المسلمون في أوروبا...قضايا الاندماج و العزلة
اعداد: حيدر الجراح
..........
تشكل قضية اندماج المسلمين في المجتمعات الاوربية مجالا خصبا للاخذ و الرد بين دعاة توجهين: التوجه الاول،و هو الذي تتبناه الدول الحاضنة للمسلمين عبر الكثير من القوانين و التشريعات.
التوجه الثاني،يتبناه المسلمون انفسهم،عبر سلوكهم الذي تفرضه الثقافة الدينية التي ينتمون اليها.
التوجهان يتصادمان عبر سؤال مطروح بقوة و هو: هل يحق للمسلمين التمتع بحقوق المواطنة السياسية على رغم رفضهم الصريح لثقافة الدولة (المضيفة)؟.
و هذا التساؤل قد يجد له الإجابة الشافية في ما يذهب إليه بعض الكتاب المعاصرين من ضرورة التفرقة داخل المجتمع الواحد بين المواطنة السياسية التي يخضع لها جميع أفراد المجتمع و المواطنة الثقافية التي تميز الجماعات الفرعية الموجودة داخل ذلك المجتمع عن الثقافة العامة التي يشار إليها أحياناً باسم الثقافة الرسمية المميزة لمجتمع الدولة ككل.
المواطنة الثقافية كما يذهب الى ذلك احمد ابو زيد الانثروبولوجي المصري،تعني حق الجماعات الفرعية و الأقليات في الاحتفاظ بهويتها الثقافية الخاصة حتى لا يتم احتواؤها و دمجها تماماً في الثقافة العامة الرسمية السائدة في المجتمع بشرط ألا يترتب على ذلك عدم المشاركة في شكل إيجابي و فعال في مختلف أنشطة الحياة و الالتزام التام بالقوانين و القواعد الأساسية المنظمة للحياة العامة في الدولة,و هذا يعني ضمناً تقبل مجتمع الدولة لوجود هذه الجماعات المتمايزة ثقافياً و الاعتراف بحقها في الاحتفاظ بمقومات ثقافتها الخاصة و تفهمه للمبادئ التي تقوم عليها تلك الثقافة و القيم التي تكمن وراء مظاهرها الخارجية من سلوكيات و علاقات قد تختلف اختلافاً جوهرياً عما درج عليه الأهالي الأصليون الذين يؤلفون غالبية السكان.
........
و يذهب الأستاذ ريناتو روزالدو أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة ستانفورد الأميركية - و هو الذي صاغ في الأصل تعبير المواطنة الثقافية - إلى أن جماعات الأقليات التي تعيش في أي مجتمع و تعتبر أعضاءها مواطنين في ذلك المجتمع يمكنها الحصول لأعضائها على حقوقهم العامة كمواطنين كاملي المواطنة و على اعتراف الدولة و الشعب بوجودهم ككيان متمايز داخل الدولة و ذلك من طريق العمل الجاد من أفراد هذه الأقليات على نشر ملامح و خصائص و مقومات ثقافاتهم الخاصة و الحرص على التعبير عنها بقوة و مثابرة و بكل الطرق و الوسائل إلى أن يتم (حفرها) و تثبيتها في ذاكرة المجتمع و بذلك يفرضون ذاتيتهم و هويتهم الخاصة على المجتمع,الكبير بحيث يضطر في آخر الأمر إلى تعديل مواقفه المعارضة و نظرته الرافضة.
.........
و عن هذا الموضوع كتبت جين رولاند مارتن مقالاً عن (المواطنة الثقافية) نشر في مجلة بوسطن ريفيو تقول فيه إنه في دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية التي قامـــت منذ البداية على أساس الاختلاف و التنوع و التعدد النوعي و العرقي و الديني فإنه يكون من التعسف أن يخضع كل هذا الخليط المتنافر من الثقافات لهيمنة ثقافة واحدة هي ثقافة فئة معينة من المهاجرين البيض الوافدين من أوروبا,و أن يطلب من كل (الآخرين) تقبل هذه الثقافة بحذافيرها و إغفال ثقافاتهم الخاصة التي قد تكون أقدم و أعمق و أكثر عراقة من ثقافة هؤلاء الأوروبيين البيض,و أن مثل هذا المطلب يعتبر سياسة خاطئة و خطيرة,و بخاصة إذا تم فرضها بقوة القانون لأن عملية الدمج في هذه الحالة ستأتي من طرف واحد و تتعارض مع حقوق الإنسان و مبادئ الديموقراطية الصحيحة.
