أخلاق المجتمعات النامية و ذهنيتها و نفسيتها.
أ.د.عبدالكريم بكّار.
........
يقوم الانطلاق الحضاري – كما يعزز – على نوع من الأخلاق الاجتماعية التي تمكن القوى الاجتماعية المختلفة من الحركة و العطاء و الانسجام و الاستفادة من كل المعطيات المتاحة.
و على نحو من ذلك تتوضَّع ظواهر الركود الحضاري،و تستمد كينونتها و نموها من عدد من الأخلاق و العادات و الفاعليات الذميمة.
و من الواضح أنّ المجتمعات النامية و الراكدة حضارياً تفقد القدر الضروري من التجانس في أكثر الصعد الحضارية،و من ثمّ فإن حديثنا هنا لا يصور سوى الطابع العام،و إلا ففي أشد المجتمعات المختلفة أشخاص كثيرون شبوا عن الطوق الاجتماعي،و تجاوزوا السقف الحضاري السائد في شعوبهم؛فهم في أقصى درجات الفاعلية و التفتح و الاستجابة للتحديات المختلفة،لكن ذلك كله غير كافٍ لجعلهم يصبغون مجتمعاتهم بصبغتهم الحميدة ما لم يصلوا في عددهم إلى النسبة الحرجة المطلوبة.
و نظراً للجدلية القائمة بين كثير من جوانب الحياة فإنّه لا يمكن عزل أي جانب من تلك الجوانب عن عمليات التأثير و التأثر التي تظل ناشطة مهما ظل المجتمع راكداً،كما يظل القلب في حالة من العمل على الرغم من النوم أو غياب الوعي،و من هنا فإن مدى استقامة أخلاق أي مجتمع أو تدهورها مرتبطة بسلَّم القيم السائدة في المجتمع من جهة،و بالوضعية الحضارية العامة لذلك المجتمع من جهة أخرى.
و سلَّمُ القيم من جانبه يتبادل التأثير و التأثر مع الوضعية الحضارية؛حيث تهبط قيم معينة،و ترتفع أخرى.
و بإمكاننا أن نذكر هنا بعض الأخلاق التي تسود في المجتمعات النامية و الراكدة حضارياً.
و لكون الإسلام يريد من المسلم أن يكون النموذج الأمثل في صُعُد الرقي و الخير و الحق و الكمال فإن هذه الأخلاق موسومة بوسم (اللاشرعية) مهما شاعت في المجتمعات الإسلامية،و استمرت.
و إليك بعضاً مما نعانيه في هذا الموضوع على النحو التالي:
1- ضعف الفاعلية:
تتسم المجتمعات الإسلامية – و كلها مصنفة مع المجتمعات النامية – بالبطء في كل شيء،كما تتسم بضعف المحصول العام لحركتها و نشاطها؛فالمشكلات التي تجتاح مجتمعاتنا تستمر قروناً لضعف فاعلية الطرد لدينا،على حين لا تدوم المشكلات طويلاً عند الشعوب المتقدمة صناعياً،حيث تجدُّ عندهم في كل يوم مشكلات،و تختفي أخرى.
و أداء الأجهزة و الأنظمة لدينا أيضاً غير فعّال،و قوى الإنتاج المختلفة لا تعمل بالكفاءة المطلوبة،كما أنّ الفرص المتاحة لا تستغل على الوجه المطلوب،حيث لا نفطن لها إلا بعد فوات الأوان،فنأتي دائماً بعد الأحداث لا قبلها.
المعلم في مجتمعاتنا لا يعلّم بكفاءة.و إنتاج العامل لدينا لا يقارن بإنتاج العامل في المجتمعات الأخرى،و يصعد الواحد منا إلى الطابق الثاني بالمصعد على حين يصعد الواحد منهم هناك إلى الطابق الخامس على قدميه.
و يقضي الواحد منهم بعضاً من وقت فراغه في الجري و المشي،و نحن نقضيه في الاستلقاء!
و يدخل الواحد منهم في مشروع،فيكافح إلى النهاية مهما طالت،و نشعر بطول الطريق و الملل و السأم بعد قليل!
فأين ذهبت فاعلية الإيمان التي دفعت بخالد بن الوليد و الجيش الإسلامي بقطع بادية الشام من العراق إلى الشام في مدة زمنية مذهلة في قصرها رغم الظرف الصعب.
و أين ذهبت فاعلية الإيمان التي دفعت أسماء رضي الله عنها إلى المشي إلى غار ثور أميالاً عدة مع أنها حامل!!
