السعادة الأسرية و سقف الطموحات
*د. سمير يونس
من حق كل إنسان أن تكون له طموحات وتطلعات، والطموح صفة إيجابية محمودة،
لكنها قد تكون سلبية مذمومة، وذلك عندما تكون تطلعات الشخص أكثر وأعظم من
قدراته، وكذلك إذا لم يكن لتلك التطلعات والطموحات سقف يحدده الفرد لنفسه؛
فيسعى شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، متكالباً على الدنيا، حريصاً عليها،
فيضيع بذلك أسياسيات حياته ومماته، وذلك لاضطراب التوازن بين أموره،.
إليك عزيزي القارىء قصة الصيادَيْنِ:
خرج صيادان في رحلة صيد، فاصطاد
أحدهما سمكة كبيرة، فوضعها في حقيبته، وقال لصاحبه: الحمد لله على عطائه،
هذه السمكة تكفيني وزوجتي وأولادي أياماً، وقد اصطدتها بعد عناء وصبر، وإني
قانع بها، وأريد أن أجلس مع زوجتي وأولادي؛ لأنني منذ أيام لم أجلس معهم،
وأنا في حاجة إلى الائتناس بهم، والجلوس معهم، ثم همّ الرجل بالانصراف.
فقال له الصياد الثاني: دَعْكَ من الجلوس مع أولادك؛ وانتظر لتصطاد مزيداً
من الأسماك، فإن جلوسك مع أسرتك لا يحقق لك صيداً ولا مالاً!! فقال الرجل:
ولماذا أصطاد السمك الكثير ولديّ ما يكفيني وأسرتي أياماً؟ فرد عليه صديقه:
عندما تصطاد سمكاً كثيراً تبيعه؟ فسأله: ولماذا أبيعه؟ فأجابه: لتحصل على
مزيد من المال. فسأله: ولماذا أجمع مزيداً من المال؟ فأجابه صديقه: تزيد به
رصيدك، وتنمي به ثروتك. فسأله: ولماذا أزيد مالي وأُنمي ثروتي؟ فرد الرجل:
لكي تصبح ثرياً. فسأله الصديق: وماذا سأفعل بالثراء؟ فرد الرجل: كي تستمع
بحياتك، وتسعد مع زوجتك وأولادك عندما تكبر. فقال له الصياد العاقل: ولماذا
أؤخر سعادتي إلى أن أكبر، أنا الآن يا صديقي أفعل ذلك، وأستمتع بحياتي مع
زوجتي وأولادي وأنا قوي قبل أن أضعف وقبل ضياع العمر، فلماذا أؤجل سعادتي إلى شيخوختي؟ وهل تضمن
أنت أن تعيش لحظة قادمة كي تؤجل سعادتك؟!
لقد أطلق كلٌّ من «لوراناش،
وهوارد ستيفنسون» صيحة يحذران فيها من النجاح المراوغ الزائف، الذي يفترس
عمر الإنسان، فيظل متعطشاً للمزيد، دون أن يشعر بالارتواء...
إنهما بذلك
يسميان الطموح بلا سقف «النجاح الزائف المراوغ». إن الإنسان العاقل الحكيم
هو الذي يستطيع أن يقول: «لا»، في الوقت المناسب، ويقاوم الشهوة والأضواء
والثروة والجاه والسلطان، ويوازن بين ذلك كله وضروريات الحياة وواجباته
التي تحقق السعادة الحقيقية.
أما الشخص الذي لا يضع سقفاً لطموحاته فإنه في حقيقة الأمر يستنزف عمره
ويستبدل شقاءه بسعادته، إنه يسير في عكس المسار الذي الذي رسمه له ربه.
الطماع كالنملة على ظهر الفيل يقول «فنس بوسنت»:
«لقد أصبح الإنسان في
عالمنا هذا كالنملة التي تمتطي ظهر الفيل، تتجه شرقاً بينما هو يتجه غرباً،
ومن ثم يستحيل أن تصل هذه النملة إلى ما تريد».
إن الإنسان الذي لا يضع
سقفاً لطموحاته ليشبه هذه النملة.. إنه يعيش معركتين: معركة داخلية مع نفسه
في عقله الباطن، بسبب أطماعه الطاغية، ومعركة ثانية مع العالم شديد التغير
المليء بالضغوط، ومثل هذا الإنسان الذي يعيش هاتين المرحلتين لا يصل أبداً
إلى سر السعادة.
