فضائيات عربية لتسويق الزيف
محمد علي جواد تقي
ربما يتبادر الى ذهن القارئ من الوهلة الاولى، أن ثمة تحاملا تتعرض له القنوات الفضائية العربية، و هي التي تبذل مليارات الدولارات، و قد وصل عددها الى 1400 قناة في شتى التوجهات و الاختصاصات، فهناك جهود فكرية و ذهنية و عضلية و مادية تبذل لنشر رسائل متعددة الى المخاطب، في إطار حرية الرأي بمساعدة الاقمار الصناعية المنتجة غربياً، بمعنى أن لكل جهة او شخص او حتى نظام حكم، يقف خلف قناة من هذا العدد الهائل، غاية مبررة بالنسبة له، بغض النظر عن المحتوى.
بيد أن تداعيات الوضع الاجتماعي و الثقافي، و ما يفرزه الواقع من ظواهر و متبنيات جديدة في المنظومة الثقافية، من عادات و سلوكيات و حتى نمط العيش، يدعونا لتسليط الضوء على بعض البرامج المعروضة الى المشاهد العربي من عدد لا بأس به من القنوات الفضائية.
نظرة سريعة الى تصنيف القنوات الفضائية حسب احصائية اتحاد اذاعات الدول العربية للعام الماضي، يتبين لنا طبيعة الخطاب الموجه و غاياته، ففي مقابل 323 قناة شاملة، هنالك 170 قناة رياضية، و152 قناة للمسلسلات و الدراما، و124 قناة للغناء و الطرب، الى جانب 248 قناة خاصة بالدعايات و الإعلانات، نلاحظ؛ 95 قناة دينية، و86 قناة اخبارية، و26 قناة للاطفال، و16 قناة وثائقية، و17 قناة تعليمية، و16 قناة للأسرة، وتسع قنوات ثقافية.
و اذا اجرينا مقاربة بين هذه الاحصائية و بين تأثيرات هذه القنوات على المشاهد، نجد أن التفاهات لا تنحصر على قنوات الغناء و الطرب و المسلسلات، كما يكاد يجمع عليها كثيرون، إنما العدوى سرت الى قنوات إخبارية ذات اهداف سياسية واضحة، و قنوات الاطفال، و حتى بعض القنوات الدينية.
و حتى لا نضيف شيئاً آخر على الانعكاسات السلبية للمسلسلات و الدراما و ايضاً الغناء و الطرب، على الوضع الاجتماعي و الأسري، نشير الى الانعكاسات السلبية للخطاب السياسي المتوتر بسبب الأدلجة و التسييس – إن صح التعبير- و ايضاً للخطاب الطائفي المدمّر لبعض القنوات، الى جانب ما يتعرض له الطفل العربي من إقحام عنيف الى عالم الوهم و التحليق بخياله بعيداً عن واقعه، مما ينمي فيه حالة الازدواجية و التهرّب الدائم من الواقع، لاسيما عندما يجد انه يسبب ضغوطاً عليه، بسبب ظروف المعيشة و الحرب و انعدام الامن و غيرها.
كذلك يمكن الاشارة الى تفاهات السياسة و الطائفية التي تخلق كلٌ منها حالة من الخيبة و اليأس من الإصلاح، و أن يأتي يوم تسير فيه الأمور بالشكل الصحيح، بحيث لا تراق قطرة دم في سبيل مصلحة هذه الجماعة او تلك الطائفة.
و لو لاحظنا – مثلاً- برنامج "الاتجاه المعاكس" التي تحرص على استمراريته قناة "الجزيرة"، نجد انه يركز دائماً على الحالات السلبية و الاسقاطات و الفضائح و الهزائم، فيما تكون طاولة الحوار عبارة عن حرب كلامية تضيع فيها القيم و المعايير الاخلاقية.
