الإسلام
ومتطلبات العصر
*مرتضى مطهري
إنّ قضية «الإسلام ومتطلبات العصر» من القضايا الاجتماعية المهمّة التي
تشغل بال الشباب المثقف في عصرنا الحاضر، وهم أرقى شريحة اجتماعية من حيث
المستوى، كما إنّ عددهم _ من حسن الحظ _ جدير بالملاحظة.
لغزٌ محيِّر
هناك ضرورتان ملحّتان تفرضان على هذه الشريحة مسؤولية ثقيلة ورسالة جسيمة:
الأولى: ضرورة المعرفة الصحيحة للإسلام الحقيقي كفلسفة اجتماعية
وإيديولوجية إلهيّة، ونظام فكري واعتقادي بنّاء وشامل، وباعث على السعادة.
الثانية: ضرورة معرفة ظروف العصر ومتطلباته، والتفريق بين ما هو ناشئ عن
التطور العلمي والصناعي، وبين ظواهر الانحراف وأسباب الفساد والانحطاط. ولا
شكّ أن باخرةً تريد أن تبحر عباب المحيطات، قاطعةً المسافات الطويلة،
متنقلةً من قارة إلى أخرى، لا بد لها من بوصلة لمعرفة الاتجاه، ومرساة
ثابتة لحفظها، والحيلولة دون غرقها، واجتياز الأخطار الناجمة عن المد
والجزر، كما إنّ معرفة وضع البحر وموقعه جغرافياً أمر لا محيص منه في كلٍّ
لحظة من اللحظات.
ونحن علينا _ من هذا المنطلق _ أن نتعرّف على الإسلام
بوصفه دليلاً في السفر كالبوصلة، ومرساة ثابتةً تعصمنا من الغرق خلال المدّ
والجزر، ونتعرف كذلك على الظروف الخاصّة لكل عصر بوصفها منازل على الطريق
ينبغي الوصول إليها أو المرور عليها تباعاً، حتى نستطيع أن نصل إلى غايتنا
المنشودة في محيط الحياة المتلاطم.
وليس هناك معضلة من وجهة نظر الشريحة آنفة الذكر، إلاّ عدم الاطّلاع على
الحقائق الإسلامية الناصعة، وغياب قابلية التمييز والتفريق عندهم بين أسباب
الرقي والتقدم، وبين التيارات والظواهر المنحرفة التي هي من طبيعة البشر،
إذ لعلّهما يعكسان القضية كلغز محيّر! لكن لا ننكر وجود أفراد وجماعات
ينظرون إلى القضية وكأنها _ واقعاً _ لغز محيّر، معتقدين إنّ «الإسلام»
و«متطلبات العصر» نقيضان لا يجتمعان، ووجودان لا ينسجمان، ولا بد إذاً من
اختيار أحدهما، فإمّا أن نتمسك بالإسلام وتعاليمه مبتعدين عن كل نوع من
أنواع التحديث والتجديد، ومعطّلين الزمن عن حركته التطورية، وإمّا أن
نستسلم لمتطلّبات العصر التي هي في تطوّر مستمر، مطلقين الإسلام باعتباره
ظاهرة تتعلق بالماضي السحيق، واضعين إياه في ملفات التاريخ القديمة...
وحديثنا في هذا المقال يرتبط بهذه الآراء المطروحة وأصحابها.
