جـوهـرة الـونشريس

جوهرة الونشريس،،حيث يلتقي الحلم بالواقع،،
هنـا ستكـون سمـائي..سأتوسد الغيم..و أتلذذ بارتعاشاتي تحت المطــر..و أراقب العـالم بصخبه و سكونه و حزنه و سعـادته..
هنـا سأسكب مشاعري بجنون..هذيانا..و صورا..و حتى نغمــات..


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

جـوهـرة الـونشريس

جوهرة الونشريس،،حيث يلتقي الحلم بالواقع،،
هنـا ستكـون سمـائي..سأتوسد الغيم..و أتلذذ بارتعاشاتي تحت المطــر..و أراقب العـالم بصخبه و سكونه و حزنه و سعـادته..
هنـا سأسكب مشاعري بجنون..هذيانا..و صورا..و حتى نغمــات..

جـوهـرة الـونشريس

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
جـوهـرة الـونشريس

حـيث يلتـقي الـحلم بالـواقع


    التقاء الأدوات الفنية بين القصص القرآني والقصة الحديثة.

    In The Zone
    In The Zone
    Admin
    Admin


    التقاء الأدوات الفنية بين القصص القرآني والقصة الحديثة. 7e99cbc882b2aa88afb53997d7f58ce04g
    عدد المساهمات : 4732
    تاريخ التسجيل : 21/11/2010
    الموقع : الأردن

    تسلية التقاء الأدوات الفنية بين القصص القرآني والقصة الحديثة.

