الزراعة العربية بين زحف العشوائيات و إهمال السلطات
يقضم التوسع العمراني العشوائي الأراضي الزراعية المحدودة في الكثير من الدول العربية دون رحمة. و هو الأمر الذي يفاقم مشكلة الأمن الغذائي في ظل عجز السلطات عن حماية هذه الأراضي و تشجيع المزارعين على التمسك بها.
يشكل توفير الغذاء للسكان مقياسا مهما للكلام على حسن الأداء السياسي للأنظمة الحاكمة، و هناك الكثير من الدول التي تستخدم الغذاء كسلاح سياسي ضد دول أخرى، لتجبرها على استيراده، فخلال سنوات الحرب الباردة على سبيل المثال كانت مبيعات القمح الغربية إلى الاتحاد السوفيتي مرتبطة بتحقيق أهداف سياسية.
و هو الأمر الذي ينطبق أيضا على هذه المبيعات إلى مصر و المغرب و دول عربية أخرى. و عليه فإن الفليسلوف و الشاعر اللبناني الراحل جبران خليل جبران كان محقا عندما حذر قبل نحو مائة عام من التهاون في إنتاج الغذاء بأيدي أبناء البلد عندما قال: "ويل لأمة لا تأكل مما لا تزرع و تلبس مما لا تنسج".
و في دراسة نشرتها مجلة السياسة الخارجية/ فورن بوليسي يشرح الكاتب الأمريكي ليستر براون مؤلف كتاب "العالم على حافة الهاوية" كيف أصبح الغذاء عاملا هاما في السياسات العالمية.
و يرى براون بأن أزمة الغذاء أضحت مشكلة حقيقية تجلب معها موجة اضطرابات سياسية و اقتصادية في دول تعاني من ضائقات مثل تونس و مصر و دول الشرق الأوسط و باقي دول شمال أفريقيا، مع العلم أنه لم ينفي دور العوامل الأخرى كغياب الديمقراطية و حقوق الإنسان في اندلاع الثورات.
العقارات تدمر الأراضي الزراعية
السؤال الذي يطرح نفسه هنا يدور حول كيفية تعامل الدول العربية مع الأراضي الزراعية المنتجة للأغذية، لاسيما و أن العجز الغذائي في العالم العربي تضاعف عدة مرات خلال العقود الأربعة الماضية.
كما تكررت مؤخرا تحذيرات برنامج الأغذية العالمي و الهيئات العربية و الدولية المتخصصة من مخاطر ضعف الأمن الغذائي في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا. و تأتي هذه التحذيرات على ضوء حاجة الكثير من الدول العربية إلى مزيد من الدعم و القروض لتمكينها من استيراد الأغذية و منع حصول مجاعات فيها.
على سبيل المثال حصل اليمن مؤخرا على منحة مالية بقيمة نصف مليار دولار من برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة لمساعدة الحكومة على مواجهة تحدي نقص الغذاء. و إلى جانب اليمن فإن دولا عربية أخرى كمصر و المغرب و الأردن تضطر للحصول على منح مماثلة من فترة لأخرى عبر جهات عربية و دولية.
عندما يحلق المرء بالطائرة فوق القاهرة يتوقع رؤية مناطق زراعية خضراء شاسعة على أطراف النيل و شبكات مياه تهبها الحياة. لكن هذا المنظر يبقى مجرد حلم أمام الانتشار الكاسح للمدن و الضواحي الأسمنتية الكالحة التي قضمت المساحات الزراعية المحدودة وسط الصحارى و البوادي الشاسعة.
و هكذا فإن الزراعات المحيطة بالمدينة لم تعد قادرة على تزويد المدينة بالخضار و الفواكه، و بالتالي يتم استيرادها من مناطق بعيدة. حالة القاهرة من اختفاء المساحات الخصبة تتكرر في مختلف الدول العربية التي يفترض أنها تعتمد بشكل أساسي على الزراعة المحلية في توفير منتجاتها الغذائية الأساسية. أيضا، العاصمة اللبنانية بيروت فقدت خلال العقود الثلاثة الماضية من محيطها الزراعي بشكل شبه كامل لصالح الأبنية الأسمنتية. كما أن غوطة دمشق التي تشهد حاليا حربا مدمرة في إطار الأزمة السورية المستمرة منذ أربعة أعوام لم تعد منذ تسعينات القرن الماضي قادرة على تموين المدينة سوى بجزء محدود من خضارها و فواكهها اليومية بفعل الزحف العمراني على أرضها الخصبة.
