أخطار تصدُّع بنى الدولة في العالم العربي
* خالد غزال
يقدم المشهد العربي الراهن صورة سوداء للواقع الذي تعيشه المجتمعات العربية
من المحيط إلى الخليج. تتميّز هذه الصورة باندلاع حروب أهلية مذهبية
وطائفية تمعن تقسيماً وشرذمة في بنى هذه المجتمعات. تتشابه لوحة الأحداث في
العراق ولبنان واليمن والسودان والجزائر وغيرها من البلدان التي تعيش
حروباً أهلية باردة أحياناً وساخهة في أغلب الأوقات. يسود تبسيط في تعيين
المسؤولية عن الانحدار فتُلصق التهمة بالتدخلات الأجنبية التي تزكي نار
الفتن خدمة لمصالحها الخاصة، فيما يسدل ستار من التعتيم على الأسباب
البنيوية الداخلية التي يعود إليها بشكل رئيسي مسار التدهور والعنف. يصعب
بالتأكيد تبرئة العوامل الخارجية من تأجيج الصراعات العربية الداخلية، لكن
فعل الخارج هذا يظل محدود الأثر إذا افتقد الممرات الداخلية التي تسهل فعه
هذا. يحتاج العرب إلى التبصر ملياً بالعوامل الموضوعية المسؤولة عن التصدع
الحالي بوصفها حصيلة لجملة تطورات عاشتها المنطقة العربية مداً وجزراً
وانتهت إلى أخطر النتائج في تطورها ألاً وهو اهتزاز بنى الدولة في العالم
العربي وتصدع مكوناتها.
طرحت حركة التحرر العربية مشروعاً تحديثياً منذ خمسينات القرن العشرين في
أعقاب معركة التحرر من الاستعمار. تركز البرنامج على قضايا التحرر الكامل
من الموروثات الاستعمارية وبناء أنظمة إستقلالية، وعلى إستكمال المعركة
القومية باستعادة فلسطين إلى احضان العالم العربي، وعلى برنامج اجتماعي
لتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ومنع استغلال الطبقات الفقيرة وتحقيق
المساواة والعدالة الاجتماعية، وإنجاز إصلاح سياسي يتيح لأوسع الجماهير
المشاركة في السلطة وتقرير مصير البلاد، على ان يتوج هذا البرنامج بتحقيق
حلم العرب بالوحدة التي تشكل شرطاً لاستعادة موقعهم القوي، بما يضمن
استخدام الثروة العربية، البشرية منها والمادية، في مواجهة التحديات
والمنتصبة في وجه حركة الشعوب العربية الساعية إلى الحرية والاستقلال. إذا
كانت الناصرية شكَّلت طليعة هذا البرنامج واطلقته منذ الخمسينات من القرن
الماضي، إلا أن بنوده تحولت شعارات وأهدافاً للحركات الوطنية والتحررية في
كل قطر من أقطار العالم العربي.
كان واضحاً منذ البداية أن مشروع حركة التحرر القومي هذا لا يستقيم من دون
بناء دولة حديثة في كل قطر من الأقطار العربية. تثبت تجارب التاريخ الحديث
ان نشوء الدولة وثباتها يمثل أهم درجة في تطور هذا البلد أو ذاك ودخوله
مدار الحداثة. تحقق الدولة الاندماج الاجتماعي عبر قوانين تتيح للمواطن
الانتماء إلى مؤسسات الدولة وتسمح بمساواة بين أبناء البلد بعيداً عن
التصنيفات الدينية أو الطائفية أو العرقية أو القبلية.. لم يكن الأمر
بسيطاً على أنظمة الاستقلال الناشئة أن تتوصل إلى ترسيخ مقومات الدولة
بالمعنى الحداثي خصوصاً في مجتمعات عربية لا تزال مقومات ما قبل والعِرق،
عوامل مقررة في الانتماء إلى الوطن وفي تعاطي هذه المكونات مع المؤسسات
الوليدة للدولة، واعتبارها ممراً لهذه الدولة بالذات، لم يكن من السهل
الوصول إلى دولة عربية تقف فيها مؤسساتها فوق مكونات ماقبل الدولة وتحقق
بالتالي وحدة مجتمعية، وقيام مؤسسات تسود على المجتمع بكامله.