و أين أولئك العلماء الذين كانوا يقسمون الليل أثلاثاً: ثلثاً للكتابة و ثلثاً للنوم و ثلثاً للصلاة،و أين و أين..؟؟
إنّ الأُمّة فقدت الهمة الحضارية فيما فقدت،فصارت إلى السكون أقرب.و خرجت من تيار الزمان المتدفق تنتظر مصيرها في عصر غزو الفضاء!!
.........
2- قلة الاكتراث بالوقت:
الوقت هو الغلاف الشامل لكل أنشطة الإنسان،و هو من المحطات الرئيسة في تقويم أدائه و فعاليته، و هو من قبل ذلك و من بعده حياة الإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى؛فضياعه هو ضياع العمر،و إتلافه إتلاف لأعظم الثروات.
و على الرغم من كثرة الآيات التي أقسم الله بها بالزمن و كثرة الأحاديث التي تحث على اغتنام الساعات و كثرة أقوال السلف و عظماء العالم في ضرورة الحفاظ على اللحظة الواحدة؛فإنّ المجتمعات الإسلامية تعد نماذج مثالية لإتلاف الوقت و قتله في جميع الحقول،و على جميع المستويات.
و لعل من الأسباب الرئيسة في هذه الظاهرة المحزنة أن طبيعة مصادر الرزق تتحكم في ذلك؛فأكثر المسلمين يشتغلون في الرعي و الزراعة و الحرف اليدوية و المهن الحرة،و ليس في واحدة من هذه ما يعوِّد الإنسان على الحرص على الوقت و الالتزام به.
ثمّ إن فاعلية الإنسان تتعقد كلما تعقدت مصالحه،و زادت أعباء الطلب عليه.
و هذا يحتاج إلى درجة مناسبة من الولوج في عصر الصناعة.
و الحفاظ لدينا على الوقت في المعامل و المكاتب أفضل،لكن لم يتم بعد إرساء تقاليد عريقة في هذا بالقدر المطلوب.
و مع ذلك فإن بقاء الموظف في مكتبه أقل مما هو موجود عند غيرنا بكثير؛فإن بعض الإحصاءات يذكر أنّ الفرد من مواطني بعض الدول العربية لا يقضي في عمله سوى جزء يسير من يومه،و ذلك لا يساوي إلا ربع التي يقضيها المواطن الأمريكي في العمل!
بل إنّ هذا المواطن العربي يقضي 36% من وقته في مشاهدة (التلفاز)؛كما أنّ المواصلات تستهلك 16% من وقته!
فكيف يمكننا أن نلحق بركب الحضارة إذا كنا نسير بربع الطاقة التي يسير بها الآخرون! و كيف لا تتسع الهوَّة التي تفصل بيننا و بينهم؟
أما نحن فنجد أنفسنا حيال مواقف كثيرة يُقتل فيها الوقت قتلاً نتيجة فقد آلة صغيرة،أو نتيجة وجود موظف مهمل لم يجد من يقول له: لِمَ؟ أو ينظر إليه نظرة عتاب!
..........
3- ضعف المبادرة الفردية:
نعني بالمبادرة الفردية اندفاع المجتمع إلى القيام بأعمال تطوعية خيرية ذات نفع عام.
و تعد المبادرات الفردية من المقاييس المهمة لفاعلية أي مجتمع؛فعلى مقدار ما يمر به المجتمع من مبادرات على مستوى الفكر و اليد تكون فاعليته و حيويته.
و المبادرة الفردية مرتبطة إلى حد بعيد بدرجة الصحة النفسية المتوفرة في المجتمع و بـ(الرضا الاجتماعي) السائد فيه؛كما ترتبط بفاعلية قيم الخير و الإحسان و خصوبة الخيال المبدع الذي يهدي إلى الأساليب و الوسائل المساعدة في إشاعة الخير و حل المشكلات؛و يرتبط قبل هذا و ذاك بالتربية البيتية و الاجتماعية الحرة التي تحفِّز المواهب،و تكسر حواجز الخوف،و تتيح الفرص لإجراء التجارب الاجتماعية الحيَّة.
و يلاحظ أن أفراد المجتمعات الإسلامية كانوا في أوج عطائهم السخيّ حين كانت الأُمّة في حالة انطلاق حضاري،و حين ساد الركود،و بدأت العجلات تدور نحو الخلف صار أكثر الناس لدينا يحمل نفسية (الموظف) الذي لا يعمل إلا في الحقل الذي رُسم له؛حتى في الأعمال الدنيوية صار أكثر أبناء المسلمين يخشون الأعمال الحرة،و يبحثون عن الأعمال و الوظائف الحكومية حيث لا مغامرة و لا مبادرة!