تواطؤ و سياسات دعم خاطئة
تدمير الأراضي الزراعية هذا حصل لأسباب عديدة أبرزها الأرباح العالية للاستثمار في العقارات، و الطلب المتزايد على السكن و الاستثمارات السياحية، و عدم توفير مخططات عمرانية خارج نطاق المناطق الزراعية، لاسيما في البوادي و الصحاري الشاسعة القريبة من المدن و تواطؤ المسؤولين و الإدارات الحكومية مع التجار من خلال الرشوة و غض النظر عن المخالفات.
و مع اندلاع ما يسمى بثورات الربيع العربي ترددت مؤخرا الأنباء عن تزايد مخالفات البناء لاسيما في مصر و سوريا و اليمن و الإستيلاء على مناطق عديدة في مقدمتها الأراضي الزراعية بسبب الفوضى و تراخي المؤسسات الرسمية أو تعطيل عملها. و ما يزيد الوضع تعقيدا، العوامل المناخية كالجفاف و التصحر إضافة إلى التلوث، و ذلك في الوقت الذي ارتفع فيه مستوى العجز الغذائي العربي من نحو 12 مليار عام 1990 إلى أكثر من 34 مليار دولار عام 2011 حسب الباحث الاقتصادي المصري حسين عبد المطلب.
و تذهب تحذيرات مراقبين إلى أن هذا العجز قد يتصاعد بشكل مخيف على ضوء الزيادات الكبيرة في الأسعار و في عدد السكان ليصل في غضون سنوات قليلة إلى أكثر من 70 مليار دولار.
غير أن معاناة الزراعة في العالم العربي عموما لا تقتصر على تدمير الأراضي الزراعية و إهمالها فحسب، و إنما تشمل كذلك ضعف أو انعدام الدعم الحكومي للمزارعين في توفير متطلبات إنتاجهم و تسويقه بأسعار محفزة.
ففي غالب الأحيان يُترك هؤلاء عرضة لقوى السوق و جشع التجار بشكل يدفعهم إلى ترك الزراعة و الهجرة إلى المدن الكبيرة بحثا عن فرص عمل و مسكن في أطرافها و أحيائها العشوائية.
و بدلا من دعم المنتج الزراعي الغذائي بهدف تشجيع إنتاجه، تقوم جميع الدول العربية تقريبا بغض النظر عن اختلاف نظمها السياسية بدعم استهلاك بعض المواد الغذائية الأساسية كالخبز و الأرز و الزيوت و الشاي بشكل عشوائي يستفيد منه الغني و الفقير.
و بغض النظر عن المبررات الاجتماعية و السياسية لهذا الدعم، فإنه من الأجدر بهذه الدول دعم المنتجين الزراعيين و تحويل الدعم الاستهلاكي إلى دعم انتقائي يطال الفقراء و المحتاجين دون أصحاب الملايين. و في هذا السياق يمكن الاستفادة من تجربة الاتحاد الأوروبي في دعم المزارعين رغم تخمة العرض الغذائي في الأسواق الأوروبية.
ما العمل؟
تقف الدول العربية اليوم أمام تحدي ازدياد حدة العجز الغذائي العربي بشكل أكبر من أي وقت مضى. و هو الأمر الذي يتطلب منها وضع أجندات سياسية تضع على رأس أولوياتها الحفاظ على ما تبقى من أراضيها الزراعية و تشجيع المزارعين عينيا و ماليا على استغلالها. و مما يعنيه ذلك تأسيس هيئات زراعية عليا فاعلة على غرار الهيئات السياحية في مصر و تونس و المغرب تكون مهمتها وقف التعديات على هذه الأراضي من خلال منع إقامة العقارات السكنية و السياحية و الصناعية فيها.
و من متطلبات الحفاظ عليها أيضا إقامة مشاريع زراعية برؤوس أموال محلية و عالمية على غرار المشاريع السياحية. و في هذا الإطار لا بد من وضع قوانين صارمة تمنع تعرّض الأراضي المذكورة للتلوث بالمواد الكيماوية و مخلفات الصناعة و الصرف الصحي.
.......
