القصة
القصيرة وآلياتها
* عديّ مدانان
القص لغة: من قص، قص أثره: تتبعه. وقص الخبر: أعلمه وحدث به على وجهه.
السرد لغة: تقدمة شيء إلى شيء، تأتي به متسقاً، بعضُه في أثر بعض متتابعاً.
تتبع الأثر أو الشيء أو الحدث، يهدف إلى ملاحقته من أوّل إشارة له إلى
نهايته، والإعلام به، يعني إطلاعَ الغير عليه، فرداً أو جماعة، ليصير لهم
علمٌ به ودراية، وسرده يعني تنسيقه بالتتابع ويعني نسجه، فمعاني القص
والسرد في اللغة تؤدي بجمعها المعنى المنشود.
للناس في إشاعة الخبر وإعلام الناس به طرق ودوافع مختلفة، منها قَصُّه كما
حدث، ومنها قَصُّه مع إضافةٍ إليه تُحسِّن صورته أو تُسَوّئها، بحسب القصد
والغرض. وفي هذا السياق شاعت عند العرب أخبار عنترة العبسي، والشنفرى،
وعروة ابن الورد، وامرئ القيس، وطرفة ابن العبد وكثيرين غيرهم من صعاليك
العرب وشعرائهم، بأصلها، وبما أضيف إليها واختلط بها، كما شاعت أخبار
الهجرة النبوية وحروب الإسلام الأولى ومن أبلوا بلاءً حسناً فيها. صار
للصعلكة وفرسانها، والقصائد والضالعين فيها، والنوادر التي تتحصل، متخصصون
برعوا في التقصّي والجمع والتدوين، وصار للسيرة النبوية متخصصون ليسوا أقل
براعة. تطوّر القص والسرد لدى أقوام أخرى، ولكن باتّجاه آخر، فافترض خيالهم
أخباراً لم تحدث في الواقع، وإنّما من جني الخيال، فنشأت الأساطير
والملاحم لدى اليونانيين، وتطوّرات قصص الخيال لدى العرب أيضاً وأنتجت
المقامات.
ليس من شأن البحث الدخول في تفاصيل كل ذلك، وحسبه ما أشار إليه، فكل ما
يلزم وما أنا بصدده، ما يدخل في باب القصة القصيرة التي نعرفها اليوم. القص
والسرد هما العمود الفقري للقصة القصيرة، كما هو حالهما في الرواية،
فالكاتب المسكون بحكايا الناس وهمومهم، ووجوهم المختلفة، وأسرارهم، يختار
القص والسرد كأفضل وسيلتين للتعبير عن رؤيته، وأعمقها أثراً، يختار بعناية
من بين أحداث الحياة، أكثرها دلالة وإشعاعاً فيجلوها ويصقلها ويضفي عليها
من نفسه ما يمنحها نكهة وألقاً. غير أنّه لا يترك الحبل على غاربه، ليذهب
القص في متاهة، فلا يؤدِّي وظيفته الجمالية والدلالية، لأنّ الكاتب إن فعل،
بهتت قصته وفقدت روحها، تلك الروح الشغوفة التي كانت هاجسه في اختيار
الحدث الذي ستسكنه وتطمئن إليه.
غير أن شأنه في القصة القصيرة التي نحن بصددها، أكثر من هذا بكثير، فهي
أبلغ مقصداً، وأسمى رسالة، وأتقن حرفة، وأشفّ رصداً، وأزيد إضاءة، وأعمق
غوراً في النفس الإنسانية، والكاتب المحترف لا يتلبث عند تتبع مسار الأثر
والتقاط الخبر، وإنّما يدرجه في نسيج جديد منمنم، متقن الحبك، فاتن الأثر،
فواح العطر، خيوطه الحدث، وحركة أشخاصه في الزمان والمكان المعينين
وحواراتهم وما يتصل بكل ذلك، من أوصاف بأشكالها كافة، مستعيناً على ذلك كله
باللغة الدالّة، فإذا بنا إزاء رؤية جديدة، وفَتْح لعالم بدا لنا في أوّل
الأمر مغلقاً، وأثر ملموس، لا نعرف كيف تسلل إلى دواخلنا وسيطر علينا.
