اجهاض الانتفاضات العربية و تكريس الاستبداد
في ملتقى النبأ الاسبوعي قدم حيدر الجراح مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات و البحوث ورقة حملت عنوان (التكريس كآلية من آليات انتاج الاستبداد) جاء فيها:
بعيدا عن الدلالة الدينية لهذا المفهوم في المسيحية و التي تعني: التفرغ للقيام بعمل روحي أو كنسي، في الكهنوت أو الرهبنة، أو إعطاء النفس للرب، ليسود عليها، إذ تصبح ملكاً له، و له وحده.
احاول الاقتراب من هذه الكلمة بدلالاتها اللغوية في المعجم العربي و علاقة ذلك بالاستبداد و اعادة انتاجه في الواقع العربي و الاسلامي (سياسة – ثقافة - اجتماع)..
فالتكريس هو: (التأسيس - الترسيخ – التثبيت) و هو ايضا ضم الشيء بعضه الى بعض.
جميع الانظمة العربية انظمة مستبدة، قبل الانتفاضات العربية و بعدها.. قد يكون تغير شيء في شخص الحاكم (مصر – تونس) الا انها عادت تجر اذيالها نحو الصورة الاولى التي عرفتها و عاشتها..
من اجهض مشروع البحث عن الحرية في الانتفاضات العربية، و لم يساعد على صناعتها؟
النظام السياسي و الثقافي و الاجتماعي..
في منتصف السبعينات قام نظام البعث في العراق بعملية (تبعيث – بعثنة) التربية و التعليم في العراق..
اين هي الان مخرجات هذا التبعيث او البعثنة؟
انها في مناصب ادارية عليا بحكم العمر و الخدمة، غيرت و تغير فيها مصائر الكثيرين.
من يساهم في صناعة الإنسان منذ طفولته؟.
الاهل و المدرسة..
ما الذي نعطيه لابنائنا؟
دلالات ثقافية متعددة نعيشها و نورثها لأبنائنا و الذين بدورهم يكررون صناعتها و توريثها الى ابنائهم.
في تحليله لإشكالية التسلط التربوي يؤكد الدكتور علي اسعد وطفة: إن التسلط التربوي يؤدي إلى إنتاج الشخصية السلبية التي تعتريها روح الهزيمة و الضعف و القصور، و هو يُشكل الإطار العام لعملية تشريط تربوي سلبية تبدأ في إطار الأسرة و تنتهي في أحضان المؤسسات التربوية المختلفة، و من شأن ذلك أن يذهب بكل إمكانية لتحقيق عملية النمو و التكامل و الازدهار في الشخصية الإنسانية، لأن ما يتعرض له الأطفال من قهر و تسلط تربوي يضعهم في دائرة استلاب شاملة تُكرس كافة مظاهر القصور و السلبية في الشخصية الإنسانية).
و هذا يعني أن التربية في ظل الاستبداد تُصبح أداة مختطفة لتثبيت واقع القهر و تبرير هذا الواقع و إعادة إنتاجه، و في هذه النقطة يلتقي الكواكبي مع الدكتور وطفة الذي يرى (أن المدرسة في الأنظمة التربوية العربية تُوظف لتلعب دوراَ أيديولوجياً يتمثل في عملية إعادة إنتاج علاقات القوة و السيطرة، و بالتالي فإن إعادة علاقات السيطرة و القوة و الخضوع أمر يتم في المؤسسات التربوية و لاسيما في إطار الأسرة و المدرسة، و هذا يعني أن مهمة المدرسة في الأنظمة المتسلطة هي إنتاج قيم الطاعة و الخضوع التي تأخذ شكل العلاقة بين المعلمين و المتعلمين في المدرسة، و شكل العلاقة بين الآباء و الأبناء في الأسرة، و عليه فإن قيم الطاعة و الخضوع لا يمكن أن يتم تعلمها كقيم نظرية، و لذا فإن المدرسة تعمل على تفعيل هذه القيم بصورة حية مجسدة من خلال الممارسة التربوية المستمرة في إطار نسق العلاقات الذي يقوم بين المعلمين و المتعلمين بوصفه نسقاً من علاقات الخضوع و السيطرة و الهيمنة كنموذج حيوي للعلاقة القائمة بين القاهرين و المقهورين في إطار الحياة الاجتماعية ».