بين الثابت والمتغيِّر
إنّ الدليل الذي يطرحه هؤلاء هو كالآتي: بما أنّ الإسلام دين، وأنه آخر
الأديان وتعاليمه خالدة، وأنه يجب أن يبقى إلى الأبد حاملاً نفس المواصفات
التي كان عليها يوم ظهوره، فهو إذاً ظاهرة ثابتة لا تقبل التطور، أما الزمن
فهو متطور بذاته، وطبيعته تقتضي التجديد والتغيير، وكلّ يوم يأتي بشيءٍ
جديد يختلف عن سابقه، فكيف يمكن التوفيق بين شيئين: أحدهما ثابت في ذاته لا
يتغيّر، والآخر متغيّر في ذاته لا يثبت؟
وهل يمكن أن تلتقي أعمدة الكهرباء والهاتف المنصوبة على الطرق مع السيارات
التي تسير على تلك الطرق باستمرار ولا يتفق لها أن تجتمع في نقطة واحدة
خلال لحظتين؟
وهل يمكن أن يظلّ الطفل ذو العامين يستعمل نفس ثوبه حين يصير
عمره عشرين سنة، في حين أنّ جسمه في نموّ متزايد، والثوب هو نفس الثوب الذي
كان يستعمله خلال ذلك العمر؟
علينا الإذعان إذاً بأنها مشكلة لا يمكن علاجها بتلك البساطة، وهذه المشكلة
تذكّرنا بمشكلة أخرى طرحها الفلاسفة الإلهيّون وعالجوها، وهي: «ربط
المتغير بالثابت» و«ربط الحادث بالقديم».
وتبدأ مشكلتهم من قولهم: يجب أن
تكون علّة المتغير متغيّرة وعلّة الثابت ثابتة، وكذلك علّة الحادث وعلّة
القديم قديمة، إذاً كيف تنتهي جميع المتغيرات والحوادث في العالم إلى علّة
أزلية لا تقبل التغيير؟ يجيب الفلاسفة هنا بقولهم: إنهم اكتشفوا «رابطاً»:
ثابتاً أزليّاً من جهة، ومتغيّراً حادثاً من جهة أخرى، ويعتقدون أنّ مهمّة
هذا الرابط هي ربط المتغيرات والحوادث بالذات القديمة الكاملة الأزليّة.
وهنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال، وهو: هل إنّ الرابط الذي يذكره الفلاسفة
موجود في قضية اجتماعية كقضية «الإسلام ومتطلّبات العصر»، ولو كان كذلك،
فما هو هذا الرابط؟ ومن أين ينطلق؟
التصوّر الموهوم
في الحقيقة، إنّ الاستدلال الذي تذرع به أولئك حول عدم إمكان اجتماع
الإسلام ومع متطلبات العصر، يحمل في طيّاته مغالطةً في كليهما. أمّا على
صعيد الإسلام، فخلود قوانينه وثباتها، هو أمر مفروغ منه، بل ومن ضروريات
الإسلام، مع صفة المرونة التي تخصّ نظامه التشريعي، والتي يتحلى بها
الإسلام ذاتياً بحكم طبيعته الحركية الفاعلة، التي هي من خصائص نظامه
التشريعي، قد اعتبرتا واحدة في حين أنّهما منفصلتان تماماً. ولقد أثارت
عظمة الفقه الإسلامي في قابليته الفذّة على تلبية حاجات كلِّ عصر إعجاب
البشرية جمعاء، علماً أنَّ المسائل المستجدّة لا تخصُّ عصرنا فحسب، بل كانت
تظهر في كل عصر منذ بزوغ فجر الإسلام حتى القرن السابع والثامن، حيث كانت
الحضارة الإسلامية في توسع مضطرد، يتمخض عنه مسائل مستحدثة وحاجات مستجدة،
أدّى فيها الفقه الإسلامي دوره الخطير خلالها، محافظاً على أصالته دون
الاستعانة بمصادر غير إسلامية. وإنّ فقدان التوجّه الإسلامي الهادف خلال
القرون الأخيرة لدى المتصدّين في العالم الإسلامي من جهة، وانبهار المسلمين
بتقدم الغرب وتطوره من جهة أخرى، قد أفضيا إلى التصور الموهوم بأنّ
الإسلام لا يصلح لعصرنا الجديد هذا.
الحقائق لا تموت
وأما على صعيد متطلبات العصر: فإنّ المغالطة فيها تكمن في اعتبار الزمن
قادراً على أن يبلي كل شيء بما فيها الحقائق الكونية الثابتة، في حين أن
الذي يبلى ويتجدد في الزمن هو المادة والتركيبات المادية، مثل الجماد،
النبات، الحيوان، الإنسان.. وهذه كلها محكومة بالفناء والزوال، أما الحقائق
الكونية فهي ثابتة لا تتغير.