......
تنبني الدلالة اللغوية لكلمة الاندماج (Integration) على مفهومين،لا يستقيم معناها إلا بتوفرهما،أو لا يكتمل أحدهما إلا بوجود الآخر.
و هذان المفهومان هما: الأول: الدخول،و الثاني: الاستحكام أو التجانس مع الكل كما جاء في القواميس الغربية.
و هذا معناه أن الشيء لا يصبح مندمجا اندماجا صحيحا و كليا في بنية ما،إلا إذا دخل في تلك البنية و تجانس مع باقي مكوناتها،و استحكم فيها عن طريق توثق الصلة مع كل البنية أو مع البنية كلها.
إن عدم تجاوب بعض المسلمين مع بعض قيم الثقافة الغربية،لا يعني أنهم لم يندمجوا،بقدرما يشير إلى أنهم استطاعوا أن يتقنوا اللغات الغربية،و يتعرفوا إلى ثقافات البلدان التي يوجدون فيها،و ينتظموا بشكل إيجابي و منتج داخل سوق الشغل،لكنهم تحفظوا من الانخراط غير المعقلن في ثقافة الآخر،لأنه انخراط يحمل في طياته بذور الموت لثقافاتهم الأصلية.
التحدي الذي يواجهه المسلمون في الغرب،يترافق معه تحدي من نوع اخر و هو ظاهرة (الاسلاموفوبيا) التي تتراوح حدتها بين صعود و هبوط مع كل حدث يقوم به مسلمون متطرفون في تلك البلدان..
يرى آلان غريش،رئيس تحرير مجلة «اللوموند ديبلوماتيك» في باريس «اننا نعيش عصر الإسلاموفوبيا بامتياز.ففي كل يوم نجد برهانا جديدا على هذا الكره المسبق للعرب و الإسلام.و هذا الكره متولد بشكل عفوي و منبث بشكل عام في كل أنحاء المجتمع. و هنا وجه الخطر و الخطورة..أنه يعبر عن ظاهرة مترسخة في أعماق المجتمع الغربي،و يصيب الناس جميعا كيفما اتفق يمينا و يسارا مثقفين أو غير مثقفين هكذا لا على التعيين.».
و يتهم آلان غريش،اليهودي من أصل مصري،بعض المثقفين و الصحافيين الفرنسيين كبرنار هنري ليفي و سواه بتغذية هذا التيار المعادي للاسلام و المسلمين في الساحة الباريسية.
فهؤلاء أصدروا مؤخرا بيانا جاء فيه ما معناه «بعد أن انتصرنا على الفاشية و النازية و الستالينية الشيوعية فإن العالم يواجه الآن خطرا شموليا من نوع توتاليتاري: إنه خطر الأصولية الإسلامية.و نحن ككتاب و صحافيين و مثقفين ندعو إلى مقاومة هذه التوتاليتارية الدينية و التصدي لها».
..........
و الاسلاموفوبيا يعرّفها الكاتب الأميركي ستيفن سكوارتز في موضوع له في مجلة «فرونت بيج»،بأنها إدانة الإسلام كليا،و إدانة تاريخه،و وصفه بالتطرف، و إنكار وجود غالبية مسلمة معتدلة،و اعتبار الإسلام مشكلة تواجه العالم،و أنها تتمثل في توجيه أصابع الاتهام للطرف المسلم في كل الصراعات التي يكون أحد طرفيها مسلما،و أنها التحريض على الحرب ضد الإسلام.
و يواجه المسلمون في الغرب في سبيل تحقيق الرغبة في التعايش و الاندماج دون ذوبان في المجتمع مع الحفاظ على ثقافتهم و هويتهم الإسلامية،الكثير من التحديات،من بينها: اللغة،التي تعد المفتاح الأساسي لتحقيق ذلك.