كيف يحول الطاغية و المستبد (سلطته إلى حق و طاعته إلى واجب)؟ و هو اي الطاغية يدرك انه لايستطيع ان يبقى قويا دون ذلك، كما يعتقد جان جاك روسو.
جميع الطغاة و المستبدين يدركون ذلك، لهذا هم دائما بحاجة الى تكوين ايديولوجية استبدادية جديدة، تعتمد على (الرموز - التابو – المقدس) لفرض الهيمنة التي تعمل على (تطويع – اكراه – خضوع) المجتمع لها. و هي اعمدة ثلاثة لها قوة رمزية ثقافية تملأ الفضاء العام للمجتمع، (الصور – النصب – التماثيل – الاناشيد- الشعارات) مع قوة اخرى مادية هي القوة الامنية.
و هذه الاعمدة الثلاثة هي عبارة عن مفاهيم دينية و تربوية و اجتماعية تتسع دائرتها حسب طول مدة الاستبداد و تتحوّل هذه المفاهيم إلى ما يشبه العقائد الراسخة. و يستحيل أن تزول هذه المفاهيم بزوال المستبد، لانها ترسخت في الوجدان و الضمير و لا يزيلها أحداث سياسية أو تغييرات في النظام و الحكم (يسميها ابن خلدون بالعوائد و يقول عنها: و العوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار و طول الامد فتستحكم صبغة ذلك و ترسخ في الاجيال و إذا استحكمت الصبغة عسر نزعها).
يؤكد الكواكبي في طبائع الاستبداد: (الاستبداد يُضطرُّ النّاس إلى استباحة الكذب و التحيُّل و الخداع و النِّفاق و التذلل. و ينتج من ذلك أنَّ الاستبداد المشؤوم يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة. ثمَّ إنَّ عبيد السلطان غير مالكين لأنفسهم، و لا هم آمنون على أنَّهم يربّون أولادهم لهم. بل هم يربّون أنعاماً للمستبدّين، و أعواناً لهم عليهم. و في الحقيقة، إنَّ الأولاد في عهد الاستبداد، هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم و الهوان و الخوف و التضييق)..
و يتفاقم الجو النفاقي حتى يعيش الشعب حالة تمثيل جماعي، يعلم فيه كل فرد أن الآخر يمارس تمثيلية و يرد هو بدور آخر من التمثيلية، و الآخر يعلم أن الأول يمارس دوره و هكذا. هذا الجو يتفرع عنه كثير من الأخلاق السيئة المعاكسة للأمانة، و هي الكذب و الغدر و الغش و الخيانة.
و اذا تفاقمت هذه الأخلاق السيئة تفضي تلقائيا لضرب القيم الأخرى المرتبطة باحترام الذات و الآخرين، فتنحسر الغيرة و الكرم و الفزعة و الإيثار و حسن الظن، و يحل محلها البخل و الدياثة و سوء الظن و الخذلان و الأنانية. و هذا بدوره يؤدي إلى انحطاط قيمة الإنسان عند نفسه و عند غيره، فتنهار الكرامة و العزة و الثقة بالنفس و الاعتداد بالهوية.
(علي اسعد وطفة/التربية على الاستبداد في العالم العربي: هل يأتي زمن التربية على المواطنة؟) و كتاب (رأسمالية المدرسة في عالم متغير: الوظيفة الاستلابية للعنف الرمزي و المناهج الخفية).
