في بيتنا مناضلة/ قصة قصيرة
أتساءل، أحياناً، ألا تتعب هذه المخلوقة؟ ألا تفتر همتها؟ ألا يتسلل اليأس إلى تلافيف عقلها؟
ألا تشعر بأنّها تدور في طاحونة لا تنال منها سوى الجعجعة؟
أقول لها: "يا باسمة... يا حبيبتي.. ألا يكفيك هؤلاء الأبناء الثلاثة الرائعون وهذا البيت الجميل.. فلماذا لا تهدئين في هذه الجنة وتتفرغين لها؟".
لكن زوجتي لا تعرف معنى الهدوء، وهي جاهزة دائماً لأي استنفار وكأنّها ولدت من صلب محاربين لا يعرفون التراجع.
الغريب أنّني كنت مثلها تماماً. بل إنّ ما جذبني إليها، ونحن على مقاعد الجامعة، كان حيويتها والتزامها السياسي ودورانها علينا لجمع التواقيع أو لمساعدتها على كتابة اللافتات وللسير في التظاهرات الطلابية الصاخبة. كم مرّة، وضعت كفي في كفها ونحن نشكل مع الرفاق سلسلة بشرية تتقدم صارخة "يعيش.. يعيش... يسقط... يسقط" كم مرّة تحدينا الحواجز وعبرنا فوق الموانع وجابهنا قوات الأمن وعدنا إلى بيوتنا والعرق يغرق وجوهنا؟
لكن تلك الأيّام مضت مع قضاياها "المصيرية". فقد كان كل شيء في مفهومنا مصيرياً: الدراسة والعمل والغناء والسهر ومستقبل الأُمّة. كان الواحد منّا يملك محركاً قوته 200 حصان في داخله. ولم نكن نعرف معنى التعب، بل يرفع الطالب منّا صوته في الهتاف حتى تبح حنجرته لكي يفوز بنظرات الإعجاب من الزميلات وحبيبة القلب. الحبيبة ذاتها التي صارت زوجة وأُمّاً للأولاد، لكنها لم تعرف كيف تضع فاصلاً مع الماضي.
أخذتني أعمالي ونسيت "الهتَّاف" الذي كنت. كبرت وتسلل الشيب إلى فودي واستدار كرشي ولم أعد أصلح للمسيرات والتظاهرات. وأتت السجائر على الحنجرة التي كانت تغني فتطرب وتهتف فيشتعل التصفيق. ألا تلاحظ باسمة كيف يتكيف زوجها مع كل زمن ومرحلة من العمر؟
ألا تفهم أننا لم نعد صغاراً ولا مراهقين وأنّ القضايا "المصيرية" لا تُحل بالصراخ؟
مازالت زوجتي تتطوع في أوّل كل تجمع، ومازالت تجمع التواقيع على بيانات الشجب، ومازالت تحتفظ في جارور ثيابها بعلم مطوٍ جيِّداً، يخرج من مكمنه عند الحاجة.
أما أنا فلم أعد أطيق أن أكون زوجاً لمناضلة في زمن اللاقضايا، وزوجة تدخل مع ضيوفنا في جدالات سياسية عقيمة بدل أن تتكلّم معهم في الموسيقى أو في برامج التلفزيون.
وعندما أقول لها رأيي وأعبر عن أنزعاجي من حماستها، ترد وهي ترفع حاجبيها تعجباً: "هل تريد تحويلي إلى جثة لا تشعر بما حولها؟".
- وضع المبادئ على الرف:
في لحظات الصفاء، اعتدت أن أسأل حسين: "هل تذكر أوّل مرّة رأيتني فيها؟".
وكان يهب واقفاً، في حركة كوميدية، ويرفع يده راسماً علامة النصر، فأضحك من قلبي وأرفع اليدين، معاً، بعلامة النصر.
إنّه النصر الذي مازلت أؤمن به وأنتظره ولن أتهاون فيه يوماً. لقد رآني زوجي، أوّل ما رآني، في تجمع للطلبة أمام بوابة الجامعة، يوم خرجنا نتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية وننتصر لنضال أهلنا في الأرض المحتلة.
وكنت يومها محمولة على الأكتاف، فلم يلاحظ أنني أقصر منه ولا أبلغ مستوى كتفيه العريضتين القويتين. كنت حديثة العهد بالدراسة الجامعية.
أما هو فقد كان في السنة النهائية، عملاقاً ذا صوت جهوري جعل منه رئيس فريق الهتافين في التظاهرات.