كما أن تحدي البطالة و صعوبة الحصول على فرصة عمل و نوعيته و طبيعته و ارتباطه بالمكانة و التأثير في المجتمع و صياغة القرارات،قد ساهم أيضا في صعوبة اندماج الجالية المسلمة و بخاصة مع تزايد صور الإساءة للإسلام و المخاوف من تشغيل المسلمين و افتقارهم لمهارات سوق العمل،لهذا فقد اتجهت الغالبية منهم للعمل في الأنشطة التجارية.
و من القضايا الأخرى المهمة المرتبطة بتحدي الاندماج في المجتمع الغربي،التي تشهد جدلا واسعا،قضية الأئمة و خطابهم الديني،فقدوم معظم الأئمة من خارج دول الغرب و معرفتهم المحدودة بلغة و ثقافة الغرب،و خطابهم الديني الذي لا يتماشى مع عوامل الزمان و المكان،قد جعل من الصعب عليهم توصيل رسالتهم و أفكارهم بسهولة حول الكثير من القضايا الدينية و الفكرية المستجدة في الغرب،و بخاصة تواصلهم مع الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين.
.........
كما أن الكثير من وسائل الإعلام الغربية تسيء للإسلام و المسلمين من خلال نشر تقارير سطحية و رؤى و أفكار و صور سلبية هدامة،نتيجة عن جهل أو تجاهل للوجه الحقيقي للإسلام،الأمر الذي يؤثر على الرأي العام الغربي،و بالتالي في إعاقة المسلمين عن الاندماج و المشاركة الإيجابية في المجتمع الغربي.
يلمس أحد الباحثين العرب كيفية تغيّر نظرة المسلمين إلى أنفسهم و حاضرهم و مستقبلهم في مجتمعاتهم غير الإسلامية من خلال مقارنة أجراها بين محاولتين فكريتين كانت لهما أهمية و تأثير في تشكيل رؤية المسلمين لأنفسهم في بلاد البلقان،في زمنين مختلفين،أحدهما ينتمي إلى حقبة الستينات و أوائل السبعينات من القرن العشرين،حين دعا الدكتور علي عزت بيجوفيتش،إلى ما اسماه (الإعلان العالمي)،في كتاب له صدر عام 1981م،و الثاني ينتمي إلى ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول حين دعا الدكتور مصطفى تسيريتش، رئيس هيئة العلماء في البوسنة والهرسك، إلى إعلان إسلامي آخر، أطلق عليه (إعلان المسلمين الأوروبيين).
في الإعلان الأول نظر بيجوفيتش إلى اندماج المسلمين في أوروبا بالعالم الإسلامي،و ربط مصيرهم بمصير الأمة الإسلامية،و نهضتهم بنهضة العالم الإسلامي،على قاعدة الاشتراك في الهوية.
و في الإعلان الثاني نظر تسيريتش إلى اندماج المسلمين في أوروبا بمحيطهم الأوروبي،على قاعدة المواطنة و العقد الاجتماعي و السياسي.
و قد جاء الإعلان الثاني بمثابة نداء موجه باسم المسلمين الأوروبيين إلى الاتحاد الأوروبي،داعياً إلى عقد اجتماعي يؤسس لعلاقة المواطنة على أساس "أن حماية الهوية ليست بالعزلة لأنها ستؤدي إلى ضمور الهويات و تكلسها".
يؤكد إعلان تسيريتش أن المسلمين الأوروبيين ملتزمون بالكامل و بشكل صريح بحكم القانون العادل،و مبادئ التسامح،و قيم الديمقراطية،و حقوق الإنسان،و بالاعتقاد أن كل إنسان له الحق في أن تُصان حقوقه الضرورية الخمسة،و هي: النفس،و الدين،و العقل،و المال،و العرض..
و من الواضح أن هذا الإعلان يشجع الأوروبيين على الاعتراف الرسمي بالإسلام و المؤسسات الإسلامية في أوروبا،و حمايتهم من جرائم التطهير العرقي، و الإبادة الجماعية.