    مُساهمة من طرف In The Zone الأربعاء فبراير 09, 2011 2:05 pm

    نجاح سراج
    التقاء الأدوات الفنية بين القص القرآني والقصة الحديثة


    نحاول في هذه الدراسة تسليط الضوء على القصة القصيرة كجنس أدبي مستقل نسبياً عن الأجناس الأدبية الأخرى، وعرض مسألة مفهومية تتعلق بأوجه التقاء الأدوات الفنية بين القصة القرآنية وما وصلت إليه القصة الحديثة، ذلك أن القصة القرآنية تمتلك إمكانية التوازي مع البنى التطورية للقصة شكلاً ومضموناً، وتحمل في هيكلها الهندسي أهم تمفصلات القصة الحديثة التي تداخلت مع الفنون الجميلة، واكتسبت طرقها التكنيكية، رغم أن الطرق الحديثة في البنية السردية والنصية، أرسيت كقواعد في فترة متأخرة، أضف إلى ذلك أن التجريب في هذا الجنس ما زال هاجس القصاصين للمغامرة وكسر المألوف.
    ـ مراحل القصة:
    مرت القصة القصيرة بمراحل زمنية، لكل مرحلة خصائص وأدوات تظهر القصة بواسطتها عالمها الخاص، وإن اشتركت في عناصر أساسية، لكنها افترقت لاحقاً ببعض القوالب التكنيكية، حيث خضعت إلى أساليب الاتجاهات والمدارس، ولونت بنظرياتها البنيوية والمضمونية، ولسنا بصدد طرح مراحل نشوئها وتطورها عبر زمكانية تاريخية، بقدر ما نؤكد على مرحلتين رئيسيتين تعاقبتا بتأثير كمي ونوعي على النتاج القصصي الضخم.
    1 ـ القصة التقليدية:
    ارتبط مفهوم القصة التقليدية بالقصة المحكية جيداً، وبمنح عالم القص منطلقاً متكاملاً بما فيه السرد المتسم بالأناقة والدقة والوضوح، والوصف المغرق للشخصيات والديكورات، وتصاعد الحدث درامياً عبر النسق الثلاثي، بداية، وسط، نهاية، وإضفاء سمات خاصة على هيكلها الصنفي من الحجم والانطباع والإضاءة.
    2 ـ القصة الحديثة:
    تميزت بالخروج عن الأطر التقليدية، ومنح مساحة للمتلقي والكاتب للاشتراك في الإجابة عن الأسئلة المضمونية للقص، وجعل القصة مضخات لتحريك الوعي، بإدخال المنلوج الداخلي في بنيتها السردية، وكسر النفس المنطقي والوصفي وزمن القص، والبعثرة والجمع للأحداث والشخوص، وإدخال الحلم والكابوس ومزاوجتهما مع الواقع، مما أضفى عليها نوعاً من الغموض، وهي مفتوحة النهاية في أغلب الأحيان تعبر عن وعي أمة، لأنها أقرب ما تكون إلى الرواية والمسرحية بالاشتراك في عنصر الحكي، وتمتاز أيضاً بتأثرها بفن السينما بإدخال القطع والوصل والمونتاج الزماني والمكاني في بنيتها العضوية، كما أنها استفادت من الفنون التشكيلية وأساليبها، وذلك بتحطيم الشكل، وتجسيم المجرد، وإظهار الانفعالات الداخلية بضربات سريعة، ولم تكتف بعرض الحوادث الحاضرة والمتنبئة، بل تعاملت بالاستذكار والاسترجاع مع الموروث الشعبي والتراث بالتفكيك وإظهارهما بسياق فني جديد، مشعاً أبعاداً دلالية تعمق الأصالة في مثلث العلاقة بين الكاتب والنص والمتلقي، ولا تتقيد بالتصاعد الدرامي للحدث، فيمكن أن تبدأ من الوسط أو النهاية، ويمكن أن تنتفي عندها العقدة أو تتحول إلى رمزية كما في الموسيقى الانطباعية، أو في قصة (منزل النساء) لمحمد خضير، أو ينتفي الحدث تماماً كما في قصة (الأسماك) للقاص نفسه، فهي لم تأخذ بناءً ثابتاً، ولم تصل لحد الآن إلى قواعد جامعة مانعة.
    ـ بين القصة القرآنية والقصة الحديثة:
    تمثل أهمية دراسة القصة القرآنية، كبناء هندسي، كونها توفر سبق استخدام التكنيك الحديث للقصة القصيرة، هذا السبق غالباً ما جعلنا أمام وجود أساليب فنية في القص القرآني بحاجة إلى التأمل العميق لتوظيفها في كتابة القصة، من جانب آخر تؤكد لنا أن آخر ما وصلت إليه القصة أو ما ستصل إليه مستقبلاً يمثل بداية لأطوار تجريبية جديدة، وأن ما تفرزه يمكن أن نعثر عليه في أسلوب القصص القرآني، وستنصب دراستنا الآن في توضيح بعض الجوانب الفنية والظواهر الأسلوبية الطارئة على الشكل المنجز الحديث، والمتجذرة في عمارة القصة القرآنية.
    1 ـ الحوارات:
    وتنقسم إلى:
    1 ـ دايلوكات ... حوارات خارجية.
    2 ـ منلوجات ... حوارات داخلية.
    لقد ورد هذان الأسلوبان في القرآن كأحد الطرق الشكلية لإيصال الفكرة والتعبير عن الحدث، والعوامل النفسية للشخوص، ويمكننا بمراجعة القصص القرآنية الحصول على هذين النمطين من التعبير، أن أسلوب تيار الوعي (المنلوج الداخلي) قد أحدث تأثيراً كبيراً في بنية القص، لأنه يجسد أعمق العواطف، ويفتح قنوات في أدق مفاصل النفس البشرية، ويكشف إشاراتها السرية والرمزية، ولعل أدق تعريف له هو (قدرته على تحقيق العمق مثلما تحقق الطريقة التقليدية التوسع) فهو طريقة عمودية قبالة أفقية الدايلوك، ويعتبر (جيمس جويس) أول مَن استخدمه بشكل مبدع في نصوصه الروائية والقصصية، وتكمن تقنيته بأنه منهج للتحليل النفسي تتمظهر تموضعاته في جسد القصة، لكشف أعمق أعماق النفس البشرية. في القرآن ـ كما قلنا ـ ورد الحوار بقسميه، فهناك حوار جماعة: منلوج جماعة، دايلوك جماعة، وكذلك منلوج فرد.
    فالآية الكريمة (فلما روها قالوا إنا لضالون) تستبطن دايلوكاً ومنلوجاً، فالأول، يتموقف بمجرد أن يرى الكفار حقيقة جنتهم الأرضية، فيبدأون يتخافتون فيما بينهم، ويقول أحدهم للآخر إنا كنا في ضلالة ـ أي إنا لضالون ـ وهو حوار اعترافي يتسم بالاختزال والتكثيف، يحمل حوارات خارجية تعبر عن حالتهم وما يعتريهم من ندم، وهو في الوقت نفسه يمثل منلوجاً، لأن محاكاة النفس أكثر حضوراً إذا ما تعرض الانسان إلى صدمة عنيفة، أو انكشفت له الحقيقة المضادة لعمله، فإذا ما كان في موضع يؤهله للنجاة من المأزق بمجرد الإنكار، ستكون في الأقل محادثة نفسية هي منلوج داخلي، أما إذا حوصر في مكان يسمح له بالتملص أو الإنكار اللفظي، فسيكون هناك دايلوك يخاطب به المقابل، ومنلوج يخاطب به نفسه، هاتان الحالتان نلحظهما بوضوح في الآية الكريمة (... إنا لضالون) والتأكيد على أن الدايلوك حصل، هو مخاطبة أوسطهم (... ألم أقل لكم لولا تسبحون) فأجابوه (... سبحان ربنا إنا كنا ظالمين).