هكذا أحببته وهكذا أحبني، في صفوف العمل الوطني وفي عز حماسة أيام الشباب الأوّل.. فكيف تفتر حماسته ولماذا مازالت الشعلة تتوقد في صدري؟
أعرف أنّ الشعارات لا تبني البيوت ولا تكسو الأبدان ولا تطعم الأطفال.
وكان لابدّ لحسين من أن يلتفت إلى عمله ويبني حياتنا المشتركة حجراً حجراً.
لكنني لم أتصور أن يصبح العمل قضيته الأولى، والفلوس همه الأكبر، وأن تتراجع الهموم الوطنية لكي تتحول إلى مادة للسخرية ومرادفاً لقلة العقل.
إن زوجي لا يحب اندفاعي السياسي، ويريد مني أن أركن إلى الحياة المرفهة وكأن فلسطين قد تحررت، والأميركيين قد خرجوا من العراق، وزالت الحدود بين أوطان الأُمّة.
هل هذا من حقه عليَّ كزوج؟
أنا لم أقصر في واجبات بيتي وأولادي، ولم أهمل احتياجات زوجي ورغباته، لكن الأنثى التي في داخلي هي إنسانة تنفعل مع ما يجري حولها ولا تستطيع أن تعيش عمياء في أُمّة تحتاج إلى كل عينين وكل ساعدين وكل عقل مفكر.
يتمنّى حسين لو أنني أذهب إلى حفلات عروض الأزياء، مثلاً، بدل أن أسهم في جمعية نسائية تجمع التبرعات لأهل غزة.
إنّه يريد مني أن أطوي أحاسيسي الوطنية وأضعها في الثلاجة، وأن "أتركها لأولادنا" كما يقول، لأنّنا "كبرنا على الشعارات والهتافات والنضال"، وهو لا يدري كم يؤلمني بهذه العبارات، وكم يتضاءل ذلك العملاق الشاب أمامي فجأة، ويصبح أخطبوطاً يمد أذرعه لإلتقاط المكاسب والصفقات.
لقد أحببته عملاقاً في حماسته، وأحبني رافعة إشارة النصر.
فهل يفرح إذا نكست أصابعي وصرت دمية بلهاء تتحفظ على أحاديث السياسة، لأنّها "لا تليق بسيدات المجتمع"، ولا تناسب الأُمّهات الوقورات؟
إنّ زوجي وضع مبادئه على الرف يوم أصبح رجل أعمال.
......
البلاغ.
أتساءل، أحياناً، ألا تتعب هذه المخلوقة؟ ألا تفتر همتها؟ ألا يتسلل اليأس إلى تلافيف عقلها؟
ألا تشعر بأنّها تدور في طاحونة لا تنال منها سوى الجعجعة؟
أقول لها: "يا باسمة... يا حبيبتي.. ألا يكفيك هؤلاء الأبناء الثلاثة الرائعون وهذا البيت الجميل.. فلماذا لا تهدئين في هذه الجنة وتتفرغين لها؟".
لكن زوجتي لا تعرف معنى الهدوء، وهي جاهزة دائماً لأي استنفار وكأنّها ولدت من صلب محاربين لا يعرفون التراجع.
الغريب أنّني كنت مثلها تماماً. بل إنّ ما جذبني إليها، ونحن على مقاعد الجامعة، كان حيويتها والتزامها السياسي ودورانها علينا لجمع التواقيع أو لمساعدتها على كتابة اللافتات وللسير في التظاهرات الطلابية الصاخبة. كم مرّة، وضعت كفي في كفها ونحن نشكل مع الرفاق سلسلة بشرية تتقدم صارخة "يعيش.. يعيش... يسقط... يسقط" كم مرّة تحدينا الحواجز وعبرنا فوق الموانع وجابهنا قوات الأمن وعدنا إلى بيوتنا والعرق يغرق وجوهنا؟
لكن تلك الأيّام مضت مع قضاياها "المصيرية". فقد كان كل شيء في مفهومنا مصيرياً: الدراسة والعمل والغناء والسهر ومستقبل الأُمّة. كان الواحد منّا يملك محركاً قوته 200 حصان في داخله. ولم نكن نعرف معنى التعب، بل يرفع الطالب منّا صوته في الهتاف حتى تبح حنجرته لكي يفوز بنظرات الإعجاب من الزميلات وحبيبة القلب. الحبيبة ذاتها التي صارت زوجة وأُمّاً للأولاد، لكنها لم تعرف كيف تضع فاصلاً مع الماضي.