أجل، هل يستطيع أحد أن يقول: إن جدول فيثاغورس قد بلي ولم يعد مفيداً وذلك
لمرور ألفي سنة على وجوده؟ وهل يمكن لأحد أن يدّعي عدم جدوى كلام الشاعر
الشهير سعدي حين يقول: «الناس كأعضاء الجسد الواحد» وذلك لمرور سبعمائة سنة
عليه؟ وهل درست المفاهيم الخيِّرة، كالعدل والمروءة والوفاء والإحسان التي
تتناقلها الألسن منذ آلاف السنين لقدمها؟ إذاً القول: إن جدول فيثاغورس أو
شعر سعدي قد بليا لمرور الفترة الزمنية الطويلة عليهما خطأ محض، وذلك
لأنّهما ناديا بحقائق أزليّة وأبديّة، وما فيثاغورس أو سعدي إلاّ مبيّنان
لتلك الحقائق وكفى.
يقولون: إن قوانين عصر الكهرباء والطائرة وغزو الفضاء لا يمكن أن تكون
نفسها قوانين عصر المصابيح النفطية والخيول والبغال والحمير، وهذا صحيح، إذ
لا شكّ أنّ مستجدّات كثيرة تظهر في عصر الكهرباء والطائرة علينا أن نجد
لها جواباً، لكن لا يعني هذا إحداث تغيير كلّي في القضايا الحقوقية
المتعلّقة بالبيع والشراء والغصب والضمان والوكالة والرهن تبعاً لتبديل
المصباح النفطي بالكهرباء والحمار بالطائرة، أو إحداث التغيير نفسه في حقوق
الآباء على الأبناء أو حقوق الأبناء عليهم، أو حقوق الرجل على زوجته أو
حقوقها عليه، بناءً على أن الماضين منهم كانوا يسافرون على الحمار، أمّا
الموجودون فعلاً فإنّهم يسافرون بالطائرة.
إنّ الإسلام طريق، وليس منـزلاً على الطريق، أو موقفاً من مواقفه، وقد عبّر
عن نفسه بنفسه بأنه الصراط المستقيم، فمن الخطأ إحداث تغيير في هذا الطريق
بسبب تغيير منازله، وذلك لأن لكلّ حركة منظّمة عنصرين أساسيين هما:
التغيير، وهذا يحصل في المواقف على التوالي، والثبات وهو صفة الطريق ومحور
الحركة.
هذا أوّلاً، وأمّا ثانياً، فينبغي أن نتساءل: هل إن الإسلام وحده فقط
كإيديولوجية وفلسفة اجتماعية ودليل سفر حركة متكاملة يدّعي الخلود؟ وهل إنّ
الأفكار الاجتماعية الأخرى التي تضرب على وتر التطور أكثر من غيرها،
وتعتبر كل ظاهرة في الحياة غير ثابتة، وفي تطور، هل هي تعتقد أن مبادئها
أيضاً غير ثابتة وفي تطور؟ نحن نعلم أن النظرة الكونية للماركسية قد ابتنيت
أساساً على مبدأ التطور وعدم ثبات كلّ شيء في الطبيعة، لكن هل يُقرّ
الماركسيون أنفسهم بقدمها؟ لا، هم يرفضون فهماً يصوّر ماركسيتهم ظاهرة
بالية، كما لا يحكمون عليها بالموت والفناء بسبب موت مؤسّسها (كارل ماركس)،
وإنّما هم يشيدون بها دائماً كمبادئ فولاذية رصينة لا تقبل الخلل.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة، فإننا إذا أردنا الحكم على الإسلام ومتطلبات
العصر، فالسبيل الوحيد إلى ذلك هو أن نتعرف على الإسلام نفسه، ونستوعب روح
قوانينه، ونطلَّع على نظامه الخاص في التشريع، حتى تتّضح الصورة جليّةً
عندما يثار هذا السؤال: هل إن الإسلام يصلح لعصر معيّن أم هو لكل القرون
والأعصار، يقود الناس ويهديهم نحو الكمال؟
البلاغ
ومتطلبات العصر
*مرتضى مطهري
إنّ قضية «الإسلام ومتطلبات العصر» من القضايا الاجتماعية المهمّة التي
تشغل بال الشباب المثقف في عصرنا الحاضر، وهم أرقى شريحة اجتماعية من حيث
المستوى، كما إنّ عددهم _ من حسن الحظ _ جدير بالملاحظة.