لم يتحقق مشروع حركة التحرر العربية وفق الأهداف التي حددها، وعندما وضع
على محك التطبيق، برزت المفارقة بين الادعاءات النظرية وبين الممارسة
العملية للسلطات التي تولت الحكم. بدلاً عن استكمال مهامات التحرر الوطني،
خسرت الأمة العربية مزيداً من الأراضي في مصر وسوريا وفلسطين امام العدو
الإسرائيلي ومساعدة الدول الاستعمارية له. وبدلاً من الاصلاحات الاقتصادية
والاجتماعية السياسية، وجد العالم العربي نفسه أمام أنظمة ديكتاتورية وقمع
للقوى التي لا تقول مقال السلطة، وإطباق على الحريات السياسية. أما في
الجانب الاقتصادي والاجتماعي فلم تشكل الثروات المادية الهائلة التي يملكها
العالم العربي مصدر تحسين حقيقي لأوضاع الإنسان العربي. ظل تحقيق الوحدة
العربية حلماً بعيداً زاد من صعوبة الوصول إليها ما تحقق من وحدات بين بعض
الأقطار. ثبت ان الفكر القابع وراء منطق الوحدة العربية لا يرى سوى عمليات
إلحاق قسري من هذا القطر إلى الآخر، أو سعياً للهيمنة بالقوة على جار أو
آخر، وغاب عن الفكر الوحدوي ان الديمقراطية شرط الوصول إليها وبالتالي
استمرارها، فيما يشكل الاخضاع أقصر الطرق للانفكاك وتحول العلاقة بين
البلدين والشعبين إلى علاقة عدائية.
هكذا سلكت السلطات القائمة عملية قسرية في توحيد مجتمعاتها أو في تحقيق
اندماجها. بدأ تكوّن الدولة مفصولاً عن الواقع الفعلي، وإستخدمت القوة
القمعية في طمس المكونات الأصلية لهذه المجتمعات، ورفضت وحدة قسرية على
البنى الداخلية لها بما سمح بالقول إن المنطقة العربية تجاوزت مكونات ما
قبل الدولة لصالح الدولة الحديثة!
كان يمكن لهذه التجربة أن تسود وتتثبت لو أن الأنظمة التي استولت على
السلطة تمكّنت من تحقيق البرنامج الطموح الذي سبق وطرحته. لكن الهزائم
المتتالية التي أصابتها خارجياً وداخلياً وعجزها عن حل المعضلات التي
تعيشها مجتمعاتها سمح للعناصر الأصلية لهذه البنى بأن تطفو على السطح
مجدداً متحدية هذه المرة منطق الدولة بوصفها القوة الموحدة للمجتمع، وان
تطرح نفسها بديلاً هذه المرة عن الدولة، أي السعي الدؤوب لانتقال مهمات
الدولة إلى الجماعات الطائفية أو العشائرية والقبلية. وقد سقنا للتو ثلاثة
نماذج معبّرة عن هذا الواقع الخطير، ممثّلة بالعراق ولبنان ومصر.
لا تشكل النماذج الثلاثة المشار إليها سوى عينات عما تزخر به المجتمعات
العربية من ألغام قابلة لأن تفجِّر بناها في أي منعطف من تطورها التاريخي.
لعل السبب الرئيسي، وليس الوحيد، هو العجز عن الدخول في الحداثة واستعصاء
المجتمعات العربية عليها. اظهرت التطورات التي شهدها العالم العربي أن ما
عرفه في مرحلة التحديث لم يكن سوى قشرة حداثية بالمعنى الشامل لمفهوم
الحداثة عنواناً للتطور والتقدم الاجتماعي والثقافي والسياسي. تشكل الدولة
أبرز معالم دخول هذا المجتمع أو ذاك في رحاب الحداثة، مما يعني إن النظر
إلى درجة تكوّن الدولة يشكل مقياساً لمدى تجاوز هذا المجتمع العناصر
البنيوية ذات الأصل الطائفي أو العشائري. في هذا المجال لا نظلم الطبقات
التي أمسكت بالسلطة منذ تحقيق الاستقلالات بالقول إنها عجزت عن بناء دولة
تسود فيها روح القانون وتغلِّب المصالح العامة على المصالح الفئوية وتطلق
مسار التطور الاجتماعي. فقد فشلت الأنظمة في بناء دولة، لكنها نجحت نجاحاً
باهراً في بناء سلطات وأجهزة أمنية سخّرتها في خدمة أنظمتها وسلطتها على
الشعب تنكيلاً واضطهاداً وقمعاً وقتلاً وتشريداً واسكاتاً للرأي. كان يمكن
لهذه الأنظمة أن تظل ممسكة برقاب المجتمع موحدة إياه بالسوط والمسدس لو
إنها استطاعت أن تحقق له حيزاً من الانتصارات على الصعيد الوطني أو القومي.