القابلية للاستبداد ضمن هذا المنظور ليست ردة فعل مؤقتة على أزمة اقتصادية أو سياسية خانقة كما تطرحه نظرية الزعامة الكاريزمية مثلاً، بل نمط ثقافي ـ اجتماعي يتمتع باستمرارية و علاقة تفاعلية مع مجموع العناصر المكونة لظروف المعيشة في مجتمع محدد. و الثقافة السياسية لمجتمع ما ـ حسب وصف اللوموند ـ هي بمثابة خريطة ذهنية تحدد صورة الفرد كفاعل سياسي مقارنة بغيره من الفاعلين، كما تحدد صور العلاقة بينهما و نوعية الأفعال و ردود الأفعال المتوقعة من جانبهم.
هذه التربية لايمكن لها ان تزول إلا بطريقتين، إما القبول بعامل الزمن و الاستعداد لموجة من الانتكاسات قبل تنظيف القلوب و النفوس منها، أو بطريقة العلاج بالصدمة الجماعية للشعب، بوسائل نفسية فعالة باستغلال ظروف الحروب و الكوارث.
نحتاج الى ثورة أخلاقية، تُستنفر فيها كل القوى الثقافية و الدينية و الحيل الاجتماعية و الحركية لإحياء القيم العليا في نفوس الناس.
المداخلات
كانت للحاضرين في الملتقى عدد من المداخلات جاءت على الشكل التالي:
الدكتور علاء الحسيني التدريسي في جامعة كربلاء: من اجهض مشروع الحرية عاملان، العامل الداخلي و العامل الخارجي، و اتصور ان العامل الداخلي دوره اكبر في عملية اجهاض المشروع، مع عدم الاستهانة بالعامل الخارجي بغض النظر عن نظرية المؤامرة، و الدور السعودي او القطري، وك يف لعب دورا في اجهاض بعض الثورات في عدد من البلدان العربية، لكن العامل الداخلي هو الاقوى و اقصد به التكريس الذي اشارت اليه الورقة، فالشعوب العربية ورثت ما تعودت عليه من نمط معين من المعيشة و التعايش مع السلطات المستبدة، سواء كانت مدنية او عسكرية.
علي الطالقاني مدير ادارة مؤسسة النبأ: هناك نقطتان: الاولى، قابلية المتلقي لهذا التغيير او البحث عن الحرية.. انقسام الشعب المصري على سبيل المثال الى قسمين، قسم يستميت في الدفاع عن النظام السابق و قسم يبحث عن التحرر منه. النقطة الثانية، وجود جماعات خفية او ظاهرة تعمل على احباط التغيير.
الدكتور قحطان الحسيني التدريسي في جامعة بابل: هناك مجموعة من الافكار اصوغها على شكل اسئلة: هل ان المجتمعات العربية تعي اهمية و مفهوم الحرية؟ هل هي مهيأة نفسيا لكي تعمل وفق قيم الحرية؟ ام تختلط عليها المفاهيم حتى لاتعود تفرق بين الحرية و الفوضى؟
المجتمعات العربية تبحث عن الحرية و لاتمتلك الابداع او القدرة على صناعتها، صناعة حرية منسجمة مع طبيعة المجتمع العربي، مع قيمه، مع افكاره، مع مايؤمن به، دائما ما تأخذ المجتمعات العربية نماذج جاهزة من الغرب او من مدارس فكرية غير عربية او اسلامية، و تحاول تطبيقه عليها، و بالنتيجة يكون التطبيق فاشلا، لاننا ليس لدينا القدرة او الابداع على انتاج نموذج للحرية يناسب قيم مجتمعنا.
ماحدث في الثورات العربية، ان المنتفضين فهموا انتفاضتهم انها تعبير عن خلاص من الدكتاتور، و المستبد، دون ان يطرحوا بديلا واقعيا و موضوعيا لما بعد الدكتاتورية، و بالتالي برز التناقض المجتمعي على اشده مما ادى الى التصادم و الصراع بين اصحاب تلك التناقضات.. و انتجت انماطا من العنف، قادت بالضرورة الى العودة الى نفس النماذج التي اسقطتها. كما في الحالة المصرية او التونسية، و حتى اليمن مرشحة للوصول الى تلك النتيجة.
