هل فرضت القاعدة إستراتيجيتها في مواجهات مالي؟
أحمد بن محمد المصطفى.
..........
تدخل منطقة الساحل و الصحراء عموما و منطقة الشمال المالي خصوصا مرحلة خاصة من مراحل المواجهة بين تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي و الحركات المرتبطة به،و فرنسا و الأنظمة الإقليمية المتحالفة معها و المجاورة لمالي.
حيث يتطور الصراع بينها إلى مرحلة المواجهات العسكرية المفتوحة،و يبدأ كل طرف باستخدام ما يملك من أسلحة،و تنفيذ ما أعد من إستراتيجيات،بعد عدة أشهر من تبادل الرسائل غير المباشرة،و التهديد و التهديد المضاد.
.....
و مع أن لكل طرف من أطراف النزاع أهدافه و غاياته،كما أن له وسائله و خططه التي يسعى من خلالها للوصول إلى هذه الأهداف،فإن إلقاء نظرة على التطورات التي عرفتها الأشهر الأخيرة يكشف أن تنظيم القاعدة و الحركات المرتبطة به،خططت لسوق الأحداث باتجاه المرحلة التي وصلت إليها المنطقة الآن،و لعلها كانت تهدف من خلال ذلك إلى استباق الإعداد الدولي لمواجهتها،و سوق فرنسا و حلفائها في المنطقة إلى مواجهات لم تكن متوقعة –حسب الكثير من المحللين – قبل شهر سبتمبر القادم،و هو ما تحدث عنه أكثر من طرف غربي رغم الاستعجال المالي و الإفريقي المتكرر.
..........
أهداف و غايات غير معلنة.
و قد ظهر فعل عنصر المفاجأة جليا في ردة الفعل الفرنسية،حيث لم تتحدد حتى الآن الغاية الحقيقة من التدخل الفرنسي رغم حديث أكثر من طرف فرنسي عن الموضوع،و حتى الأحاديث الرسمية الفرنسية كشفت هي الأخرى عما يمكن وصفه بالارتباك.
فقد تحدث الرئيس الفرنسي أكثر من ثلاث مرات عن الموضوع ذاته (في حوالي 36 ساعة) كما تحدث فيها وزيرا خارجيته و دفاعه،و قائد جيشه،و تراوحت الأهداف التي حددوها للتدخل العسكري بين دعم الجيش المالي في وقف زحف المسلحين إلى جنوب البلاد،و حماية الرعايا الفرنسيين (حوالي 6000 فرنسي في المناطق الجنوبية من مالي خصوصا العاصمة باماكو).
و أكد قائد الجيش الفرنسي أن ليس من بين أهداف هذه العملية العسكرية استعادة السيطرة على الشمال المالي.
و مع أن فرنسا أكدت أكثر من مرة و على لسان أكثر من طرف سياسي و دبلوماسي و عسكري أنها لن تشارك بالمرة بجنود على الأرض،و أنها ستكتفي بالدعم اللوجستي و الاستخباراتي،و بغطاء جوي في حال حصلت الحاجة إليه،فإن الساعات الأولى من العملية العسكرية الموسومة "بالنمر الإفريقي" عرفت مشاركة جنود فرنسيين على الأرض،تقول المعلومات الواردة من المنطقة إن عدة مئات منهم تم نشرهم في العاصمة المالية باماكو،فيما تم نشر آخرين في منطقة سفاري و المناطق القريبة من خطوط النار.
و تبدو الأهداف التي استهدفها الطيران الفرنسي حتى الآن غامضة،فبدل أن يركز على الخطوط الأمامية و يوفر الغطاء للجنود الماليين –و ربما الفرنسيين- للتقدم على الأرض،و استعادة قرية كوني،و من بعدها ادوينزا،و غيرها من مناطق التماس بين جنوب مالي و شمالها،نجد أن الطيران الفرنسي نفذ حتى الآن عدة هجمات كانت متباعدة جغرافيا و زمنيا،حيث طالت قرية كوني بالضرورة،لكن الهدف الموالي كان على عد مئات الكيلوميرات في مدينة ليرة على الحدود الموريتانية المالية،و كان الهدف الثالث أكبر المدن التي تسيطر عليها حركة أنصار الدين "تمبكتو"،فيما ظلت مناطق الإقليم الأخرى و خصوصا غاو حيث معقل حركة التوحيد و الجهاد،و كيدال حيث المعقل الرمزي لأمير أنصار الدين إياد أغ غالي بمنأى عن هذه الهجمات حتى الآن.
