هل نعيش صراع الحضارات أم حوار الحضارات.؟
* فهد توفيق الهندال.
.........
سؤال أطرحه و سبق أن طرحه قبلي أحدهم،على ما نعيشه من تغيّرات ثقافية مستمرة،بدأت مع عصور التنوير الثقافي العالمية و العربية،و اتضحت أكثر بعد نضال العقل العربي لنيل الاستقلال من تبعات و ثقافة الاستعمار الأجنبي.فدائماً،الجديد معرض للتهديد.
و لكن إذا كنا نملك ثقافة عربية ليست جديدة على ساحة الثقافة العالمية،فماهي أسباب الهلع و الجزع من أخطبوط العولمة،و أذرعه التي بات تصل لكل مكان في المعمورة؟
كثرت الكتب و الدراسات و المقالات التي تحدثت عن الثقافة العربية – أصولها و مراجعها و الأخطار المحدقة بها – فهناك مَنْ دافع عن أصالتها،لكونها موروث عظيم لتراثين عظيمين عربي و إسلامي.
و هناك مَنْ شكك في أصالتها،و أنّها نسخة مستوردة من الغرب.ليس من الآن فقط،و إنّما منذ زمن النقل و الترجمة في العصور الغابرة.
فإن كانت ذات أصالة و عمق تاريخي متجذر،فما هو سبب الخوف من رياح العولمة القادمة ما دام أنّنا نملك ثقافة أصيلة،راسخة وارفة الظلال؟
أمّا إذا كنا ما نملكه سوى نسخة مستوردة من الغرب،و ربّما تكون نسخة مشوه،فما الذي يدفع الغرب لشن هذه الحرب الثقافية الباهضة الثمن علينا،ما دمنا نسخة ثقافية أقل منهم؟
قبل أن نتحدّث عن مشروع العولمة و الأخطار المحدقة بنا من جرائه،لنعرف أوّلاً الثقافة التي ندعي أننا نملكها أصالة و جذوراً.فما هو نوعية الخطاب الثقافي العربي؟
أهو خطاب ذو سمة إتِّصالية مع الثقافة الأخرى،تقبل الجدل و الحوار بمنطق حوار الحضارات و الاستماع للرأي الآخر.أم أنّها انعزالية منطوية،تعارض و تمنع الثقافة الأخرى بحجة الغزو الهمجي المدمر للأخلاقيات و الأفكار و العقل،و رفض أي حوار معها؟
و قبل ذلك كلّه،هل تحفل الثقافة العربية نفسها بطبيعة الحوار و الجدل و الاستماع للرأي الآخر دون حجر أو إرهاب فكري له.
أم أنّها عبارة عن تسلط رأي نخبة أو أقلية من المثقفين على حساب آراء و حقوق الشرائح الأخرى منهم داخل الثقافة الواحدة؟
قبل أن نفكِّر و نطلق العنان لمشروع مواجهة العولمة و أخطار دمج هوية المثقف العربي مع الثقافة العالمية،علينا أوّلاً أن ننظر بجدية لما أسماه الدكتور الراحل "أحمد بهاءالدين" بالانحطاط الثقافي.
فعلى الرغم من أنّ المقالة كتبت في مجلة العربي عدد سبتمبر عام 1981،و أعيدت من خلال كتاب العربي عدد أكتوبر 99 تحت عنوان المثقفون و السلطة في عالمنا العربي للكاتب نفسه.
إلا أنني وجدت أنّها تناسب الزمن الثقافي الذي نعيشه الآن،و ما يضمه من انهيار ذوقي و فني بإسم الثقافة العربية و بإسم جمهورها الذي تراجع المثقفون الحقيقيون فيها للخلف،و تقدم المزيفون للأمام.
نعم..فالموجة الثقافية العربية التي بلغت قمتها ولت،و حلت محلها مياه ضحلة هي أقرب للسكون و الاستكانة.
إذا أردنا أن نحافظ على هوية الثقافة العربية من الاضمحلال و الضياع،فيجب أوّلاً أن نعيد للموجة ارتفاعها ثانية نحو القمة،بأنّ نحارب أرباب الجهل و الإنتاج السهل الوضيع ممن يتصنعون معالم الثقافة من أدب و نقد و فن.
كذلك علينا مقاومة التشرنق و التسلّط الثقافي،من البعض ممن هم يفترض أنّهم مثقفو المجتمع.
بأن نركن جانبا الدعوات إلى مقاطعة العولمة بدعوى الإمبريالية و الرأسمالية و لكل أشكال الرفض العاطفي و الانفعالي،دون مواجهتها فكراً موجهاً و خطاباً ثقافياً واعياً.