ما هي القصة القصيرة؟ ما موقعها بين الأجناس الأدبية الأخرى، ما طبيعتها
وشروطها، ما الذي يميّزها عن أصناف الإبداع الأخرى؟ أهو قصرها؟ أهو قوة
الحادثة المسرودة؟ أهو طريقة سردها وبناها وقوة حبكتها؟ أهو اقتصارها على
بطل واحد مع إمكانية إشراك غيره معه في الحدث الواحدة ليلعب دور المساعد أو
المحرك أو التابع؟ أهو زمن القص الماضي؟ أهي الغاية التي تسعى إلى بلوغها
وكشفها البليغ عن سر من أسرار النفس؟ وما الذي يميّز قصة قصيرة عن غيرها من
جنسها؟ أهو مقدار ملامستها الشغوفة والشفيفة للمشاعر؟ أهو قوة الخيال
والمخيلة فيها؟ أم هو بالنتيجة قوة الأثر الذي ينبجس في نفس القارئ في لحظة
مكثفة بعد الإنتهاء من قراءتها؟ يصعب إعطاء أجوبة محددة عن هذه الأسئلة
ولكن هذا كلّه، مجتمعاً ومتناوَلاً بمهارة وإتقان، هو ما يميّز قصة عن
غيرها ويعطيها ألقها، هو ما يميزها عن المقالة والمسرحية والشعر. القصة وإن
تعتمد على الحدث، لكنّها تكشف منه الجانب الذي أرادنا الكاتب أن نراه،
بطريقة سرده الذكية بالتركيز على ما هو جوهري، بإشاراته اللمّاحة. سبق
الحديث عن القصة في أكثر من موضع للصلة، مما يعفيني من التكرار.
القصة القصيرة فن شائك، محفوف بالمخاطر والمحاذير، خشية ذهابها من غير رشد
ومن غير شد الرسن إلى تخوم الرواية، أو المشهد المسرحي، أو الشعر، فهي نسيج
متين قوي السبك فواح العطر. أمّا الإكتفاء بنقل الحدث نقلاً إخبارياً
محضاً لا روح فيه ولا دلالة، والزعم أنّ القصة حققت بنقله هدفها وكفى، فهذا
غير مقبول، ويمكن إخراج هذا اللون من الكتابة الإخبارية من باب القصة دون
أسف. كتابة القصة ليست نقلاً مسخاً للواقع ولا محاكاة ساذجة له، وليست
تركيباً ميكانيكياً لأجزائه. هي إعادة صياغة خلاّقة له، على نحو إبداعي، من
شأنه أن يحمل القارئ على إكتشاف سرها ودلالاتها ومراميها، فيقف بعد
الإنتهاء منها في حال دهشة.
القصة القصيرة مهارة جميلة، ومغامرة إنسانية، تمس شغاف القلب وتسمو بالروح.
هي خلق جديد ألق يحمل سمات الكاتب وثقافته وتجاربه وقدراته الخلاّقة،
والذي ما كان بوسعه صياغته على هذا النحو من السمو والألق، لو أن صلته
بالحياة والإنسان والفن كانت سطحية، ولو أن انتباهه كان قاصراً، وذاكرته
فقيرة، ومخيلته ضعيفة، وخياله عاجزاً. يستمد الخيال قوته من الواقع الخصب
والمتنوع، من إتِّصال الكاتب الحكيم به، من انغماسه الحميم فيه، غير أنّ
القدرة على إعادة خلق الواقع في مادة قصصية، تحتاج إلى موهبة ومهارة وذائقة
جمالية ومران، وهذه كلّها تعظّم ملكة الخلق وتجمّلها وتضعها في الإطار
المناسب.