و لكن الاندماج موضوع البحث محفوف بالمزالق،و هو مُعرض إلى أن ينتهي بالذوبان كما حدث في تجارب سابقة للمسلمين؛لذلك ينبغي أن تُحدَّد له ضوابط و قواعد تسير به في مساره الوسط المُنتج،و تعصمه من الانعزال أو الذوبان،منها:
أ- تحديد معنى الاندماج المطلوب،و تحديد محتواه،بحيث يتميز عما يُراد منه من قبل بعض الجهات حيث تعني به الذوبان.
و لذلك ينبغي السعي إلى التحاور مع المؤسسات الأوروبية للاتفاق على مفهوم مشترك للاندماج.
ب- أن يكون مُقيّداً بالمحافظة على خصوصية المسلم الممثلة في العقيدة و الشعائر و الأخلاق و الأحكام الشرعية خصوصاً ما كان منها قطعياً،و أن تكون المرونة فيه في سياق ما هو قابل للاجتهاد من أحكام الدين.
ج- أن يتم من خلال احترام القوانين التي تُنظم المجتمعات الأوروبية.
د- أن يكون مبنياً على أساس من البحث العلمي للواقع الأوروبي.
هـ- أن يقوم على استثمار الفرص و الإمكانات الكثيرة المُتاحة في المجتمع الأوروبي.
و- أن يكون قائماً على أساس من الحوار المستمر مع مُكونات المُجتمع الأوروبي الثقافية و السياسية و الاجتماعية.
و في الواقع أن سياسات "الاندماج" المتبعة في الدول الأوروبية تتراوح،بين اتجاهين: اتجاه يغلّب جانب الانصهار في المجتمع و لو أدّى ذلك إلى التخلي عن الخصوصيات الدينية و الثقافية للفئات المندمجة.
و اتجاه آخر يدعو إلى ضرورة الموازنة بين مقتضيات الاندماج و مقتضيات الحفاظ على الخصوصيات الثقافية و الدينية.
و أن الاتجاه الثاني هو الذي يعبّر عن الاندماج الإيجابي،الذي يجب أن تحدد مقتضياته بوضوح،و يجري الاتفاق على أنه مسؤولية مشتركة بين المسلمين أفراداً و مؤسسات من جانب،و بقية المجتمع الأوروبي أفراداً و مؤسسات من جانب آخر.و لذلك فقد خرج البيان بجملة توصيات و مقترحات للمسلمين في أوروبا، من أهمها:
1- الالتزام بالقوانين الخاصة بحقوق المواطنة و واجباتها.
2- الالتزام بالقوانين و اللوائح الموضوعة من قبل الجهات الرسمية.
3- العمل على تحسين صورة الإسلام و المسلمين عن طريق الالتزام بقيم الإسلام و مبادئه العظيمة و إقامة البرامج التي تعرف بالإسلام و قيمه الحضارية.
4- تجاوز العادات و التقاليد الموروثة المسيئة للإسلام.
5- إقامة دورات و برامج تعمل على تحقيق الاندماج الإيجابي و التفاعل المثمر.
6- النهوض بالدعاة و العاملين بين المسلمين و تأهيلهم ليكونوا قدوةً حسنةً في تحقيق التفاعل الإيجابي،و إعداد نخبة تتقن لغة الحوار مع الغرب للحديث عن الإسلام و تقديم صورته المشرقة له.
7- إقامة المراكز الإسلامية المتكاملة التي تشمل إلى جوار المسجد: المكتبة و النادي الثقافي و الاجتماعي و الرياضي و المطعم و غير ذلك من الإمكانات، و قيامها بأنشطة مختلفة،مع التركيز على أنشطة الاندماج.
8- المشاركة الإيجابية و الفعالة في مؤسسات المجتمع المدني و الأنشطة البيئية و الاجتماعية في الحي و المدينة و على مستوى الدولة.
9- بناء العمل المؤسسي،و البعد عن التمحور حول العرقية و المذهبية و الطائفية و الحزبية.
10- تشكيل لجان حقوقية قانونية للدفاع عن حقوق الأقليات و مناهضة التمييز العنصري.
11- السعي إلى الاعتراف الرسمي بالإسلام كدين،و بالمسلمين كأقلية لها حقوقها التي كفلتها الشرائع و الدساتير و المواثيق،على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة.