و يمكن للتراخي الفرنسي أن يفهم في سياق معرفة الفرنسيين الحقيقية لوضع الجيش المالي،و انتظارهم لالتحاق بقية الجيوش الإفريقية به،حيث تشير تقديرات رسمية مالية إلى أن أعداد الجيش المالي لا تتجاوز 10.000 جندي،و بالكاد يصل عدد المؤهلين منها للمشاركة في العمليات القتالية إلى 5.000،يفترض أن يتم توزيعهم بين المشاركة في العملية المسلحة و تأمين بقية الأراضي المالية.
و لا يمكن للفرنسيين و هم من خبر المواجهات مع القاعدة في أفغانستان و في ظل وجود عسكري دولي كبير أن يجازف بمواجهة مفتوحة مع مقاتليها في الصحراء قبل ضمان عدد كاف من الجنود توكل إليهم مهمة المواجهة على الأرض،و يحافظون على المكاسب التي يحققها الطيران لهم بعد تدمير قوات المسلحين التابعين للقاعدة و أخواتها.
.......
تطورات دالة.
و قد عرفت الأسابيع الأخيرة تطورات دالة في سياق سوق القاعدة و أخواتها للأحداث باتجاه وضعها الحالي،و يمكن التأريخ لبداية هذه التطورات بالاجتماعات المتلاحقة و التي عقدتها الحركات المسلحة في محيط تمبكتو،و حضرها جل قادة الحركات المسلحة الناشطة في منطقة أزواد،و يبدو أنها تمخضت عن نتائج حقيقة دخلت هذه الحركات في تطبيقها على الأرض فور تبلورها بداية ديسمبر الجاري.
و من هذه النتائج:
1- القضاء على المنافسين: فقد بدأت الحركات المسلحة في الشمال المالي و بشكل متقارب إن لم يكن متزامنا،عمليات عسكرية أشبه بالحملة للقضاء على الوجود المسلح للحركة الوطنية لتحرير أزواد (mnla)،و على الوجود المسلح للحركة العربية الناشطة في المنطقة.
و قد عملت كل حركة في الفضاء الواقع تحت سيطرتها،فكانت المواجهة التي عرفتها مدينة مينكا بين قوات تابعة للحركة الوطنية لتحرير أزواد و جماعة التوحيد و الجهاد في غرب إفريقيا،و انتهت بسيطرة التوحيد و الجهاد على المدينة،و القضاء على الوجود العسكري المنافس فيها.
فيما عملت حركة أنصار الدين و القاعدة على القضاء على الوجود في المناطق القريبة منها، فجاءت مفاوضات مدينة ليرة و التي أفضت إلى انضمام العديد من مسلحي الحركة الوطنية لتحرير أزواد إلى أنصار الدين،فيما غادر بقية المسلحين المدينة ليسلموا أسلحتهم لاحقا إلى الجيش الموريتاني،و تنفرد هذه الحركات تقريبا بالوجود المسلح و المنظم في المنطقة.
........
2- حصر السلاح: و تمثلت الخطوة الموالية لهذه الحركات فيما يمكن وصفه بحصر السلاح،و مصادرته من الأطراف التي قد تستخدمه ضد هذه الحركات،و قد كانت عملية الخليل على الحدود الجزائرية دالة في هذا الصدد،حيث أدت لمصادرة جماعة التوحيد و الجهاد –حسب قيادي فيها- لأعداد ضخمة من السلاح من بينه السلاح الثقيل،و أكثر من 50 سيارة عابرة للصحاري،كانت لدى من وصفتهم هذه الجماعة بمهربي المخدرات و تجار الأسلحة،و هذا ما وفر عدة و عتادا لهذه الجماعات،و قلص أعداد السلاح الخارج عن سيطرتها في المنطقة.
.......
3- حملات تجنيد: من بين النقاط التي يبدو أنها نتائج هذه الاجتماعات المتلاحقة زيادة التجنيد لصالح هذه الحركات،و استغلال البعد العرقي إن كان أجدى،حيث عرفت الأسابيع الماضية إعلان كتائب جديدة كان الطابع العرقي جليا فيها،كتيبة أنصار السنة،من عرب المنطقة،و خصوصا البرابيش، كتيبة يوسف بن تاشفين،من الطوارق،و خصوصا طوارق كيدال،كتيبة أنصار الشريعة،من قومية الصونغاي،هذا فضلا عن التجنيد الخارجي،و الذي كانت من نتائجه انضمام العديد من المسلحين،و من جنسيات عربية و إفريقية و حتى غربية عديدة.