القصة القصيرة فن شديد الخصوصية والحسّاسية، يختاره الكاتب المبدع على
الأرجح في وقت مبكر من حياته، يعرف أنّ هذا هو خياره الأدبي، موضوعه المحبب
الذي يتفق مع طبعه وسجيته، فيشرع منذ ذلك الوقت بتهيئة ذاكرته ومخيلته
لإلتقاط الصور والحالات والتفاصيل والأنساق والألوان وكلُّ ما يدخل في حقل
كتابة القصة. ينبغي ألا تأتي كتابة القصة بقرار متأخر ومن دون أن يكون
الكاتب قد تسلّحَ عبر تاريخ طفولته ونضجه بالخبرات الأدبية والإنسانية
الكافية والكفيلة بمساعدته على صوغ قصته بيسر وحكمة وألق، مميّزاً إياها
عما عداها من أنماط الكتابة الأخرى، كتابة القصة من غير مؤونة كافية، من
غير خبرة، من غير مخزون ذاكرتي، من غير مخيلة ثرية، من غير ذائقة صقيلة،
تفشل ولا تأتي بثمارها، ولا تبلغ الهدف الجميل والجليل والنبيل، المرجوّ من
كتابتها.
وُلدت القصة القصيرة التي نعرفها اليوم، من رحم التحوّلات الإقتصادية
والإجتماعية والفكرية والثقافية والجمالية الهائلة التي مرّ بها التاريخ
البشري، مثلها في ذلك مثل بقية النشاطات والعلوم الإنسانية من فلسفة وعلم
جمال وشعر ومسرح ورواية وفنون تشكيلية. نستطيع الآن وقد استتب أمرها، أن
نتفهم ونثمن الجهود الكبيرة التي بذلها الرواد الكلاسيكيون، للتمهيد لهذا
الفن العظيم وتعزيزه ووضع أطره، وعلينا أن نحتفي بهم. لقد أرسوا باقتدار
الأشكالَ الأكثر تحرراً وجدارة والأسطع إضاءة والتي ما تزال على مكنتها
ورفعتها وقدرتها على مقاومة كل أنواع العبث والتخريب.
ما يزال الإختلاف حول تعريف القصة القصيرة قائماً، ولم يستقر الرأي على حال
حتى الآن، وهذا ما يؤكد مكانتها وتفردها بين صنوف الإبداع المختلفة، فهي
عصيّة على التعريف صعبة المراس لأنّها تتبدى دائماً بمظهر مختلف، ولكنّه ثر
الإيحاء، مع كل كاتب ماهر ومدرسة كتابة، وهذا ما أغوى عشرات الكتّاب في
أنحاء العالم المختلفة، على محاولات الاقتراب منها والتعريف بها، ثمّ ما
لبئوا أن اعترفوا بصعوبة مهمتهم، وهذا ما حدا بكاتب مثل شكولوفسكي حسبما
نقل عنه د. شاكر عبدالحميد في كتابه "التفضيل الجمالي" إلى القول بصعوبة
تعريف القصة، وبصعوبة تحديد الخواص المميزة للقصة، تلك الخواص التي "يجب أن
تتمازج معاً، لكي نحصل على مبنى حكائي مناسب، ذلك أن وجود صورة أو وصف، أو
حادثة، لا يكفي لكي يترتب لدينا انطباع، بأنّنا إزاء قصة قصيرة"، وهذا ما
حدا بفرانك أوكتو في كتابه "الصوت المنفرد" للقول: "ليست القصة القصيرة،
قصيرة لأنّها صغيرة الحجم، وإنّما لأنّها عولجت علاجاً خاصاً، وهو أنّها
تناولت موضوعاً على أساس رأسي لا أفقي، وفجرت طاقات الموقف الواحد،
بالتركيز على نقاط التحول فيه، فالذي يقف على منحدر الطريق، يتاح له أن يرى
الطريق كلّها". غير أنني وبفرح غامر أود أن أستشهد بقول د. جابر عصفور
الذي وصف القصة القصيرة أبلغ وصف: "فن القصة صعب لا يبزغ فيه سوى الأكفاء،
القادرين على اقتناص اللحظات العابرة، قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة،
وتثبيتها للتأمّل الذي يكشف كثافتها الشعرية، بقدر ما يكشف دلالاتها
المشعّة في أكثر من اتّجاه".