فيذكر د. "كريم أبو حلاوة" أستاذ علم الاجتماع في جامعة تشرين السورية في مقالته الآثار الثقافية للعولمة في عالم الفكر عدد يناير 2001:
(فظاهرة العولمة،و بما تنطوي عليه من ميكانزمات إقتصادية و تقنية سياسية و إعلامية،قد بلغت من الرسوخ و الصلابة حيث تصعب مواجهتها بشكل فعال عبر خطاب أيديولوجي فقد الكثير من بريقه النضالي و نقاط قوته السابقة نتيجة لبروز معطيات و عناصر جديدة في دائرة الصراع).
و قد دعا الدكتور المذكور لما أسماه بعولمة بديلة،كما دعى غيره لوضع إستراتيجية مضادة لها.
و هنا أتساءل..هل الثقافة العربية بذلك استعدت لمرحلة تطوير و تبديل مفاهيمها بما يناسب العصر و مفاهيمه الحديثة،أم أنّها تفضل البقاء في قمقمها تحت رحمة الأوصياء من دعاة التشرنق و التقوقع؟
أنا هنا لست من دعاة العولمة،فأنا أخشى على هويتي و ثقافتي العربية من الانصهار في بوتقة محرقة.
و لكنني أرغب كما هو حال الشباب من المثقفين العرب في حماية هذه الهوية،دون جمودها و ثباتها على وضعية فكرية معيّنة.بل لتكن الطرق سالكة لما هو جديد من المفاهيم و النظريات.
و لماذا لا نرتقي بثقافتنا العربية لتكون عالية بالإرتفاع بخصوصيتها إلى مستوى عالمي،كما حدده
المفكر محمّد عابد الجابري في تعريفه الفرق بين العولمة و العالمية.
إذن بدلاً من أن تقوم المؤتمرات و المهرجانات و المقالات و الندوات الثقافية العربية بالتحذير من خطورة العولمة التي شئنا أم أبينا فهي سارية لا محالة بين مجتمعاتنا،بدلاً من ذلك لماذا لا نقوم بمراجعة شاملة لمفاهيم الثقافة العربية،و تقييم مستوياتها العديدة.لا أن نجزع و نهلع و نعيش داخل الشرنقة..شرنقة الثقافة العربية بعيداً عن حوار الحضارات و تحدي الثقافات..العولمة.فإما أن نعيش داخل الشرنقة و يطول سباتنا فصولاً شتوية أو نواجه و نعايش العولمة بهوية ثقافية جديدة.
..........
المصدر: كتاب الفكر و الحجر (تأمّلات ذاتية في مدارات الهوية)
موقع البلاغ.
* فهد توفيق الهندال.
.........
سؤال أطرحه و سبق أن طرحه قبلي أحدهم،على ما نعيشه من تغيّرات ثقافية مستمرة،بدأت مع عصور التنوير الثقافي العالمية و العربية،و اتضحت أكثر بعد نضال العقل العربي لنيل الاستقلال من تبعات و ثقافة الاستعمار الأجنبي.فدائماً،الجديد معرض للتهديد.
و لكن إذا كنا نملك ثقافة عربية ليست جديدة على ساحة الثقافة العالمية،فماهي أسباب الهلع و الجزع من أخطبوط العولمة،و أذرعه التي بات تصل لكل مكان في المعمورة؟
كثرت الكتب و الدراسات و المقالات التي تحدثت عن الثقافة العربية – أصولها و مراجعها و الأخطار المحدقة بها – فهناك مَنْ دافع عن أصالتها،لكونها موروث عظيم لتراثين عظيمين عربي و إسلامي.
و هناك مَنْ شكك في أصالتها،و أنّها نسخة مستوردة من الغرب.ليس من الآن فقط،و إنّما منذ زمن النقل و الترجمة في العصور الغابرة.
فإن كانت ذات أصالة و عمق تاريخي متجذر،فما هو سبب الخوف من رياح العولمة القادمة ما دام أنّنا نملك ثقافة أصيلة،راسخة وارفة الظلال؟
أمّا إذا كنا ما نملكه سوى نسخة مستوردة من الغرب،و ربّما تكون نسخة مشوه،فما الذي يدفع الغرب لشن هذه الحرب الثقافية الباهضة الثمن علينا،ما دمنا نسخة ثقافية أقل منهم؟
قبل أن نتحدّث عن مشروع العولمة و الأخطار المحدقة بنا من جرائه،لنعرف أوّلاً الثقافة التي ندعي أننا نملكها أصالة و جذوراً.فما هو نوعية الخطاب الثقافي العربي؟
أهو خطاب ذو سمة إتِّصالية مع الثقافة الأخرى،تقبل الجدل و الحوار بمنطق حوار الحضارات و الاستماع للرأي الآخر.أم أنّها انعزالية منطوية،تعارض و تمنع الثقافة الأخرى بحجة الغزو الهمجي المدمر للأخلاقيات و الأفكار و العقل،و رفض أي حوار معها؟
و قبل ذلك كلّه،هل تحفل الثقافة العربية نفسها بطبيعة الحوار و الجدل و الاستماع للرأي الآخر دون حجر أو إرهاب فكري له.