    أما حصول المنلوج فيشير إليه الموقف والحالة النفسية المتأزمة لهم كما في ظاهر الآية، وهو منلوج مباشر.
    إن المنلوج المباشر نراه يهيمن على معظم الأدعية، لأنه يقع عندما يتصور الانسان وجود شخص أو شيء، أو قوة مقابلة فيبادلهم مشاعره وأحاسيسه الباطنية، فالأدعية هي معادلة ذات طرفين، تتمصدق بين العبد وربه، تثير وحدها حالاته النفسية، وخلجاته المختزنة إزاء الشعور بالتقصير والخطأ، وهي تمثل أعلى مراحل الصدق، تكشف للانسان حقيقته المحجوبة عن الآخرين، في مناخ من الاعتراف النقي، فمثلاً عندما يقف المقصر أمام ربه يقول: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين).. إنها التحام الشعور بالشعور في موجة الروح الصارخة.
    لقد تناول القرآن المنلوك والدايلوك من كل زواياهما، ولا يسعنا في هذه الدراسة أن نستطيل ذكراً على كل ما جاء، لكننا سنذكر البعض للتمثيل لا الحصر.
    المنلوج نحو: (فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون).
    والدايلوك نحو: (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً * قال إنك لن تستطيع معي صبراً * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً * قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً).
    2 ـ الغموض:
    المنجز النصي للقصة بشكله ومضمونه ينزلق أحياناً إلى تغليق أجواء القصة بأسئلة غامضة، تتعلق بحركة الشخوص أو الأحداث أو السرد الفني بفعل المفردات الموظفة بطريقة خارجة عن المألوف، وليس مهمة القصة الحديثة أن تجيب عن هذه الأسئلة، بل تكتفي بتبيان أجزاء مفصلية من البناء الكلي لها، وتترك القارئ يعيش في تأويل المفاصل الأخرى، مهمتها أن تدفع القارئ إلى المشاركة بكشف الغموض عن الأجزاء المتروكة له، وجعلها تصب في العمود العضوي لها، فظاهرة الغموض في القصة ضرورة ملحة لايجاد حركة في أعصاب الحدث، فهي تخترق وعي المتلقي وبقوة تنشط وتضيء زواياه غير الفعالة، فبدلاً من أن يكون وعيه محطة استقبال للمنجز الفني، يتحول إلى محطة استقبال وارسال في الوقت نفسه، فالعبد الصالح الذي رافق موسى (ع) وحاوره كانت شخصيته غامضة غير محددة، رغم أنه أحد أبطال القصة الرئيسيين، فهو مثار التشوق والانشداد فيها، قام بالفعل، وجعل الأحداث تتشابك بعقدة كان مفتاح حلها بيده أيضاً، وكذلك ورد الغموض في قصة صاحب الحمار (وقد أبهم سبحانه اسم هذا الذي مرّ على قرية، واسم القرية والقوم الذين كانوا يسكنونها..) فلم يتطرق القرآن الكريم إلى حيثيات حياته وبيئته، ولم يذكر اسمه وقومه، ولم يكشف عن سبب خروجه من قريته مع عدة الرحيل، ولم يوضح لنا أكانت قريته مؤمنة أم ضالة، وكذلك القرية التي رآها خاوية على عروشها، أكانت نتيجة فسادها أو نتيجة شيء آخر، بل اكتفى بمشهد زمني قصير، هذا الغموض دفع الناس للبحث عن أجوبة الأسئلة المبثوثة تلميحاً في أجواء القصتين القرآنيتين، فالتجأوا إلى الرسول ()ص) وبعده إلى الأئمة (ع) فكانت ثمة حركة محادثة، وتفاعل مع أجزاء الحدثين نتج عن الغموض المنثال في مناخ القصتين، لضرورة ووسيلة فكرية وتعبيرية للقصة القرآنية لربط الانسان بالمطلق.
    3 ـ الأزمنة:
    الأزمنة المعروفة لدى النقاد والقاصين والموظفة بطريقة تتباين من تجربة قصصية إلى أخرى، هي ثلاثة:
    1 ـ زمن القص.
    2 ـ زمن السرد.
    3 ـ الزمن النفسي.
    هذه الأزمنة، تمنح القاص حرية الحركة في بناء نصه، وتحقق له امكانية كسر المألوف، والانفراد بخاصية يكون مجرى الوعي فيها أكثر حضوراً، فيمكنه أن يستبق ويسترجع ويتصرف بحوادث واقعة أو متأملة الوقوع، يجعلها تتقاطع بخيوط زمن السرد، ماناحً نصه تجاوزاً وانطلاقاً يرسيان له دعائم تجربة فنية، يكون فيها أكثر تجذراً في الواقع، وأعمق تأثيراً، أضف إلى ذلك يكون لرؤى اللاوعي دور هام على مسرح النص، كما أن طغيان الزمن النفسي يوفر عنصر التكثيف للقصة، لأن الأخير يصور اللحظات النفسية بعمقها المأساوي وقلقها الراكز، وما ينتابها من تمزقات، لتشكل بمجموعها قصة كاملة، كما في قصة الشبح لـ(علي عباس خفيف) فلا يتجاوز زمن السرد سوى حركة سجين من مكانه حتى مكان قضاء حاجته، كذلك في (زنزانة رقم 6)، فلا يتعدى زمن السرد سوى أربع خطوات، على طول القصة، تاركاً الزمن النفسي، وزمن القص يطغيان.
    فتقنية الثالوث الزمن أضحت من السمات المهمة لتحديد الكتابات الإبداعية، وذا ما تعاملنا معها على أساس الحركة والثبوت، نرى أن زمن السرد ثابت لأنه يمثل زمن كتابة القصة، أما زمن القصة فهو أكثر مطاطية وحركة، وهو زمن وقوع الحادثة، لذا تولد من تداخلهما تقنيات متعددة تساعد القاص على بناء نصه بشكل محكم، فبإمكانه أن يعتمد على حادثة ماضوية في بناء ثيمة قصته وفق حالات الاستذكار والاسترجاع، فيما يكون زمن القص سابقاً زمن السرد، ويمكن أن ينبئ بحادثة تقع في المستقبل تكون ثيمة قصته، باستخدام تقنية الاستباق (الإشراف) يكون فيها زمن السرد سابقاً زمن القص، ويمكن أن يجعل الزمنين مندمجين أي زمن السرد هو زمن القص، وفق تقنية التوازي، وغالباً ما يكون الزمن النفسي في تواز مع الحالتين الأوليين.
