اللغة العربية إلى أين؟
لكبيرة التونسي
رأيته يطاول لغة الآخر، يرودها في دقائق لينطقها
إرضاء لمن يقف أمامه، يتدرج وجهه حمرة نتيجة تلعثمه في ذكر بعض الكلمات
العصية على لسانه، وكأن المسافة الفاصلة بين لغته وتلك، مساحات ضائعة لم
يستطع تطويعها، بينما الآخر يتحدث بأريحية دون حمرة ولا خجل، يتحدث بلغته
رغم كونه في بلد عربي، والأجدر به بذل مجهود بتعلم لغة البلد الذي يقدم
إليه طالباً لرزق أو حتى لاستجمام.
وآخر إن تسأله عن أحواله يقول good،
لغات تداخلت مع بعضها وكادت تفقد لغتنا هويتها، في سياق عام يدفع نحو
ضرورة تعلم أبجديات الحياة الأولى بلغة أجنبية، بل يتفاخر الأهل إن نطق
ابنهم حروفاً التقطها من أفواه مدرسات أو عن احتكاكهم بالشغالات الأجنبيات
اللواتي يتكفلن بخدمتهن.
هي مساحات ضائعة من عمر الصغار التعليمي، تتوسع يوماً بعد الآخر وتكبر،
هذا ما تأكد ويتأكد يومياً، وما يلاحظ حين يرسل المدرسون مع الصغار واجبات
مدرسية يستدعي حلها في البيت كلها مكتوبة باللغة الإنجليزية.
كما يجتهدون
في تقييم الطفل من حيث إجادته تركيب الكلمات الأجنبية، بل تهجئتها بالطريقة
الصحيحة؛ وعمره يكاد لا يتجاوز ست سنوات. في حين تعتبر اللغة العربية
الزائر الغريب، إذ لا نستقبلها في بيوتنا إلا نادراً جداً وبقليل من الجدية
نظراً لثقل الواجبات اليومية التي يتوجب حلها، والتي لا تترك مجالاً للطفل
أن يلهو أو التفرغ للإبداع والتأمل والتخيل مرات قليلة في الأسبوع.
فـ»اللغة هي وعاء الفكر» وهي لغة وصل وتواصل، هكذا قالوا..
والقول جدي لا
يختلف حوله اثنان، لكن واقع الحال بدأ يغير المطروح، فحين الحديث عن ضرورة
إتقان اللغة الأم فإن ذلك لم يكن عبثاً، بل علماً جاء على لسان خبراء، إذ
أكدوا أن من يريد امتلاك مهارات معرفية وإبداعية أخرى يلزمه في الدرجة
الأولى إتقان لغته الأصلية بقراءتها وكتابتها، بل وإتقانها وفك رموزها،
وإيجاد مهارات لغوية أخرى تدعمها فنياً وإبداعياً، لتكون له القدرة على
مناقشة أفكار الآخرين وملامسة أعماقهم دون وساطة.
هكذا أصبحت تشكل
اللغة العربية مركّب نقص عند بعض الناس، فإذا كنا مضطرين لتعلم لغة البلد
الذي نقصده سياحة أو دراسة، ونعمل جادين على تعلم لغة زوارنا، لماذا لا
يتعلمون هم أيضاً لغتنا للتواصل معنا أو لتقريب الحديث حتى؟
ولماذا يحاول
البعض، بل يقاتل من أجل أن ينطق بما ينطق به الآخر، دون أن ينزل هو لنا؟
هذا فعلاً انتقاص من قيمة لغتنا بسبب الغزو الفكري الخارجي، ولا أحد يستطيع
إنكار الخلل التربوي العام في التعاطي مع اللغة الأم، وكلها مؤثرات على
قوة اللغة بإضعافها، وبالتالي تغييب الهوية العربية.
أمهات بلا حدود