كخلاصة للجهد، بعد قراءة عدد من الكتب والكثير من المقالات، أخص من بينها
كتاب إنريكي أندرسون إمبرت المسمى "القصة القصيرة – النظرية والتطبيق"،
وكتاب محمّد يوسف نجم "فن القصة"، وكتاب سوزان لوهافر المعنون "الاعتراف
بالقصة القصيرة"، وكتاب رشاد رشدي "فن القصة القصيرة"، ناهيك عن الدراسات
المتناثرة والمنشورة في الصحف والمجلات الأدبية، وبعد أن قضيت الأيّام مع
الإنترنيت، أدخل إلى مواقعه العديدة، وأذهب مع حوارات المتحاورين وأستقبل
فيوضاً من الآراء، أقول إن أياً من التعاريف بالقصة القصيرة التي اطّلعتُ
عليها، اقتصر على ما استقل الرائي بالنظر إليه، فأصاب من جهته بعض الصحة في
جانب، وهدر قيمة جانب آخر، ذلك أن كل تعريف على حدة لا يكفي للإحاطة
بالقصة القصيرة من جميع زوايا النظر إليها وأخذ عناصرها مجتمعة. ولهذا بحثت
عن تعريف جامع مانع للقصة القصيرة، ووجدت في كل ما قرأت بعضاً مما طلبت أو
أكثر، فتحيرت، وتساءلت عن السبب في أنّ القصة القصيرة أثارت كل هذا
الاهتمام والنشاط الدراسي وما تزال على ما ظهر لي تثير المزيد، ثمّ لا
تستقر على تعريف متكامل، فعزوت الأمر إلى أن كل باحث ينطلق من الأثر الذي
تخلفه القصة القصيرة في نفسه، فللقصة القصيرة المتقنة دائماً ذلك الأثر
الأخّاذ الذي يمسك بتلابيب القارئ ويدوم، وفي ذلك ما يؤكد مكانتها بين فنون
الإبداع. غير أنني توصلت إلى أنّ القصة القصيرة نسيج فاتن مركب من أحداث
وحالات ونكهات وصور وأوصاف ووصلات بديعة، ينتقيها الكاتب بمهارة لِيُحدث في
أنفسنا أثراً بالغاً ومدهشاً، وهو غير مقيَّد بشكل محدد، ما دام أنّه لم
يفرّط بوحدة قصته وتماسكها.
المصدر: كتاب فنّ القصة (وجهة نظر وتجربة)
البلاغ
القصيرة وآلياتها
* عديّ مدانان
القص لغة: من قص، قص أثره: تتبعه. وقص الخبر: أعلمه وحدث به على وجهه.
السرد لغة: تقدمة شيء إلى شيء، تأتي به متسقاً، بعضُه في أثر بعض متتابعاً.
تتبع الأثر أو الشيء أو الحدث، يهدف إلى ملاحقته من أوّل إشارة له إلى
نهايته، والإعلام به، يعني إطلاعَ الغير عليه، فرداً أو جماعة، ليصير لهم
علمٌ به ودراية، وسرده يعني تنسيقه بالتتابع ويعني نسجه، فمعاني القص
والسرد في اللغة تؤدي بجمعها المعنى المنشود.
للناس في إشاعة الخبر وإعلام الناس به طرق ودوافع مختلفة، منها قَصُّه كما
حدث، ومنها قَصُّه مع إضافةٍ إليه تُحسِّن صورته أو تُسَوّئها، بحسب القصد
والغرض. وفي هذا السياق شاعت عند العرب أخبار عنترة العبسي، والشنفرى،
وعروة ابن الورد، وامرئ القيس، وطرفة ابن العبد وكثيرين غيرهم من صعاليك
العرب وشعرائهم، بأصلها، وبما أضيف إليها واختلط بها، كما شاعت أخبار
الهجرة النبوية وحروب الإسلام الأولى ومن أبلوا بلاءً حسناً فيها. صار
للصعلكة وفرسانها، والقصائد والضالعين فيها، والنوادر التي تتحصل، متخصصون
برعوا في التقصّي والجمع والتدوين، وصار للسيرة النبوية متخصصون ليسوا أقل
براعة. تطوّر القص والسرد لدى أقوام أخرى، ولكن باتّجاه آخر، فافترض خيالهم
أخباراً لم تحدث في الواقع، وإنّما من جني الخيال، فنشأت الأساطير
والملاحم لدى اليونانيين، وتطوّرات قصص الخيال لدى العرب أيضاً وأنتجت
المقامات.