.........
4- تدريبات مكثفة: كما عرفت هذه الفترة (نهاية نوفمبر و بداية ديسمبر) تنظيم العديد من المناورات العسكرية و التدريبات المكثفة،و استخدمت خلالها الأسلحة الثقيلة و المتوسطة،و كان حجم هذه المناورات و تتابعها كافيا للكشف عن أمر ما ورائها،قد لا يكون بالضرورة مجرد التهديد بتدخل دولي تفصلهم عنه قرابة تسعة أشهر على الأقل.
..........
5- إشهار سلاح الرهائن: أما الحدث الخامس،و الذي يمكن اعتباره دالا في سياق الإعداد إشهار الحركات المسلحة في الشمال المالي لسلاح الرهائن،و هم سلاح فعال خصوصا في مجال الضغط السياسي و النفسي على الحكومات التي ينتمي إلى بلدانها هؤلاء السجناء،و خصوصا فرنسا و الجزائر،حيث نشرت جماعة التوحيد و الجهاد أشرطة للرهينة الفرنسي لديها،و أتبعته لاحقا بشريط عن الرهائن الجزائريين،و شكل ظهور ثلاثة رهائن في الشريط من بينهم القنصل أول مؤشر مادي على رواية جماعة أنصار الدين بتصفية الملحق العسكري الجزائري في غاو الطاهر التواتي.
كما ظهرت عدة أشرطة و مناشدات للرهائن الفرنسيين لدى تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي،و تحدث القيادي البارز في هذا التنظيم عبد الحميد أبو زيد إلى أسرة الرهائن،محملا الحكومة الفرنسية مسؤولية مصيرهم في حال أصرت على رفض طلبات تنظيمه،و واصلت توقيف المفاوضات المشتركة بينهما.
و قد أعادت هذه الأشرطة التذكير بهذا السلاح الفعال،و تصدر الحديث عن هذا الملف مجال التداول الإعلامي الدولي لعدة أيام.
..........
6- تبسيط القيادة: و إذا كان لإعلان كتائب جديدة داخل هذه التنظيمات دورها في استيعاب قوميات و أعراق و جنسيات متعددة و مختلفة،فإن لها دور آخر قد لا يقل أهمية عن الدور الأول،و هو تبسيط قيادة هذه المجموعات المسلحة،و لا مركزة قرارها في ظل توقعهم –على ما يبدو- لهجوم دولي كاسح،قد يصاحبه قطع كامل لشبكة الهاتف،ما يجعل من الضروري تحويل قرار كل مجموعة مسلحة صغيرة إلى قائد ميداني قريب منها،و يكون لكل قائد عدة معاونين يشكلون مسؤوليات إدارية مساعدة له،و يتولى أي منهم مسؤوليات أمير الكتيبة في حال حصول أي طارئ لأميرها المعين من قبل أمير التنظيم،و تتقارب في هذه الإجراءات إجمالا مختلف الحركات المسلحة في الشمال المالي.
.........
7- طمأنة قبل الهجوم: و لعل من الخطوات الأخيرة التي سبقت الهجوم على قرية كوني و الدخول الفعلي في العملية المسلحة إعلان حركة أنصار الدين عن برنامجها السياسي –ضمن خطوات طويلة من الحوار السياسي برعاية بروكينابية – و هي الخطوة التي لم يطل أمدها،إذ سرعان ما أعلنت الحركة عن إلغائها لوقف إطلاق النار،متهمة الحكومة المالية بعدم الجدية في التفاوض،و بتضييع الوقت فيما لا طائل من ورائه.
............
استحالة التحكم.
تبدو القاعدة و أخواتها و كما لو كانوا يسوقون الأحداث باتجاه محدد،هدفه المرحلي إدخال الأطراف الإقليمية و الدولية في مواجهات مسلحة لم تتوفر وسائلها بالنسبة لأغلب الأطراف المعادية للقاعدة.
لكن كل الدلائل و التجارب تؤكد أنه حتى لو صح هذا الافتراض فإن تحكم أي طرف في قواعد لعبة مشتركة سيكون محدودا،و أن هذه اللعبة –القذرة و الخطيرة- مرشحة للخروج عن سيطرة جميع الفاعلين فيها في أي لحظة،و قد تكون خرجت بالفعل،فمجرد انطلاق الشرارة يجعل التحكم في الحريق مستحيلا، خصوصا و أن أزرار التحكم أضحت بعدد الأطراف المحلية و الدولية و الإقليمية كل حسب نفوذه و حظه من التأثير في مسار الملف الشائك،و في ظل تضارب إرادات هذه الأطراف يكون من الصعب التنبؤ بوجهة الأحداث،و تحديد المسارات التي ستسلكها في قابل أيامها،لكن من المؤكد أنها قد تخرج عن توقعات جميع أطرافها،و إن تفاوت حجم تأثيرهم فيها.