كذلك تفعل سائر القنوات في برامجها التي تبدو جدّية و على مستوى من المهنية و الأداء الفني الجيد، بيد أنه لا يرقى فوق التحريض و تشويه الحقائق حتى و إن كان بشكل مكشوف بإمكان المشاهد ملاحظة التناقض في المواقف، أو عدم صحة بعض المعلومات الواردة.
و ربما يتسائل البعض عن سبب تسليط الاضواء على خبر ولادة طفلة صغيرة في لندن، في مقابل سقوط عشرات القتلى من الاطفال في اليمن تحت الانقاض بفعل القصف السعودي، سوى أن هذه الطفلة تعود الى القصر الملكي، بينما أطفال اليمن او العراق، من جنس آخر! و المثير حقاً، ان تجري قناة "بي بي سي" لقاءاً مع المتحدث باسم القصر الملكي البريطاني، و هو يتحدث باللغة العربية بصعوبة، و يعلن أن "هذا الحدث يحظى باهتمام الشعب البريطاني و شعوب عديدة في العالم"!
السؤال هنا؛ ما الذي يدفع هذا العدد الهائل من القنوات نحو هكذا منهج؟.
لاشك هنالك اسباب و دوافع عدّة تقف خلف هذا التوجه في الاعلام المرئي، منها: الكسب المادي، و هو يتعلق بالقنوات غير "الجادّة" متمثلة بالرياضة و الغناء و الدراما و الاطفال، فاذا عرفنا ان 729 هيئة خاصة هي التي تدير القنوات الفضائية العربية، مقابل 29 هيئة عامة فقط، نعرف حجم الاستثمار الهائل و التطلع نحو الربح السريع من وراء بث البرامج المختلفة و المتنوعة من عشرات القنوات.
أما الهدف الثاني، و هو الأخطر، متمثل في تسطيح الوعي و تعويم الثقافة لدى المشاهد العربي، لاسيما و أن شريحة لا بأس بها في البلاد العربية و في خارجها، يجد ان البرامج غير الجادّة، ما يبعده عن صخب الحياة و مشاكلها و أزماتها.
و لعل نسبة كبيرة من هذه الشريحة هم الشباب و الفتيان من الجنسين. و من يتابع الشأن السياسي، فانه يجد ضالته في الاثارات و المهاترات، و ربما يحقق انتصاراً لنفسه و ذاته، من خلال بعض البرامج الحوارية او الاخبارية، بغض النظر عن النتائج على الارض، او الاحتكام الى معايير او قيم معينة.
إن حالة التحلل من الاخلاق و الاعراف و التقاليد، و ايضاً صناعة أبطال وهميين و رموز يحتذى بها، تجعل المشاهد العربي، مصاباً بحالتين مرضيتين؛ الاولى: الانطوائية و اللامسؤولية إزاء كل ما يجري من ويلات و محن، و سفك للدماء بحجج مختلفة، و الثانية: الهشاشة في الفكر و الثقافة، بحيث يصعب عليه التمييز بين الغثّ و السمين، و الصح من الخطأ، و بين الحق و الباطل.
و النتيجة؛ سهولة التحكّم به من قبل دوائر مخابراتية و اقتصادية عالمية، فهو لن يكون – كما ينبغي- صانعاً للحدث، بخلاف ما تصور البعض خلال أحداث "الربيع العربي"، إنما هو المنفذ على مسرح الاحداث، فالتظاهرات الاحتجاجية التي عمّت مدن مصر ضد نظام مبارك، بدعوى الديكتاتورية العسكرية و القمع و الاستبداد، تحولت فيما بعد الى تظاهرات لدعم نظام السيسي، و هو أحد أركان المؤسسة العسكرية المصرية، الذي تحوّل بين ليلة وضحاها الى رجل سياسي مدني.
هذا المآل هو الذي يجعل المواطن العربي أمام مفاجآت غير متوقعة، ليس بوسعه سوى التكيّف معها، و حتى القبول بها عن طيب خاطر! حتى و إن كلف ذلك بعض التنازل عن الثوابت و القيم و المبادئ.
.......