ليس من شأن البحث الدخول في تفاصيل كل ذلك، وحسبه ما أشار إليه، فكل ما
يلزم وما أنا بصدده، ما يدخل في باب القصة القصيرة التي نعرفها اليوم. القص
والسرد هما العمود الفقري للقصة القصيرة، كما هو حالهما في الرواية،
فالكاتب المسكون بحكايا الناس وهمومهم، ووجوهم المختلفة، وأسرارهم، يختار
القص والسرد كأفضل وسيلتين للتعبير عن رؤيته، وأعمقها أثراً، يختار بعناية
من بين أحداث الحياة، أكثرها دلالة وإشعاعاً فيجلوها ويصقلها ويضفي عليها
من نفسه ما يمنحها نكهة وألقاً. غير أنّه لا يترك الحبل على غاربه، ليذهب
القص في متاهة، فلا يؤدِّي وظيفته الجمالية والدلالية، لأنّ الكاتب إن فعل،
بهتت قصته وفقدت روحها، تلك الروح الشغوفة التي كانت هاجسه في اختيار
الحدث الذي ستسكنه وتطمئن إليه.
غير أن شأنه في القصة القصيرة التي نحن بصددها، أكثر من هذا بكثير، فهي
أبلغ مقصداً، وأسمى رسالة، وأتقن حرفة، وأشفّ رصداً، وأزيد إضاءة، وأعمق
غوراً في النفس الإنسانية، والكاتب المحترف لا يتلبث عند تتبع مسار الأثر
والتقاط الخبر، وإنّما يدرجه في نسيج جديد منمنم، متقن الحبك، فاتن الأثر،
فواح العطر، خيوطه الحدث، وحركة أشخاصه في الزمان والمكان المعينين
وحواراتهم وما يتصل بكل ذلك، من أوصاف بأشكالها كافة، مستعيناً على ذلك كله
باللغة الدالّة، فإذا بنا إزاء رؤية جديدة، وفَتْح لعالم بدا لنا في أوّل
الأمر مغلقاً، وأثر ملموس، لا نعرف كيف تسلل إلى دواخلنا وسيطر علينا.
ما هي القصة القصيرة؟ ما موقعها بين الأجناس الأدبية الأخرى، ما طبيعتها
وشروطها، ما الذي يميّزها عن أصناف الإبداع الأخرى؟ أهو قصرها؟ أهو قوة
الحادثة المسرودة؟ أهو طريقة سردها وبناها وقوة حبكتها؟ أهو اقتصارها على
بطل واحد مع إمكانية إشراك غيره معه في الحدث الواحدة ليلعب دور المساعد أو
المحرك أو التابع؟ أهو زمن القص الماضي؟ أهي الغاية التي تسعى إلى بلوغها
وكشفها البليغ عن سر من أسرار النفس؟ وما الذي يميّز قصة قصيرة عن غيرها من
جنسها؟ أهو مقدار ملامستها الشغوفة والشفيفة للمشاعر؟ أهو قوة الخيال
والمخيلة فيها؟ أم هو بالنتيجة قوة الأثر الذي ينبجس في نفس القارئ في لحظة
مكثفة بعد الإنتهاء من قراءتها؟ يصعب إعطاء أجوبة محددة عن هذه الأسئلة
ولكن هذا كلّه، مجتمعاً ومتناوَلاً بمهارة وإتقان، هو ما يميّز قصة عن
غيرها ويعطيها ألقها، هو ما يميزها عن المقالة والمسرحية والشعر. القصة وإن
تعتمد على الحدث، لكنّها تكشف منه الجانب الذي أرادنا الكاتب أن نراه،
بطريقة سرده الذكية بالتركيز على ما هو جوهري، بإشاراته اللمّاحة. سبق
الحديث عن القصة في أكثر من موضع للصلة، مما يعفيني من التكرار.