.........
4- النمطية:
إنّ ضعف الحراك الاجتماعي و الثقافي في المجتمعات النامية يؤدي إلى فقر في المعلومات،و فقر في النماذج و الصور الذهنية.
و هذا كله يجعل أكثر أبناء المجتمع فريسة للرؤى الأحادية الإجمالية البعيدة عن التنوع و التفصيل.
و هذا ما يمكن أن نسميه بالنمطية أو الانطباعية.
و المقصود بالنمط هنا: الشيء المكرر على نحو لا يتغير أو الشيء المتفق مع نموذج ثابت أو عام،و تعوزه السمات الفردية المميزة.
و من سمات الصور النمطية أنها ترتكز على الشائعات و الآراء التي لا تستند إلى براهين علمية،و إنما ترتسم من خلال الأوهام و المعلومات غير الدقيقة.
و من ثمّ فإنّ الصورة النمطية تكون محمَّلة بالمشاعر الذاتية و مشحونة بالعواطف الشخصية.
و حين تعلق فكرة ما في ذهن الإنسان أو المجتمع النمطي فإن تغييرها يحتاج إلى وقت طويل؛فشراء شيء من الخبز الرديء من أحد المخابز مرة واحدة كافٍ لأن يصدَّ عنه الإنسان النمطي سنة كاملة،و ربما الدهر كله.
و وقوع رجل في خطأ واحد كاف لتشويه صورته مدى الحياة،و هكذا...
و نجد في مجتمعاتنا الإسلامية تصنيفاً للشعوب صادراً عن التفكير النمطي؛فهذا شعب كسول،و هذا غبي، و آخر بخيل،و هكذا...مع أن في كل شعب من شعوب الأرض العديد من نماذج الخير و الشر و التقدم و التخلف مع تفاوت في بعض النسب.
و من مظاهر النمطية أنّ الأب يحبُّ أن يعمل أولاده في عين المهنة التي يعملها أو التخصص الذي يمارسه،كما أنه يريد أن يعوِّدهم نفس العادات التي تعوَّدها مع أنهم خُلقوا لزمان غير زمانه.
...........
5- الانفرادية:
يعدُّ تقسيم العمل أحد الآليات المهمة في جميع أصعدة التقدم الحضاري.
كما أنّ العمل بروح الفريق سمة بارزة من سمات التحضر،حيث يتوقف إنجاز الكثير من الأعمال و المشاريع على مدى استعداد أعداد معينة من المختصين و الفنيين و غيرهم للعمل بانسجام و وئام ضمن إطار نشط فعَّال.
و في هذا الصدد نجد لدينا أنواعاً من الإخفاق المتكرر في إيجاد موازنات عملية تحفظ للفرد خصائصه الفردية،و تجعل منه عضواً نشطاً في المجموعة التي ينتمي إليها.
و كثير من الأحزاب و الجماعات و المجموعات و اللجان ينتهي العمل فيها إلى إحدى صورتين: الأولى هي التشظِّي و التفتُّت،و الثانية: سيطرة نفر قليل عليها يلغي آراء الآخرين،و يحاول شطب الوجود الاعتباري لهم فيكون العمل في ظاهره جماعياً،و في باطنه تسليطاً فردياً!
و إذا ما حدثت نجاحات بذلت فيها جهود عظيمة متعددة حاول كثيرون أن ينسبوا إنجازها إلى أنفسهم مع غمط حقوق الآخرين!
.........
6- الشكليَّة:
هناك نوع من المقابلة بين الجوهر و المظهر،أو الشكل و المضمون،و غالباً ما تصرف شدة العناية بأحدهما عن الاهتمام بالآخر.
و إذا كان الإسلام قد ندبنا إلى العناية بالمظهر و التجمل في كل شيء إلا أننا لا نتمارى في أنّ النصوص توجِّهنا إلى صرف جل اهتمامنا إلى المضامين و الحقائق.
و حين تسيطر الشكلية على نفسية مجتمع فإنّها تأبى إلا أن تصبغ جوانب الحياة كافة،ابتداء بمراكز البحث العلمي و انتهاء بابتسامة عند اللقاء.
فتكبر الأسماء و العناوين،و تتضاءل المضامين،و تكثر الكتب،و تقل الأفكار،و تكثر الحركة و التشاغل،و يقل الإنجاز و العمل و هكذا...و من يمعن النظر في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم يجد هذه السمات سائدة فيها إلى حد بعيد؛فنساء المسلمين يُنفقن على الحليِّ و الملابس و أدوات الزينة أضعاف ما تنفقه مثيلاتهنّ الأوربيات.
