أدركوا العربية قبل السقوط..بقلم أحمد زهران.
كيف نعيدها للصدارة تعلما و مخاطبة و كتابة..
........
تعتبر اللغة عنوان الهوية في أية أمة،و هي بمثابة العملة النقدية،تروج و تنتشر بقدر ما لهم من استقرار سياسي،و تقدم تقني،و رخاء اقتصادي.
والعربية هي حاملة الرسالة السماوية،و مبلغة الوحي الإلهي: {كتاب فُصلت آياته قرآناً عربياً لقومٍ يعلمون} –فصلت: 3
- كما أنها مبدعة الحضارة العربية الإسلامية،و حافظتها و راويتها بين الأجيال،و ذاكرتها على مر العصور.
.......
العربية في التراث الإسلامي.
و المتتبع للتاريخ يلحظ أن الأولين اعتنوا باللغة عناية خاصة،إذ كانوا يعدون العربية من الدين،فيروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعتبر تعلم لغة القرآن الكريم و التعمق في علومها و آدابها مثل التعمق و التفقه في الدين و علوم الشريعة.
يقول "أما بعد،فتفقهوا في السنة،و تفقهوا في العربية،و أعربوا القرآن فإنه عربي" و يقول أيضا "تعلموا العربية فإنها من دينكم،و تعلموا الفرائض فإنها من دينكم".
و يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله و هو يبين وجه اعتبار عمر التفقه في العربية مثل التفقه في الشريعة "فهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية و فقه الشريعة يجمع ما يحتاج إليه،لأن الدين فيه فقه أقوال و أعمال،ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، و فقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله".
و قال عمر رضي الله عنه أيضا علموا الفرائض و اللحن و السنن،كما تعلمون القرآن.
و قد سبق عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمانه بأربعة عشر قرنا حين قرر عقوبة للذي يخطئ في العربية،و من ذلك أنه أمر بعزل كاتب أبي موسى الأشعري و جلده سوطا لعدم تمكنه من قواعد العربية،إذ كتب خطابا إلى عمر يقول في مفتتحه: من أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب. و الصواب من أبي موسى كما يعلم ذلك من له أدنى معرفة باللغة.
بينما لم يهتد الآخرون إلى فظاعة إفساد اللغة إلا حديثا،فاقترحوا عقابا لمن يفسد اللغة و معاملته كمجرم،ففرضت فرنسا منذ أعوام غرامة ألفي فرنك فرنسي على كل من يستخدم كلمة أجنبية واحدة يوجد لها مقابل في الفرنسية.
بل كان الأوائل يعدّون تعلم العربية و خدمتها و حبها من الدين،و من حب الله تعالى و رسوله صلى الله عليه و سلم.
يدل على ذلك ما قاله الإمام أبو منصور الثعالبي "من أحب الله تعالى،أحب رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم،و من أحب الرسول العربي أحب العرب،و من أحب العرب،أحب العربية،التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العرب و العجم،و من أحب العربية عني بها و ثابر عليها،و صرف همته إليها.و من هداه الله للإسلام و شرح صدره للإيمان،و آتاه حسن سريرة فيه،اعتقد أن محمدا صلى الله عليه و سلم خير الرسل،و الإسلام خير الملل،و العرب خير الأمم،و العربية خير اللغات و الألسنة،و الإقبال على تفهمها من الديانة،إذ هي أداة العلم،و مفتاح التفقه في الدين،و سبب إصلاح المعاش و المعاد".
........
أمم تحيا بلغاتها.
و لو ضربنا أمثلة على اهتمام الأمم الأخرى بلغاتها فسنجد في ذلك العجب العجاب،فلغة الكيان الصهيوني (العبرية) كيف كان حالها قبل سنة 1948م؟ كان اليهود أنفسهم يشعرون بقصورها،و يدركون عدم استيعابها للعلم.
و بالرغم من ذلك نشط مفكروهم و أدباؤهم،انطلاقا من حرصهم على هويتهم،و تعصبهم لقوميتهم،و كان من بين هؤلاء إليعازر بن يهودا الذي توفي سنة 1925 و قد قال: لقد اكتشفت كنوزا عبرية في المعاجم العربية،فانظر إلى تبريره للسطو و السرقة! و كذلك انظر إلى مدى النشاط و الحرص على خدمة هويته اللغوية!
