البلاغ:الثقافة والتربية الأسرية
*د.محمّد عبدالهادي
الأسرة وحدة إجتماعية تنتمي إلى طبقة إجتماعية ليست ذات طبيعة واحدة وتتوجه بنسق ثقافي يتقارب مع الثقافة العامة ولكن لا يفقد خاصيته. مما يغلب على الثقافة الأسرية أنّ الطفل يلعب به ولا يلاعب، فهو أداة تسلية.. إنّ هذا الكائن الطفل لا يستمد قيمته من ذاته، بل من مقدار النفع المادي أو المعنوي الذي يحمله لأهله، ومنذ البداية يوضع تحت التصرف والتدجين، وكثيراً ما ينتظر الآباء من أبنائهم تحقيق آمال الآباء المحبطة، التي لم يستطيعوا هم تحقيقها، ويحاولون تنشئة أطفالهم على صورتهم من حيث السلوك والمهنة وغير ذلك، وقد لا تتطابق الصورة التي ينتظرونها من أبنائهم مع الصورة الفعلية للأبناء، وفي هذه الحالة قد يكون الإرهاب التربوي هو السبيل لإجبار هذه الكينونة البشرية على أن تنقلب بصورة مصطنعة غير سوية.
وإنّ سلطة الأهل يمكن أن تأخذ شكلين أساسيين: سلطة قهرية وسلطة عقلية، حيث تقوم السلطة القهرية على مبدأ الطاعة، بينما تقوم السلطة العقلية على مبدأ التفاهم. وغني عن البيان أنّ السلطة – أياً كانت – يصاحبها – في غالب الأحيان – عنف. وانّ العنف الذي يمارس في الأسرة يأخذ أبعاداً إجتماعية تتجاوز حدود ما هو قائم أو سائد في الأسرة عينها فـ"الأسرة لا تلبي إحتياجات الكبار في المحافظة على سلطتهم فحسب ولكنها تلبي أيضاً إحتياجات أرباب المؤسسات الإجتماعية الأخرى". وعلى هذا الأساس تتم عملية إعادة إنتاج القهر والتسلّط والعبودية في المجتمع بصورة واضحة. وانّ التنشئة تسعى إلى أن تخلق الطاعة والأدب عند الطفل. والأساليب التي يلجأ إليها الأهل غالباً هي العقاب البدني ثمّ خلق المخاوف عند الطفل عن طريق كائنات خرافية. والتسلّط يأخذ طابع العنف بأشكاله المختلفة الرمزية والنفسية والمادية، ويتأسس على حواجز نفسية وتربوية كبيرة تقوم بين أطراف العملية التربوية في الأسرة والمدرسة؛ حيث لا يسمح للأطفال في المدرسة أو الأسرة بإبداء آرائهم أو توجيه إنتقاداتهم. ويمكن التمييز في هذا السياق بين مجموعتين من العقوبات التي يتأسس عليها التسلّط التربوي، وهما:
- أساليب القمع النفسي مثل: الإزدراء، الإحتقار، الامتهان، السخرية، التهكم، التبخيس، أحكام الدونية، التخويف والحرمان.
- أساليب العقاب البدني والفيزيائي مثل: الضرب بأشكاله المختلفة وبأدواته المتنوعة، الحرمان، السجن والمنع، فالعلاقات القائمة في بيئة التسلّط هي علاقات قوامها التباين بين أطراف هذه العلاقة، بين الكبير والصغير، بين القوي والضعيف، بين السيد والمسود، بين الغالب والمغلوب، بين الآمر والمأمور، وذلك كله دون وجود حدود وسطى لطبيعة التطرف في هذه العلاقات القائمة بين أفراد الأسرة. وغالباً ما تعتمد العقوبات النفسية التي يكون أثرها أكثر خطراً من أثر العقوبات الجسدية في التأثير في شخصية الطفل وهدمها.