لغزٌ محيِّر
هناك ضرورتان ملحّتان تفرضان على هذه الشريحة مسؤولية ثقيلة ورسالة جسيمة:
الأولى: ضرورة المعرفة الصحيحة للإسلام الحقيقي كفلسفة اجتماعية
وإيديولوجية إلهيّة، ونظام فكري واعتقادي بنّاء وشامل، وباعث على السعادة.
الثانية: ضرورة معرفة ظروف العصر ومتطلباته، والتفريق بين ما هو ناشئ عن
التطور العلمي والصناعي، وبين ظواهر الانحراف وأسباب الفساد والانحطاط. ولا
شكّ أن باخرةً تريد أن تبحر عباب المحيطات، قاطعةً المسافات الطويلة،
متنقلةً من قارة إلى أخرى، لا بد لها من بوصلة لمعرفة الاتجاه، ومرساة
ثابتة لحفظها، والحيلولة دون غرقها، واجتياز الأخطار الناجمة عن المد
والجزر، كما إنّ معرفة وضع البحر وموقعه جغرافياً أمر لا محيص منه في كلٍّ
لحظة من اللحظات.
ونحن علينا _ من هذا المنطلق _ أن نتعرّف على الإسلام
بوصفه دليلاً في السفر كالبوصلة، ومرساة ثابتةً تعصمنا من الغرق خلال المدّ
والجزر، ونتعرف كذلك على الظروف الخاصّة لكل عصر بوصفها منازل على الطريق
ينبغي الوصول إليها أو المرور عليها تباعاً، حتى نستطيع أن نصل إلى غايتنا
المنشودة في محيط الحياة المتلاطم.
وليس هناك معضلة من وجهة نظر الشريحة آنفة الذكر، إلاّ عدم الاطّلاع على
الحقائق الإسلامية الناصعة، وغياب قابلية التمييز والتفريق عندهم بين أسباب
الرقي والتقدم، وبين التيارات والظواهر المنحرفة التي هي من طبيعة البشر،
إذ لعلّهما يعكسان القضية كلغز محيّر! لكن لا ننكر وجود أفراد وجماعات
ينظرون إلى القضية وكأنها _ واقعاً _ لغز محيّر، معتقدين إنّ «الإسلام»
و«متطلبات العصر» نقيضان لا يجتمعان، ووجودان لا ينسجمان، ولا بد إذاً من
اختيار أحدهما، فإمّا أن نتمسك بالإسلام وتعاليمه مبتعدين عن كل نوع من
أنواع التحديث والتجديد، ومعطّلين الزمن عن حركته التطورية، وإمّا أن
نستسلم لمتطلّبات العصر التي هي في تطوّر مستمر، مطلقين الإسلام باعتباره
ظاهرة تتعلق بالماضي السحيق، واضعين إياه في ملفات التاريخ القديمة...
وحديثنا في هذا المقال يرتبط بهذه الآراء المطروحة وأصحابها.