و تسمع بأسماء لامعة في جوانب مختلفة من حياتنا،و حين تقف على الحقائق تصاب بصدمة! و الناظر في المؤلفات الإسلامية التي أنجزت في القرون الخمسة الماضية – على الأقل – يجد أن أكثرها لا يعرض حقائق علمية،كما لا يمثل إضافات ذات قيمة في العلوم و المعارف التي عالجتها،و إنما يجد سيطرة (اللفظية) بشكل عجيب.
و كثير من الحواشي و الشروح لم يقدم نقوداً حقيقية بمقدار ما كان عبارة عن مماحكات لفظية تستهلك الطاقات الحيّة دون أي مردود يذكر.
و لعل طريقة التعليم القائمة لدينا على التلقين،لا التفكير و لا الحوار و المناقشة هي التي تجعل المرء يندفع إلى قول أي شيء بقطع النظر عن محتواه!
و لعل عدم مساوقة التربية البيتية – التي تؤكد على الجوهر – لما هو سائد من معايير الضبط الاجتماعي يجعل الإنسان يشعر بضرورة التماثل الاجتماعي – الذي لا يؤكد عادة إلا على الأشكال و المظاهر – مهما كانت قناعات المرء و معتقداته.
إنّ الشكلية و اللفظية تضادّان الروح العلمية.
و إن لدينا أفكاراً كثيرة جميلة لكنها لا تقبل التحول إلى واقع ملموس؛فهي بالتالي من باب الزينة الكلامية التي تزين بها مجالسنا،و نزجي بها أوقاتنا!
...........
7- مقاومة التغيير:
من شأن المجتمعات النامية أن تحوِّل العادات إلى مقدَّسات – بقطع النظر عن مشروعية ذلك أو فائدته –؛فقلة الخبرة الحياتية تجعل روح المغامرة ضعيفة بالإضافة إلى أن كل جديد يحتاج – بحسبه – إلى نوع من التكيف.
و خمود الهمة الحضارية لا يساعد عليه.
كما أن هناك أفراداً و شرائح اجتماعية ارتبطت مصالحها بالمألوف السائد؛فهم يبذلون جهودهم و ما في وسعهم لإبقاء كل شيء على ما هو عليه على نحو ما قال الله – سبحانه و تعالى –: (وَ كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (الزخرف/ 23-24).
و قد أنتج السلف الصالح من الأفكار و المعلومات و النظم و الأوعية الحضارية المختلفة ما قلب ما كان مألوفاً في الجاهلية رأساً على عقب،و قد تقبَّل المسلمون ذلك برحابة صدر و حماسة،و لم يُثر فيهم تحسساً يذكر،كما لم يصدع مجتمعاتهم،و يحولها إلى ساحات حرب ثقافية.
و ذلك لأن فهمهم للمنهج الرباني كان أكمل من فهمنا،و هو منهج يخبرنا إلى الإنسان قاصر عن إدراك الحقائق دفعة واحدة؛و هذه المسألة هي الملجئ الأعظم إلى التغيير و التطوير.
و لو قدر لنا أن نقبض على الحقائق الكونية دفعة واحدة لانتَفَتْ سنن التدرج و التغيير و الهدم، و لكن ليس هناك ما يدل على أن شيئاً من ذلك سوف يحدث.
........
إنّ حياة المسلمين اليوم مثقلة بالبدع و بالكثير من الأشكال و العادات البالية التي تصادم عقيدتنا،أو التي لا تصادمها لكنها عالية التكلفة قليلة الفائدة،و مع ذلك فإنّ الناس جعلوها جزءاً من ثقافتهم و حياتهم؛و ليس هذا المقام مقام تفصيل.
هذه الأخلاق و أخلاق أخرى عديدة – على شاكلتها – حالت دون وضع المجتمعات الإسلامية في الوضعية الصحيحة المناسبة لفهم التحديات التي تواجهها ثمّ مقاومتها و التغلب عليها.
و ما ذكرناه هنا ليس سائداً في مجتمعات المسلمين وحدها بل في كل المجتمعات التي لم تؤمِّن نوعاً مناسباً من الانطلاق الحضاري المكافئ لروح العصر و حاجاته.
و مع كل ذلك فإن بوارق الأمل بتحسن أحوالنا تلمع في كل مكان مهما كان الظلام حالكاً.