08.11.2014
موقع صوت ألمانيا
يقضم التوسع العمراني العشوائي الأراضي الزراعية المحدودة في الكثير من الدول العربية دون رحمة. و هو الأمر الذي يفاقم مشكلة الأمن الغذائي في ظل عجز السلطات عن حماية هذه الأراضي و تشجيع المزارعين على التمسك بها.
يشكل توفير الغذاء للسكان مقياسا مهما للكلام على حسن الأداء السياسي للأنظمة الحاكمة، و هناك الكثير من الدول التي تستخدم الغذاء كسلاح سياسي ضد دول أخرى، لتجبرها على استيراده، فخلال سنوات الحرب الباردة على سبيل المثال كانت مبيعات القمح الغربية إلى الاتحاد السوفيتي مرتبطة بتحقيق أهداف سياسية.
و هو الأمر الذي ينطبق أيضا على هذه المبيعات إلى مصر و المغرب و دول عربية أخرى. و عليه فإن الفليسلوف و الشاعر اللبناني الراحل جبران خليل جبران كان محقا عندما حذر قبل نحو مائة عام من التهاون في إنتاج الغذاء بأيدي أبناء البلد عندما قال: "ويل لأمة لا تأكل مما لا تزرع و تلبس مما لا تنسج".
و في دراسة نشرتها مجلة السياسة الخارجية/ فورن بوليسي يشرح الكاتب الأمريكي ليستر براون مؤلف كتاب "العالم على حافة الهاوية" كيف أصبح الغذاء عاملا هاما في السياسات العالمية.
و يرى براون بأن أزمة الغذاء أضحت مشكلة حقيقية تجلب معها موجة اضطرابات سياسية و اقتصادية في دول تعاني من ضائقات مثل تونس و مصر و دول الشرق الأوسط و باقي دول شمال أفريقيا، مع العلم أنه لم ينفي دور العوامل الأخرى كغياب الديمقراطية و حقوق الإنسان في اندلاع الثورات.
العقارات تدمر الأراضي الزراعية
السؤال الذي يطرح نفسه هنا يدور حول كيفية تعامل الدول العربية مع الأراضي الزراعية المنتجة للأغذية، لاسيما و أن العجز الغذائي في العالم العربي تضاعف عدة مرات خلال العقود الأربعة الماضية.
كما تكررت مؤخرا تحذيرات برنامج الأغذية العالمي و الهيئات العربية و الدولية المتخصصة من مخاطر ضعف الأمن الغذائي في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا. و تأتي هذه التحذيرات على ضوء حاجة الكثير من الدول العربية إلى مزيد من الدعم و القروض لتمكينها من استيراد الأغذية و منع حصول مجاعات فيها.
على سبيل المثال حصل اليمن مؤخرا على منحة مالية بقيمة نصف مليار دولار من برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة لمساعدة الحكومة على مواجهة تحدي نقص الغذاء. و إلى جانب اليمن فإن دولا عربية أخرى كمصر و المغرب و الأردن تضطر للحصول على منح مماثلة من فترة لأخرى عبر جهات عربية و دولية.
عندما يحلق المرء بالطائرة فوق القاهرة يتوقع رؤية مناطق زراعية خضراء شاسعة على أطراف النيل و شبكات مياه تهبها الحياة. لكن هذا المنظر يبقى مجرد حلم أمام الانتشار الكاسح للمدن و الضواحي الأسمنتية الكالحة التي قضمت المساحات الزراعية المحدودة وسط الصحارى و البوادي الشاسعة.
و هكذا فإن الزراعات المحيطة بالمدينة لم تعد قادرة على تزويد المدينة بالخضار و الفواكه، و بالتالي يتم استيرادها من مناطق بعيدة. حالة القاهرة من اختفاء المساحات الخصبة تتكرر في مختلف الدول العربية التي يفترض أنها تعتمد بشكل أساسي على الزراعة المحلية في توفير منتجاتها الغذائية الأساسية. أيضا، العاصمة اللبنانية بيروت فقدت خلال العقود الثلاثة الماضية من محيطها الزراعي بشكل شبه كامل لصالح الأبنية الأسمنتية. كما أن غوطة دمشق التي تشهد حاليا حربا مدمرة في إطار الأزمة السورية المستمرة منذ أربعة أعوام لم تعد منذ تسعينات القرن الماضي قادرة على تموين المدينة سوى بجزء محدود من خضارها و فواكهها اليومية بفعل الزحف العمراني على أرضها الخصبة.