و سيكون للأطراف المتلكئة حتى الآن دورها الفاعل في هذا النزاع،و يبدو تلكؤها متفهما في سياقه،و بالأخص إذا استحضرنا أن كل الخيارات المتصورة لحل هذا الملف تبدو سيئة للجارين الملاصقين لإقليم أزواد الملتهب.
فاستمرار الوضع على ما هو عليه غير متصور بالنسبة لقيادة البلدين،فلا يمكن للجزائر و لا لموريتانيا أن تتجاهل تفاقم مخاطر القاعدة و التنظيمات المرتبطة بها،و على حدود طويلة مع البلدين،خصوصا و أن تجارب البلدين مع هذه التنظيمات غير مشجعة،كما أن رسائل الحاضر غير مبشرة.
.......
ثاني الخيارات.
و ثاني الخيارات المتصورة لحل المشكل أن يستعيد الجنوب المالي –بدعم دولي كبير و إنفاق مالي ضخم- استعادته على الشمال المالي،لكن كل الدلائل تشير أن حصول هذا الخيار مستبعد جدا،و خصوصا في ظل الأوضاع الحالية،و حتى لو حصل فلن يكون قابلا للاستمرار في ظل رغبة أغلب سكان الإقليم في الاستقلال،أو في أسوأ الأحوال الحصول على حكم ذاتي للإقليم،و استحالة بقاء قوات دولية دائمة في الإقليم.
و تضيف الأوضاع في الجنوب المالي عقبة جديدة في طريق هذا الحل،إذا تبدو حاجة هذا الجنوب إلى استقرار سياسي و تجاوز للأزمة المتفاقمة فيه مساوية لحاجة الشمال إن لم تكن أكثر.
و إذا تصورنا إمكانية استمرار الحركات المسلحة ذات التجربة الطويلة في حرب العصابات و المهارة في مسالك الصحراء في شن هجمات على القوة الموجودة في المنطقة محلية أو دولية فإن عبئا آخر سينضاف إلى الأعباء المانعة لحصول هذا الحل أو استمرارها.
.........
ثالث الحلول.
و ثالث الحلول أن يمنح سكان الإقليم حكما مستقلا أو ذاتيا، و من البدهي أن اعتماد الحلول الديمقراطية في هذا الإقليم سيجعل الحكم فيه يعود إلى الطوارق على اعتبار أنهم يمثلون أكثرية السكان، و حصول قومية الطوارق على حكم في المنطقة –مستقل أو ذاتي – سيعني الكثير للعديد من الأنظمة الإقليمية في المنطقة على رأسها الجزائر و ليبيا، و حتى المغرب و تونس، و لعل سر الموقف المتشدد للجزائر من الحركة الوطنية لتحرير أزواد، يستبطن هذا البعد، و يريد إبعاد هذا الخيار حفاظا على الهدوء الحذر لمناطق الأغلبية الأمازيغية في الجزائر.
........
و مهما كانت الخيارات و التطورات التي سيعرفها الملف فإن منطقة الساحل و الصحراء شعوبا و أنظمة أمام امتحان عسير،يحتاج لتجاوزه إلى حنكة حقيقية،و قدرة على الفعل تحت الضغط،و استقلال في القرار،و تقديم لمصالح الشعوب و تجنبها المخاطر المحدقة بها،و ستكون موريتانيا من بين كل الدول المجاورة أكثر البلدان عرضة لتأثير أحداث إقليم أزواد شاركت في العمليات العسكرية أم لم تشارك، فهي –للأسف الشديد – الخاصرة الرخوة و الامتداد الطبيعي و الأفق الإستراتيجي لأغلب مسلحي الحركات الناشطة في الإقليم،خصوصا و أن تجاربها في هذا الملف لا تبعث على الاطمئنان،و نظامها أظهر ضعفا متزايدا أمام الضغوط الفرنسية خلال الأعوام الماضية،لكنه ما يزال يعلن رفض المشاركة في العمليات الحالية،فهل سيصمد على موقفه؟
..........
18.01.2013
الأخبار..أول وكالة أنباء موريتانية مستقلة.