..........
موقع البلاغ.
أ.د.عبدالكريم بكّار.
........
يقوم الانطلاق الحضاري – كما يعزز – على نوع من الأخلاق الاجتماعية التي تمكن القوى الاجتماعية المختلفة من الحركة و العطاء و الانسجام و الاستفادة من كل المعطيات المتاحة.
و على نحو من ذلك تتوضَّع ظواهر الركود الحضاري،و تستمد كينونتها و نموها من عدد من الأخلاق و العادات و الفاعليات الذميمة.
و من الواضح أنّ المجتمعات النامية و الراكدة حضارياً تفقد القدر الضروري من التجانس في أكثر الصعد الحضارية،و من ثمّ فإن حديثنا هنا لا يصور سوى الطابع العام،و إلا ففي أشد المجتمعات المختلفة أشخاص كثيرون شبوا عن الطوق الاجتماعي،و تجاوزوا السقف الحضاري السائد في شعوبهم؛فهم في أقصى درجات الفاعلية و التفتح و الاستجابة للتحديات المختلفة،لكن ذلك كله غير كافٍ لجعلهم يصبغون مجتمعاتهم بصبغتهم الحميدة ما لم يصلوا في عددهم إلى النسبة الحرجة المطلوبة.
و نظراً للجدلية القائمة بين كثير من جوانب الحياة فإنّه لا يمكن عزل أي جانب من تلك الجوانب عن عمليات التأثير و التأثر التي تظل ناشطة مهما ظل المجتمع راكداً،كما يظل القلب في حالة من العمل على الرغم من النوم أو غياب الوعي،و من هنا فإن مدى استقامة أخلاق أي مجتمع أو تدهورها مرتبطة بسلَّم القيم السائدة في المجتمع من جهة،و بالوضعية الحضارية العامة لذلك المجتمع من جهة أخرى.
و سلَّمُ القيم من جانبه يتبادل التأثير و التأثر مع الوضعية الحضارية؛حيث تهبط قيم معينة،و ترتفع أخرى.
و بإمكاننا أن نذكر هنا بعض الأخلاق التي تسود في المجتمعات النامية و الراكدة حضارياً.
و لكون الإسلام يريد من المسلم أن يكون النموذج الأمثل في صُعُد الرقي و الخير و الحق و الكمال فإن هذه الأخلاق موسومة بوسم (اللاشرعية) مهما شاعت في المجتمعات الإسلامية،و استمرت.
و إليك بعضاً مما نعانيه في هذا الموضوع على النحو التالي:
1- ضعف الفاعلية:
تتسم المجتمعات الإسلامية – و كلها مصنفة مع المجتمعات النامية – بالبطء في كل شيء،كما تتسم بضعف المحصول العام لحركتها و نشاطها؛فالمشكلات التي تجتاح مجتمعاتنا تستمر قروناً لضعف فاعلية الطرد لدينا،على حين لا تدوم المشكلات طويلاً عند الشعوب المتقدمة صناعياً،حيث تجدُّ عندهم في كل يوم مشكلات،و تختفي أخرى.
و أداء الأجهزة و الأنظمة لدينا أيضاً غير فعّال،و قوى الإنتاج المختلفة لا تعمل بالكفاءة المطلوبة،كما أنّ الفرص المتاحة لا تستغل على الوجه المطلوب،حيث لا نفطن لها إلا بعد فوات الأوان،فنأتي دائماً بعد الأحداث لا قبلها.
المعلم في مجتمعاتنا لا يعلّم بكفاءة.و إنتاج العامل لدينا لا يقارن بإنتاج العامل في المجتمعات الأخرى،و يصعد الواحد منا إلى الطابق الثاني بالمصعد على حين يصعد الواحد منهم هناك إلى الطابق الخامس على قدميه.
و يقضي الواحد منهم بعضاً من وقت فراغه في الجري و المشي،و نحن نقضيه في الاستلقاء!
و يدخل الواحد منهم في مشروع،فيكافح إلى النهاية مهما طالت،و نشعر بطول الطريق و الملل و السأم بعد قليل!
فأين ذهبت فاعلية الإيمان التي دفعت بخالد بن الوليد و الجيش الإسلامي بقطع بادية الشام من العراق إلى الشام في مدة زمنية مذهلة في قصرها رغم الظرف الصعب.
و أين ذهبت فاعلية الإيمان التي دفعت أسماء رضي الله عنها إلى المشي إلى غار ثور أميالاً عدة مع أنها حامل!!