........
شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس 8/آب/2013
اعداد: حيدر الجراح
..........
تشكل قضية اندماج المسلمين في المجتمعات الاوربية مجالا خصبا للاخذ و الرد بين دعاة توجهين: التوجه الاول،و هو الذي تتبناه الدول الحاضنة للمسلمين عبر الكثير من القوانين و التشريعات.
التوجه الثاني،يتبناه المسلمون انفسهم،عبر سلوكهم الذي تفرضه الثقافة الدينية التي ينتمون اليها.
التوجهان يتصادمان عبر سؤال مطروح بقوة و هو: هل يحق للمسلمين التمتع بحقوق المواطنة السياسية على رغم رفضهم الصريح لثقافة الدولة (المضيفة)؟.
و هذا التساؤل قد يجد له الإجابة الشافية في ما يذهب إليه بعض الكتاب المعاصرين من ضرورة التفرقة داخل المجتمع الواحد بين المواطنة السياسية التي يخضع لها جميع أفراد المجتمع و المواطنة الثقافية التي تميز الجماعات الفرعية الموجودة داخل ذلك المجتمع عن الثقافة العامة التي يشار إليها أحياناً باسم الثقافة الرسمية المميزة لمجتمع الدولة ككل.
المواطنة الثقافية كما يذهب الى ذلك احمد ابو زيد الانثروبولوجي المصري،تعني حق الجماعات الفرعية و الأقليات في الاحتفاظ بهويتها الثقافية الخاصة حتى لا يتم احتواؤها و دمجها تماماً في الثقافة العامة الرسمية السائدة في المجتمع بشرط ألا يترتب على ذلك عدم المشاركة في شكل إيجابي و فعال في مختلف أنشطة الحياة و الالتزام التام بالقوانين و القواعد الأساسية المنظمة للحياة العامة في الدولة,و هذا يعني ضمناً تقبل مجتمع الدولة لوجود هذه الجماعات المتمايزة ثقافياً و الاعتراف بحقها في الاحتفاظ بمقومات ثقافتها الخاصة و تفهمه للمبادئ التي تقوم عليها تلك الثقافة و القيم التي تكمن وراء مظاهرها الخارجية من سلوكيات و علاقات قد تختلف اختلافاً جوهرياً عما درج عليه الأهالي الأصليون الذين يؤلفون غالبية السكان.
........
و يذهب الأستاذ ريناتو روزالدو أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة ستانفورد الأميركية - و هو الذي صاغ في الأصل تعبير المواطنة الثقافية - إلى أن جماعات الأقليات التي تعيش في أي مجتمع و تعتبر أعضاءها مواطنين في ذلك المجتمع يمكنها الحصول لأعضائها على حقوقهم العامة كمواطنين كاملي المواطنة و على اعتراف الدولة و الشعب بوجودهم ككيان متمايز داخل الدولة و ذلك من طريق العمل الجاد من أفراد هذه الأقليات على نشر ملامح و خصائص و مقومات ثقافاتهم الخاصة و الحرص على التعبير عنها بقوة و مثابرة و بكل الطرق و الوسائل إلى أن يتم (حفرها) و تثبيتها في ذاكرة المجتمع و بذلك يفرضون ذاتيتهم و هويتهم الخاصة على المجتمع,الكبير بحيث يضطر في آخر الأمر إلى تعديل مواقفه المعارضة و نظرته الرافضة.
.........
و عن هذا الموضوع كتبت جين رولاند مارتن مقالاً عن (المواطنة الثقافية) نشر في مجلة بوسطن ريفيو تقول فيه إنه في دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية التي قامـــت منذ البداية على أساس الاختلاف و التنوع و التعدد النوعي و العرقي و الديني فإنه يكون من التعسف أن يخضع كل هذا الخليط المتنافر من الثقافات لهيمنة ثقافة واحدة هي ثقافة فئة معينة من المهاجرين البيض الوافدين من أوروبا,و أن يطلب من كل (الآخرين) تقبل هذه الثقافة بحذافيرها و إغفال ثقافاتهم الخاصة التي قد تكون أقدم و أعمق و أكثر عراقة من ثقافة هؤلاء الأوروبيين البيض,و أن مثل هذا المطلب يعتبر سياسة خاطئة و خطيرة,و بخاصة إذا تم فرضها بقوة القانون لأن عملية الدمج في هذه الحالة ستأتي من طرف واحد و تتعارض مع حقوق الإنسان و مبادئ الديموقراطية الصحيحة.