ومن الأساليب النفسية المعتمدة في تربية التسلّط أساليب التحقير، الازدراء والتوبيخ، فبعض الآباء والأُمّهات يبحثون عن أخطاء الطفل ويبدون ملاحظات نقدية هدّامة لسلوكه، مما يفقد الطفل ثقته بنفسه، ويجعله متردداً في أي عمل يقدم عليه خوفاً من حرمانه من رضا الكبار وحبهم. ويعامل بعض الآباء أطفالهم بروح القسوة والتعسف ظناً منهم أنّ هذه القسوة تصلح من شأنهم وحالهم، وهم لا يعرفون بأنّ ذلك يفقد الطفل تدريجياً أهم مقومات تكامله النفسي ونموه الإنفعالي والعقلي.
وغالباً ما ينتمي الآباء المتسلّطون إلى بيئة تربوية متسلّطة وإلى أسر متسلّطة تمارس العنف والإكراه في العملية التربوية. ولذلك فإنّ هذه الممارسات تنبع وتتدفق عفوياً من دواخلهم. فالخبرات التربوية القاسية التي عاشها الآباء في طفولتهم تشكل منطلق الممارسات التربوية الجلفاء في مرحلة الرشد، الرجولة والكهولة. وغالباً ما يكون الأطفال والأبناء وأحياناً الزوجات ضحايا تلك الممارسات التربوية القاسية لهؤلاء الآباء (الإنفجارات العصبية التي تأخذ مسار التفريغ السيكولوجي) وفي هذا المجال تشير دراسات متعددة إلى أنّ الآباء الذي يعانون إضطرابات نفسية هم غالباً هؤلاء الذين يمارسون الطغيان والإستبداد وتنسحب هذه الحالة على وضعية الأُمّهات المطلقات اللواتي يستخدمن السلطة لتعزيز إحساسهنّ بالوجود، فهنّ عاطفيات إلى حد التملك، حيث يرفضن أن يمنحن أطفالهنّ أي إستقلال، أو يمنعهم من المشاركة في أي مبادرة مهما يكن أمرها.
وتنطلق التربية المتسلطة هذه من خلفيات ثقافية تتمثل في مبادئ تربوية؛ أبوية المنشأ، تقليدية الإتجاه ومنها "أنّ الطفل الصغير صفحة بيضاء، وانّ التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، وانّ الطفل راشد صغير له ما للكبير من قدرات وبخاصة على المستوى الأخلاقي، وانّ الطفل ينطوي على نزعة شريرة يجب أن تستأصل بالعقاب والإكراه، وذلك كله يبرر إستخدام العقاب ضده في كل شاردة وواردة".
بإختصار، تفتقر الأجواء التربوية التسلطية إلى العلاقات الإنسانية الدافئة، وتوجد بين أفراد هذه الأسر حواجز نفسية وإجتماعية وأخلاقية تدفع الطفل إلى مزيد من أحاسيس البؤس والشقاء والعدمية.
وإنّ الأطفال ضحايا العنف التربوي، لا يمثلون نموذجاً واحداً، وذلك لأنّ النتائج النفسية للعنف مرهونة بالوضعية والشروط التي يوجد فيها العنف نفسه.
وفي هذا المجال يؤكد فيلو (Filloux) على أهمية السلطة والحرِّية والتجربة الإنفعالية للفرد في تكوين الشخصية الفردية (تأثير الأسرة، الأقرباء والأصدقاء أيضاً).
ومن غير أدنى شك أنّ التسلط التربوي ينمي في الشخصية قيم البغضاء، الضغينة، التسلطن التصلب، الجمود، الكراهية، القلق، الخجل، الإضطراب، الإثم، مركب النقص، فقدان القدرة على التكيف، الإتكالية وروح الإنهزام. وعلى المستوى المعرفي لا يمكن لهذه التربية أن تنمي في الإنسان القدرة على الإبداع وحب التحصيل أو الميل إلى تأكيد الذات وحضورها. ويمكن أسلوب التسلط في أصل العقد والأمراض النفسية.