أحمد بن محمد المصطفى.
..........
تدخل منطقة الساحل و الصحراء عموما و منطقة الشمال المالي خصوصا مرحلة خاصة من مراحل المواجهة بين تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي و الحركات المرتبطة به،و فرنسا و الأنظمة الإقليمية المتحالفة معها و المجاورة لمالي.
حيث يتطور الصراع بينها إلى مرحلة المواجهات العسكرية المفتوحة،و يبدأ كل طرف باستخدام ما يملك من أسلحة،و تنفيذ ما أعد من إستراتيجيات،بعد عدة أشهر من تبادل الرسائل غير المباشرة،و التهديد و التهديد المضاد.
.....
و مع أن لكل طرف من أطراف النزاع أهدافه و غاياته،كما أن له وسائله و خططه التي يسعى من خلالها للوصول إلى هذه الأهداف،فإن إلقاء نظرة على التطورات التي عرفتها الأشهر الأخيرة يكشف أن تنظيم القاعدة و الحركات المرتبطة به،خططت لسوق الأحداث باتجاه المرحلة التي وصلت إليها المنطقة الآن،و لعلها كانت تهدف من خلال ذلك إلى استباق الإعداد الدولي لمواجهتها،و سوق فرنسا و حلفائها في المنطقة إلى مواجهات لم تكن متوقعة –حسب الكثير من المحللين – قبل شهر سبتمبر القادم،و هو ما تحدث عنه أكثر من طرف غربي رغم الاستعجال المالي و الإفريقي المتكرر.
..........
أهداف و غايات غير معلنة.
و قد ظهر فعل عنصر المفاجأة جليا في ردة الفعل الفرنسية،حيث لم تتحدد حتى الآن الغاية الحقيقة من التدخل الفرنسي رغم حديث أكثر من طرف فرنسي عن الموضوع،و حتى الأحاديث الرسمية الفرنسية كشفت هي الأخرى عما يمكن وصفه بالارتباك.
فقد تحدث الرئيس الفرنسي أكثر من ثلاث مرات عن الموضوع ذاته (في حوالي 36 ساعة) كما تحدث فيها وزيرا خارجيته و دفاعه،و قائد جيشه،و تراوحت الأهداف التي حددوها للتدخل العسكري بين دعم الجيش المالي في وقف زحف المسلحين إلى جنوب البلاد،و حماية الرعايا الفرنسيين (حوالي 6000 فرنسي في المناطق الجنوبية من مالي خصوصا العاصمة باماكو).
و أكد قائد الجيش الفرنسي أن ليس من بين أهداف هذه العملية العسكرية استعادة السيطرة على الشمال المالي.
و مع أن فرنسا أكدت أكثر من مرة و على لسان أكثر من طرف سياسي و دبلوماسي و عسكري أنها لن تشارك بالمرة بجنود على الأرض،و أنها ستكتفي بالدعم اللوجستي و الاستخباراتي،و بغطاء جوي في حال حصلت الحاجة إليه،فإن الساعات الأولى من العملية العسكرية الموسومة "بالنمر الإفريقي" عرفت مشاركة جنود فرنسيين على الأرض،تقول المعلومات الواردة من المنطقة إن عدة مئات منهم تم نشرهم في العاصمة المالية باماكو،فيما تم نشر آخرين في منطقة سفاري و المناطق القريبة من خطوط النار.
و تبدو الأهداف التي استهدفها الطيران الفرنسي حتى الآن غامضة،فبدل أن يركز على الخطوط الأمامية و يوفر الغطاء للجنود الماليين –و ربما الفرنسيين- للتقدم على الأرض،و استعادة قرية كوني،و من بعدها ادوينزا،و غيرها من مناطق التماس بين جنوب مالي و شمالها،نجد أن الطيران الفرنسي نفذ حتى الآن عدة هجمات كانت متباعدة جغرافيا و زمنيا،حيث طالت قرية كوني بالضرورة،لكن الهدف الموالي كان على عد مئات الكيلوميرات في مدينة ليرة على الحدود الموريتانية المالية،و كان الهدف الثالث أكبر المدن التي تسيطر عليها حركة أنصار الدين "تمبكتو"،فيما ظلت مناطق الإقليم الأخرى و خصوصا غاو حيث معقل حركة التوحيد و الجهاد،و كيدال حيث المعقل الرمزي لأمير أنصار الدين إياد أغ غالي بمنأى عن هذه الهجمات حتى الآن.