    معظم القصص المنشورة في المطبوعات الاسلامية تعتمد على تقنية زمن السرد متأخراً عن زمن القص، كما في قصة (مساء العافية) لهاجر القحطاني و(لقاء على ضفة الجرح) لباسم الأنصاري و(الاستفهام) لحميد الحامد و(أمسية سماوية) لجمال الساعاتي، ونراه بوضوح في قصة (رجل يموت، رجل يستشهد) لمحمد الربيعي. وإذا ما تداخلت بعض الأزمنة فهو تداخل نراه في القصص المصاغة بصيغة ضمير المخاطب، حيث يقوم القاص بعرض الحوادث بشكل يطابق زمن السرد، فيكثر من استخدام الأفعال المضارعة المجردة عن النواصب والجوازم وحروف الاستقبال، اضافة إلى استخدامه الجمل الإسمية، كما في قصة (العبور) لصباح حسن، حيث يكون الزمنان فيها متوازيين، وكذلك في القصص المصاغة بضمير المتكلم كما في قصة (الحلم) لعبدالله الفريجي، الأزمنة في القصص القرآنية تتداخل وتنفصل أحياناً لتؤطر الحدث القصصي بفضاء مشحون بالاسترجاع والاستباق، أو التوازي، كما أن كل زمن لحادثة عند تأويله يمكن أن يستبطن الأزمنة الأخرى، ونرى ظاهرة القطع بشكل واضح، حيث يتم بها القفز على الزمن، في القصص القرآني يبدو استحضار المقطع الزمني المكثف استخداماً مألوفاً ومتوالياً كما في:
    (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين...).
    (وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...).
    (وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...).
    (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ...).
    هذه أربع قصص متكاملة، وهي أربعة مقاطع زمنية، وفق تقنية المونتاج الزماني الحديث، كان قد جمعها القرآن وطرحها بضمير المتكلم واضعاً إيانا أمام قصة أيضاً ذات مقطع زمني مغاير، ففي الأخير حصل التقافز الزمني بين فترات القصص الأربع لمسوغ فني لأسلوب المعجز في الضغط والتكثيف.
    فإذا ما نظرنا إلى فترة نزول القرآن بالتحديد واعتبرنا على سبيل المثال أن زمن النزول هو زمن السرد المعجز، فسيكون من ظاهر القصة القرآنية المتضمنة أربع قصص، أن زمن السرد متأخر عن زمن القص، أما في الآية الكريمة: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا الماء أو مما رزقكم الله...) يكون زمن القص متأخراً عن زمن القص، من جهة، وإذا ما علمنا أن تقنية الاستباق واضحة تأويلاً لأن أباهم كان يعلم أنهما حيان من جهة أخرى، كما أن الزمن النفسي نحسه بوضوح عند إخوة يوسف (ع) وبالتحديد عند وقوفهم أمامه وشعورهم بالخطيئة والذنب، ونراه جلياً عند يوسف (ع) حين طلب من الذي خرج من السجن أن يذكره عند ربه، فمكث سبع سنين أخر.
    ـ اللامعقول:
    المقصود من اللامعقول في هذه الدراسة هو عدم تقبل العقل في جانبه التصديقي الظواهر الخارجة عن حواسنا، وعن قوانين الواقع الصارمة والمنطق الكوني، وهو يشمل رؤية اللامعقول المقترن بالعبثية، والذي أفرز نتاجاً ضخماً، على شرط تجريده من العبثية التي جاءت كنتيجة منطقية لعدم الإيمان الصحيح للأديب بالسنن الكونية، نرى هذا الاتجاه كـ(تعريف، ومنهج، ورؤية، وتراث كبير) في الدراسات والكتب الرائجة حوله، وأود أن أشير إلى أن هذا المصطلح لا يتناقض مع ما ذكر في الكتب العقائدية، حيث أطلق عليه تسمية (خرق العادة)، لأن اللامعقول وخرق العادة مصطلحان يختلفان في التسمية فقط، ويلتقيان في المضامين، فالحوادث الخارجة إن بعض تجليات ناموس الكون، وفق المصطلح الأول (اللامعقول) بمقاييسه الفكرية والطبيعية هي غير معقولة، وهو رأي صحيح (أما نحن فنقول أن ما أوضحته العلوم من قوانين فهي مقيدة بشروط خاصة، وفي حدود هذه الشروط فهي صادقة) .. ووفق المقاييس الفكرية و(السنن الواقعية) للمصطل الثاني هي خرق للعادة، أي معقولة، ومن هنا فالاختلاف يمكن في العرض وليس الجوهر، إذا ما نظرنا إلى أن المضامين هي الجوهر وأن المصطلحين هما العرض، وإذا ما اعتقدنا أن اللامعقول هو خرق العادة كواقع تصديقي على اعتبار أن المضامين هي نفسها في الاثنين، نحصل على الشيء الذي يهمنا وهو التأكيد للآخرين أن ما ذهبوا إليه (اللامعقول) له حضوره في القصص القرآنية بشكل مكثف، فأدب اللامعقول عندنا مبرراته ويمكن حمله على معقولية تتناسب مع مدى فهمنا لسنن الواقع، لأن تجريده عن أدب القص يؤدي إلى بتر أحد أعضائه الأساسية، هذا البتر يضيق أخيلة الكاتب، ويشطب نصف المحتوى الصوري لها، فالميثولوجيا العراقية القديمة، وأسطورة (جلجامش) كانت لامعقولة لأنها تصور الحياة تصويراً من الصعب أن يناله الانسان، ورغبة الانسان للوصول إلى مرتبة علمية كبيرة دون توفر الأسباب، وقصص المغامرات وأفلام الصور المتحركة، كلها غير معقولة، فموت البطل ورجوعه يتنافى مع القانون الطبيعي، ولا يحملنا على تصديقه فهو غير معقول، والحالات الخارقة للأبطال الأسطوريين وقتلهم آلافاً في لحظات بوسائل بدائية لا يتعقلها أي منا.
    إن عدم عقلانية الحوادث والظواهر لا يعني أنها غير قادرة على أن تؤسس فنونها المستقلة وأدبياتها، فكثير من الأشياء لا تتمصدق على الواقع لها وجود تصوري، يزيحه الكاتب إلى الواقع بالاعتماد على التجسيم والتشخيص والتجريد كمرجعيات في تطويع البؤر النصية، وحملها إلى المتلقين لمغاز وأغراض لا تتعلق بالانجذاب والتشوق وتحقيق المتعة الوقتية فحسب، بل قد تتجاوز في إحداث تغيير وتفعيل في هيكلية الواقع. إن انشداد القارئ الناقد لهذا اللون يفرز موازنة مغناطيسية متقابلة بين الأثر والمؤثر هي قوة التأثير، سببها استجابة شعورية، لا شعورية تتجاذب مع الطاقات الكامنة الطافحة في أعماق الانسان، فانفلاق البحر لموسى (ع) ظاهرة غير معقولة، وكذلك نوم أصحاب الكهف ثلاثمائة وتسع سنين، وقصة ولادة عيسى (ع) ظاهرة غير معقولة، إذا ما وقعت الولادة نفسها لامرأة تحمل المواصفات الفسلجية ذاتها، هذه الأمور كلها لامعقولة إذا نظر إليها من زاوية (قشرة السنة) المتجلية في الطبيعة وليس من زاوية (السنة الواقعية)، أو (القانون ذاته).