و أين أولئك العلماء الذين كانوا يقسمون الليل أثلاثاً: ثلثاً للكتابة و ثلثاً للنوم و ثلثاً للصلاة،و أين و أين..؟؟
إنّ الأُمّة فقدت الهمة الحضارية فيما فقدت،فصارت إلى السكون أقرب.و خرجت من تيار الزمان المتدفق تنتظر مصيرها في عصر غزو الفضاء!!
.........
2- قلة الاكتراث بالوقت:
الوقت هو الغلاف الشامل لكل أنشطة الإنسان،و هو من المحطات الرئيسة في تقويم أدائه و فعاليته، و هو من قبل ذلك و من بعده حياة الإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى؛فضياعه هو ضياع العمر،و إتلافه إتلاف لأعظم الثروات.
و على الرغم من كثرة الآيات التي أقسم الله بها بالزمن و كثرة الأحاديث التي تحث على اغتنام الساعات و كثرة أقوال السلف و عظماء العالم في ضرورة الحفاظ على اللحظة الواحدة؛فإنّ المجتمعات الإسلامية تعد نماذج مثالية لإتلاف الوقت و قتله في جميع الحقول،و على جميع المستويات.
و لعل من الأسباب الرئيسة في هذه الظاهرة المحزنة أن طبيعة مصادر الرزق تتحكم في ذلك؛فأكثر المسلمين يشتغلون في الرعي و الزراعة و الحرف اليدوية و المهن الحرة،و ليس في واحدة من هذه ما يعوِّد الإنسان على الحرص على الوقت و الالتزام به.
ثمّ إن فاعلية الإنسان تتعقد كلما تعقدت مصالحه،و زادت أعباء الطلب عليه.
و هذا يحتاج إلى درجة مناسبة من الولوج في عصر الصناعة.
و الحفاظ لدينا على الوقت في المعامل و المكاتب أفضل،لكن لم يتم بعد إرساء تقاليد عريقة في هذا بالقدر المطلوب.
و مع ذلك فإن بقاء الموظف في مكتبه أقل مما هو موجود عند غيرنا بكثير؛فإن بعض الإحصاءات يذكر أنّ الفرد من مواطني بعض الدول العربية لا يقضي في عمله سوى جزء يسير من يومه،و ذلك لا يساوي إلا ربع التي يقضيها المواطن الأمريكي في العمل!
بل إنّ هذا المواطن العربي يقضي 36% من وقته في مشاهدة (التلفاز)؛كما أنّ المواصلات تستهلك 16% من وقته!
فكيف يمكننا أن نلحق بركب الحضارة إذا كنا نسير بربع الطاقة التي يسير بها الآخرون! و كيف لا تتسع الهوَّة التي تفصل بيننا و بينهم؟
أما نحن فنجد أنفسنا حيال مواقف كثيرة يُقتل فيها الوقت قتلاً نتيجة فقد آلة صغيرة،أو نتيجة وجود موظف مهمل لم يجد من يقول له: لِمَ؟ أو ينظر إليه نظرة عتاب!
..........
3- ضعف المبادرة الفردية:
نعني بالمبادرة الفردية اندفاع المجتمع إلى القيام بأعمال تطوعية خيرية ذات نفع عام.
و تعد المبادرات الفردية من المقاييس المهمة لفاعلية أي مجتمع؛فعلى مقدار ما يمر به المجتمع من مبادرات على مستوى الفكر و اليد تكون فاعليته و حيويته.
و المبادرة الفردية مرتبطة إلى حد بعيد بدرجة الصحة النفسية المتوفرة في المجتمع و بـ(الرضا الاجتماعي) السائد فيه؛كما ترتبط بفاعلية قيم الخير و الإحسان و خصوبة الخيال المبدع الذي يهدي إلى الأساليب و الوسائل المساعدة في إشاعة الخير و حل المشكلات؛و يرتبط قبل هذا و ذاك بالتربية البيتية و الاجتماعية الحرة التي تحفِّز المواهب،و تكسر حواجز الخوف،و تتيح الفرص لإجراء التجارب الاجتماعية الحيَّة.
و يلاحظ أن أفراد المجتمعات الإسلامية كانوا في أوج عطائهم السخيّ حين كانت الأُمّة في حالة انطلاق حضاري،و حين ساد الركود،و بدأت العجلات تدور نحو الخلف صار أكثر الناس لدينا يحمل نفسية (الموظف) الذي لا يعمل إلا في الحقل الذي رُسم له؛حتى في الأعمال الدنيوية صار أكثر أبناء المسلمين يخشون الأعمال الحرة،و يبحثون عن الأعمال و الوظائف الحكومية حيث لا مغامرة و لا مبادرة!