......
تنبني الدلالة اللغوية لكلمة الاندماج (Integration) على مفهومين،لا يستقيم معناها إلا بتوفرهما،أو لا يكتمل أحدهما إلا بوجود الآخر.
و هذان المفهومان هما: الأول: الدخول،و الثاني: الاستحكام أو التجانس مع الكل كما جاء في القواميس الغربية.
و هذا معناه أن الشيء لا يصبح مندمجا اندماجا صحيحا و كليا في بنية ما،إلا إذا دخل في تلك البنية و تجانس مع باقي مكوناتها،و استحكم فيها عن طريق توثق الصلة مع كل البنية أو مع البنية كلها.
إن عدم تجاوب بعض المسلمين مع بعض قيم الثقافة الغربية،لا يعني أنهم لم يندمجوا،بقدرما يشير إلى أنهم استطاعوا أن يتقنوا اللغات الغربية،و يتعرفوا إلى ثقافات البلدان التي يوجدون فيها،و ينتظموا بشكل إيجابي و منتج داخل سوق الشغل،لكنهم تحفظوا من الانخراط غير المعقلن في ثقافة الآخر،لأنه انخراط يحمل في طياته بذور الموت لثقافاتهم الأصلية.
التحدي الذي يواجهه المسلمون في الغرب،يترافق معه تحدي من نوع اخر و هو ظاهرة (الاسلاموفوبيا) التي تتراوح حدتها بين صعود و هبوط مع كل حدث يقوم به مسلمون متطرفون في تلك البلدان..
يرى آلان غريش،رئيس تحرير مجلة «اللوموند ديبلوماتيك» في باريس «اننا نعيش عصر الإسلاموفوبيا بامتياز.ففي كل يوم نجد برهانا جديدا على هذا الكره المسبق للعرب و الإسلام.و هذا الكره متولد بشكل عفوي و منبث بشكل عام في كل أنحاء المجتمع. و هنا وجه الخطر و الخطورة..أنه يعبر عن ظاهرة مترسخة في أعماق المجتمع الغربي،و يصيب الناس جميعا كيفما اتفق يمينا و يسارا مثقفين أو غير مثقفين هكذا لا على التعيين.».
و يتهم آلان غريش،اليهودي من أصل مصري،بعض المثقفين و الصحافيين الفرنسيين كبرنار هنري ليفي و سواه بتغذية هذا التيار المعادي للاسلام و المسلمين في الساحة الباريسية.
فهؤلاء أصدروا مؤخرا بيانا جاء فيه ما معناه «بعد أن انتصرنا على الفاشية و النازية و الستالينية الشيوعية فإن العالم يواجه الآن خطرا شموليا من نوع توتاليتاري: إنه خطر الأصولية الإسلامية.و نحن ككتاب و صحافيين و مثقفين ندعو إلى مقاومة هذه التوتاليتارية الدينية و التصدي لها».
..........
و الاسلاموفوبيا يعرّفها الكاتب الأميركي ستيفن سكوارتز في موضوع له في مجلة «فرونت بيج»،بأنها إدانة الإسلام كليا،و إدانة تاريخه،و وصفه بالتطرف، و إنكار وجود غالبية مسلمة معتدلة،و اعتبار الإسلام مشكلة تواجه العالم،و أنها تتمثل في توجيه أصابع الاتهام للطرف المسلم في كل الصراعات التي يكون أحد طرفيها مسلما،و أنها التحريض على الحرب ضد الإسلام.
و يواجه المسلمون في الغرب في سبيل تحقيق الرغبة في التعايش و الاندماج دون ذوبان في المجتمع مع الحفاظ على ثقافتهم و هويتهم الإسلامية،الكثير من التحديات،من بينها: اللغة،التي تعد المفتاح الأساسي لتحقيق ذلك.