أخذتني أعمالي ونسيت "الهتَّاف" الذي كنت. كبرت وتسلل الشيب إلى فودي واستدار كرشي ولم أعد أصلح للمسيرات والتظاهرات. وأتت السجائر على الحنجرة التي كانت تغني فتطرب وتهتف فيشتعل التصفيق. ألا تلاحظ باسمة كيف يتكيف زوجها مع كل زمن ومرحلة من العمر؟
ألا تفهم أننا لم نعد صغاراً ولا مراهقين وأنّ القضايا "المصيرية" لا تُحل بالصراخ؟
مازالت زوجتي تتطوع في أوّل كل تجمع، ومازالت تجمع التواقيع على بيانات الشجب، ومازالت تحتفظ في جارور ثيابها بعلم مطوٍ جيِّداً، يخرج من مكمنه عند الحاجة.
أما أنا فلم أعد أطيق أن أكون زوجاً لمناضلة في زمن اللاقضايا، وزوجة تدخل مع ضيوفنا في جدالات سياسية عقيمة بدل أن تتكلّم معهم في الموسيقى أو في برامج التلفزيون.
وعندما أقول لها رأيي وأعبر عن أنزعاجي من حماستها، ترد وهي ترفع حاجبيها تعجباً: "هل تريد تحويلي إلى جثة لا تشعر بما حولها؟".
- وضع المبادئ على الرف:
في لحظات الصفاء، اعتدت أن أسأل حسين: "هل تذكر أوّل مرّة رأيتني فيها؟".
وكان يهب واقفاً، في حركة كوميدية، ويرفع يده راسماً علامة النصر، فأضحك من قلبي وأرفع اليدين، معاً، بعلامة النصر.
إنّه النصر الذي مازلت أؤمن به وأنتظره ولن أتهاون فيه يوماً. لقد رآني زوجي، أوّل ما رآني، في تجمع للطلبة أمام بوابة الجامعة، يوم خرجنا نتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية وننتصر لنضال أهلنا في الأرض المحتلة.
وكنت يومها محمولة على الأكتاف، فلم يلاحظ أنني أقصر منه ولا أبلغ مستوى كتفيه العريضتين القويتين. كنت حديثة العهد بالدراسة الجامعية.
أما هو فقد كان في السنة النهائية، عملاقاً ذا صوت جهوري جعل منه رئيس فريق الهتافين في التظاهرات.
هكذا أحببته وهكذا أحبني، في صفوف العمل الوطني وفي عز حماسة أيام الشباب الأوّل.. فكيف تفتر حماسته ولماذا مازالت الشعلة تتوقد في صدري؟
أعرف أنّ الشعارات لا تبني البيوت ولا تكسو الأبدان ولا تطعم الأطفال.
وكان لابدّ لحسين من أن يلتفت إلى عمله ويبني حياتنا المشتركة حجراً حجراً.
لكنني لم أتصور أن يصبح العمل قضيته الأولى، والفلوس همه الأكبر، وأن تتراجع الهموم الوطنية لكي تتحول إلى مادة للسخرية ومرادفاً لقلة العقل.
إن زوجي لا يحب اندفاعي السياسي، ويريد مني أن أركن إلى الحياة المرفهة وكأن فلسطين قد تحررت، والأميركيين قد خرجوا من العراق، وزالت الحدود بين أوطان الأُمّة.
هل هذا من حقه عليَّ كزوج؟
أنا لم أقصر في واجبات بيتي وأولادي، ولم أهمل احتياجات زوجي ورغباته، لكن الأنثى التي في داخلي هي إنسانة تنفعل مع ما يجري حولها ولا تستطيع أن تعيش عمياء في أُمّة تحتاج إلى كل عينين وكل ساعدين وكل عقل مفكر.
يتمنّى حسين لو أنني أذهب إلى حفلات عروض الأزياء، مثلاً، بدل أن أسهم في جمعية نسائية تجمع التبرعات لأهل غزة.
إنّه يريد مني أن أطوي أحاسيسي الوطنية وأضعها في الثلاجة، وأن "أتركها لأولادنا" كما يقول، لأنّنا "كبرنا على الشعارات والهتافات والنضال"، وهو لا يدري كم يؤلمني بهذه العبارات، وكم يتضاءل ذلك العملاق الشاب أمامي فجأة، ويصبح أخطبوطاً يمد أذرعه لإلتقاط المكاسب والصفقات.
لقد أحببته عملاقاً في حماسته، وأحبني رافعة إشارة النصر.
فهل يفرح إذا نكست أصابعي وصرت دمية بلهاء تتحفظ على أحاديث السياسة، لأنّها "لا تليق بسيدات المجتمع"، ولا تناسب الأُمّهات الوقورات؟
إنّ زوجي وضع مبادئه على الرف يوم أصبح رجل أعمال.
......
البلاغ.