بين الثابت والمتغيِّر
إنّ الدليل الذي يطرحه هؤلاء هو كالآتي: بما أنّ الإسلام دين، وأنه آخر
الأديان وتعاليمه خالدة، وأنه يجب أن يبقى إلى الأبد حاملاً نفس المواصفات
التي كان عليها يوم ظهوره، فهو إذاً ظاهرة ثابتة لا تقبل التطور، أما الزمن
فهو متطور بذاته، وطبيعته تقتضي التجديد والتغيير، وكلّ يوم يأتي بشيءٍ
جديد يختلف عن سابقه، فكيف يمكن التوفيق بين شيئين: أحدهما ثابت في ذاته لا
يتغيّر، والآخر متغيّر في ذاته لا يثبت؟
وهل يمكن أن تلتقي أعمدة الكهرباء والهاتف المنصوبة على الطرق مع السيارات
التي تسير على تلك الطرق باستمرار ولا يتفق لها أن تجتمع في نقطة واحدة
خلال لحظتين؟
وهل يمكن أن يظلّ الطفل ذو العامين يستعمل نفس ثوبه حين يصير
عمره عشرين سنة، في حين أنّ جسمه في نموّ متزايد، والثوب هو نفس الثوب الذي
كان يستعمله خلال ذلك العمر؟
علينا الإذعان إذاً بأنها مشكلة لا يمكن علاجها بتلك البساطة، وهذه المشكلة
تذكّرنا بمشكلة أخرى طرحها الفلاسفة الإلهيّون وعالجوها، وهي: «ربط
المتغير بالثابت» و«ربط الحادث بالقديم».
وتبدأ مشكلتهم من قولهم: يجب أن
تكون علّة المتغير متغيّرة وعلّة الثابت ثابتة، وكذلك علّة الحادث وعلّة
القديم قديمة، إذاً كيف تنتهي جميع المتغيرات والحوادث في العالم إلى علّة
أزلية لا تقبل التغيير؟ يجيب الفلاسفة هنا بقولهم: إنهم اكتشفوا «رابطاً»:
ثابتاً أزليّاً من جهة، ومتغيّراً حادثاً من جهة أخرى، ويعتقدون أنّ مهمّة
هذا الرابط هي ربط المتغيرات والحوادث بالذات القديمة الكاملة الأزليّة.
وهنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال، وهو: هل إنّ الرابط الذي يذكره الفلاسفة
موجود في قضية اجتماعية كقضية «الإسلام ومتطلّبات العصر»، ولو كان كذلك،
فما هو هذا الرابط؟ ومن أين ينطلق؟
التصوّر الموهوم
في الحقيقة، إنّ الاستدلال الذي تذرع به أولئك حول عدم إمكان اجتماع
الإسلام ومع متطلبات العصر، يحمل في طيّاته مغالطةً في كليهما. أمّا على
صعيد الإسلام، فخلود قوانينه وثباتها، هو أمر مفروغ منه، بل ومن ضروريات
الإسلام، مع صفة المرونة التي تخصّ نظامه التشريعي، والتي يتحلى بها
الإسلام ذاتياً بحكم طبيعته الحركية الفاعلة، التي هي من خصائص نظامه
التشريعي، قد اعتبرتا واحدة في حين أنّهما منفصلتان تماماً. ولقد أثارت
عظمة الفقه الإسلامي في قابليته الفذّة على تلبية حاجات كلِّ عصر إعجاب
البشرية جمعاء، علماً أنَّ المسائل المستجدّة لا تخصُّ عصرنا فحسب، بل كانت
تظهر في كل عصر منذ بزوغ فجر الإسلام حتى القرن السابع والثامن، حيث كانت
الحضارة الإسلامية في توسع مضطرد، يتمخض عنه مسائل مستحدثة وحاجات مستجدة،
أدّى فيها الفقه الإسلامي دوره الخطير خلالها، محافظاً على أصالته دون
الاستعانة بمصادر غير إسلامية. وإنّ فقدان التوجّه الإسلامي الهادف خلال
القرون الأخيرة لدى المتصدّين في العالم الإسلامي من جهة، وانبهار المسلمين
بتقدم الغرب وتطوره من جهة أخرى، قد أفضيا إلى التصور الموهوم بأنّ
الإسلام لا يصلح لعصرنا الجديد هذا.
الحقائق لا تموت
وأما على صعيد متطلبات العصر: فإنّ المغالطة فيها تكمن في اعتبار الزمن
قادراً على أن يبلي كل شيء بما فيها الحقائق الكونية الثابتة، في حين أن
الذي يبلى ويتجدد في الزمن هو المادة والتركيبات المادية، مثل الجماد،
النبات، الحيوان، الإنسان.. وهذه كلها محكومة بالفناء والزوال، أما الحقائق
الكونية فهي ثابتة لا تتغير.