كما أنّ تربية الإكراه والتسلّط تؤدي إلى عملية هدم في الشخصية، وإلى حالة أزمة متواصلة ومستمرة تفقد فيها الشخصية مشاعر الإحساس بالأمن والإنتماء والثقة إلخ...
وأخيراً نقول أنّ السلطة، مهما تكن ضرورتها أو شرعيتها، تغري مَن يمتلكها بممارسة التعسف والعنف، وهو إغراء يتملّك ممارسها، وأنّ العنف هو بالضرورة حصاد هذه الغواية وذاك الإغراء... وهذا ينسحب على التسلّط التربوي بالطبع، الذي يقوم على مفهوم أو على مبدأ الإلزام والإكراه والإفراط في إستخدام السلطة الأبوية، ويقوم على مبدأ العلاقات العامودية، العلاقات بين السيد والمسود، بين الكبير والصغير، بين القوي والضعيف، بين التابع والمتبوع، ويمارس العنف هنا بأشكاله النفسية والفيزيائية ويقوم على أساس:
1- التباين في القوة بين الأب والأُم.
2- اللجوء إلى العنف بأشكاله.
3- المجافاة الإنفعالية والعاطفية بين الآباء والأبناء.
4- وجود حواجز نفسية وتربوية بين الآباء والأبناء.
ويتم اللجوء هنا إلى أساليب القمع والإزدراء والإحتقار والتهكم والامتهان والتبخيس، وأحكام الدونية والحرمان والعقاب الجسدي، وهناك غياب كامل لعلاقات الحب والحنان والتساند والتعاطف.
لكن هل تعد كل ممارسة لسلطة المربي تسلّطاً؟
وهل يقع التسلّط التربوي في دائرة التناقض القائم بين المطالب النمائية للطفل وإستراتيجية التربية وفقاً لتصورات المربي الإجتماعية؟
ثمّ هل كل تأثير سلبي في سلوك الطفل تسلّطاً، أم أنّ هذا التأثير يجب أن يصل إلى شدّة معينة كي يصبح إرهاباً وتسلّطاً؟
نجيب هنا بأنّ التسلّط عملية تستهدف غاية وتتعلق بنوع التقنيات المستخدمة في ضبط السلوك (سلوك الضحية): كالعقاب، الحرمان، التعزيزي إلخ... حتى التعزيز هو نوع من التسلّط، التعسف أو العنف.
كما مؤكد على دور الأسرة، لاسيّما الأسرة المثقفة، إذ يتوجب عليها مراقبة الأطفال والأولاد بهدف إكتشاف ميولهم وتنمية قدراتهم كما يجب أن تؤمن لهم جواً ملائماً من الأمن الإجتماعي... لاسيما في مرحلة الطفولة الأولى (من الولادة وحتى 3 إلى 5 سنوات) والتي يسميها علماء النفس بالشخصية الأساسية، هذه المرحلة هي من إختصاص الأسرة حتى ولو دخل الطفل إلى المدرسة وحتى ولو وضع في حاضنات الأطفال (الحضانة أو رياض الأطفال)؛ فالأسرة تظل مسؤولة عنه، ليس فقط لجهة تأمين الحاجات الغذائية، بل لتأمين جو صالح لنموه السليم. وفيما بعد تخف مسؤولية الأسرة وتنتقل إلى مؤسسة أخرى هي المدرسة، كما يقول علماء النفس، لا تعدّل في السلوك كثيراً بل تبقى شخصية الطفل ذات طابع أولي.
إذاً، أنّ السنوات الأولى هي السنوات التكوينية للطفل. في هذه الفترة العمرية تتفتح المشاعر الطبيعية ومسؤولية العائلة أن تؤمن الحنان، الدفء والأمان لأطفالها إلى جانب الغذاء والمسكن والحياة الهانئة. وهي تمدهم بعاداتها وتفيدهم بخبراتها.