أو أن ترفع من شأنه الاقتصادي والاجتماعي. ان سلطات قائمة لم تقدم إلى
شعوبها سوى الهزائم ستجد نفسها وقد مُسِّت في هيبتها وبالتالي حدوث تصدّعٍ
في بناها، وبالتالي عودة المجتمع إلى مقومات ماقبل الدولة وسيلة للحماية
والرعاية.
سادت في حركة التحرر العربية بعض النظريات التي وضعت في صلب أهدافها محاربة
الدولة وصولاً إلى تحطيمها. صدر منها عن أساس نظري قالت به الماركسية وبعض
النظريات الفوضوية من إعتبار الدولة أداة في يد الطبقة الحاكمة تستخدمها
في قمع الطبقة العاملة وسائر الجماهير الشعبية، مما يعني أن شرط تحرير هذه
الجماهير يمر عبر تحطيم بنى هذه الدولة وأدواتها، هو أمر أثبت التاريخ عدم
صحته، فيما خلط آخرون بين الدولة ككيان وأرض وشعب ومؤسسات، وبين السلطة أو
الحكم السائد في فترة محددة.
إن فشل مشروع الدولة في العالم العربي يمثّل أكبر نكوص عن المشروع
الحداثوي، ومن المؤسف أن الدولة عادت لتشكل "مقولة"- أو في أحسن الأحوال-
"فكرة" من أجل المستقبل. وأسوأ ما في الأمر ان الوصول إلى تحقيقها بات
حلماً لا يعرف المواطن العربي متى يتحقق وبأي طريقة.
المصدر: كتاب المجتمعات العربية المأزومة وإعاقات الحداثة المركّبة
البلاغ
* خالد غزال
يقدم المشهد العربي الراهن صورة سوداء للواقع الذي تعيشه المجتمعات العربية
من المحيط إلى الخليج. تتميّز هذه الصورة باندلاع حروب أهلية مذهبية
وطائفية تمعن تقسيماً وشرذمة في بنى هذه المجتمعات. تتشابه لوحة الأحداث في
العراق ولبنان واليمن والسودان والجزائر وغيرها من البلدان التي تعيش
حروباً أهلية باردة أحياناً وساخهة في أغلب الأوقات. يسود تبسيط في تعيين
المسؤولية عن الانحدار فتُلصق التهمة بالتدخلات الأجنبية التي تزكي نار
الفتن خدمة لمصالحها الخاصة، فيما يسدل ستار من التعتيم على الأسباب
البنيوية الداخلية التي يعود إليها بشكل رئيسي مسار التدهور والعنف. يصعب
بالتأكيد تبرئة العوامل الخارجية من تأجيج الصراعات العربية الداخلية، لكن
فعل الخارج هذا يظل محدود الأثر إذا افتقد الممرات الداخلية التي تسهل فعه
هذا. يحتاج العرب إلى التبصر ملياً بالعوامل الموضوعية المسؤولة عن التصدع
الحالي بوصفها حصيلة لجملة تطورات عاشتها المنطقة العربية مداً وجزراً
وانتهت إلى أخطر النتائج في تطورها ألاً وهو اهتزاز بنى الدولة في العالم
العربي وتصدع مكوناتها.