2015-5-7
شبكة النبأ المعلوماتية
محمد علي جواد تقي
ربما يتبادر الى ذهن القارئ من الوهلة الاولى، أن ثمة تحاملا تتعرض له القنوات الفضائية العربية، و هي التي تبذل مليارات الدولارات، و قد وصل عددها الى 1400 قناة في شتى التوجهات و الاختصاصات، فهناك جهود فكرية و ذهنية و عضلية و مادية تبذل لنشر رسائل متعددة الى المخاطب، في إطار حرية الرأي بمساعدة الاقمار الصناعية المنتجة غربياً، بمعنى أن لكل جهة او شخص او حتى نظام حكم، يقف خلف قناة من هذا العدد الهائل، غاية مبررة بالنسبة له، بغض النظر عن المحتوى.
بيد أن تداعيات الوضع الاجتماعي و الثقافي، و ما يفرزه الواقع من ظواهر و متبنيات جديدة في المنظومة الثقافية، من عادات و سلوكيات و حتى نمط العيش، يدعونا لتسليط الضوء على بعض البرامج المعروضة الى المشاهد العربي من عدد لا بأس به من القنوات الفضائية.
نظرة سريعة الى تصنيف القنوات الفضائية حسب احصائية اتحاد اذاعات الدول العربية للعام الماضي، يتبين لنا طبيعة الخطاب الموجه و غاياته، ففي مقابل 323 قناة شاملة، هنالك 170 قناة رياضية، و152 قناة للمسلسلات و الدراما، و124 قناة للغناء و الطرب، الى جانب 248 قناة خاصة بالدعايات و الإعلانات، نلاحظ؛ 95 قناة دينية، و86 قناة اخبارية، و26 قناة للاطفال، و16 قناة وثائقية، و17 قناة تعليمية، و16 قناة للأسرة، وتسع قنوات ثقافية.
و اذا اجرينا مقاربة بين هذه الاحصائية و بين تأثيرات هذه القنوات على المشاهد، نجد أن التفاهات لا تنحصر على قنوات الغناء و الطرب و المسلسلات، كما يكاد يجمع عليها كثيرون، إنما العدوى سرت الى قنوات إخبارية ذات اهداف سياسية واضحة، و قنوات الاطفال، و حتى بعض القنوات الدينية.
و حتى لا نضيف شيئاً آخر على الانعكاسات السلبية للمسلسلات و الدراما و ايضاً الغناء و الطرب، على الوضع الاجتماعي و الأسري، نشير الى الانعكاسات السلبية للخطاب السياسي المتوتر بسبب الأدلجة و التسييس – إن صح التعبير- و ايضاً للخطاب الطائفي المدمّر لبعض القنوات، الى جانب ما يتعرض له الطفل العربي من إقحام عنيف الى عالم الوهم و التحليق بخياله بعيداً عن واقعه، مما ينمي فيه حالة الازدواجية و التهرّب الدائم من الواقع، لاسيما عندما يجد انه يسبب ضغوطاً عليه، بسبب ظروف المعيشة و الحرب و انعدام الامن و غيرها.
كذلك يمكن الاشارة الى تفاهات السياسة و الطائفية التي تخلق كلٌ منها حالة من الخيبة و اليأس من الإصلاح، و أن يأتي يوم تسير فيه الأمور بالشكل الصحيح، بحيث لا تراق قطرة دم في سبيل مصلحة هذه الجماعة او تلك الطائفة.
و لو لاحظنا – مثلاً- برنامج "الاتجاه المعاكس" التي تحرص على استمراريته قناة "الجزيرة"، نجد انه يركز دائماً على الحالات السلبية و الاسقاطات و الفضائح و الهزائم، فيما تكون طاولة الحوار عبارة عن حرب كلامية تضيع فيها القيم و المعايير الاخلاقية.