ولاشكّ في أنّ الطفل/ الولد يتعرض لمواقف ومؤثرات تساهم في تكوين شخصيته، وان جانباً كبيراً من عملية التعليم والتربة والتعلّم (التنشئة) يتمثل في تأمين الحاجات الإنسانية بأساليب معينة. ولكي تنمّي الأسرة الضمير الإنساني والأخلاقي لأبنائها، فلابدّ أن تزرع في شخصياتهم جملة أمور هامة تتمثل في:
- الإيمان بالمثل العليا: كالحقيقة، الجمال الخير إلخ...
- إحترام الطبيعة وما خلق الله عليها من إنسان، نبات وجماد.
- إحترام الغير، وهذا يتم تعليمه من خلال إحترامنا لأنفسنا ولغيرنا.
- الإنفتاح الذي يحقق جانباً من جوانب التوازن في شخصية الطفل – الإنسان عن طريق تنمية عواطفه وإنفعالاته في مجالات واسعة.
- قبول التعاون مع الأطفال الآخرين وتباين حاجة الطفل إلى الغير.
- دفع الطفل للقيام بنشاطات جماعية (أعمال كشفية، رحلات، حفلات، زيارات إلخ...) وإشعاره بمدى أهمية الجماعة وتماسكها، مما ينعكس إيجاباً على عملية انخراطه في المجتمع. وهكذا، فإن مسؤولية الأسرة كبيرة جدّاً، لأنّ الصورة التي سيكون عليها الإنسان متوقفة إلى حد بعيد على الصور التي سجلها الطفل لوالديه كل على حدة، وفي الوقت نفسه لباقي أفراد الأسرة.
من هنا ضرورة التيقظ عند الأهل والجهوزية الدائمة لتقديم صور بمواصفات حميدة، قويمة السلوك، متزنة الإنفعالات، نقية الضمير، لكي يحفرها الطفل في ذاكرته الخاصة. لأنّ دور الأسرة – كمؤسسة إجتماعية – هو أن تعيد إنتاج جزء من ثقافة المجتمع عبر نقلها لقيم المجتمع الثقافية، عاداته، تقاليده ومفاهيمه.
- لكن أيّة أسرة؟
بالطبع، الأسرة المثقفة. فلقد أدرك المربون والباحثون – على حد سواء – أنّ الأولاد الوافدين من بعض البيوت يتعلمون في المدرسة أفضل من أقرانهم الوافدين من بيوت أخرى في نفس المجتمع... فالتلاميذ الذين ينمون في أسر تتميز بمستوى ثقافي عالٍ يختلفون عن أقرانهم الوافدين من أوساط ثقافية متوسطة، ومن هنا فإن هؤلاء التلاميذ عندما يأتون إلى المدرسة يكونوا متأثرين بثقافة أسرهم ونظرتها للحياة، الأمر الذي يساعدهم على القيام بواجباتهم المدرسية خير قيام.
وهكذا فإنّ الناقل الأوّل للثقافة هو العائلة، فهي التي تطبع الأطفال بطابع الأنماط الثقافية السائدة وترسم لهم مقاييس الحياة الإجتماعية.. ولأنّ الأطفال يذهبون إلى المدرسة حاملين بذور الفضائل والعيوب أيضاً التي تخلقوا بها في بيوتهم وبيئتهم... فهذا ولد متزن، هادئ، ذكي، شديد الثقة بالنفس، مرن وقابل للتكيّف وذلك مضطرب، قلق خائف، نفور أو منطوٍ على نفسه، أو غبي أو مهمل... وهذا ولد يعيش في جو بيتي صالح، منحه المحبة المتزن وعلّمه الثقة بالنفس، وزوّده بالخبرة اللازمة وحَرصَ على صحته الجسدية والنفسية، وعلى إستقراره العاطفي، وعلى سلامة نطقه وكلامه وجعله قادراً على التكيّف الإجتماعي، وذلك ولد يعيش في جوّ عائلي مشحون بالبغضاء والمشاجرة، أو في بيت هجره أوبه أو أُمّه، أو في بيت تُرِكَ فيه أمر تربيته للخدم، أو في بيئة أغرقته في سيل من العطف والدلال، وإلى ما هنالك من أجواء غير صالحة تجعل عمل المدرسة صعباً ما لم يساندها الأهل على تنمية ما هو صالح في أبنائهم، وإصلاح ما هو فاسد، وتقويم نجاحهم أو فشلهم، أو تأخرهم أو مدى تكيّفهم.