طرحت حركة التحرر العربية مشروعاً تحديثياً منذ خمسينات القرن العشرين في
أعقاب معركة التحرر من الاستعمار. تركز البرنامج على قضايا التحرر الكامل
من الموروثات الاستعمارية وبناء أنظمة إستقلالية، وعلى إستكمال المعركة
القومية باستعادة فلسطين إلى احضان العالم العربي، وعلى برنامج اجتماعي
لتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ومنع استغلال الطبقات الفقيرة وتحقيق
المساواة والعدالة الاجتماعية، وإنجاز إصلاح سياسي يتيح لأوسع الجماهير
المشاركة في السلطة وتقرير مصير البلاد، على ان يتوج هذا البرنامج بتحقيق
حلم العرب بالوحدة التي تشكل شرطاً لاستعادة موقعهم القوي، بما يضمن
استخدام الثروة العربية، البشرية منها والمادية، في مواجهة التحديات
والمنتصبة في وجه حركة الشعوب العربية الساعية إلى الحرية والاستقلال. إذا
كانت الناصرية شكَّلت طليعة هذا البرنامج واطلقته منذ الخمسينات من القرن
الماضي، إلا أن بنوده تحولت شعارات وأهدافاً للحركات الوطنية والتحررية في
كل قطر من أقطار العالم العربي.
كان واضحاً منذ البداية أن مشروع حركة التحرر القومي هذا لا يستقيم من دون
بناء دولة حديثة في كل قطر من الأقطار العربية. تثبت تجارب التاريخ الحديث
ان نشوء الدولة وثباتها يمثل أهم درجة في تطور هذا البلد أو ذاك ودخوله
مدار الحداثة. تحقق الدولة الاندماج الاجتماعي عبر قوانين تتيح للمواطن
الانتماء إلى مؤسسات الدولة وتسمح بمساواة بين أبناء البلد بعيداً عن
التصنيفات الدينية أو الطائفية أو العرقية أو القبلية.. لم يكن الأمر
بسيطاً على أنظمة الاستقلال الناشئة أن تتوصل إلى ترسيخ مقومات الدولة
بالمعنى الحداثي خصوصاً في مجتمعات عربية لا تزال مقومات ما قبل والعِرق،
عوامل مقررة في الانتماء إلى الوطن وفي تعاطي هذه المكونات مع المؤسسات
الوليدة للدولة، واعتبارها ممراً لهذه الدولة بالذات، لم يكن من السهل
الوصول إلى دولة عربية تقف فيها مؤسساتها فوق مكونات ماقبل الدولة وتحقق
بالتالي وحدة مجتمعية، وقيام مؤسسات تسود على المجتمع بكامله.
لم يتحقق مشروع حركة التحرر العربية وفق الأهداف التي حددها، وعندما وضع
على محك التطبيق، برزت المفارقة بين الادعاءات النظرية وبين الممارسة
العملية للسلطات التي تولت الحكم. بدلاً عن استكمال مهامات التحرر الوطني،
خسرت الأمة العربية مزيداً من الأراضي في مصر وسوريا وفلسطين امام العدو
الإسرائيلي ومساعدة الدول الاستعمارية له. وبدلاً من الاصلاحات الاقتصادية
والاجتماعية السياسية، وجد العالم العربي نفسه أمام أنظمة ديكتاتورية وقمع
للقوى التي لا تقول مقال السلطة، وإطباق على الحريات السياسية. أما في
الجانب الاقتصادي والاجتماعي فلم تشكل الثروات المادية الهائلة التي يملكها
العالم العربي مصدر تحسين حقيقي لأوضاع الإنسان العربي. ظل تحقيق الوحدة
العربية حلماً بعيداً زاد من صعوبة الوصول إليها ما تحقق من وحدات بين بعض
الأقطار. ثبت ان الفكر القابع وراء منطق الوحدة العربية لا يرى سوى عمليات
إلحاق قسري من هذا القطر إلى الآخر، أو سعياً للهيمنة بالقوة على جار أو
آخر، وغاب عن الفكر الوحدوي ان الديمقراطية شرط الوصول إليها وبالتالي
استمرارها، فيما يشكل الاخضاع أقصر الطرق للانفكاك وتحول العلاقة بين
البلدين والشعبين إلى علاقة عدائية.
هكذا سلكت السلطات القائمة عملية قسرية في توحيد مجتمعاتها أو في تحقيق
اندماجها. بدأ تكوّن الدولة مفصولاً عن الواقع الفعلي، وإستخدمت القوة
القمعية في طمس المكونات الأصلية لهذه المجتمعات، ورفضت وحدة قسرية على
البنى الداخلية لها بما سمح بالقول إن المنطقة العربية تجاوزت مكونات ما
قبل الدولة لصالح الدولة الحديثة!