و إنا لنأسف على حال مفكرينا الذين رأوا عظمة الثروة اللغوية الموجودة في معاجمنا،فوقفوا أمامها مدهوشين مبهورين لا يعرفون كيف يتعاملون معها، فنادوا باختصار المعاجم اللغوية،حتى قال بعضهم: لسنا في حاجة إلى ثمانين ألف مادة التي وردت في لسان العرب،كما يقولون،و لا بد من طرح بعض الألفاظ و إماتتها.
لعلنا لو قارنا بين حال مفكرينا و مفكري اليهود من ناحية الحرص على الهوية و قوة الانتماء لما وجدنا وجه مقارنة،إن مفكرينا الذين تحدثوا عن صعوبة لغتنا،و عن تضخم معاجمها،و ضرورة اختصار هذه المعاجم مَثَلُهُم كَمَثَل إنسان ورث عن أبيه سبيكة ذهبية ضخمة،و هو قاصر الذهن، فوقف أمام السبيكة متحيرا كيف يستخرج منها الأساور و الخواتم؟
بل و كيف يضعها في أشكال و قوالب حديثة لإخراج زينة تناسب أذواق العصر؟ فلما كَلَّ تفكيره و جهده عن كل ذلك أخذ السبيكة و ألقاها في البحر ليريح نفسه.
لقد اهتم اليهود بلغتهم فجعلوها لغة العلم و لغة الأدب،بعدما أصلحوا شعثها،و داووا أمراضها،حتى نالوا بها جائزة نوبل في الأدب.
و اللغة الصينية التي كانت قبل ثورة 1949 في عداد اللغات المتخلفة،انظر إليها الآن،و كيف أخذت تروج و تنتشر و تغزو العالم مع غزو الصين للعالم صناعيا،بالرغم من صعوبة لغتهم،فهي تحتاج إلى إتقان أكثر من ثلاثة آلاف مقطع صوتي،حتى يتعاملوا معها بحرية و اقتدار،فحولوها من هذه الصعوبة إلى لغة العلوم و التقنية.
و كذلك يقال عن اللغة الأيرلندية قبل ظهور ديفاليرا الذي جمع الأيرلنديين حول لغة الأجداد، و رأى أن من العار أن ينهض الشعب على لغة مستعارة،لغة الغازي المحتل الإنجليزية،و إنما لا بد من إصلاح لغة الأجداد الأيرلنديين.
و هذا أيضا هردر الأديب الألماني الذي جمع الألمان حول لغة الأجداد،و أخذ يغرس هو و من معه من الأدباء في نفوس الناشئة حب لغتهم،مما مهّد السبيل أمام بسمارك فوحد هذه الجموع المتفرقة، و أقام الإمبراطورية الألمانية.
و قديما كانت فرنسا تدرس فيها العلوم بالإنجليزية،و بقرار "فرنسا العلوم" صارت الفرنسية لغة العلم و الحياة،بل و لغة عالمية لها تواجدها خارج حدود فرنسا.
و ما تجربة فيتنام من ذلك ببعيد،لقد استطاعوا أن يحولوا اللغة الفيتنامية إلى لغة للعلوم بعد أن كانت تدرس بالفرنسية في بلادهم.
.........
العربية تتهاوى.
و بينما اهتم علماء أمتنا الأولون و مثقفوها بالعربية،و اهتمت أمم الأرض جميعها بلغاتها و أعادت إحياء ما اندرس منها، تعاملنا نحن -أبناء حضارة القرن الحادي و العشرين- مع لغتنا العربية و كأنها غريبة عنا، حتى ادّعى بعض أهلها عدم مقدرتها على مسايرة اللغات المعاصرة.
و في كتاب بعنوان: موت اللغة ألفه اللساني البريطاني ديفد كريستال،و صدر عن مطبعة جامعة كامبردج،استعرض الكاتب تسعة شروط لموت اللغة.
و جميع هذه الشروط تنطبق على اللغة العربية في وضعها الراهن،و في مقدمتها شرط انتشار لغة الغالب في بلاد المغلوب و حلولها محل لغته التي هي من مقومات الأمة.
و هذا مبدأ معروف في علم الاجتماع أرساه العلامة ابن خلدون في المقدِّمة بقوله: "إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره و زيه و نحلته و سائر أحواله و عوائده،إن الأمة إذا غُلِبت و صارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء".