.........
4- النمطية:
إنّ ضعف الحراك الاجتماعي و الثقافي في المجتمعات النامية يؤدي إلى فقر في المعلومات،و فقر في النماذج و الصور الذهنية.
و هذا كله يجعل أكثر أبناء المجتمع فريسة للرؤى الأحادية الإجمالية البعيدة عن التنوع و التفصيل.
و هذا ما يمكن أن نسميه بالنمطية أو الانطباعية.
و المقصود بالنمط هنا: الشيء المكرر على نحو لا يتغير أو الشيء المتفق مع نموذج ثابت أو عام،و تعوزه السمات الفردية المميزة.
و من سمات الصور النمطية أنها ترتكز على الشائعات و الآراء التي لا تستند إلى براهين علمية،و إنما ترتسم من خلال الأوهام و المعلومات غير الدقيقة.
و من ثمّ فإنّ الصورة النمطية تكون محمَّلة بالمشاعر الذاتية و مشحونة بالعواطف الشخصية.
و حين تعلق فكرة ما في ذهن الإنسان أو المجتمع النمطي فإن تغييرها يحتاج إلى وقت طويل؛فشراء شيء من الخبز الرديء من أحد المخابز مرة واحدة كافٍ لأن يصدَّ عنه الإنسان النمطي سنة كاملة،و ربما الدهر كله.
و وقوع رجل في خطأ واحد كاف لتشويه صورته مدى الحياة،و هكذا...
و نجد في مجتمعاتنا الإسلامية تصنيفاً للشعوب صادراً عن التفكير النمطي؛فهذا شعب كسول،و هذا غبي، و آخر بخيل،و هكذا...مع أن في كل شعب من شعوب الأرض العديد من نماذج الخير و الشر و التقدم و التخلف مع تفاوت في بعض النسب.
و من مظاهر النمطية أنّ الأب يحبُّ أن يعمل أولاده في عين المهنة التي يعملها أو التخصص الذي يمارسه،كما أنه يريد أن يعوِّدهم نفس العادات التي تعوَّدها مع أنهم خُلقوا لزمان غير زمانه.
...........
5- الانفرادية:
يعدُّ تقسيم العمل أحد الآليات المهمة في جميع أصعدة التقدم الحضاري.
كما أنّ العمل بروح الفريق سمة بارزة من سمات التحضر،حيث يتوقف إنجاز الكثير من الأعمال و المشاريع على مدى استعداد أعداد معينة من المختصين و الفنيين و غيرهم للعمل بانسجام و وئام ضمن إطار نشط فعَّال.
و في هذا الصدد نجد لدينا أنواعاً من الإخفاق المتكرر في إيجاد موازنات عملية تحفظ للفرد خصائصه الفردية،و تجعل منه عضواً نشطاً في المجموعة التي ينتمي إليها.
و كثير من الأحزاب و الجماعات و المجموعات و اللجان ينتهي العمل فيها إلى إحدى صورتين: الأولى هي التشظِّي و التفتُّت،و الثانية: سيطرة نفر قليل عليها يلغي آراء الآخرين،و يحاول شطب الوجود الاعتباري لهم فيكون العمل في ظاهره جماعياً،و في باطنه تسليطاً فردياً!
و إذا ما حدثت نجاحات بذلت فيها جهود عظيمة متعددة حاول كثيرون أن ينسبوا إنجازها إلى أنفسهم مع غمط حقوق الآخرين!
.........
6- الشكليَّة:
هناك نوع من المقابلة بين الجوهر و المظهر،أو الشكل و المضمون،و غالباً ما تصرف شدة العناية بأحدهما عن الاهتمام بالآخر.
و إذا كان الإسلام قد ندبنا إلى العناية بالمظهر و التجمل في كل شيء إلا أننا لا نتمارى في أنّ النصوص توجِّهنا إلى صرف جل اهتمامنا إلى المضامين و الحقائق.
و حين تسيطر الشكلية على نفسية مجتمع فإنّها تأبى إلا أن تصبغ جوانب الحياة كافة،ابتداء بمراكز البحث العلمي و انتهاء بابتسامة عند اللقاء.
فتكبر الأسماء و العناوين،و تتضاءل المضامين،و تكثر الكتب،و تقل الأفكار،و تكثر الحركة و التشاغل،و يقل الإنجاز و العمل و هكذا...و من يمعن النظر في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم يجد هذه السمات سائدة فيها إلى حد بعيد؛فنساء المسلمين يُنفقن على الحليِّ و الملابس و أدوات الزينة أضعاف ما تنفقه مثيلاتهنّ الأوربيات.