و يمكن للتراخي الفرنسي أن يفهم في سياق معرفة الفرنسيين الحقيقية لوضع الجيش المالي،و انتظارهم لالتحاق بقية الجيوش الإفريقية به،حيث تشير تقديرات رسمية مالية إلى أن أعداد الجيش المالي لا تتجاوز 10.000 جندي،و بالكاد يصل عدد المؤهلين منها للمشاركة في العمليات القتالية إلى 5.000،يفترض أن يتم توزيعهم بين المشاركة في العملية المسلحة و تأمين بقية الأراضي المالية.
و لا يمكن للفرنسيين و هم من خبر المواجهات مع القاعدة في أفغانستان و في ظل وجود عسكري دولي كبير أن يجازف بمواجهة مفتوحة مع مقاتليها في الصحراء قبل ضمان عدد كاف من الجنود توكل إليهم مهمة المواجهة على الأرض،و يحافظون على المكاسب التي يحققها الطيران لهم بعد تدمير قوات المسلحين التابعين للقاعدة و أخواتها.
.......
تطورات دالة.
و قد عرفت الأسابيع الأخيرة تطورات دالة في سياق سوق القاعدة و أخواتها للأحداث باتجاه وضعها الحالي،و يمكن التأريخ لبداية هذه التطورات بالاجتماعات المتلاحقة و التي عقدتها الحركات المسلحة في محيط تمبكتو،و حضرها جل قادة الحركات المسلحة الناشطة في منطقة أزواد،و يبدو أنها تمخضت عن نتائج حقيقة دخلت هذه الحركات في تطبيقها على الأرض فور تبلورها بداية ديسمبر الجاري.
و من هذه النتائج:
1- القضاء على المنافسين: فقد بدأت الحركات المسلحة في الشمال المالي و بشكل متقارب إن لم يكن متزامنا،عمليات عسكرية أشبه بالحملة للقضاء على الوجود المسلح للحركة الوطنية لتحرير أزواد (mnla)،و على الوجود المسلح للحركة العربية الناشطة في المنطقة.
و قد عملت كل حركة في الفضاء الواقع تحت سيطرتها،فكانت المواجهة التي عرفتها مدينة مينكا بين قوات تابعة للحركة الوطنية لتحرير أزواد و جماعة التوحيد و الجهاد في غرب إفريقيا،و انتهت بسيطرة التوحيد و الجهاد على المدينة،و القضاء على الوجود العسكري المنافس فيها.
فيما عملت حركة أنصار الدين و القاعدة على القضاء على الوجود في المناطق القريبة منها، فجاءت مفاوضات مدينة ليرة و التي أفضت إلى انضمام العديد من مسلحي الحركة الوطنية لتحرير أزواد إلى أنصار الدين،فيما غادر بقية المسلحين المدينة ليسلموا أسلحتهم لاحقا إلى الجيش الموريتاني،و تنفرد هذه الحركات تقريبا بالوجود المسلح و المنظم في المنطقة.
........
2- حصر السلاح: و تمثلت الخطوة الموالية لهذه الحركات فيما يمكن وصفه بحصر السلاح،و مصادرته من الأطراف التي قد تستخدمه ضد هذه الحركات،و قد كانت عملية الخليل على الحدود الجزائرية دالة في هذا الصدد،حيث أدت لمصادرة جماعة التوحيد و الجهاد –حسب قيادي فيها- لأعداد ضخمة من السلاح من بينه السلاح الثقيل،و أكثر من 50 سيارة عابرة للصحاري،كانت لدى من وصفتهم هذه الجماعة بمهربي المخدرات و تجار الأسلحة،و هذا ما وفر عدة و عتادا لهذه الجماعات،و قلص أعداد السلاح الخارج عن سيطرتها في المنطقة.
.......
3- حملات تجنيد: من بين النقاط التي يبدو أنها نتائج هذه الاجتماعات المتلاحقة زيادة التجنيد لصالح هذه الحركات،و استغلال البعد العرقي إن كان أجدى،حيث عرفت الأسابيع الماضية إعلان كتائب جديدة كان الطابع العرقي جليا فيها،كتيبة أنصار السنة،من عرب المنطقة،و خصوصا البرابيش، كتيبة يوسف بن تاشفين،من الطوارق،و خصوصا طوارق كيدال،كتيبة أنصار الشريعة،من قومية الصونغاي،هذا فضلا عن التجنيد الخارجي،و الذي كانت من نتائجه انضمام العديد من المسلحين،و من جنسيات عربية و إفريقية و حتى غربية عديدة.