و يقول علماء اللسانيات إنه يوجد في الوقت الحاضر ما بين خمسة آلاف و ستة آلاف لغة طبقا لنوعية التصنيف و احتساب اللهجات أو عدمه،و تشير الإحصاءات العلمية إلى أن ما بين 250 و300 لغة تنقرض سنوياً بفعل سرعة التواصل،و الميل إلى استعمال اللغات العالمية الأكثر فاعلية.
و هذا هو ما يسميه بعضهم بالغزو الثقافي أو اللغوي،و بعملية حسابية بسيطة،يتبين لنا أن القرن الميلادي الحالي سيشهد اندثار حوالي ثلاثة آلاف لغة،أي نصف لغات العالم.
و قد أكدت التقارير الصادرة عن منظمة اليونسكو مؤخرا أن هناك عددا من لغات العالم مهدد بالانقراض،و من بينها اللغة العربية.
و هذا ما حدا بمنظمة الأمم المتحدة في نيويورك إلى أن تتجه إلى إلغاء العربية من بين اللغات العالمية الرسمية في المنظمة و هي: الإنجليزية و الإسبانية و الفرنسية و الروسية و الصينية و العربية.و ذلك لثلاثة أسباب:
السبب الأول: عدم استعمال ممثلي الدول العربية اللغة العربية في الأمم المتحدة،فهم يستعملون الإنجليزية و الفرنسية.
السبب الثاني: عدم وجود مترجمين عرب أكفاء يجيدون اللغة العربية.
السبب الثالث: عدم وفاء معظم الدول العربية بالتزاماتها المتعلقة بدفع نفقات استعمال العربية في المنظمة.
و لك أن تعرف أن امتحان الثانوية في فرنسا كان يسمح للطالب باختيار لغة ثانية كالإنجليزية أو الألمانية أو الإسبانية أو العربية.
و ابتداء من سنة 1995 لم تعد العربية من بين هذه اللغات،و استعيض عنها بعدد من اللهجات العربية.
و على حد تعبير أحد اللغويين المعاصرين أثناء مناقشة مشكلة العربية،و ما يهددها من أخطار، فقد لخص القضية في قوله "أنا أقول لك إن الرجل ميت،و أنتَ تقول لي إن لسانه لا يتحرك".
............
التوصيات العملية.
و حتى نعيد للعربية صدارتها في حياتنا تعلما و مخاطبة و كتابة،علينا اتباع الآتي:
1- التصدي الجاد و المتدرج لمحاولات الدعوة إلى اللغة العامية -داخل الوطن العربي- و خاصة في مجال الإعلام.
2- قيام المجامع اللغوية بإجراء التجارب و البحوث العلمية و الدراسات المتخصصة التي يعتمد عليها في بناء المناهج و تقويمها، و في تأليف الكتب و اختيار أنجح أساليب التدريس.
3- تشجيع الطلاب و الطالبات و التلاميذ على استعمال العربية الفصحى في الحوار و النقاش داخل قاعات الدرس،مما يتيح لهم دُربة عملية ثمارها إحياء العربية الفصحى على ألسنتهم.
4- العمل على استخدام اللغة العربية الفصحى المبسطة في برامج الأطفال و الكتب الخاصة بهم،بطريقة مشوقة حتى يألفها الطفل قبل دخول المدرسة و أثناء التعليم الابتدائي،و قد ثبت علميا أثر هذه البرامج التي تتخذ من العربية الفصحى لغة لها،في محاكاة الصغار لها دون أدنى معرفة بقواعد اللغة.
5- اعتماد العربية الفصيحة لغة رسمية في الخطابات الرسمية و البيانات الدورية التي يلقيها المسؤولون من رجال الدولة و الشخصيات العامة في خطبهم و بياناتهم إلى الجماهير.
6- إعداد دورات تدريبية للعاملين في مجال الإعلام المسموع و المشاهد و المقروء بهدف تدريبهم على الضبط الإعرابي و النطق السليم.
7- مساعدة أبناء الجاليات العربية خارج الوطن العربي،و الاهتمام بالمدارس العربية في الخارج،و دعم البرامج التعليمية للعربية في المدارس غير العربية.
8- تعريب أسماء المحلات التجارية و الشوارع و الميادين،عبر سن القوانين التي تحظر إطلاق أسماء أجنبية عليها،للمحافظة على الشكل الحضاري العربي الإسلامي لمجتمعاتنا العربية.
.........
أحمد زهران.
