العالم العربي في طور التراجع
يستفيد أغلب الحكام العرب من أوضاع الإرهاب و العنف و عدم الاستقرار في المنطقة العربية. و هم يقطعون الطريق على أية إصلاحات ملحة قد تؤدي إلى احتمال إبعادهم عن مناصب السلطة، كما يرى راينر زوليش الخبير في شؤون الشرق الأوسط.
حين انطلق العالم العربي قبل ثلاثة أعوام في موجة الاحتجاجات كان الهتاف الأكثر سماعا هو: "الشعب يريد إسقاط النظام!"، و كان ذلك هو القاسم المشترك الأدنى بين شعوبه. صحيح أن الكثيرين من المتظاهرين في القاهرة و دمشق و بنغازي رفعوا مطالب ملموسة من أجل كرامة الإنسان و العدالة و المشاركة و إنهاء القمع، غير أن الحركات الاحتجاجية افتقدت إلى رؤية واضحة كبيرة و جامعة، و هذه الرؤية هي أيضا ما افتقدت إليه الأنظمة الواقعة تحت ضغط الاحتجاجات. كل شيء تمحور حول عنصر السلطة. فالناس أرادوا إسقاط الأنظمة - و الأنظمة استنفرت كل قواها لتبقى في السلطة.
النتيجة الأولية لهذه العملية مدمرة. فقد نجت جل الأنظمة. و في الأماكن التي اضطرت فيها هذه الأنظمة إلى التقهقر أصبحت أحوال الناس في معظم الحالات أكثر سوءا: فليست سوريا و العراق البلدين الوحيدين المنكوبين في أجزاء واسعة منهما بالإرهاب و المهددين بالانهيار الدائم، بل كذلك ليبيا و اليمن يتهددهما خطر التفكك بسبب الصراعات الداخلية و الإرهاب.
و باتت "الدولة الإسلامية" و القاعدة و الجماعات الأخرى تبدو أقوى و أخطر منها في أي وقت مضى، و لا مشكلة لديها بتاتا في الحصول على أعضاء جدد. في حين تتم ممارسة أقسى أشكال العنف و الإذلال، و يتم عرضها للرأي العام العالمي بدون تحفظ، عبر يوتيوب و تويتر كإشارة بائسة عن الانتصار.
تلاشي حدود الدول
أما حدود الدول التي رسمتها القوى الاستعمارية الغربية سابقا من دون أي اعتبار للولاءات المحلية و الهياكل الحاكمة، فقد أصبحت حاليا عرضة لإعادة النظر. و هناك جدل بين خبراء العلوم السياسية بشأن ما إذا كانت صفة "الدولة" تنطبق الآن على سوريا والعراق. فأجزاء كبيرة منهما تقع تحت سيطرة الجهاديين والمجموعات الأخرى، كما إن الدعوة إلى إقامة دولة كردية عادت من جديد لتندرج على جدول الأعمال. وكل الاحتمالات قائمة.
مسار العالم العربي يتجه بوضوح إلى الخلف. وبالنظر للخارطة السياسية هناك نكتشف اليوم اتجاهين أساسيين: أولهما، ثمة دول يسود فيها الإرهاب و الحرب و التفكك. و ثانيا، ثمة ديكتاتوريات تراهن أكثر من أي وقت مضى على القمع، مثل مصر و غالبية دول الخليج.
و بذلك تنبعث من جديد تلك الصورة النمطية السيئة السابقة: الشعوب العربية "غير ناضجة" للديمقراطية و أنه لا يمكن "السيطرة" عليها في منطقتها الحافلة بالصراعات إلا بالقبضة الحديدية. إنها الحجة التي استند إليها الطغاة السابقون مثل حسني مبارك و معمر القذافي لدعم شرعية سلطتهم، و كثيرا ما بموافقة ضمنية من الغرب.
شعوب غير صالحة للديمقراطية؟
هذه الحجة متعجرفة و عنصرية. الصحيح في الأمر هو أنه نظرا لوجود أنظمة حاكمة و اجتماعية قد عفا الزمن عليها في أنحاء كثيرة من العالم العربي ، فإن هناك ظروف غير مواتية لتحقيق الديمقراطية و مسار الحداثة: ففي أماكن كثيرة منه قلّما برزت طبقة وسطى، كتلك التي عرفتها أوروبا و مناطق أخرى من العالم و التي اعتبرت في كثير من الأحيان محركا في مسار التغيير الاجتماعي.