كما أن تحدي البطالة و صعوبة الحصول على فرصة عمل و نوعيته و طبيعته و ارتباطه بالمكانة و التأثير في المجتمع و صياغة القرارات،قد ساهم أيضا في صعوبة اندماج الجالية المسلمة و بخاصة مع تزايد صور الإساءة للإسلام و المخاوف من تشغيل المسلمين و افتقارهم لمهارات سوق العمل،لهذا فقد اتجهت الغالبية منهم للعمل في الأنشطة التجارية.
و من القضايا الأخرى المهمة المرتبطة بتحدي الاندماج في المجتمع الغربي،التي تشهد جدلا واسعا،قضية الأئمة و خطابهم الديني،فقدوم معظم الأئمة من خارج دول الغرب و معرفتهم المحدودة بلغة و ثقافة الغرب،و خطابهم الديني الذي لا يتماشى مع عوامل الزمان و المكان،قد جعل من الصعب عليهم توصيل رسالتهم و أفكارهم بسهولة حول الكثير من القضايا الدينية و الفكرية المستجدة في الغرب،و بخاصة تواصلهم مع الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين.
.........
كما أن الكثير من وسائل الإعلام الغربية تسيء للإسلام و المسلمين من خلال نشر تقارير سطحية و رؤى و أفكار و صور سلبية هدامة،نتيجة عن جهل أو تجاهل للوجه الحقيقي للإسلام،الأمر الذي يؤثر على الرأي العام الغربي،و بالتالي في إعاقة المسلمين عن الاندماج و المشاركة الإيجابية في المجتمع الغربي.
يلمس أحد الباحثين العرب كيفية تغيّر نظرة المسلمين إلى أنفسهم و حاضرهم و مستقبلهم في مجتمعاتهم غير الإسلامية من خلال مقارنة أجراها بين محاولتين فكريتين كانت لهما أهمية و تأثير في تشكيل رؤية المسلمين لأنفسهم في بلاد البلقان،في زمنين مختلفين،أحدهما ينتمي إلى حقبة الستينات و أوائل السبعينات من القرن العشرين،حين دعا الدكتور علي عزت بيجوفيتش،إلى ما اسماه (الإعلان العالمي)،في كتاب له صدر عام 1981م،و الثاني ينتمي إلى ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول حين دعا الدكتور مصطفى تسيريتش، رئيس هيئة العلماء في البوسنة والهرسك، إلى إعلان إسلامي آخر، أطلق عليه (إعلان المسلمين الأوروبيين).
في الإعلان الأول نظر بيجوفيتش إلى اندماج المسلمين في أوروبا بالعالم الإسلامي،و ربط مصيرهم بمصير الأمة الإسلامية،و نهضتهم بنهضة العالم الإسلامي،على قاعدة الاشتراك في الهوية.
و في الإعلان الثاني نظر تسيريتش إلى اندماج المسلمين في أوروبا بمحيطهم الأوروبي،على قاعدة المواطنة و العقد الاجتماعي و السياسي.
و قد جاء الإعلان الثاني بمثابة نداء موجه باسم المسلمين الأوروبيين إلى الاتحاد الأوروبي،داعياً إلى عقد اجتماعي يؤسس لعلاقة المواطنة على أساس "أن حماية الهوية ليست بالعزلة لأنها ستؤدي إلى ضمور الهويات و تكلسها".
يؤكد إعلان تسيريتش أن المسلمين الأوروبيين ملتزمون بالكامل و بشكل صريح بحكم القانون العادل،و مبادئ التسامح،و قيم الديمقراطية،و حقوق الإنسان،و بالاعتقاد أن كل إنسان له الحق في أن تُصان حقوقه الضرورية الخمسة،و هي: النفس،و الدين،و العقل،و المال،و العرض..
و من الواضح أن هذا الإعلان يشجع الأوروبيين على الاعتراف الرسمي بالإسلام و المؤسسات الإسلامية في أوروبا،و حمايتهم من جرائم التطهير العرقي، و الإبادة الجماعية.