احمد جويد مدير مركز ادم للدفاع عن الحقوق و الحريات: هناك عاملان: العامل النفسي و العامل الاقتصادي.
الشعوب المستقلة اقتصاديا تمتلك حريات اكبر.. في التجربة العربية عندما حكم العثمانيون مارسوا سياسة افقار اتجاه المجتمعات التي حكموها، و عند مجيء الانكليز كما في العراق شجعوا على وجود الاقطاع، ليصبح الشيوخ النافذين و المرتبطين بالسلطة هم القادة في مجتمعاتهم. افراد العشيرة او القبيلة يجدون انفسهم مرتبطين ارتباطا اقتصاديا بهؤلاء الشيوخ الذين هم في المحصلة النهائية ادوات للسلطة. لو كانوا هؤلاء متحررين اقتصاديا لكانوا صنعوا حرياتهم بعيدا عن سلطات الاقطاعيين.
العامل النفسي، اننا دائما نبحث عن الزعامات او البطل و الزعيم، و لهذا يمتلك الثائر بريقا خاصا عند مجتمعاتنا ، و نحن مشدودون دائما نحو الاشخاص الاقوياء.
حيدر جابر مسؤول الجودة في جامعة كربلاء: الاعتراض على كلمة الاجهاض.. فحتى لو اساء بعض الثوار الى ثورتهم فان جذوة الحرية لاتنطفيء في داخلهم، فهذه الثورات عندما لاتلبي طموحات الثائرين و القواعد الشعبية، تراهم ينقلبون مرة اخرى على نفس القادة، و بالتالي ان مشروع البحث عن الحرية لم يجهض بل حورب من قبل نفس هؤلاء القادة للثورات.
العامل الثاني هو تخلي الشعوب عن طموحاتها، حيث يشعرون بالاحباط و الياس بعد الثورات لانها لم تحقق لهم ماكانوا يطمحون اليه و ما خرجوا لاجله.
.......
شبكة النبأ المعلوماتية: حيدر الجراح 2015-2-8
في ملتقى النبأ الاسبوعي قدم حيدر الجراح مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات و البحوث ورقة حملت عنوان (التكريس كآلية من آليات انتاج الاستبداد) جاء فيها:
بعيدا عن الدلالة الدينية لهذا المفهوم في المسيحية و التي تعني: التفرغ للقيام بعمل روحي أو كنسي، في الكهنوت أو الرهبنة، أو إعطاء النفس للرب، ليسود عليها، إذ تصبح ملكاً له، و له وحده.
احاول الاقتراب من هذه الكلمة بدلالاتها اللغوية في المعجم العربي و علاقة ذلك بالاستبداد و اعادة انتاجه في الواقع العربي و الاسلامي (سياسة – ثقافة - اجتماع)..
فالتكريس هو: (التأسيس - الترسيخ – التثبيت) و هو ايضا ضم الشيء بعضه الى بعض.
جميع الانظمة العربية انظمة مستبدة، قبل الانتفاضات العربية و بعدها.. قد يكون تغير شيء في شخص الحاكم (مصر – تونس) الا انها عادت تجر اذيالها نحو الصورة الاولى التي عرفتها و عاشتها..
من اجهض مشروع البحث عن الحرية في الانتفاضات العربية، و لم يساعد على صناعتها؟
النظام السياسي و الثقافي و الاجتماعي..
في منتصف السبعينات قام نظام البعث في العراق بعملية (تبعيث – بعثنة) التربية و التعليم في العراق..
اين هي الان مخرجات هذا التبعيث او البعثنة؟
انها في مناصب ادارية عليا بحكم العمر و الخدمة، غيرت و تغير فيها مصائر الكثيرين.
من يساهم في صناعة الإنسان منذ طفولته؟.
الاهل و المدرسة..
ما الذي نعطيه لابنائنا؟
دلالات ثقافية متعددة نعيشها و نورثها لأبنائنا و الذين بدورهم يكررون صناعتها و توريثها الى ابنائهم.
