا عليها اسطع الأضواء من خلال السينما و الافلام و مقاطع الفديو المنتشرة في كل برامج الانترنيت و التلفاز.
فداعش مثلا تحرق الناس و هم احياء او ترميهم من اعلى العمارات بطريقة وحشية و يقام بتصوير ذلك كله بكل احترافية و منهجية و من خلال ذلك يقومون باستثارة مخيلة العالم، و يقال بعد ذلك للناس: ان الاسلام يساوي داعش و داعش تساوي الوحشية!
ان الغرب لو اراد مقارعتنا بالحجج لدحضناه بحججنا و براهيننا الساطعة و لكنه عمد الى طرق اخرى ملتوية لمقارعتنا و هو ان خلق وحوشاً طائشة تملأ أسماع و أبصار و أذهان الناس بالدماء و العنف و الوحشية و التفجيرات و الأحقاد و البربرية، و جعل ماركة هذه الوحوش ما قبل التاريخية هي (الإسلام الأصيل)!!
و كما ننظر نحن إلى (شمر بن ذي الجوشن) أو (حرملة) أو ينظر العالم إلى هتلر و موسليني، يجري الآن مخططهم الثلاثي الأضلاع لينظر الناس إلى الإسلام ككل كذلك باعتبار ان هذه النماذج المشوهة هي التجسيد الأقوى للإسلام.
الموقف الاستراتيجي السليم من شارلي ابيدو و سلمان رشدي و...
لقد استثار الغرب القوة المتخيلة بقوة وشدة من خلال ذلك و غيره من العشرات من الحلقات المتسلسلة التي تصب كلها في هذا المنحى من قضية سلمان رشدي الى احداث سبتمبر الى القاعدة الى داعش الى قضية شارلي ابيدو و التي طُبعت بعد ردة الفعل العنيفة غير المدروسة بل البلهاء، بثلاث ملايين نسخة رغم انها لم يكن يطبع منها إلا الألوف! و قد وقع أولئك المهاجمون و من ناصر طريقتهم في نفس الفخ الذي نصبه لهم الغرب و هو: استفزاز مشاعر المسلمين – بدعوى حرية الرأي!! – ليقع بعضهم في الفخ المعد مسبقاً: ردود فعل دموية تنتج صناعة صورة مخيفة عن الإسلام و المسلمين في أذهان العالم عبر استثارة العواطف القوية و عبر تحريك عنيف للقوة المتخيلة كل ذلك في معادلة المنعكس الشرطي.
و كان الاولى ان يقوم المسلمين ـ بعد صدور الرسوم المسيئة ـ بطباعة خمسة ملايين نسخة باللغة الفرنسية([17]) من كتاب يتحدث عن رحمة رسول الاسلام و عظمته و اهدافه السامية فكان يشكل ذلك اكبر دعوة للإسلام و أكبر رد على تلك الرسوم.
لكن الذي ارادوا ان يثبتوه في مخيلة العالم من خلال إحداث جريدة شارلي ابيدو: ان المسلمين وحوش تقتل و تفجر حتى من يكتب و يعبر عن رأيه!!
و لقد كان من الحكمة و التعقل ان تكون ردة الفعل اما ردة فعل ايجابية من خلال التعريف بالاسلام و المسلمين عبر ملايين الكتب و مئات الأفلام الوثائقية و غيرها أو في أسوأ الفروض: التجاهل و الإهمال لأن مثل هذه الجريدة و رسومها حيث تفتقد أدنى درجات المنطق و الإنسانية، ستأول الى مزبلة التاريخ و لا يكترث لها أحداً أبداً، يقول الشاعر:
لو كل كلب عوى القمته حجرا
لأصبح الصخر مثقالا بدينار!
و صدقوا – و إن كنت أرى ضرورة الرد الإيجابي الفعال عبر ملايين الإصدارات – انه لو تجاهل الناس هذه الجريدة لما سمع بها إلا أولئك البؤساء الذين يشترونها (و كانوا قبل ردة الفعل العنيفة ألوفاً فصاروا بعد ردة الفعل العنيفة بالملايين!).
و حتى مثل سلمان رشدي فانه كتب كتب عديدة و لم يأبه به احد! و لم يعرفه أحد لكن ردة الفعل عليه من قبل المسلمين جعلت منه كتابا عالمياً تطبع منه ملايين النسخ! و كان من المقدر لهذا الكتاب – لأنه لا يمتلك أي مضمون علمي و لا أخلاقي و لا قيمة تاريخية له أبداً – ان يلتحق بنظيراته في زوايا المكتبات لتنسج عليه العنكبوت خيوطها! لكن إصدار فتوى بقتله هي التي جعلت الملايين من الناس تتلاحق لقراءة كتابه! و ما الذي جنيناه من الفتوى بالقتل؟ أليس إلا تكريس سمة العنف و الإرهاب في أذهان العالم بدل ان نجيب على كتابه – لو كنا صادقين – بطباعة مائة مليون كتاب عن الآيات الرحمانية؟
خلاصة القول: ان الاساءة الى النبي (صلى الله عليه و آله) أو إلى أي مقدس من مقدساتنا لهو من اعظم الجرائم لكن الكلام هو في كيفية التعامل معها؟ لا مناص إلا من التصدي لردها بكل حكمة و منطقية بحيث نقلب من خلال ردودنا المدروسة الأمر عليهم و نجعل من اسائتهم فرصة للترويج و للدفاع عن حقوقنا و شعائرنا و مقدساتنا فنثبت رحمة الاسلام كما قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...)، و الله المستعان.
و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و اله الطيبين الطاهرين
* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/writer10-
.................................
([1]) الانبياء 107
([2]) الفتح 29
([3]) التوبة: 128.
([4]) من لا يحضره الفقيه: ج3 ص555.
([5]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل ج12 ص391.
([6]) على تأمل في ذلك سيأتي بإذن الله تعالى.
([7]) حسب المختار في تعريف المولوي ووجهه كما فصلناه في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية).
([8]) فان الحكم عام وان كان طرف الخطاب شخصاً.
([9]) نهج البلاغة 427.
([10]) نقلنا كلام صاحب الجواهر حول قاعدة اليسر في بحوث العام الماضي، فراجع.
([11]) وهي حشرة تنمو على بدن الابل.
([12]) هود: 65.
([13]) الاعراف: 96.
([14]) آل عمران: 144.
([15]) وسائل الشيعة ج7 ص78.
([16]) تفسير مجمع البيان ج7 ص121.
([17]) ومائة مليون على الأقل بسائر اللغات.
.......
الموضوع يعبر عن الكاتب و ليس منتدى جوهرة الونشريس