كما إن أنظمة التعليم العربية ضعيفة جدا و متهالكة بصورة تدعو إلى اليأس، حتى في دول الخليج الغنية. النمو السكاني المتزايد بقوة و باستمرار، مع غياب الإصلاحات الاقتصادية، يوعد في الكثير من البلدان العربية بوجود أعداد هائلة من الشباب المحبط دون عمل و دون تطلعات مستقبلية. في مثل هذا المناخ يكون من السهل استغلال الدين و الانتماء العرقي بسهولة كبيرة، من أجل الاندفاع إلى التطرف أو تحريض البعض على بعض.
لا يستفيد المتطرفون و الإرهابيون فحسب من هذا الوضع، بل أيضا الحكام العرب المتسلطون. فهم بحاجة إلى الإرهاب و العنف لإضفاء شرعية على حكمهم، و كثيرا ما تكون لهم مساهمة في نشوء أعمال العنف و الإرهاب، مثلا في سوريا و في غالبية دول الخليج.
و لذلك، فإن الأفول التدريجي في العالم العربي لا يكمن في الشعوب العربية و لا في انتماءاتها القبلية أو معتقداتها الدينية، بقدرما تكمن المشكلة الرئيسية في غياب إرادة الإصلاح لدى أولئك الذين يحكمون المنطقة العربية منذ عقود.
بلدان عربية قليلة فقط، مثل تونس و- بتحفظ كبير- المغرب، أظهرت جهودا إصلاحية جدية. أما معظم الملوك و الأمراء و كذلك الرؤساء "الشرعيون" عبرانتخابات شكلية، فإنهم متشبثون بقبضة حديدية على هياكل حكمهم الناجية من السقوط. فهم لا يقمعون الإسلاميين فقط بل كذلك القوى الليبرالية و الديمقراطية. و بالتالي فهم ينتجون استياء جديدا و عنفا جديدا و عدم استقرار جديد.
و لذلك فإن موجة الاحتجاج العربية المقبلة هي مسألة وقت. و ثمة ما يدعو للخشية من أن لا تكون هذه المرة "ربيعا عربيا".
.......
17.11.2014
صوت ألمانيا
يستفيد أغلب الحكام العرب من أوضاع الإرهاب و العنف و عدم الاستقرار في المنطقة العربية. و هم يقطعون الطريق على أية إصلاحات ملحة قد تؤدي إلى احتمال إبعادهم عن مناصب السلطة، كما يرى راينر زوليش الخبير في شؤون الشرق الأوسط.
حين انطلق العالم العربي قبل ثلاثة أعوام في موجة الاحتجاجات كان الهتاف الأكثر سماعا هو: "الشعب يريد إسقاط النظام!"، و كان ذلك هو القاسم المشترك الأدنى بين شعوبه. صحيح أن الكثيرين من المتظاهرين في القاهرة و دمشق و بنغازي رفعوا مطالب ملموسة من أجل كرامة الإنسان و العدالة و المشاركة و إنهاء القمع، غير أن الحركات الاحتجاجية افتقدت إلى رؤية واضحة كبيرة و جامعة، و هذه الرؤية هي أيضا ما افتقدت إليه الأنظمة الواقعة تحت ضغط الاحتجاجات. كل شيء تمحور حول عنصر السلطة. فالناس أرادوا إسقاط الأنظمة - و الأنظمة استنفرت كل قواها لتبقى في السلطة.
النتيجة الأولية لهذه العملية مدمرة. فقد نجت جل الأنظمة. و في الأماكن التي اضطرت فيها هذه الأنظمة إلى التقهقر أصبحت أحوال الناس في معظم الحالات أكثر سوءا: فليست سوريا و العراق البلدين الوحيدين المنكوبين في أجزاء واسعة منهما بالإرهاب و المهددين بالانهيار الدائم، بل كذلك ليبيا و اليمن يتهددهما خطر التفكك بسبب الصراعات الداخلية و الإرهاب.
و باتت "الدولة الإسلامية" و القاعدة و الجماعات الأخرى تبدو أقوى و أخطر منها في أي وقت مضى، و لا مشكلة لديها بتاتا في الحصول على أعضاء جدد. في حين تتم ممارسة أقسى أشكال العنف و الإذلال، و يتم عرضها للرأي العام العالمي بدون تحفظ، عبر يوتيوب و تويتر كإشارة بائسة عن الانتصار.