موقع مداد القلم.
كيف نعيدها للصدارة تعلما و مخاطبة و كتابة..
........
تعتبر اللغة عنوان الهوية في أية أمة،و هي بمثابة العملة النقدية،تروج و تنتشر بقدر ما لهم من استقرار سياسي،و تقدم تقني،و رخاء اقتصادي.
والعربية هي حاملة الرسالة السماوية،و مبلغة الوحي الإلهي: {كتاب فُصلت آياته قرآناً عربياً لقومٍ يعلمون} –فصلت: 3
- كما أنها مبدعة الحضارة العربية الإسلامية،و حافظتها و راويتها بين الأجيال،و ذاكرتها على مر العصور.
.......
العربية في التراث الإسلامي.
و المتتبع للتاريخ يلحظ أن الأولين اعتنوا باللغة عناية خاصة،إذ كانوا يعدون العربية من الدين،فيروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعتبر تعلم لغة القرآن الكريم و التعمق في علومها و آدابها مثل التعمق و التفقه في الدين و علوم الشريعة.
يقول "أما بعد،فتفقهوا في السنة،و تفقهوا في العربية،و أعربوا القرآن فإنه عربي" و يقول أيضا "تعلموا العربية فإنها من دينكم،و تعلموا الفرائض فإنها من دينكم".
و يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله و هو يبين وجه اعتبار عمر التفقه في العربية مثل التفقه في الشريعة "فهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية و فقه الشريعة يجمع ما يحتاج إليه،لأن الدين فيه فقه أقوال و أعمال،ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، و فقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله".
و قال عمر رضي الله عنه أيضا علموا الفرائض و اللحن و السنن،كما تعلمون القرآن.
و قد سبق عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمانه بأربعة عشر قرنا حين قرر عقوبة للذي يخطئ في العربية،و من ذلك أنه أمر بعزل كاتب أبي موسى الأشعري و جلده سوطا لعدم تمكنه من قواعد العربية،إذ كتب خطابا إلى عمر يقول في مفتتحه: من أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب. و الصواب من أبي موسى كما يعلم ذلك من له أدنى معرفة باللغة.
بينما لم يهتد الآخرون إلى فظاعة إفساد اللغة إلا حديثا،فاقترحوا عقابا لمن يفسد اللغة و معاملته كمجرم،ففرضت فرنسا منذ أعوام غرامة ألفي فرنك فرنسي على كل من يستخدم كلمة أجنبية واحدة يوجد لها مقابل في الفرنسية.
بل كان الأوائل يعدّون تعلم العربية و خدمتها و حبها من الدين،و من حب الله تعالى و رسوله صلى الله عليه و سلم.
يدل على ذلك ما قاله الإمام أبو منصور الثعالبي "من أحب الله تعالى،أحب رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم،و من أحب الرسول العربي أحب العرب،و من أحب العرب،أحب العربية،التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العرب و العجم،و من أحب العربية عني بها و ثابر عليها،و صرف همته إليها.و من هداه الله للإسلام و شرح صدره للإيمان،و آتاه حسن سريرة فيه،اعتقد أن محمدا صلى الله عليه و سلم خير الرسل،و الإسلام خير الملل،و العرب خير الأمم،و العربية خير اللغات و الألسنة،و الإقبال على تفهمها من الديانة،إذ هي أداة العلم،و مفتاح التفقه في الدين،و سبب إصلاح المعاش و المعاد".
........
أمم تحيا بلغاتها.
و لو ضربنا أمثلة على اهتمام الأمم الأخرى بلغاتها فسنجد في ذلك العجب العجاب،فلغة الكيان الصهيوني (العبرية) كيف كان حالها قبل سنة 1948م؟ كان اليهود أنفسهم يشعرون بقصورها،و يدركون عدم استيعابها للعلم.
و بالرغم من ذلك نشط مفكروهم و أدباؤهم،انطلاقا من حرصهم على هويتهم،و تعصبهم لقوميتهم،و كان من بين هؤلاء إليعازر بن يهودا الذي توفي سنة 1925 و قد قال: لقد اكتشفت كنوزا عبرية في المعاجم العربية،فانظر إلى تبريره للسطو و السرقة! و كذلك انظر إلى مدى النشاط و الحرص على خدمة هويته اللغوية!