تواطؤ و سياسات دعم خاطئة
تدمير الأراضي الزراعية هذا حصل لأسباب عديدة أبرزها الأرباح العالية للاستثمار في العقارات، و الطلب المتزايد على السكن و الاستثمارات السياحية، و عدم توفير مخططات عمرانية خارج نطاق المناطق الزراعية، لاسيما في البوادي و الصحاري الشاسعة القريبة من المدن و تواطؤ المسؤولين و الإدارات الحكومية مع التجار من خلال الرشوة و غض النظر عن المخالفات.
و مع اندلاع ما يسمى بثورات الربيع العربي ترددت مؤخرا الأنباء عن تزايد مخالفات البناء لاسيما في مصر و سوريا و اليمن و الإستيلاء على مناطق عديدة في مقدمتها الأراضي الزراعية بسبب الفوضى و تراخي المؤسسات الرسمية أو تعطيل عملها. و ما يزيد الوضع تعقيدا، العوامل المناخية كالجفاف و التصحر إضافة إلى التلوث، و ذلك في الوقت الذي ارتفع فيه مستوى العجز الغذائي العربي من نحو 12 مليار عام 1990 إلى أكثر من 34 مليار دولار عام 2011 حسب الباحث الاقتصادي المصري حسين عبد المطلب.
و تذهب تحذيرات مراقبين إلى أن هذا العجز قد يتصاعد بشكل مخيف على ضوء الزيادات الكبيرة في الأسعار و في عدد السكان ليصل في غضون سنوات قليلة إلى أكثر من 70 مليار دولار.
غير أن معاناة الزراعة في العالم العربي عموما لا تقتصر على تدمير الأراضي الزراعية و إهمالها فحسب، و إنما تشمل كذلك ضعف أو انعدام الدعم الحكومي للمزارعين في توفير متطلبات إنتاجهم و تسويقه بأسعار محفزة.
ففي غالب الأحيان يُترك هؤلاء عرضة لقوى السوق و جشع التجار بشكل يدفعهم إلى ترك الزراعة و الهجرة إلى المدن الكبيرة بحثا عن فرص عمل و مسكن في أطرافها و أحيائها العشوائية.
و بدلا من دعم المنتج الزراعي الغذائي بهدف تشجيع إنتاجه، تقوم جميع الدول العربية تقريبا بغض النظر عن اختلاف نظمها السياسية بدعم استهلاك بعض المواد الغذائية الأساسية كالخبز و الأرز و الزيوت و الشاي بشكل عشوائي يستفيد منه الغني و الفقير.
و بغض النظر عن المبررات الاجتماعية و السياسية لهذا الدعم، فإنه من الأجدر بهذه الدول دعم المنتجين الزراعيين و تحويل الدعم الاستهلاكي إلى دعم انتقائي يطال الفقراء و المحتاجين دون أصحاب الملايين. و في هذا السياق يمكن الاستفادة من تجربة الاتحاد الأوروبي في دعم المزارعين رغم تخمة العرض الغذائي في الأسواق الأوروبية.
ما العمل؟
تقف الدول العربية اليوم أمام تحدي ازدياد حدة العجز الغذائي العربي بشكل أكبر من أي وقت مضى. و هو الأمر الذي يتطلب منها وضع أجندات سياسية تضع على رأس أولوياتها الحفاظ على ما تبقى من أراضيها الزراعية و تشجيع المزارعين عينيا و ماليا على استغلالها. و مما يعنيه ذلك تأسيس هيئات زراعية عليا فاعلة على غرار الهيئات السياحية في مصر و تونس و المغرب تكون مهمتها وقف التعديات على هذه الأراضي من خلال منع إقامة العقارات السكنية و السياحية و الصناعية فيها.
و من متطلبات الحفاظ عليها أيضا إقامة مشاريع زراعية برؤوس أموال محلية و عالمية على غرار المشاريع السياحية. و في هذا الإطار لا بد من وضع قوانين صارمة تمنع تعرّض الأراضي المذكورة للتلوث بالمواد الكيماوية و مخلفات الصناعة و الصرف الصحي.
.......
08.11.2014
موقع صوت ألمانيا