    وكما إننا أمام مضامين لامعقولة كذلك أمام سرد لامعقول، لأن التراكيب اللفظية المجازية التي تخلق الصورة الفنية في السرد ليس لها مصاديق على الواقع، فهي في الذهن مفردات لها وجودها الصوري، وفي الخارج تختفي بمجرد إخضاعها إلى الواقع، فهي لامعقولة كوجود تصديقي، ومعقولة كوجود تصوري، والمزاوجة بين المعقولية واللامعقولية تعتبر محفزاً أولياً لتوليد الصورة الفنية وتحديد جماليتها.
    فـ(جناح الذل) مفردتان: الأولى محسوسة والثانية معنوية، وباضافة الجناح إلى الذل ندخل في أطر اللامعقول، فكيف ترانا نتصور أن للذل جناحاً؟ ولكننا نتعقلها ونقبلها إذا ما تعاملنا معها على أساس تقريب وإيضاح الصورة وترسيخها في الذهن، لأن التعامل مع المحسوس مباشرة يفضي إلى مزيد من التكرارية والفوتوغرافية، والرتابة السردية، والخروج عنه يعني التحكم بكتل اللون وتوزيعها مراعاة للظل والضوء على فضاءات صورة اللوحة التعبيرية التي يحملها السرد الفني، ومن هذه الرؤية، لكي ينبهر الملتقي عليك أن تصدمه بحدث بقدر ما يبتعد عن المعقولية في لحظة التلقي فإنه يمتلكها بعدما يفتح قنوات في أعماق النفس البشرية، ويوقظ البصائر المقيدة في أروقتها، وإذا ما حصل فستكون هناك طبقة مثقفة واعية مدافعة، قبالة أخرى مظللة، كما في نزول القرآن، أو قصة مريم، فالقصة القرآنية ليست هدفاً بل (وسيلة من وسائل القرآن الكثير إلى تحقيق هدفه الأصيل) فيمكننا أن نعتبر الإعجاز الوارد فيه خططاً، لتحقيق الهدف الأولي المتمثل بالتوحيد والهدف الثانوي لتحقيق العبودية التامة، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
    فواقع الإعجاز واقع مموّه، وهو خارق العادة عقائدياً، ولا معقول وفق مقاييسنا الطبيعية، وحسب رؤية أدب اللامعقول، وهو يشير إلى الهدف الذي أراده الله تعالى.
    ـ الموروث:
    إن استخدام الموروث في بؤر القص، أضحى كعصب أساسي في وحدة البناء القصصي، ويعد تقنية متقدمة تجذر منحنيات زمنية تتقاعط بعض حوادثها بوقائع زمنية متأخرة، مشكلة حلقات دائرة متكررة: المركز، الثيمة المتعلقات، وإن اختلفت في سمك الانحناء الخطي للمجتمع: الفكر، السلوك، الشخوص، وتباعدت عن الحوادث يبقى أكثر المفردات حضوراً، مجسداً الحركة الدائرية للتاريخ (لذلك يجوز تصوير كل من بروميثيوس أروست واليكترا.. وكأنهم في حضور دائم، نماذج لازمانية للوجود الانساني، كرموز تقترح التكرار الدائري للشيء نفسه، أو لوضع انساني متشابه) لذا عمد القصاصون في التعامل مع الأنماط التراثية، بتوظيف جديد يعمق صلة الماضي بالحاضر، ويمنح المنجز الفني أصالة وامتجاجاً. القصة القصيرة تصدرت هذا المنحنى الزمني تنحت بناءً مغايراً نسبياً عن القصة التقليدية، يعتمد على التوليف التاريخي المتجانس، ومدّ شرايين رؤيوية إلى جسد الموروث بتجلياته، واستلهام الشواهد المتكررة، والاستفادة من الفولوكلور الشعبي والملاحم والأساطير والسير، وتوظيفها إما بطريقة مندمجة تلميحاً في بنى النصوص، أو إعادة صياغتها بطريقة حداثوية وجعلها جزءاً من الواقع، أو بذكر أجزاء مقطعية تمثل حلقة رئيسية تربط الحلقات الأخرى لهيكل القصة متخذها القصاص كخطط تشير إلى أهداف وإلى وعي جمعي تغييري، فالعودة إلى الماضي هي وخز الحاضر واستفزاز المستقبل وصدم المجتمع دافعة إياه لمعرفة ذاته وحقيقة سلوكيته، اضافة إلى البعد الجمالي والدلالي العميق الذين يكتسبهما النص، القصص القرآنية معظمها تعتمد على الموروث، بإعادة عرض الوقائع والحوادث التي وقعت على الأقوام والأمم السابقة، بشكل يتباين من قصة إلى خرى، تفصيلاً واختزالاً وفق طبيعة المسوغ الفني والتعبيري للمعجز، فالأنبياء، الطواغيت، الأقوام، السحرة، كلها مفردات عامة وحساسة ملأت التاريخ بحوادث قصصية، لها أزمنتها وديكوراتها الضاجة بالصراع والتضاد بين الظلمة والنور، وهي أهم البنى المضمونية المطروحة في غمار القصة القرآنية، فالموروث في القرآن يشكل معادلة لتأكيد المغازي الهامة للسورة، كقوله تعالى: (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً * ورفعناه مكاناً علياً). الفلاش باك واضح، يحث الخالق ـ بضمير المخاطب ـ السامع والقارئ على العودة إلى قصة إسماعيل لاستلهام أروع المفاهيم الأخلاقية من الطاعة والالتزام، وهي تمثل موروثاً لزمن النزول (زمن السرد) هذه الآية الكريمة تشكل مقطعاً زمنياً محدداً وقعت فيه قصة إدريس (ع)، ويستبطن رواية ضخمة عند النظر إليه بعدسة الواقع، بتحديد جميع أفعاله وحركاته وفق زوايا الرؤية القريبة، المتوسطة، العامة، بإحصاء علاقاته الاجتماعية السياسية والبيئية، والحوادث التي وقعت في فترة نبوته، هذه الجوانب يمكن أن تفصل لتشكل العديد من القصص القصيرة، ولم يسهب القرآن بالتفاصيل، بل اكتفى بهذا العرض السريع.
    قصة موسى (ع) وفرعون لم تطرح في سورة واحدة كاملة، بل توزعت مقاطع في العديد من السور، وبجمعها يمكن أن نحصل على قصة متكاملة، هي عبارة عن موروث لزمن السرد، قصة يوسف (ع) أكثر القصص استطالت في سورة واحدة بنحو إجمالي ابتدأت بحلم يوسف (ع) وانتهت بجمع عائلة النبوة، وهي سابقة عن زمن السرد، فهي موروث.
    فالقرآن الكريم تعامل مع الموروث كإحدى الوسائل لتحقيق أهداف السماء وربط الانسان بالمطلق.
    وهناك تقنيات أخرى وردت في القصة القرآنية، استخدمتها القصة الحديثة مع شيء من الاستطالة والمطاطية، وتعاملت معها بوعي مكنها من تأطير البنى النصية برؤى تحديثية ساهمت بالانعتاق من قبضة المواضعات التقليدية للقص، وسنذكر منها ثلاثاً ولا نزعم أنها تحيط:

    1 ـ تقنية الفلاش باش، أو ما يعبر عنه بالاستذكار والاسترجاع، وقد ورد الاستذكار بضمير المخاطب، كما في قصة النبي اسماعيل (ع): (واذكر في الكتاب اسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً).
    (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً * ورفعناه مكاناً عليناً).

    2 ـ تعتبر النهاية المفتوحة من الاتجاهات الجديدة وتقنية مضافة إلى جمالية النص، وقد وردت النهاية بنوعيها في القصة القرآنية، ولتجنب الاستطالة، نضرب مثلين فقط، قصة صاحب الحمار الذي تساءل كيف تحيى العظام وهي رميم؟ وتيقن بعد أن أماته الله مائة عام وأحياه فوجد طعامه وشرابه لم يتسنه، تنتهي بنهاية مغلقة كحدث، وكذلك قصة يوسف (ع)، أما قصة آدم (ع) في الجنة وتفاصيلها المذكورة في القرآن الكريم، فلم تغلق نفسها، بعد أن أخرجه الله إلى الأرض لتكتسب الانفتاح والامتداد.

    3 ـ تقنية الحلم: الحلم في القرآن الكريم (الرؤيا) يمثل اختزالاً لأحداث مستقبلية، وتكثيفاً رمزياً ذا أبعاد دلالية تشير إلى الواقع الموضوعي، الحلم في القرآن الكريم حقيقة تصورية في الذهن، لها مصاديقها الحسية فيما بعد، وهي واقعة لا محالة، وليس هو تحقيقاً لرغبة غير ممكنة أو تحقيقاً مبتسراً أو مفككاً، أو تداعيات كابوسية كما في قصة (منزل النساء) ـ حلم طارد القاص لثلاثة أيام متتالية ـ فالحلم واقع مموه أو هو نفس الواقع يكشف المستقبل عن وقوعه، هو قصة قصيرة جداً مرموزة، ومضة ممتلئة بالاشارات والمدلولات المعرفية، في الحياة في درجة الإمكان والاحتمال وفي القرآن وجود حسي متأخر، لذا استفاد منه العلماء والأدباء والأطباء النفسانيون وعامة الناس، فالعالم (كيكوليه) الذي اكتشف حلقة البنزين، كان اكتشافه عن طريق الحلم، يقول: (فرأيت كأن الذرات تتطاير أمام ناظري، لقد كانت تتلوى وتدور حول نفسها كالحيات، ثم انظر ماذا؟ إن إحدى تلك الحياة استدارت وقبضت ذيلها).
    وقصة يوسف (ع) بدايتها حلم (إذ قال يوسف لأبيه يا أبن إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين).
    وبالمقابل طلب والده أن لا يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيداً، تبتدئ بقصة قصيرة جداً مضغوطة تستطيل على الواقع باتساع وعرض تفاصيل أحداثها مما جعلها تدخل في جنس الأقصوصة، ولم يتطرق القرآن الكريم عن كثير من الاستطرادات والتفاصيل الدقيقة رغم طول فترة وقوع القصة، وامتداد نفسها الطويل، المليء بأحداث جانبية كثيرة وحوارات، وأزمنة نفسية للشخوص، بل اكتفى بهذا التكثيف لمسوغ فني وتعبيري للنمعجز. يتخلل حوادث القصة ثلاثة استخدامات جديدة للحلم، الأول والثاني (ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا إنا نراك من المحسنين) والثالث: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسان يا أيها الملأ افتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون).
    هذه الأحلام المطروحة في جسد القصة القرآنية، لها أهميتها في الهيكل الكلي للبناء، وتمثل حلقات تؤمن التصاعد الدرامي للحدث، فتداخل الأحلام في هندسة الحلم الأول الذي يشكل المعنى الإجمالي لأحداث القصة التي وقعت لاحقاً، وتضمنت بداية ونهاية وعقدة انحلّت بـ(رأيتهم لي ساجدين) يشكل تقنية رائعة لم تكتف بطرح حلم بنيت عليه القصة فيما بعد، بل غذيت بأحلام أخرى كأجزاء مفصلية وتمظهرات ملازمة لا يمكن الاستغناء عنها.
    ـ الواقع.. عدسات الرؤية:
    إن السعي المحايث لحركة التيارات الفكرية والفلسفية، لإرساء دعائم ثابتة في تربة الأهداف المعلنة للأدب، ومنحه مرونة الحركة، وديميومة الاكتشاف والانطلاق والتجاوز، وضع الكلاسيكية والواقعية أمام أسئلة عالمنا المعقد (لم تعد الواقعية ولا الواقعية الجديدة ولا الواقعيات العديدة تكفي للتعبير عن عصرنا المعقد) وهل يمكنهما أن يصمدا قبالة الصدمات المنبعثة من قلق الشعوب بفعل الدمار وميكانيكية الحرب؟ هذا السعي بات يؤسس اتجاهات تفسيرية للواقع المنظور، فالواقع الموضوعي بشخوصه وديكوراته وتعقيداته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية قد وقف طويلاً أمام عدسة التعبير الكلاسيكية المفرطة في التصوير الخارجي المتعقل الواضح، وكذلك أمام حدقتي الواقعية بكل تمفصلاتها: الواقعية القديمة، الواقعية البارناسية، الواقعية الاشتراكية، الواقعية الطبيعية... الخ.
    فقد تخمرت في مختبرات نظرياتها التطبيقية، وأتخمت نصوصها المنصبة على العلاقات والحركات الظاهرية، وعرض شرائح المجتمع بشكل تفصيلي، هذه الوقفة تعرضت إلى هزات عنيفة قبالة الزحف التنظيري الجديد لتيارات انبثقت كردّ صارخ بوجه النمطية والتكرارية التي لا تتجاوز الواقع الحسي، مما جعلها قلقة تفقد أجزاء مهمة من أعمدتها ومعادلاتها البنائية في هيكلها الصنفي (لقد بات التخيل الأدبي إذن لا يقف، كما كان بفعل الواقعية المتأخرة لعام 1990م عند مظهر الكائنات الاجتماعية أو عواطفها، ولا حتى عند حركات أهوائها، إن الواقع الذي يهدف إليه الفن قد غيّر من طبيعته، فوراء الأحداث العينية، والوقائع والحركات الظاهرية، والكلام، أي وراء كل ما يشكل خيوط التخيل الروائي، يتطلع الكاتب إلى الواقع العميق الكامن في كل فرد لا فكره وقلبه بل ما يسمى روحه)، فلم يكن الواقع المرئي يشكل السمة الفارقة لأنواع الأدب وأشكاله الصنفية بصورة جامعة مانعة، إن الواقع الذي ترمي إليه الرومانطيقية يتخذ من الواقع الموضوعي قناعاً له، ولا ينكشف للانسان في حركته الآلية الرتيبة إلا إذا تعرض إلى خطر يشعره بالعزلة التامة، فهي تنظر إلى الواقع المرئي بأنه واقع مزيف وخلفه يكمن الواقع الحقيقي (لكن الموضوع هو السر الانساني والإلهي الذي تمثله حياة هؤلاء البشر، وعلى هذا فإن المظهر الواقعي المحض لحياتهم ليس إلا بلبلة، ذلك لأنه لا يريد أن يكون إلا الصورة الملتوية، المنقلبة، عن الحقيقة العميقة).
    وتختلف الرمزية والواقعية السحرية عن الرومانطيقية قليلاً، فالأولى تؤمن بوجد واقعين وهي من حيث المبدأ البحث عن رموز أو مراسلات تربط العالم السري بالعالم المنظور).