و إنا لنأسف على حال مفكرينا الذين رأوا عظمة الثروة اللغوية الموجودة في معاجمنا،فوقفوا أمامها مدهوشين مبهورين لا يعرفون كيف يتعاملون معها، فنادوا باختصار المعاجم اللغوية،حتى قال بعضهم: لسنا في حاجة إلى ثمانين ألف مادة التي وردت في لسان العرب،كما يقولون،و لا بد من طرح بعض الألفاظ و إماتتها.
لعلنا لو قارنا بين حال مفكرينا و مفكري اليهود من ناحية الحرص على الهوية و قوة الانتماء لما وجدنا وجه مقارنة،إن مفكرينا الذين تحدثوا عن صعوبة لغتنا،و عن تضخم معاجمها،و ضرورة اختصار هذه المعاجم مَثَلُهُم كَمَثَل إنسان ورث عن أبيه سبيكة ذهبية ضخمة،و هو قاصر الذهن، فوقف أمام السبيكة متحيرا كيف يستخرج منها الأساور و الخواتم؟
بل و كيف يضعها في أشكال و قوالب حديثة لإخراج زينة تناسب أذواق العصر؟ فلما كَلَّ تفكيره و جهده عن كل ذلك أخذ السبيكة و ألقاها في البحر ليريح نفسه.
لقد اهتم اليهود بلغتهم فجعلوها لغة العلم و لغة الأدب،بعدما أصلحوا شعثها،و داووا أمراضها،حتى نالوا بها جائزة نوبل في الأدب.
و اللغة الصينية التي كانت قبل ثورة 1949 في عداد اللغات المتخلفة،انظر إليها الآن،و كيف أخذت تروج و تنتشر و تغزو العالم مع غزو الصين للعالم صناعيا،بالرغم من صعوبة لغتهم،فهي تحتاج إلى إتقان أكثر من ثلاثة آلاف مقطع صوتي،حتى يتعاملوا معها بحرية و اقتدار،فحولوها من هذه الصعوبة إلى لغة العلوم و التقنية.
و كذلك يقال عن اللغة الأيرلندية قبل ظهور ديفاليرا الذي جمع الأيرلنديين حول لغة الأجداد، و رأى أن من العار أن ينهض الشعب على لغة مستعارة،لغة الغازي المحتل الإنجليزية،و إنما لا بد من إصلاح لغة الأجداد الأيرلنديين.
و هذا أيضا هردر الأديب الألماني الذي جمع الألمان حول لغة الأجداد،و أخذ يغرس هو و من معه من الأدباء في نفوس الناشئة حب لغتهم،مما مهّد السبيل أمام بسمارك فوحد هذه الجموع المتفرقة، و أقام الإمبراطورية الألمانية.
و قديما كانت فرنسا تدرس فيها العلوم بالإنجليزية،و بقرار "فرنسا العلوم" صارت الفرنسية لغة العلم و الحياة،بل و لغة عالمية لها تواجدها خارج حدود فرنسا.
و ما تجربة فيتنام من ذلك ببعيد،لقد استطاعوا أن يحولوا اللغة الفيتنامية إلى لغة للعلوم بعد أن كانت تدرس بالفرنسية في بلادهم.
.........
العربية تتهاوى.
و بينما اهتم علماء أمتنا الأولون و مثقفوها بالعربية،و اهتمت أمم الأرض جميعها بلغاتها و أعادت إحياء ما اندرس منها، تعاملنا نحن -أبناء حضارة القرن الحادي و العشرين- مع لغتنا العربية و كأنها غريبة عنا، حتى ادّعى بعض أهلها عدم مقدرتها على مسايرة اللغات المعاصرة.
و في كتاب بعنوان: موت اللغة ألفه اللساني البريطاني ديفد كريستال،و صدر عن مطبعة جامعة كامبردج،استعرض الكاتب تسعة شروط لموت اللغة.
و جميع هذه الشروط تنطبق على اللغة العربية في وضعها الراهن،و في مقدمتها شرط انتشار لغة الغالب في بلاد المغلوب و حلولها محل لغته التي هي من مقومات الأمة.
و هذا مبدأ معروف في علم الاجتماع أرساه العلامة ابن خلدون في المقدِّمة بقوله: "إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره و زيه و نحلته و سائر أحواله و عوائده،إن الأمة إذا غُلِبت و صارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء".
