الذات: بين التقدير السلبي والتقدير
الإيجابي
أحمد الجبلي
إن أولى منطلقات
التواصل الجيد هي تقبل الذات..فلا يمكن لإنسان ينظر إلى نفسه على أنه ناقص، أو أسود
البشرة، أو له أذنان كبيرتان، أو أنه دون مستوى الآخرين، وأنه يختلف عليهم سواء في
البنية الجسدية واكتمالها، أو على مستوى القدرات العقلية من حيث الذكاء أو سرعة
الاستيعاب والتفاعل، أن يكون متواصلا فعالا.
فالإنسان الذي لا
يقبل ذاته يبعث رسائل سلبية لنفسه تؤدي إلى الإحباط والانهزام النفسي والخوف من
مواجهة الآخرين أو التواصل معهم.
" القوانين العشر من أجل إنسان أفضل" للدكتورة كاترين شيرا سكوت
المساعدة الاجتماعية والمتخصصة في معالجة الأزمات النفسية العائلية، ستجد أنها
قد وضعت على قائمة هذه القوانين العشر، التي من خلالها يصير الإنسان ناجحا سعيدا
ومتميزا في حياته، قانون " تقبل الذات" .
أنطوني صاحب التحفة الشهيرة في تغيير الذات والتي سماها ب " الأسرار الكاملة
للثقة التامة في النفس" ظل يعالج البشر طيلة أربعين سنة من حيث اعتقاداتهم
ومناهج تواصلهم وتعاملهم، فوصل إلى نقطة أساس هي أن تقبل الذات لا يعد مسألة جعل
النفس سعيدة فحسب، بل هو الأساس الذي تبنى عليه الحياة كلها.
هذا التقبل للذات إلى قسمين إذ يقول: فهو إما تقدير متدني سلبي للذات أو
تقدير إيجابي لها.
إذا كان من أهم العوامل المساعدة على التواصل الفعال الثقة بالنفس، فإن من
أهم عوامل الثقة في النفس تقدير الإنسان لذاته ومعرفة أهميته الشخصية، والإنسان لن
يكون أفضل من القدر الذي يحمله من التقدير لذاته.
فالتقدير الإيجابي الذي
يتحدث عنه روبيرت أنطوني وآخرون، كوليام جيمس ونيك موركان ودايل كارنيجي،
ولم يختلفوا حوله، ليس تضخيما للأنا، أو هو متجل في نرجسية مقيتة، أو هو حب
للنفس بالمعنى الذاتي الذي ينم عن الغرور.
الآخرين، فالإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله في مقدمة كتابه النفيس الأشباه
والنظائر يسرد تنبيهات عن كتابته لهذا الكتاب توحي للقارئ بأن الرجل قد أصيب بنوع
من الغرور وتفخيم الذات وأنه من طينة خاصة، ولا يمكن لأحد أن يكتب أو يؤلف مثل
مؤلفه هذا، وهو الذي قال عن نفسه: "رزقت التبحر فى سبعة علوم:التفسير والدين
والفقه والنحو والمعانى والبيان والبديع" في حين فالإمام السيوطي أبعد بكثير من
أن يكون بالصفات التي تم ذكرها..
ولقيمته عند الناس كانت جنازته يوما مشهودا رهيبا..ولو كان مغرورا وأنانيا أو
متعاليا لما مشى أحد في جنازته ولا بقيت له ذكرى ليومنا هذا. وكثير من الجهال لم
يحسنوا التعامل مع قول يوسف عليه السلام: ( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ
عليم) إن الأنبياء والرسل لو لم يتقبلوا ذواتهم على أنهم أنبياء فكيف لهم أن
يقوموا بتبليغ الرسالة على أحسن وجه، فمن خلال التقدير الذاتي لشخصياتهم كأنبياء
والإيمان بما هم عليه ترفعوا عن كل ما يجعل النفس في خنوع وخضوع وضعف، ولم يخضعوا
لأي سلطة سواء كانت مالية أو معنوية أو دينية وثنية.
حقيقته ينم عن انعدام وجود تقدير للذات. فتقبل الذات وتقديرها هو الذي يجعل الإنسان
بعيدا عن الأزمات النفسية والعصبية، وبعيدا عن فكرة الانتحار والانهزام في مقارعة
الخطوب والنوازل، كما يجعله بعيدا عن العزلة واجتناب الناس والنأي عنهم في زوايا
مظلمة.