    أما الثانية فتؤكد أن الواقع المرئي ناقص غير كامل وهناك جزء منه يكمن في الواقع السري، وحتى الكاتب المتهكم يدفن بين كلامه رسائل تحمل صرخات يأس تجاه البشري المأساوي، لا تتطابق مع الواقع الذي يعكسه الشكل، فالرومانطيقية والرمزية والواقعية السحرية تشترك مع الرؤية القرآنية بوجود واقعين أحدهما ميتافيزيقي، وتختلف الرومانطيقية عنهما بتهميشها للواقع المرئي ملتقية مع السريالية والدادائية والمدرسة التكعيبية والتعبيرية والوحشية ... وتأسيساً على ذلك فإن جميع هذه المدارس والاتجاهات والأساليب تؤمن بوجود واقعين، واقع مرئي، وآخر سري، فالواقع المرئي يصبح مموهاً عند الرومانطيقية والرمزية وفي الأسلوب التهكمي والواقعية السحرية، هذه الآراء النظرية انسحبت عملياً على النصوص الأدبية والفنية، وأفرزت أدباء متشددين ذوي مواهب كبيرة ترجمت هذه الرؤى بأعمال ضخمة، فالمسخ عند (كافكا) كان ترجمة لحالات القلق الانساني وهو واقع مموه صارخ بوجه الواقع الرأسمالي والكبت الانساني، والرموز عند (كلوديل، فاليري، جيرودو، بروست) هي (رغبة في ربط كل ما يحدث في العالم بروابط سرية)، ورموز (فؤاد التكرلي) في نص مسرحية (الطوف) هي مقاطع حياتية مموهة عن الثورة ورؤيته إزاء الوضع السياسين ورموز (محمد خضير) في قصة (المأوى) هي تقسيم للوعي الجمعي، واختيار عينات مموهة تستبطن حقيقية الوضع السياسي مع حث عنيف على الحركة، ورموز (صلاح زنكنة) في قصته (القيد) واضفاؤه الغرائبية على الحوارات والحدث وتشخيصه للقمع وعدم حرية الرأي، كلها تمثل واقعاً مموهاً معادلاً موضوعياً للقيد المادي.
    ونرى الواقع المموه واضحاً في قصة (الجنازة) لـ(عامر ملاعيدي)، فلا معقولية الحدث والحوار، جعلت مدراكنا تسمع صراخ الموتى وحركة التوابيت في دولة مفككة تخنقها آلة الحرب، فثيمة القصة المتجسدة في البطل وطريقة تصرفاته إزاء الواقع المر، بكوميديا سوداء، ورفضه ميكانيكية السلطة المستهترة، تعكس لنا جوهر المغزى الذي يرمي إليه القاص، وتمنح المنجز الفني سعة ومرونة أكثر جدوى من عرض مباشر يحطم صيغة القصة، فالأدائية لبطله تفضي من البدء إلى ممارسة شكلية تبتغي التعبير الساخر من جهة، وبلوغ هدفية من جهة أخرى، وهذا يوفر العناصر الفولاذية في استقراء الواقع الصامت خوفاً وتملقاً، التي لا تتأثر بمعطيات الزمن السلطوي الذي يجذر عبثية المواجهة واللاجدوى، وكذلك في قصة (الغريب) لـ(عبدالله الفريجي)، حيث استقطع من الواقع الموضوعي عينة معتمداً على المفارقات الضدية والطبقية للوعي الجمعي، متخذاً من شخوصه رموزاً سياسية تعاني من عقدة اختيار الموجه، وتحطيم بوصلة الرؤية الصحيحة، في أجواء تفككية يخنقها الانفصام والتملص والأنا، والنتيجة كانت عرضة لقيادة سلطوية ماكرة انحشرت بينهم بطريقة غاضمة، وبمجرد أن أمسكت السلاح عقدت اتفاقاً انتهازياً مع رمز معارض، كمرحلة تكتيكية، ثم تهميشه فيما بعد، وجعلت الآخرين يتحركون رغبة لنوازعها الشريرة، فرموزه واقع مموه للنظام السلطوي وموقفه إزاء المجتمع.
    وفي تجربتي القصصية ينقسم الواقع المموه إلى:
    واقع حسي ملموس يستقطعه القاص من الواقع الموضوعي، يشترك مع واقع حسي آخر يريده القاص لا خططاً، وعلى هذا الأساس تكون هناك قراءتان: الأولى مباشرة سطحية ذات رؤىً خاملة، مسطحة، غير قادرة على ايجاد حركة فاعلة في وعي القارئ، والثانية غير مباشرة، عميقة، تدفع الوعي إلى النفاذ من الواقع المقروء إلى الواقع المقصود، كما في قصة (زنزانة رقم ثمانية) تقاطع الحافلة بصمت.
    بالاستفادة من الواقع الموضوعي يقوم القاص بنسج واقع مموه عنه باستخدام خياله، فيركب، ويفصل، ويمسخ، ويحجم، ويجرد، ويشخص، ويضخم الموجودات الحية والديكورات على شرط أن القارئ لنصه يصل إلى مفهومية معرفية كاملة يحملها الواقع المرئي فاللامعقول من شروط هذا الواقع الذهني، ومن شروطه أيضاً أن يحملنا إلى معقولية الواقع الموضوعي العقيم، وإن كانت بعض إفرازات الأخير تصب في اللامعقول أيضاً كما في (زنزانة رقم 1) و(زنزانة رقم 6).