و تسمع بأسماء لامعة في جوانب مختلفة من حياتنا،و حين تقف على الحقائق تصاب بصدمة! و الناظر في المؤلفات الإسلامية التي أنجزت في القرون الخمسة الماضية – على الأقل – يجد أن أكثرها لا يعرض حقائق علمية،كما لا يمثل إضافات ذات قيمة في العلوم و المعارف التي عالجتها،و إنما يجد سيطرة (اللفظية) بشكل عجيب.
و كثير من الحواشي و الشروح لم يقدم نقوداً حقيقية بمقدار ما كان عبارة عن مماحكات لفظية تستهلك الطاقات الحيّة دون أي مردود يذكر.
و لعل طريقة التعليم القائمة لدينا على التلقين،لا التفكير و لا الحوار و المناقشة هي التي تجعل المرء يندفع إلى قول أي شيء بقطع النظر عن محتواه!
و لعل عدم مساوقة التربية البيتية – التي تؤكد على الجوهر – لما هو سائد من معايير الضبط الاجتماعي يجعل الإنسان يشعر بضرورة التماثل الاجتماعي – الذي لا يؤكد عادة إلا على الأشكال و المظاهر – مهما كانت قناعات المرء و معتقداته.
إنّ الشكلية و اللفظية تضادّان الروح العلمية.
و إن لدينا أفكاراً كثيرة جميلة لكنها لا تقبل التحول إلى واقع ملموس؛فهي بالتالي من باب الزينة الكلامية التي تزين بها مجالسنا،و نزجي بها أوقاتنا!
...........
7- مقاومة التغيير:
من شأن المجتمعات النامية أن تحوِّل العادات إلى مقدَّسات – بقطع النظر عن مشروعية ذلك أو فائدته –؛فقلة الخبرة الحياتية تجعل روح المغامرة ضعيفة بالإضافة إلى أن كل جديد يحتاج – بحسبه – إلى نوع من التكيف.
و خمود الهمة الحضارية لا يساعد عليه.
كما أن هناك أفراداً و شرائح اجتماعية ارتبطت مصالحها بالمألوف السائد؛فهم يبذلون جهودهم و ما في وسعهم لإبقاء كل شيء على ما هو عليه على نحو ما قال الله – سبحانه و تعالى –: (وَ كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (الزخرف/ 23-24).
و قد أنتج السلف الصالح من الأفكار و المعلومات و النظم و الأوعية الحضارية المختلفة ما قلب ما كان مألوفاً في الجاهلية رأساً على عقب،و قد تقبَّل المسلمون ذلك برحابة صدر و حماسة،و لم يُثر فيهم تحسساً يذكر،كما لم يصدع مجتمعاتهم،و يحولها إلى ساحات حرب ثقافية.
و ذلك لأن فهمهم للمنهج الرباني كان أكمل من فهمنا،و هو منهج يخبرنا إلى الإنسان قاصر عن إدراك الحقائق دفعة واحدة؛و هذه المسألة هي الملجئ الأعظم إلى التغيير و التطوير.
و لو قدر لنا أن نقبض على الحقائق الكونية دفعة واحدة لانتَفَتْ سنن التدرج و التغيير و الهدم، و لكن ليس هناك ما يدل على أن شيئاً من ذلك سوف يحدث.
........
إنّ حياة المسلمين اليوم مثقلة بالبدع و بالكثير من الأشكال و العادات البالية التي تصادم عقيدتنا،أو التي لا تصادمها لكنها عالية التكلفة قليلة الفائدة،و مع ذلك فإنّ الناس جعلوها جزءاً من ثقافتهم و حياتهم؛و ليس هذا المقام مقام تفصيل.
هذه الأخلاق و أخلاق أخرى عديدة – على شاكلتها – حالت دون وضع المجتمعات الإسلامية في الوضعية الصحيحة المناسبة لفهم التحديات التي تواجهها ثمّ مقاومتها و التغلب عليها.
و ما ذكرناه هنا ليس سائداً في مجتمعات المسلمين وحدها بل في كل المجتمعات التي لم تؤمِّن نوعاً مناسباً من الانطلاق الحضاري المكافئ لروح العصر و حاجاته.
و مع كل ذلك فإن بوارق الأمل بتحسن أحوالنا تلمع في كل مكان مهما كان الظلام حالكاً.
..........
موقع البلاغ.