القصة القصيرة فن شائك، محفوف بالمخاطر والمحاذير، خشية ذهابها من غير رشد
ومن غير شد الرسن إلى تخوم الرواية، أو المشهد المسرحي، أو الشعر، فهي نسيج
متين قوي السبك فواح العطر. أمّا الإكتفاء بنقل الحدث نقلاً إخبارياً
محضاً لا روح فيه ولا دلالة، والزعم أنّ القصة حققت بنقله هدفها وكفى، فهذا
غير مقبول، ويمكن إخراج هذا اللون من الكتابة الإخبارية من باب القصة دون
أسف. كتابة القصة ليست نقلاً مسخاً للواقع ولا محاكاة ساذجة له، وليست
تركيباً ميكانيكياً لأجزائه. هي إعادة صياغة خلاّقة له، على نحو إبداعي، من
شأنه أن يحمل القارئ على إكتشاف سرها ودلالاتها ومراميها، فيقف بعد
الإنتهاء منها في حال دهشة.
القصة القصيرة مهارة جميلة، ومغامرة إنسانية، تمس شغاف القلب وتسمو بالروح.
هي خلق جديد ألق يحمل سمات الكاتب وثقافته وتجاربه وقدراته الخلاّقة،
والذي ما كان بوسعه صياغته على هذا النحو من السمو والألق، لو أن صلته
بالحياة والإنسان والفن كانت سطحية، ولو أن انتباهه كان قاصراً، وذاكرته
فقيرة، ومخيلته ضعيفة، وخياله عاجزاً. يستمد الخيال قوته من الواقع الخصب
والمتنوع، من إتِّصال الكاتب الحكيم به، من انغماسه الحميم فيه، غير أنّ
القدرة على إعادة خلق الواقع في مادة قصصية، تحتاج إلى موهبة ومهارة وذائقة
جمالية ومران، وهذه كلّها تعظّم ملكة الخلق وتجمّلها وتضعها في الإطار
المناسب.
القصة القصيرة فن شديد الخصوصية والحسّاسية، يختاره الكاتب المبدع على
الأرجح في وقت مبكر من حياته، يعرف أنّ هذا هو خياره الأدبي، موضوعه المحبب
الذي يتفق مع طبعه وسجيته، فيشرع منذ ذلك الوقت بتهيئة ذاكرته ومخيلته
لإلتقاط الصور والحالات والتفاصيل والأنساق والألوان وكلُّ ما يدخل في حقل
كتابة القصة. ينبغي ألا تأتي كتابة القصة بقرار متأخر ومن دون أن يكون
الكاتب قد تسلّحَ عبر تاريخ طفولته ونضجه بالخبرات الأدبية والإنسانية
الكافية والكفيلة بمساعدته على صوغ قصته بيسر وحكمة وألق، مميّزاً إياها
عما عداها من أنماط الكتابة الأخرى، كتابة القصة من غير مؤونة كافية، من
غير خبرة، من غير مخزون ذاكرتي، من غير مخيلة ثرية، من غير ذائقة صقيلة،
تفشل ولا تأتي بثمارها، ولا تبلغ الهدف الجميل والجليل والنبيل، المرجوّ من
كتابتها.
وُلدت القصة القصيرة التي نعرفها اليوم، من رحم التحوّلات الإقتصادية
والإجتماعية والفكرية والثقافية والجمالية الهائلة التي مرّ بها التاريخ
البشري، مثلها في ذلك مثل بقية النشاطات والعلوم الإنسانية من فلسفة وعلم
جمال وشعر ومسرح ورواية وفنون تشكيلية. نستطيع الآن وقد استتب أمرها، أن
نتفهم ونثمن الجهود الكبيرة التي بذلها الرواد الكلاسيكيون، للتمهيد لهذا
الفن العظيم وتعزيزه ووضع أطره، وعلينا أن نحتفي بهم. لقد أرسوا باقتدار
الأشكالَ الأكثر تحرراً وجدارة والأسطع إضاءة والتي ما تزال على مكنتها
ورفعتها وقدرتها على مقاومة كل أنواع العبث والتخريب.