.........
4- تدريبات مكثفة: كما عرفت هذه الفترة (نهاية نوفمبر و بداية ديسمبر) تنظيم العديد من المناورات العسكرية و التدريبات المكثفة،و استخدمت خلالها الأسلحة الثقيلة و المتوسطة،و كان حجم هذه المناورات و تتابعها كافيا للكشف عن أمر ما ورائها،قد لا يكون بالضرورة مجرد التهديد بتدخل دولي تفصلهم عنه قرابة تسعة أشهر على الأقل.
..........
5- إشهار سلاح الرهائن: أما الحدث الخامس،و الذي يمكن اعتباره دالا في سياق الإعداد إشهار الحركات المسلحة في الشمال المالي لسلاح الرهائن،و هم سلاح فعال خصوصا في مجال الضغط السياسي و النفسي على الحكومات التي ينتمي إلى بلدانها هؤلاء السجناء،و خصوصا فرنسا و الجزائر،حيث نشرت جماعة التوحيد و الجهاد أشرطة للرهينة الفرنسي لديها،و أتبعته لاحقا بشريط عن الرهائن الجزائريين،و شكل ظهور ثلاثة رهائن في الشريط من بينهم القنصل أول مؤشر مادي على رواية جماعة أنصار الدين بتصفية الملحق العسكري الجزائري في غاو الطاهر التواتي.
كما ظهرت عدة أشرطة و مناشدات للرهائن الفرنسيين لدى تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي،و تحدث القيادي البارز في هذا التنظيم عبد الحميد أبو زيد إلى أسرة الرهائن،محملا الحكومة الفرنسية مسؤولية مصيرهم في حال أصرت على رفض طلبات تنظيمه،و واصلت توقيف المفاوضات المشتركة بينهما.
و قد أعادت هذه الأشرطة التذكير بهذا السلاح الفعال،و تصدر الحديث عن هذا الملف مجال التداول الإعلامي الدولي لعدة أيام.
..........
6- تبسيط القيادة: و إذا كان لإعلان كتائب جديدة داخل هذه التنظيمات دورها في استيعاب قوميات و أعراق و جنسيات متعددة و مختلفة،فإن لها دور آخر قد لا يقل أهمية عن الدور الأول،و هو تبسيط قيادة هذه المجموعات المسلحة،و لا مركزة قرارها في ظل توقعهم –على ما يبدو- لهجوم دولي كاسح،قد يصاحبه قطع كامل لشبكة الهاتف،ما يجعل من الضروري تحويل قرار كل مجموعة مسلحة صغيرة إلى قائد ميداني قريب منها،و يكون لكل قائد عدة معاونين يشكلون مسؤوليات إدارية مساعدة له،و يتولى أي منهم مسؤوليات أمير الكتيبة في حال حصول أي طارئ لأميرها المعين من قبل أمير التنظيم،و تتقارب في هذه الإجراءات إجمالا مختلف الحركات المسلحة في الشمال المالي.
.........
7- طمأنة قبل الهجوم: و لعل من الخطوات الأخيرة التي سبقت الهجوم على قرية كوني و الدخول الفعلي في العملية المسلحة إعلان حركة أنصار الدين عن برنامجها السياسي –ضمن خطوات طويلة من الحوار السياسي برعاية بروكينابية – و هي الخطوة التي لم يطل أمدها،إذ سرعان ما أعلنت الحركة عن إلغائها لوقف إطلاق النار،متهمة الحكومة المالية بعدم الجدية في التفاوض،و بتضييع الوقت فيما لا طائل من ورائه.
............
استحالة التحكم.
تبدو القاعدة و أخواتها و كما لو كانوا يسوقون الأحداث باتجاه محدد،هدفه المرحلي إدخال الأطراف الإقليمية و الدولية في مواجهات مسلحة لم تتوفر وسائلها بالنسبة لأغلب الأطراف المعادية للقاعدة.
لكن كل الدلائل و التجارب تؤكد أنه حتى لو صح هذا الافتراض فإن تحكم أي طرف في قواعد لعبة مشتركة سيكون محدودا،و أن هذه اللعبة –القذرة و الخطيرة- مرشحة للخروج عن سيطرة جميع الفاعلين فيها في أي لحظة،و قد تكون خرجت بالفعل،فمجرد انطلاق الشرارة يجعل التحكم في الحريق مستحيلا، خصوصا و أن أزرار التحكم أضحت بعدد الأطراف المحلية و الدولية و الإقليمية كل حسب نفوذه و حظه من التأثير في مسار الملف الشائك،و في ظل تضارب إرادات هذه الأطراف يكون من الصعب التنبؤ بوجهة الأحداث،و تحديد المسارات التي ستسلكها في قابل أيامها،لكن من المؤكد أنها قد تخرج عن توقعات جميع أطرافها،و إن تفاوت حجم تأثيرهم فيها.