و لكن الاندماج موضوع البحث محفوف بالمزالق،و هو مُعرض إلى أن ينتهي بالذوبان كما حدث في تجارب سابقة للمسلمين؛لذلك ينبغي أن تُحدَّد له ضوابط و قواعد تسير به في مساره الوسط المُنتج،و تعصمه من الانعزال أو الذوبان،منها:
أ- تحديد معنى الاندماج المطلوب،و تحديد محتواه،بحيث يتميز عما يُراد منه من قبل بعض الجهات حيث تعني به الذوبان.
و لذلك ينبغي السعي إلى التحاور مع المؤسسات الأوروبية للاتفاق على مفهوم مشترك للاندماج.
ب- أن يكون مُقيّداً بالمحافظة على خصوصية المسلم الممثلة في العقيدة و الشعائر و الأخلاق و الأحكام الشرعية خصوصاً ما كان منها قطعياً،و أن تكون المرونة فيه في سياق ما هو قابل للاجتهاد من أحكام الدين.
ج- أن يتم من خلال احترام القوانين التي تُنظم المجتمعات الأوروبية.
د- أن يكون مبنياً على أساس من البحث العلمي للواقع الأوروبي.
هـ- أن يقوم على استثمار الفرص و الإمكانات الكثيرة المُتاحة في المجتمع الأوروبي.
و- أن يكون قائماً على أساس من الحوار المستمر مع مُكونات المُجتمع الأوروبي الثقافية و السياسية و الاجتماعية.
و في الواقع أن سياسات "الاندماج" المتبعة في الدول الأوروبية تتراوح،بين اتجاهين: اتجاه يغلّب جانب الانصهار في المجتمع و لو أدّى ذلك إلى التخلي عن الخصوصيات الدينية و الثقافية للفئات المندمجة.
و اتجاه آخر يدعو إلى ضرورة الموازنة بين مقتضيات الاندماج و مقتضيات الحفاظ على الخصوصيات الثقافية و الدينية.
و أن الاتجاه الثاني هو الذي يعبّر عن الاندماج الإيجابي،الذي يجب أن تحدد مقتضياته بوضوح،و يجري الاتفاق على أنه مسؤولية مشتركة بين المسلمين أفراداً و مؤسسات من جانب،و بقية المجتمع الأوروبي أفراداً و مؤسسات من جانب آخر.و لذلك فقد خرج البيان بجملة توصيات و مقترحات للمسلمين في أوروبا، من أهمها:
1- الالتزام بالقوانين الخاصة بحقوق المواطنة و واجباتها.
2- الالتزام بالقوانين و اللوائح الموضوعة من قبل الجهات الرسمية.
3- العمل على تحسين صورة الإسلام و المسلمين عن طريق الالتزام بقيم الإسلام و مبادئه العظيمة و إقامة البرامج التي تعرف بالإسلام و قيمه الحضارية.
4- تجاوز العادات و التقاليد الموروثة المسيئة للإسلام.
5- إقامة دورات و برامج تعمل على تحقيق الاندماج الإيجابي و التفاعل المثمر.
6- النهوض بالدعاة و العاملين بين المسلمين و تأهيلهم ليكونوا قدوةً حسنةً في تحقيق التفاعل الإيجابي،و إعداد نخبة تتقن لغة الحوار مع الغرب للحديث عن الإسلام و تقديم صورته المشرقة له.
7- إقامة المراكز الإسلامية المتكاملة التي تشمل إلى جوار المسجد: المكتبة و النادي الثقافي و الاجتماعي و الرياضي و المطعم و غير ذلك من الإمكانات، و قيامها بأنشطة مختلفة،مع التركيز على أنشطة الاندماج.
8- المشاركة الإيجابية و الفعالة في مؤسسات المجتمع المدني و الأنشطة البيئية و الاجتماعية في الحي و المدينة و على مستوى الدولة.
9- بناء العمل المؤسسي،و البعد عن التمحور حول العرقية و المذهبية و الطائفية و الحزبية.
10- تشكيل لجان حقوقية قانونية للدفاع عن حقوق الأقليات و مناهضة التمييز العنصري.
11- السعي إلى الاعتراف الرسمي بالإسلام كدين،و بالمسلمين كأقلية لها حقوقها التي كفلتها الشرائع و الدساتير و المواثيق،على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة.
........
شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس 8/آب/2013