    فليس الواقع المموه كله واقعاً متخلياً مفصولاً عن الواقع المرئي، بل يشترك معه في عدة نقاط، تمثل قنوات اتصال حاسمة لمرور ذهنية المتلقي وإن كانت حركة بطيئة، فهي توفر للمتلقي المزيد من التأمل لتفكيك النص واستقراء أبعاده الجمالية، وهو (يوتوبيات) أي واقع خيالي، أو هو نفس الواقع (يبرهن القاص على فرضياته) بإخضاعه إلى تشكيل جديد، وذلك بتجريد الواقع الحسي عن معظم خصائصه وصفاته، ونقلها (العرض) إلى الحدث المنسوج في الواقع الذهني المموه وتوزيعها بإتقان، يمنح المنجز الفني أبعاداً دلالية جمالية، على اعتبار أن هدفية القاص هو التأثير على المتلقي بإثارة البناء الذهني له وحمله على التفاعل مع البناء التحتي للمجتمع ولا يتحقق هدفه إلا بالتعامل المباشر مع الوعي واللاوعي وصدمهما، أما كيفية تضييق المسافة بين الواقعين فيعود إلى فهم خاص لجوانب العلاقة بينهما وبين درجة تقنية القاص من جهة، وثقافة الملتقي من جهة أخرى.
    *المصدر :مجلة القصب/العدد12/1998م
    موقع البلاغ

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 15, 2024 3:22 am