سر السعادة
يُحكى أن أحد التجار أرسل بابنه إلى حكيم
يعلمه «سر السعادة»، مشى الفتى أربعين يوماً حتى وصل إلى قصر جميل على قمة
جبل وفيه يسكن الرجل الحكيم، فوجد جمعاً كبيراً من الناس في انتظار
أدوارهم، لمقابلة الرجل الحكيم، وانتظر الفتى ساعتين حتى جاء دوره، ولما
قابله الحكيم طلب منه أن يتجول في القصر، ثم يعود لمقابلته بعد ساعتين،
وأعطى الحكيم الفتى ملعقة صغيرة، بها نقطتان من زيت الزيتون، وطلب منه أن
يمسك بالملعقة في أثناء تجواله في القصر، و أن يحافظ على نقطتي الزيت حتى لا ينسكبا. عاد الفتى بعد ساعتين لمقابلة الرجل
الحكيم؛ فسأله عن معالم القصر، واعترف بأنه لم يشاهد شيئاً؛ لأنه وجّه
تركيزه للحفاظ على نقطتي الزيت، وهنالك قال الحكيم للفتى: ارجع وتعرّف على
معالم القصر، فعاد الفتى يتجول في القصر منتبهاً، يرصد روائعه الفنية،
وتحفه الجميلة، والحديقة الغناء، وما بها من ورود وأشجار وثمار. ولما رجع
الفتى، وحكى للرجل الحكيم ما شاهده بدقة، فسأله: وأين نقطتا الزيت التي
نبهتك إلى الحفاظ عليهما؟ فنظر الفتى إلى الملعقة فلم يجد بها نقتطي الزيت،
فقال له الحكيم: «سر السعادة أن توازن بين أمور حياتك، فنقطتا الزيت هما
الستر والصحة، ومعالم القصر هي زينة الدنيا، فالسعادة هي حاصل ضرب التوازن
بين الأشياء»! وتكون التعاسة أشد وأنكى كلما اتسعت الفجوة بين طموحات الشخص
وبين قدراته وإمكاناته. ومن السفاهة أن يطغى الإنسان في جمع المال، وهو
يعلم أنه ربما لا يعيش حتى يستمتع بهذا المال، فهو يجمعه ويستمتع به غيره،
ويحاسب هو عليه، وفي ذلك يقول الأضبط بن قريع: اقنع من الدهر بما أتاك به
من قرَّ عيناً بعيشه نفعه قد يجمع المال غير آكله ويأكل المال غير من جمعه
الطماع كالسنجاب «إن الفرد يجلب
لنفسه التعاسة إذا اتسعت الفجوة بين قدراته وطموحاته..
إن التعساء في هذه
الحياة يعيشون بعقلية السنجاب، فالسناجب تفتقر إلى القدرة على التنظيم،
برغم نشاطها وحيويتها، فهي تقضي عمرها في قطف ثمار البندق وتخزينها بكميات
تزيد على احتياجاتها كثيراً، فإلى متى نجري لاهثين نجمع ونجمع ولا نكتفي،
ولا نضع سقفاً لطموحاتنا يناسب قدراتنا؟!
يروى في القصص الصينية القديمة، أن ملكاً أراد أن يكافئ شخصاً من شعبه،
فقال له: امتلك من الأرض كل المساحات التي تستطيع أن تقطعها سيراً على
قدميك. فراح الرجل، وشرع يقطع الأرض مسرعاً ومهرولاً في جنون، وبعد أن قطع
مسافة طويلة فكر أن يعود للملك، ليمنحه المساحة التي قطعها، ولكنه غيَّر
رأيه، وقرر مواصلة السير ليحصل على المزيد، وسار مسافات أطول وأطول، ثم فكر
في أن يعود للملك مكتفياً، بما وصل إليه، ولكنه تردد مرة أخرى، وقرر
مواصلة السير ليحصل على المزيد والمزيد، ظل الرجل يسير ويسير ولم يعد
أبداً، فقد ضل طريقه، وهلك في الأرض الذي ظن أنها ستسعده، فأطغته وأغرته
وأغوته، لقد سقط صريعاً لما أصابه من عنت وإنهاك، لقد هلك هذا الرجل لأنه
لم يضع حداً لكفايته، ولم يحدد سقفاً لطموحاته، فقتله الطمع وطول الأمل.
البلاغ