تلاشي حدود الدول
أما حدود الدول التي رسمتها القوى الاستعمارية الغربية سابقا من دون أي اعتبار للولاءات المحلية و الهياكل الحاكمة، فقد أصبحت حاليا عرضة لإعادة النظر. و هناك جدل بين خبراء العلوم السياسية بشأن ما إذا كانت صفة "الدولة" تنطبق الآن على سوريا والعراق. فأجزاء كبيرة منهما تقع تحت سيطرة الجهاديين والمجموعات الأخرى، كما إن الدعوة إلى إقامة دولة كردية عادت من جديد لتندرج على جدول الأعمال. وكل الاحتمالات قائمة.
مسار العالم العربي يتجه بوضوح إلى الخلف. وبالنظر للخارطة السياسية هناك نكتشف اليوم اتجاهين أساسيين: أولهما، ثمة دول يسود فيها الإرهاب و الحرب و التفكك. و ثانيا، ثمة ديكتاتوريات تراهن أكثر من أي وقت مضى على القمع، مثل مصر و غالبية دول الخليج.
و بذلك تنبعث من جديد تلك الصورة النمطية السيئة السابقة: الشعوب العربية "غير ناضجة" للديمقراطية و أنه لا يمكن "السيطرة" عليها في منطقتها الحافلة بالصراعات إلا بالقبضة الحديدية. إنها الحجة التي استند إليها الطغاة السابقون مثل حسني مبارك و معمر القذافي لدعم شرعية سلطتهم، و كثيرا ما بموافقة ضمنية من الغرب.
شعوب غير صالحة للديمقراطية؟
هذه الحجة متعجرفة و عنصرية. الصحيح في الأمر هو أنه نظرا لوجود أنظمة حاكمة و اجتماعية قد عفا الزمن عليها في أنحاء كثيرة من العالم العربي ، فإن هناك ظروف غير مواتية لتحقيق الديمقراطية و مسار الحداثة: ففي أماكن كثيرة منه قلّما برزت طبقة وسطى، كتلك التي عرفتها أوروبا و مناطق أخرى من العالم و التي اعتبرت في كثير من الأحيان محركا في مسار التغيير الاجتماعي.
كما إن أنظمة التعليم العربية ضعيفة جدا و متهالكة بصورة تدعو إلى اليأس، حتى في دول الخليج الغنية. النمو السكاني المتزايد بقوة و باستمرار، مع غياب الإصلاحات الاقتصادية، يوعد في الكثير من البلدان العربية بوجود أعداد هائلة من الشباب المحبط دون عمل و دون تطلعات مستقبلية. في مثل هذا المناخ يكون من السهل استغلال الدين و الانتماء العرقي بسهولة كبيرة، من أجل الاندفاع إلى التطرف أو تحريض البعض على بعض.
لا يستفيد المتطرفون و الإرهابيون فحسب من هذا الوضع، بل أيضا الحكام العرب المتسلطون. فهم بحاجة إلى الإرهاب و العنف لإضفاء شرعية على حكمهم، و كثيرا ما تكون لهم مساهمة في نشوء أعمال العنف و الإرهاب، مثلا في سوريا و في غالبية دول الخليج.
و لذلك، فإن الأفول التدريجي في العالم العربي لا يكمن في الشعوب العربية و لا في انتماءاتها القبلية أو معتقداتها الدينية، بقدرما تكمن المشكلة الرئيسية في غياب إرادة الإصلاح لدى أولئك الذين يحكمون المنطقة العربية منذ عقود.
بلدان عربية قليلة فقط، مثل تونس و- بتحفظ كبير- المغرب، أظهرت جهودا إصلاحية جدية. أما معظم الملوك و الأمراء و كذلك الرؤساء "الشرعيون" عبرانتخابات شكلية، فإنهم متشبثون بقبضة حديدية على هياكل حكمهم الناجية من السقوط. فهم لا يقمعون الإسلاميين فقط بل كذلك القوى الليبرالية و الديمقراطية. و بالتالي فهم ينتجون استياء جديدا و عنفا جديدا و عدم استقرار جديد.
و لذلك فإن موجة الاحتجاج العربية المقبلة هي مسألة وقت. و ثمة ما يدعو للخشية من أن لا تكون هذه المرة "ربيعا عربيا".
.......
17.11.2014
صوت ألمانيا