أجل، هل يستطيع أحد أن يقول: إن جدول فيثاغورس قد بلي ولم يعد مفيداً وذلك
لمرور ألفي سنة على وجوده؟ وهل يمكن لأحد أن يدّعي عدم جدوى كلام الشاعر
الشهير سعدي حين يقول: «الناس كأعضاء الجسد الواحد» وذلك لمرور سبعمائة سنة
عليه؟ وهل درست المفاهيم الخيِّرة، كالعدل والمروءة والوفاء والإحسان التي
تتناقلها الألسن منذ آلاف السنين لقدمها؟ إذاً القول: إن جدول فيثاغورس أو
شعر سعدي قد بليا لمرور الفترة الزمنية الطويلة عليهما خطأ محض، وذلك
لأنّهما ناديا بحقائق أزليّة وأبديّة، وما فيثاغورس أو سعدي إلاّ مبيّنان
لتلك الحقائق وكفى.
يقولون: إن قوانين عصر الكهرباء والطائرة وغزو الفضاء لا يمكن أن تكون
نفسها قوانين عصر المصابيح النفطية والخيول والبغال والحمير، وهذا صحيح، إذ
لا شكّ أنّ مستجدّات كثيرة تظهر في عصر الكهرباء والطائرة علينا أن نجد
لها جواباً، لكن لا يعني هذا إحداث تغيير كلّي في القضايا الحقوقية
المتعلّقة بالبيع والشراء والغصب والضمان والوكالة والرهن تبعاً لتبديل
المصباح النفطي بالكهرباء والحمار بالطائرة، أو إحداث التغيير نفسه في حقوق
الآباء على الأبناء أو حقوق الأبناء عليهم، أو حقوق الرجل على زوجته أو
حقوقها عليه، بناءً على أن الماضين منهم كانوا يسافرون على الحمار، أمّا
الموجودون فعلاً فإنّهم يسافرون بالطائرة.
إنّ الإسلام طريق، وليس منـزلاً على الطريق، أو موقفاً من مواقفه، وقد عبّر
عن نفسه بنفسه بأنه الصراط المستقيم، فمن الخطأ إحداث تغيير في هذا الطريق
بسبب تغيير منازله، وذلك لأن لكلّ حركة منظّمة عنصرين أساسيين هما:
التغيير، وهذا يحصل في المواقف على التوالي، والثبات وهو صفة الطريق ومحور
الحركة.
هذا أوّلاً، وأمّا ثانياً، فينبغي أن نتساءل: هل إن الإسلام وحده فقط
كإيديولوجية وفلسفة اجتماعية ودليل سفر حركة متكاملة يدّعي الخلود؟ وهل إنّ
الأفكار الاجتماعية الأخرى التي تضرب على وتر التطور أكثر من غيرها،
وتعتبر كل ظاهرة في الحياة غير ثابتة، وفي تطور، هل هي تعتقد أن مبادئها
أيضاً غير ثابتة وفي تطور؟ نحن نعلم أن النظرة الكونية للماركسية قد ابتنيت
أساساً على مبدأ التطور وعدم ثبات كلّ شيء في الطبيعة، لكن هل يُقرّ
الماركسيون أنفسهم بقدمها؟ لا، هم يرفضون فهماً يصوّر ماركسيتهم ظاهرة
بالية، كما لا يحكمون عليها بالموت والفناء بسبب موت مؤسّسها (كارل ماركس)،
وإنّما هم يشيدون بها دائماً كمبادئ فولاذية رصينة لا تقبل الخلل.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة، فإننا إذا أردنا الحكم على الإسلام ومتطلبات
العصر، فالسبيل الوحيد إلى ذلك هو أن نتعرف على الإسلام نفسه، ونستوعب روح
قوانينه، ونطلَّع على نظامه الخاص في التشريع، حتى تتّضح الصورة جليّةً
عندما يثار هذا السؤال: هل إن الإسلام يصلح لعصر معيّن أم هو لكل القرون
والأعصار، يقود الناس ويهديهم نحو الكمال؟
البلاغ