أم أنّها عبارة عن تسلط رأي نخبة أو أقلية من المثقفين على حساب آراء و حقوق الشرائح الأخرى منهم داخل الثقافة الواحدة؟
قبل أن نفكِّر و نطلق العنان لمشروع مواجهة العولمة و أخطار دمج هوية المثقف العربي مع الثقافة العالمية،علينا أوّلاً أن ننظر بجدية لما أسماه الدكتور الراحل "أحمد بهاءالدين" بالانحطاط الثقافي.
فعلى الرغم من أنّ المقالة كتبت في مجلة العربي عدد سبتمبر عام 1981،و أعيدت من خلال كتاب العربي عدد أكتوبر 99 تحت عنوان المثقفون و السلطة في عالمنا العربي للكاتب نفسه.
إلا أنني وجدت أنّها تناسب الزمن الثقافي الذي نعيشه الآن،و ما يضمه من انهيار ذوقي و فني بإسم الثقافة العربية و بإسم جمهورها الذي تراجع المثقفون الحقيقيون فيها للخلف،و تقدم المزيفون للأمام.
نعم..فالموجة الثقافية العربية التي بلغت قمتها ولت،و حلت محلها مياه ضحلة هي أقرب للسكون و الاستكانة.
إذا أردنا أن نحافظ على هوية الثقافة العربية من الاضمحلال و الضياع،فيجب أوّلاً أن نعيد للموجة ارتفاعها ثانية نحو القمة،بأنّ نحارب أرباب الجهل و الإنتاج السهل الوضيع ممن يتصنعون معالم الثقافة من أدب و نقد و فن.
كذلك علينا مقاومة التشرنق و التسلّط الثقافي،من البعض ممن هم يفترض أنّهم مثقفو المجتمع.
بأن نركن جانبا الدعوات إلى مقاطعة العولمة بدعوى الإمبريالية و الرأسمالية و لكل أشكال الرفض العاطفي و الانفعالي،دون مواجهتها فكراً موجهاً و خطاباً ثقافياً واعياً.
فيذكر د. "كريم أبو حلاوة" أستاذ علم الاجتماع في جامعة تشرين السورية في مقالته الآثار الثقافية للعولمة في عالم الفكر عدد يناير 2001:
(فظاهرة العولمة،و بما تنطوي عليه من ميكانزمات إقتصادية و تقنية سياسية و إعلامية،قد بلغت من الرسوخ و الصلابة حيث تصعب مواجهتها بشكل فعال عبر خطاب أيديولوجي فقد الكثير من بريقه النضالي و نقاط قوته السابقة نتيجة لبروز معطيات و عناصر جديدة في دائرة الصراع).
و قد دعا الدكتور المذكور لما أسماه بعولمة بديلة،كما دعى غيره لوضع إستراتيجية مضادة لها.
و هنا أتساءل..هل الثقافة العربية بذلك استعدت لمرحلة تطوير و تبديل مفاهيمها بما يناسب العصر و مفاهيمه الحديثة،أم أنّها تفضل البقاء في قمقمها تحت رحمة الأوصياء من دعاة التشرنق و التقوقع؟
أنا هنا لست من دعاة العولمة،فأنا أخشى على هويتي و ثقافتي العربية من الانصهار في بوتقة محرقة.
و لكنني أرغب كما هو حال الشباب من المثقفين العرب في حماية هذه الهوية،دون جمودها و ثباتها على وضعية فكرية معيّنة.بل لتكن الطرق سالكة لما هو جديد من المفاهيم و النظريات.
و لماذا لا نرتقي بثقافتنا العربية لتكون عالية بالإرتفاع بخصوصيتها إلى مستوى عالمي،كما حدده
المفكر محمّد عابد الجابري في تعريفه الفرق بين العولمة و العالمية.
إذن بدلاً من أن تقوم المؤتمرات و المهرجانات و المقالات و الندوات الثقافية العربية بالتحذير من خطورة العولمة التي شئنا أم أبينا فهي سارية لا محالة بين مجتمعاتنا،بدلاً من ذلك لماذا لا نقوم بمراجعة شاملة لمفاهيم الثقافة العربية،و تقييم مستوياتها العديدة.لا أن نجزع و نهلع و نعيش داخل الشرنقة..شرنقة الثقافة العربية بعيداً عن حوار الحضارات و تحدي الثقافات..العولمة.فإما أن نعيش داخل الشرنقة و يطول سباتنا فصولاً شتوية أو نواجه و نعايش العولمة بهوية ثقافية جديدة.
..........
المصدر: كتاب الفكر و الحجر (تأمّلات ذاتية في مدارات الهوية)
موقع البلاغ.