ما يزال الإختلاف حول تعريف القصة القصيرة قائماً، ولم يستقر الرأي على حال
حتى الآن، وهذا ما يؤكد مكانتها وتفردها بين صنوف الإبداع المختلفة، فهي
عصيّة على التعريف صعبة المراس لأنّها تتبدى دائماً بمظهر مختلف، ولكنّه ثر
الإيحاء، مع كل كاتب ماهر ومدرسة كتابة، وهذا ما أغوى عشرات الكتّاب في
أنحاء العالم المختلفة، على محاولات الاقتراب منها والتعريف بها، ثمّ ما
لبئوا أن اعترفوا بصعوبة مهمتهم، وهذا ما حدا بكاتب مثل شكولوفسكي حسبما
نقل عنه د. شاكر عبدالحميد في كتابه "التفضيل الجمالي" إلى القول بصعوبة
تعريف القصة، وبصعوبة تحديد الخواص المميزة للقصة، تلك الخواص التي "يجب أن
تتمازج معاً، لكي نحصل على مبنى حكائي مناسب، ذلك أن وجود صورة أو وصف، أو
حادثة، لا يكفي لكي يترتب لدينا انطباع، بأنّنا إزاء قصة قصيرة"، وهذا ما
حدا بفرانك أوكتو في كتابه "الصوت المنفرد" للقول: "ليست القصة القصيرة،
قصيرة لأنّها صغيرة الحجم، وإنّما لأنّها عولجت علاجاً خاصاً، وهو أنّها
تناولت موضوعاً على أساس رأسي لا أفقي، وفجرت طاقات الموقف الواحد،
بالتركيز على نقاط التحول فيه، فالذي يقف على منحدر الطريق، يتاح له أن يرى
الطريق كلّها". غير أنني وبفرح غامر أود أن أستشهد بقول د. جابر عصفور
الذي وصف القصة القصيرة أبلغ وصف: "فن القصة صعب لا يبزغ فيه سوى الأكفاء،
القادرين على اقتناص اللحظات العابرة، قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة،
وتثبيتها للتأمّل الذي يكشف كثافتها الشعرية، بقدر ما يكشف دلالاتها
المشعّة في أكثر من اتّجاه".
كخلاصة للجهد، بعد قراءة عدد من الكتب والكثير من المقالات، أخص من بينها
كتاب إنريكي أندرسون إمبرت المسمى "القصة القصيرة – النظرية والتطبيق"،
وكتاب محمّد يوسف نجم "فن القصة"، وكتاب سوزان لوهافر المعنون "الاعتراف
بالقصة القصيرة"، وكتاب رشاد رشدي "فن القصة القصيرة"، ناهيك عن الدراسات
المتناثرة والمنشورة في الصحف والمجلات الأدبية، وبعد أن قضيت الأيّام مع
الإنترنيت، أدخل إلى مواقعه العديدة، وأذهب مع حوارات المتحاورين وأستقبل
فيوضاً من الآراء، أقول إن أياً من التعاريف بالقصة القصيرة التي اطّلعتُ
عليها، اقتصر على ما استقل الرائي بالنظر إليه، فأصاب من جهته بعض الصحة في
جانب، وهدر قيمة جانب آخر، ذلك أن كل تعريف على حدة لا يكفي للإحاطة
بالقصة القصيرة من جميع زوايا النظر إليها وأخذ عناصرها مجتمعة. ولهذا بحثت
عن تعريف جامع مانع للقصة القصيرة، ووجدت في كل ما قرأت بعضاً مما طلبت أو
أكثر، فتحيرت، وتساءلت عن السبب في أنّ القصة القصيرة أثارت كل هذا
الاهتمام والنشاط الدراسي وما تزال على ما ظهر لي تثير المزيد، ثمّ لا
تستقر على تعريف متكامل، فعزوت الأمر إلى أن كل باحث ينطلق من الأثر الذي
تخلفه القصة القصيرة في نفسه، فللقصة القصيرة المتقنة دائماً ذلك الأثر
الأخّاذ الذي يمسك بتلابيب القارئ ويدوم، وفي ذلك ما يؤكد مكانتها بين فنون
الإبداع. غير أنني توصلت إلى أنّ القصة القصيرة نسيج فاتن مركب من أحداث
وحالات ونكهات وصور وأوصاف ووصلات بديعة، ينتقيها الكاتب بمهارة لِيُحدث في
أنفسنا أثراً بالغاً ومدهشاً، وهو غير مقيَّد بشكل محدد، ما دام أنّه لم
يفرّط بوحدة قصته وتماسكها.
المصدر: كتاب فنّ القصة (وجهة نظر وتجربة)
البلاغ