و سيكون للأطراف المتلكئة حتى الآن دورها الفاعل في هذا النزاع،و يبدو تلكؤها متفهما في سياقه،و بالأخص إذا استحضرنا أن كل الخيارات المتصورة لحل هذا الملف تبدو سيئة للجارين الملاصقين لإقليم أزواد الملتهب.
فاستمرار الوضع على ما هو عليه غير متصور بالنسبة لقيادة البلدين،فلا يمكن للجزائر و لا لموريتانيا أن تتجاهل تفاقم مخاطر القاعدة و التنظيمات المرتبطة بها،و على حدود طويلة مع البلدين،خصوصا و أن تجارب البلدين مع هذه التنظيمات غير مشجعة،كما أن رسائل الحاضر غير مبشرة.
.......
ثاني الخيارات.
و ثاني الخيارات المتصورة لحل المشكل أن يستعيد الجنوب المالي –بدعم دولي كبير و إنفاق مالي ضخم- استعادته على الشمال المالي،لكن كل الدلائل تشير أن حصول هذا الخيار مستبعد جدا،و خصوصا في ظل الأوضاع الحالية،و حتى لو حصل فلن يكون قابلا للاستمرار في ظل رغبة أغلب سكان الإقليم في الاستقلال،أو في أسوأ الأحوال الحصول على حكم ذاتي للإقليم،و استحالة بقاء قوات دولية دائمة في الإقليم.
و تضيف الأوضاع في الجنوب المالي عقبة جديدة في طريق هذا الحل،إذا تبدو حاجة هذا الجنوب إلى استقرار سياسي و تجاوز للأزمة المتفاقمة فيه مساوية لحاجة الشمال إن لم تكن أكثر.
و إذا تصورنا إمكانية استمرار الحركات المسلحة ذات التجربة الطويلة في حرب العصابات و المهارة في مسالك الصحراء في شن هجمات على القوة الموجودة في المنطقة محلية أو دولية فإن عبئا آخر سينضاف إلى الأعباء المانعة لحصول هذا الحل أو استمرارها.
.........
ثالث الحلول.
و ثالث الحلول أن يمنح سكان الإقليم حكما مستقلا أو ذاتيا، و من البدهي أن اعتماد الحلول الديمقراطية في هذا الإقليم سيجعل الحكم فيه يعود إلى الطوارق على اعتبار أنهم يمثلون أكثرية السكان، و حصول قومية الطوارق على حكم في المنطقة –مستقل أو ذاتي – سيعني الكثير للعديد من الأنظمة الإقليمية في المنطقة على رأسها الجزائر و ليبيا، و حتى المغرب و تونس، و لعل سر الموقف المتشدد للجزائر من الحركة الوطنية لتحرير أزواد، يستبطن هذا البعد، و يريد إبعاد هذا الخيار حفاظا على الهدوء الحذر لمناطق الأغلبية الأمازيغية في الجزائر.
........
و مهما كانت الخيارات و التطورات التي سيعرفها الملف فإن منطقة الساحل و الصحراء شعوبا و أنظمة أمام امتحان عسير،يحتاج لتجاوزه إلى حنكة حقيقية،و قدرة على الفعل تحت الضغط،و استقلال في القرار،و تقديم لمصالح الشعوب و تجنبها المخاطر المحدقة بها،و ستكون موريتانيا من بين كل الدول المجاورة أكثر البلدان عرضة لتأثير أحداث إقليم أزواد شاركت في العمليات العسكرية أم لم تشارك، فهي –للأسف الشديد – الخاصرة الرخوة و الامتداد الطبيعي و الأفق الإستراتيجي لأغلب مسلحي الحركات الناشطة في الإقليم،خصوصا و أن تجاربها في هذا الملف لا تبعث على الاطمئنان،و نظامها أظهر ضعفا متزايدا أمام الضغوط الفرنسية خلال الأعوام الماضية،لكنه ما يزال يعلن رفض المشاركة في العمليات الحالية،فهل سيصمد على موقفه؟
..........
18.01.2013
الأخبار..أول وكالة أنباء موريتانية مستقلة.
التمرد في مالي و حرب النفس الطويل