و يقول علماء اللسانيات إنه يوجد في الوقت الحاضر ما بين خمسة آلاف و ستة آلاف لغة طبقا لنوعية التصنيف و احتساب اللهجات أو عدمه،و تشير الإحصاءات العلمية إلى أن ما بين 250 و300 لغة تنقرض سنوياً بفعل سرعة التواصل،و الميل إلى استعمال اللغات العالمية الأكثر فاعلية.
و هذا هو ما يسميه بعضهم بالغزو الثقافي أو اللغوي،و بعملية حسابية بسيطة،يتبين لنا أن القرن الميلادي الحالي سيشهد اندثار حوالي ثلاثة آلاف لغة،أي نصف لغات العالم.
و قد أكدت التقارير الصادرة عن منظمة اليونسكو مؤخرا أن هناك عددا من لغات العالم مهدد بالانقراض،و من بينها اللغة العربية.
و هذا ما حدا بمنظمة الأمم المتحدة في نيويورك إلى أن تتجه إلى إلغاء العربية من بين اللغات العالمية الرسمية في المنظمة و هي: الإنجليزية و الإسبانية و الفرنسية و الروسية و الصينية و العربية.و ذلك لثلاثة أسباب:
السبب الأول: عدم استعمال ممثلي الدول العربية اللغة العربية في الأمم المتحدة،فهم يستعملون الإنجليزية و الفرنسية.
السبب الثاني: عدم وجود مترجمين عرب أكفاء يجيدون اللغة العربية.
السبب الثالث: عدم وفاء معظم الدول العربية بالتزاماتها المتعلقة بدفع نفقات استعمال العربية في المنظمة.
و لك أن تعرف أن امتحان الثانوية في فرنسا كان يسمح للطالب باختيار لغة ثانية كالإنجليزية أو الألمانية أو الإسبانية أو العربية.
و ابتداء من سنة 1995 لم تعد العربية من بين هذه اللغات،و استعيض عنها بعدد من اللهجات العربية.
و على حد تعبير أحد اللغويين المعاصرين أثناء مناقشة مشكلة العربية،و ما يهددها من أخطار، فقد لخص القضية في قوله "أنا أقول لك إن الرجل ميت،و أنتَ تقول لي إن لسانه لا يتحرك".
............
التوصيات العملية.
و حتى نعيد للعربية صدارتها في حياتنا تعلما و مخاطبة و كتابة،علينا اتباع الآتي:
1- التصدي الجاد و المتدرج لمحاولات الدعوة إلى اللغة العامية -داخل الوطن العربي- و خاصة في مجال الإعلام.
2- قيام المجامع اللغوية بإجراء التجارب و البحوث العلمية و الدراسات المتخصصة التي يعتمد عليها في بناء المناهج و تقويمها، و في تأليف الكتب و اختيار أنجح أساليب التدريس.
3- تشجيع الطلاب و الطالبات و التلاميذ على استعمال العربية الفصحى في الحوار و النقاش داخل قاعات الدرس،مما يتيح لهم دُربة عملية ثمارها إحياء العربية الفصحى على ألسنتهم.
4- العمل على استخدام اللغة العربية الفصحى المبسطة في برامج الأطفال و الكتب الخاصة بهم،بطريقة مشوقة حتى يألفها الطفل قبل دخول المدرسة و أثناء التعليم الابتدائي،و قد ثبت علميا أثر هذه البرامج التي تتخذ من العربية الفصحى لغة لها،في محاكاة الصغار لها دون أدنى معرفة بقواعد اللغة.
5- اعتماد العربية الفصيحة لغة رسمية في الخطابات الرسمية و البيانات الدورية التي يلقيها المسؤولون من رجال الدولة و الشخصيات العامة في خطبهم و بياناتهم إلى الجماهير.
6- إعداد دورات تدريبية للعاملين في مجال الإعلام المسموع و المشاهد و المقروء بهدف تدريبهم على الضبط الإعرابي و النطق السليم.
7- مساعدة أبناء الجاليات العربية خارج الوطن العربي،و الاهتمام بالمدارس العربية في الخارج،و دعم البرامج التعليمية للعربية في المدارس غير العربية.
8- تعريب أسماء المحلات التجارية و الشوارع و الميادين،عبر سن القوانين التي تحظر إطلاق أسماء أجنبية عليها،للمحافظة على الشكل الحضاري العربي الإسلامي لمجتمعاتنا العربية.
.........
أحمد زهران.
موقع مداد القلم.