في تحليله لإشكالية التسلط التربوي يؤكد الدكتور علي اسعد وطفة: إن التسلط التربوي يؤدي إلى إنتاج الشخصية السلبية التي تعتريها روح الهزيمة و الضعف و القصور، و هو يُشكل الإطار العام لعملية تشريط تربوي سلبية تبدأ في إطار الأسرة و تنتهي في أحضان المؤسسات التربوية المختلفة، و من شأن ذلك أن يذهب بكل إمكانية لتحقيق عملية النمو و التكامل و الازدهار في الشخصية الإنسانية، لأن ما يتعرض له الأطفال من قهر و تسلط تربوي يضعهم في دائرة استلاب شاملة تُكرس كافة مظاهر القصور و السلبية في الشخصية الإنسانية).
و هذا يعني أن التربية في ظل الاستبداد تُصبح أداة مختطفة لتثبيت واقع القهر و تبرير هذا الواقع و إعادة إنتاجه، و في هذه النقطة يلتقي الكواكبي مع الدكتور وطفة الذي يرى (أن المدرسة في الأنظمة التربوية العربية تُوظف لتلعب دوراَ أيديولوجياً يتمثل في عملية إعادة إنتاج علاقات القوة و السيطرة، و بالتالي فإن إعادة علاقات السيطرة و القوة و الخضوع أمر يتم في المؤسسات التربوية و لاسيما في إطار الأسرة و المدرسة، و هذا يعني أن مهمة المدرسة في الأنظمة المتسلطة هي إنتاج قيم الطاعة و الخضوع التي تأخذ شكل العلاقة بين المعلمين و المتعلمين في المدرسة، و شكل العلاقة بين الآباء و الأبناء في الأسرة، و عليه فإن قيم الطاعة و الخضوع لا يمكن أن يتم تعلمها كقيم نظرية، و لذا فإن المدرسة تعمل على تفعيل هذه القيم بصورة حية مجسدة من خلال الممارسة التربوية المستمرة في إطار نسق العلاقات الذي يقوم بين المعلمين و المتعلمين بوصفه نسقاً من علاقات الخضوع و السيطرة و الهيمنة كنموذج حيوي للعلاقة القائمة بين القاهرين و المقهورين في إطار الحياة الاجتماعية ».
كيف يحول الطاغية و المستبد (سلطته إلى حق و طاعته إلى واجب)؟ و هو اي الطاغية يدرك انه لايستطيع ان يبقى قويا دون ذلك، كما يعتقد جان جاك روسو.
جميع الطغاة و المستبدين يدركون ذلك، لهذا هم دائما بحاجة الى تكوين ايديولوجية استبدادية جديدة، تعتمد على (الرموز - التابو – المقدس) لفرض الهيمنة التي تعمل على (تطويع – اكراه – خضوع) المجتمع لها. و هي اعمدة ثلاثة لها قوة رمزية ثقافية تملأ الفضاء العام للمجتمع، (الصور – النصب – التماثيل – الاناشيد- الشعارات) مع قوة اخرى مادية هي القوة الامنية.
و هذه الاعمدة الثلاثة هي عبارة عن مفاهيم دينية و تربوية و اجتماعية تتسع دائرتها حسب طول مدة الاستبداد و تتحوّل هذه المفاهيم إلى ما يشبه العقائد الراسخة. و يستحيل أن تزول هذه المفاهيم بزوال المستبد، لانها ترسخت في الوجدان و الضمير و لا يزيلها أحداث سياسية أو تغييرات في النظام و الحكم (يسميها ابن خلدون بالعوائد و يقول عنها: و العوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار و طول الامد فتستحكم صبغة ذلك و ترسخ في الاجيال و إذا استحكمت الصبغة عسر نزعها).