بأنه هو فلان ابن فلان صاحب اللون كذا والرأس المشكل على ما أٍراد الله، وأنه متزوج
وأن له أبناء وأنهم نعمة ولم يأتوا عن طريق خطإ في الحساب مثلا، فالتعامل مع
الآخرين والتواصل معهم من موقع تقدير الذات هو عامل أساس لتقدير ذوات الآخرين
والاعتراف بوجودهم واحترام ما ينتج عنهم من أفكار ورغبات وطموح وأحلام.
وما نراه في الحياة عموما.
مثال الأبناء فلا بأس أن نجعله نموذجا نقيس عليه الحالة عندما ينعدم تقدير الذات
لدى الوالدين. وقبل ذلك سنضطر للتلميح على أن هناك فرقا مهما
بين الذات والسلوك الصادر عنها..وإذا علمنا هذا سنعلم أن لا مجال للوقوع في
مطبة المقارنة بين ذات وذات وإنما بين سلوك وسلوك..كما سيكون من الحكمة بمكان أن
ننتقد السلوك وألا ننتقد الذات. فتقدير الذات المتدني أو السلبي ينمو ويتطور من
خلال التعرض للاستخفاف والتقليل من شأن الطفل عن طريق المقارنة. فعندما يقوم الآباء
بمقارنة أحد أبنائهم بطفل آخر فإن شعور الطفل بالدونية والنقص وعدم القيمة
سيتضاعف..وبالتالي ينمي فيه الشعور بالتدني في الذات أو عدم تقبلها.
ومن خلال
هذا الشعور سيستمر الطفل في رؤية نفسه في مرآت الأطفال الآخرين مما يجعله يشعر
بالإعجاب بهم..فيظن بأنهم يملكون ما لا يملكه من قوة وشجاعة وقدرة وثقة فتترسخ
الدونية فيه وتتمكن.
إلى بلورة النقد، إن كان لابد منه، بعبارات مشجعة مثل قولهم" أنت أذكى بكثير من أن
تقع في هذا..."
وهو أسلوب من شأنه أن يحول دون البرمجة السلبية للطفل كما أن من
شأنه أن يجعله يتقبل ذاته بأنه أقوى وأذكى، ومن القوة والذكا ء حسن الاستفادة من
الخطأ الذي تم التنبيه عليه من طرف الآباء بطريقة تزكي فيه النظرة الإيجابية
لذاته..دون نسيان ما للجانب الديني في حياة الفرد من دور أساس في بعث التوازن
المعنوي في الذات وتقبلها كما يقول توفيق الناصر في كتابه الخداع الذاتي
ومفترق الطرق.
يقبل ذاته يصير الشك منهاج حياته والوساوس هي الهواء الذي يعكر صفو تفاعله واحتكاكه
وتواصله مع الآخرين..عندما لا يقبل ذاته، كما هي، يصبح شديد الحساسية تجاه رفض
الآخرين له..وسيعتبر كل صيحة عليه وكل ريح تهب في اتجاهه، سيراها متآمرة أو همازة
لمازة عليه.
فإنه يقوم بذبح كل قدراته هدرا ويكرس الضعف الساكن فيه ليبقى ضربة لازب لصيقة
به..عندما لا يقبل ذاته، سيظل طول حياته يستجدي الحب الضائع الذي يتصيده عند
الآخرين. عندما لا يقبل ذاته، فإنه سيقضي حياته في ردود أفعال تفرغه من طاقاته
فيبتعد أكثر عن أفضل ما لديه.
سيعيش أبدا وحيدا معزولا وسيشعر بأن وجوده مع الآخرين لا طائل من ورائه.
سيعيش على بقايا الأحلام الجميلة في ماضيه ويفوت أجمل الفرص ليعيش طعم اللحظة التي
يعيشها في حاضره.
يصير أعدى أعدائه ذاك الذي يراه في المرآة عندما يستيقظ كل صباح. عندما لا يقبل
ذاته، فإنه لن يجد مكانا يسعه، أو زمنا يعيش فيه، أو مجتمعا يتفاعل معه فيؤثر فيه
ويتأثر به. اقبل ذاتك..فقبولك لذاتك هو أعظم شيء يمنحك ما تريد وهو الوضع الوحيد
الذي تستطيع من خلاله تحقيق أي شيء تريده..
الجبلي
أ.ح