كان يمكن لهذه التجربة أن تسود وتتثبت لو أن الأنظمة التي استولت على
السلطة تمكّنت من تحقيق البرنامج الطموح الذي سبق وطرحته. لكن الهزائم
المتتالية التي أصابتها خارجياً وداخلياً وعجزها عن حل المعضلات التي
تعيشها مجتمعاتها سمح للعناصر الأصلية لهذه البنى بأن تطفو على السطح
مجدداً متحدية هذه المرة منطق الدولة بوصفها القوة الموحدة للمجتمع، وان
تطرح نفسها بديلاً هذه المرة عن الدولة، أي السعي الدؤوب لانتقال مهمات
الدولة إلى الجماعات الطائفية أو العشائرية والقبلية. وقد سقنا للتو ثلاثة
نماذج معبّرة عن هذا الواقع الخطير، ممثّلة بالعراق ولبنان ومصر.
لا تشكل النماذج الثلاثة المشار إليها سوى عينات عما تزخر به المجتمعات
العربية من ألغام قابلة لأن تفجِّر بناها في أي منعطف من تطورها التاريخي.
لعل السبب الرئيسي، وليس الوحيد، هو العجز عن الدخول في الحداثة واستعصاء
المجتمعات العربية عليها. اظهرت التطورات التي شهدها العالم العربي أن ما
عرفه في مرحلة التحديث لم يكن سوى قشرة حداثية بالمعنى الشامل لمفهوم
الحداثة عنواناً للتطور والتقدم الاجتماعي والثقافي والسياسي. تشكل الدولة
أبرز معالم دخول هذا المجتمع أو ذاك في رحاب الحداثة، مما يعني إن النظر
إلى درجة تكوّن الدولة يشكل مقياساً لمدى تجاوز هذا المجتمع العناصر
البنيوية ذات الأصل الطائفي أو العشائري. في هذا المجال لا نظلم الطبقات
التي أمسكت بالسلطة منذ تحقيق الاستقلالات بالقول إنها عجزت عن بناء دولة
تسود فيها روح القانون وتغلِّب المصالح العامة على المصالح الفئوية وتطلق
مسار التطور الاجتماعي. فقد فشلت الأنظمة في بناء دولة، لكنها نجحت نجاحاً
باهراً في بناء سلطات وأجهزة أمنية سخّرتها في خدمة أنظمتها وسلطتها على
الشعب تنكيلاً واضطهاداً وقمعاً وقتلاً وتشريداً واسكاتاً للرأي. كان يمكن
لهذه الأنظمة أن تظل ممسكة برقاب المجتمع موحدة إياه بالسوط والمسدس لو
إنها استطاعت أن تحقق له حيزاً من الانتصارات على الصعيد الوطني أو القومي.
أو أن ترفع من شأنه الاقتصادي والاجتماعي. ان سلطات قائمة لم تقدم إلى
شعوبها سوى الهزائم ستجد نفسها وقد مُسِّت في هيبتها وبالتالي حدوث تصدّعٍ
في بناها، وبالتالي عودة المجتمع إلى مقومات ماقبل الدولة وسيلة للحماية
والرعاية.
سادت في حركة التحرر العربية بعض النظريات التي وضعت في صلب أهدافها محاربة
الدولة وصولاً إلى تحطيمها. صدر منها عن أساس نظري قالت به الماركسية وبعض
النظريات الفوضوية من إعتبار الدولة أداة في يد الطبقة الحاكمة تستخدمها
في قمع الطبقة العاملة وسائر الجماهير الشعبية، مما يعني أن شرط تحرير هذه
الجماهير يمر عبر تحطيم بنى هذه الدولة وأدواتها، هو أمر أثبت التاريخ عدم
صحته، فيما خلط آخرون بين الدولة ككيان وأرض وشعب ومؤسسات، وبين السلطة أو
الحكم السائد في فترة محددة.
إن فشل مشروع الدولة في العالم العربي يمثّل أكبر نكوص عن المشروع
الحداثوي، ومن المؤسف أن الدولة عادت لتشكل "مقولة"- أو في أحسن الأحوال-
"فكرة" من أجل المستقبل. وأسوأ ما في الأمر ان الوصول إلى تحقيقها بات
حلماً لا يعرف المواطن العربي متى يتحقق وبأي طريقة.
المصدر: كتاب المجتمعات العربية المأزومة وإعاقات الحداثة المركّبة
البلاغ