يؤكد الكواكبي في طبائع الاستبداد: (الاستبداد يُضطرُّ النّاس إلى استباحة الكذب و التحيُّل و الخداع و النِّفاق و التذلل. و ينتج من ذلك أنَّ الاستبداد المشؤوم يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة. ثمَّ إنَّ عبيد السلطان غير مالكين لأنفسهم، و لا هم آمنون على أنَّهم يربّون أولادهم لهم. بل هم يربّون أنعاماً للمستبدّين، و أعواناً لهم عليهم. و في الحقيقة، إنَّ الأولاد في عهد الاستبداد، هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم و الهوان و الخوف و التضييق)..
و يتفاقم الجو النفاقي حتى يعيش الشعب حالة تمثيل جماعي، يعلم فيه كل فرد أن الآخر يمارس تمثيلية و يرد هو بدور آخر من التمثيلية، و الآخر يعلم أن الأول يمارس دوره و هكذا. هذا الجو يتفرع عنه كثير من الأخلاق السيئة المعاكسة للأمانة، و هي الكذب و الغدر و الغش و الخيانة.
و اذا تفاقمت هذه الأخلاق السيئة تفضي تلقائيا لضرب القيم الأخرى المرتبطة باحترام الذات و الآخرين، فتنحسر الغيرة و الكرم و الفزعة و الإيثار و حسن الظن، و يحل محلها البخل و الدياثة و سوء الظن و الخذلان و الأنانية. و هذا بدوره يؤدي إلى انحطاط قيمة الإنسان عند نفسه و عند غيره، فتنهار الكرامة و العزة و الثقة بالنفس و الاعتداد بالهوية.
(علي اسعد وطفة/التربية على الاستبداد في العالم العربي: هل يأتي زمن التربية على المواطنة؟) و كتاب (رأسمالية المدرسة في عالم متغير: الوظيفة الاستلابية للعنف الرمزي و المناهج الخفية).
القابلية للاستبداد ضمن هذا المنظور ليست ردة فعل مؤقتة على أزمة اقتصادية أو سياسية خانقة كما تطرحه نظرية الزعامة الكاريزمية مثلاً، بل نمط ثقافي ـ اجتماعي يتمتع باستمرارية و علاقة تفاعلية مع مجموع العناصر المكونة لظروف المعيشة في مجتمع محدد. و الثقافة السياسية لمجتمع ما ـ حسب وصف اللوموند ـ هي بمثابة خريطة ذهنية تحدد صورة الفرد كفاعل سياسي مقارنة بغيره من الفاعلين، كما تحدد صور العلاقة بينهما و نوعية الأفعال و ردود الأفعال المتوقعة من جانبهم.
هذه التربية لايمكن لها ان تزول إلا بطريقتين، إما القبول بعامل الزمن و الاستعداد لموجة من الانتكاسات قبل تنظيف القلوب و النفوس منها، أو بطريقة العلاج بالصدمة الجماعية للشعب، بوسائل نفسية فعالة باستغلال ظروف الحروب و الكوارث.
نحتاج الى ثورة أخلاقية، تُستنفر فيها كل القوى الثقافية و الدينية و الحيل الاجتماعية و الحركية لإحياء القيم العليا في نفوس الناس.
المداخلات
كانت للحاضرين في الملتقى عدد من المداخلات جاءت على الشكل التالي:
الدكتور علاء الحسيني التدريسي في جامعة كربلاء: من اجهض مشروع الحرية عاملان، العامل الداخلي و العامل الخارجي، و اتصور ان العامل الداخلي دوره اكبر في عملية اجهاض المشروع، مع عدم الاستهانة بالعامل الخارجي بغض النظر عن نظرية المؤامرة، و الدور السعودي او القطري، وك يف لعب دورا في اجهاض بعض الثورات في عدد من البلدان العربية، لكن العامل الداخلي هو الاقوى و اقصد به التكريس الذي اشارت اليه الورقة، فالشعوب العربية ورثت ما تعودت عليه من نمط معين من المعيشة و التعايش مع السلطات المستبدة، سواء كانت مدنية او عسكرية.