كذلك تفعل سائر القنوات في برامجها التي تبدو جدّية و على مستوى من المهنية و الأداء الفني الجيد، بيد أنه لا يرقى فوق التحريض و تشويه الحقائق حتى و إن كان بشكل مكشوف بإمكان المشاهد ملاحظة التناقض في المواقف، أو عدم صحة بعض المعلومات الواردة.
و ربما يتسائل البعض عن سبب تسليط الاضواء على خبر ولادة طفلة صغيرة في لندن، في مقابل سقوط عشرات القتلى من الاطفال في اليمن تحت الانقاض بفعل القصف السعودي، سوى أن هذه الطفلة تعود الى القصر الملكي، بينما أطفال اليمن او العراق، من جنس آخر! و المثير حقاً، ان تجري قناة "بي بي سي" لقاءاً مع المتحدث باسم القصر الملكي البريطاني، و هو يتحدث باللغة العربية بصعوبة، و يعلن أن "هذا الحدث يحظى باهتمام الشعب البريطاني و شعوب عديدة في العالم"!
السؤال هنا؛ ما الذي يدفع هذا العدد الهائل من القنوات نحو هكذا منهج؟.
لاشك هنالك اسباب و دوافع عدّة تقف خلف هذا التوجه في الاعلام المرئي، منها: الكسب المادي، و هو يتعلق بالقنوات غير "الجادّة" متمثلة بالرياضة و الغناء و الدراما و الاطفال، فاذا عرفنا ان 729 هيئة خاصة هي التي تدير القنوات الفضائية العربية، مقابل 29 هيئة عامة فقط، نعرف حجم الاستثمار الهائل و التطلع نحو الربح السريع من وراء بث البرامج المختلفة و المتنوعة من عشرات القنوات.
أما الهدف الثاني، و هو الأخطر، متمثل في تسطيح الوعي و تعويم الثقافة لدى المشاهد العربي، لاسيما و أن شريحة لا بأس بها في البلاد العربية و في خارجها، يجد ان البرامج غير الجادّة، ما يبعده عن صخب الحياة و مشاكلها و أزماتها.
و لعل نسبة كبيرة من هذه الشريحة هم الشباب و الفتيان من الجنسين. و من يتابع الشأن السياسي، فانه يجد ضالته في الاثارات و المهاترات، و ربما يحقق انتصاراً لنفسه و ذاته، من خلال بعض البرامج الحوارية او الاخبارية، بغض النظر عن النتائج على الارض، او الاحتكام الى معايير او قيم معينة.
إن حالة التحلل من الاخلاق و الاعراف و التقاليد، و ايضاً صناعة أبطال وهميين و رموز يحتذى بها، تجعل المشاهد العربي، مصاباً بحالتين مرضيتين؛ الاولى: الانطوائية و اللامسؤولية إزاء كل ما يجري من ويلات و محن، و سفك للدماء بحجج مختلفة، و الثانية: الهشاشة في الفكر و الثقافة، بحيث يصعب عليه التمييز بين الغثّ و السمين، و الصح من الخطأ، و بين الحق و الباطل.
و النتيجة؛ سهولة التحكّم به من قبل دوائر مخابراتية و اقتصادية عالمية، فهو لن يكون – كما ينبغي- صانعاً للحدث، بخلاف ما تصور البعض خلال أحداث "الربيع العربي"، إنما هو المنفذ على مسرح الاحداث، فالتظاهرات الاحتجاجية التي عمّت مدن مصر ضد نظام مبارك، بدعوى الديكتاتورية العسكرية و القمع و الاستبداد، تحولت فيما بعد الى تظاهرات لدعم نظام السيسي، و هو أحد أركان المؤسسة العسكرية المصرية، الذي تحوّل بين ليلة وضحاها الى رجل سياسي مدني.
هذا المآل هو الذي يجعل المواطن العربي أمام مفاجآت غير متوقعة، ليس بوسعه سوى التكيّف معها، و حتى القبول بها عن طيب خاطر! حتى و إن كلف ذلك بعض التنازل عن الثوابت و القيم و المبادئ.
.......
2015-5-7
شبكة النبأ المعلوماتية