علي الطالقاني مدير ادارة مؤسسة النبأ: هناك نقطتان: الاولى، قابلية المتلقي لهذا التغيير او البحث عن الحرية.. انقسام الشعب المصري على سبيل المثال الى قسمين، قسم يستميت في الدفاع عن النظام السابق و قسم يبحث عن التحرر منه. النقطة الثانية، وجود جماعات خفية او ظاهرة تعمل على احباط التغيير.
الدكتور قحطان الحسيني التدريسي في جامعة بابل: هناك مجموعة من الافكار اصوغها على شكل اسئلة: هل ان المجتمعات العربية تعي اهمية و مفهوم الحرية؟ هل هي مهيأة نفسيا لكي تعمل وفق قيم الحرية؟ ام تختلط عليها المفاهيم حتى لاتعود تفرق بين الحرية و الفوضى؟
المجتمعات العربية تبحث عن الحرية و لاتمتلك الابداع او القدرة على صناعتها، صناعة حرية منسجمة مع طبيعة المجتمع العربي، مع قيمه، مع افكاره، مع مايؤمن به، دائما ما تأخذ المجتمعات العربية نماذج جاهزة من الغرب او من مدارس فكرية غير عربية او اسلامية، و تحاول تطبيقه عليها، و بالنتيجة يكون التطبيق فاشلا، لاننا ليس لدينا القدرة او الابداع على انتاج نموذج للحرية يناسب قيم مجتمعنا.
ماحدث في الثورات العربية، ان المنتفضين فهموا انتفاضتهم انها تعبير عن خلاص من الدكتاتور، و المستبد، دون ان يطرحوا بديلا واقعيا و موضوعيا لما بعد الدكتاتورية، و بالتالي برز التناقض المجتمعي على اشده مما ادى الى التصادم و الصراع بين اصحاب تلك التناقضات.. و انتجت انماطا من العنف، قادت بالضرورة الى العودة الى نفس النماذج التي اسقطتها. كما في الحالة المصرية او التونسية، و حتى اليمن مرشحة للوصول الى تلك النتيجة.
احمد جويد مدير مركز ادم للدفاع عن الحقوق و الحريات: هناك عاملان: العامل النفسي و العامل الاقتصادي.
الشعوب المستقلة اقتصاديا تمتلك حريات اكبر.. في التجربة العربية عندما حكم العثمانيون مارسوا سياسة افقار اتجاه المجتمعات التي حكموها، و عند مجيء الانكليز كما في العراق شجعوا على وجود الاقطاع، ليصبح الشيوخ النافذين و المرتبطين بالسلطة هم القادة في مجتمعاتهم. افراد العشيرة او القبيلة يجدون انفسهم مرتبطين ارتباطا اقتصاديا بهؤلاء الشيوخ الذين هم في المحصلة النهائية ادوات للسلطة. لو كانوا هؤلاء متحررين اقتصاديا لكانوا صنعوا حرياتهم بعيدا عن سلطات الاقطاعيين.
العامل النفسي، اننا دائما نبحث عن الزعامات او البطل و الزعيم، و لهذا يمتلك الثائر بريقا خاصا عند مجتمعاتنا ، و نحن مشدودون دائما نحو الاشخاص الاقوياء.
حيدر جابر مسؤول الجودة في جامعة كربلاء: الاعتراض على كلمة الاجهاض.. فحتى لو اساء بعض الثوار الى ثورتهم فان جذوة الحرية لاتنطفيء في داخلهم، فهذه الثورات عندما لاتلبي طموحات الثائرين و القواعد الشعبية، تراهم ينقلبون مرة اخرى على نفس القادة، و بالتالي ان مشروع البحث عن الحرية لم يجهض بل حورب من قبل نفس هؤلاء القادة للثورات.
العامل الثاني هو تخلي الشعوب عن طموحاتها، حيث يشعرون بالاحباط و الياس بعد الثورات لانها لم تحقق لهم ماكانوا يطمحون اليه و ما خرجوا لاجله.
.......
شبكة النبأ المعلوماتية: حيدر الجراح 2015-2-8