وهكذا فالعائلة تتحمل المسؤولية الأساسية في تكوين الشخصية، السلوكية الإنسانية عبر التربية الإجتماعية، الأخلاقية والمدنية التي تمنحها لأبنائها، أما كيفية قيام الأسرة بمهامها فهي عبر التعليم.
وهذا ما يفرض تعلّم الأسرة أوّلاً... كما المطلوب منها أن تقرّب من أبنائها مفهوم النظام الإجتماعي ووظيفته في الحياة وهذه أمور تكتسب مع الوقت تدرجاً مع النمو العقلي للولد وتطوّر حاسته الإجتماعية.
وفي الأسرة يتلقى الطفل كثيراً من الخبرات والمهارات الأساسية، فيمتصها عن طريق التقليد والمحاكاة... والطفل في نهاية المطاف – هو الذي يدفع ثمن فشل أو نجاح العمل التربوي (الأسري أو المدرسي)... أضف إلى ذلك أنّ للسلوك الإجتماعي، الذي يتحرف في إطاره الطفل، مؤثرات بالغة على نموه؛ وهذه المؤثرات تلتحم إلتحاماً شديداً مع مؤثرات المدرسة لتستوي مع كل هذا عمليات بناء الشخصية.
- ويبقى أن نسأل عن دور المرأة أو دور الأُم في الأسرة؟
فالأُم مدرسة... هكذا قالوا. وهذا هو الواقع... وهي بذلك تحمل مسؤولة كبيرة في التنشئة فربّما تحمل ثلاثة أرباع هذه المسؤولة أو أكثر.. فالأُم هي المعلّم الأوّل، لذا يجب أن تتمتع بقدر مهم من العلم والثقافة كي توجه الأبناء نحو الفضيلة.. فبالعلم والثقافة تمكن المرأة أو الأُم من إدارة مؤسستها "مملكتها الصغيرة" وتنشئة أولادها تنشئة سليمة...
وبما أنّ الأُم هي الركن الأساسي الذي يساعد في بناء الأسرة السعيدة والناجحة. وهكذا فإن أي خلل في مستواها الثقافي أو في وضعها الصحي، أو في علاقاتها مع زوجها وأولادها من شأنّه أن يعرّض الأسرة للتفكك والدمار، وهذا ما أكدته نتائج بعض الدراسات التي أظهرت إرتباطات إيجابية بين مستوى التعليم (تعليم الأُم) ومدى تنظيم أسرتها ووعيها ومسؤوليتها إتّجاه الأبناء، وبين نجاح الأبناء وإستمرارهم في دراستهم؛ مما يظهر بالتالي في إنتاجية المجتمع.
هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى فلقد أثبتت بعض الدراسات على أن هناك علاقة وثيقة بين التحصيل الدراسي وبين مستوى تعليم الأهل (وهذه العلاقات إيجابية جدّاً فنسبة الأميين بين أُمّهات وآباء المتأخرين دراسياً هي نسبة مرتفعة، وقد شملت هذه الدراسات الجنسين معاً في الريف والمدينة).
ومما لاشكّ فيه، أنّ الأبناء يتأثروا بجميع أحوال الأسرة الإجتماعية، الثقافية، الإقتصادية والسياسية أيضاً...
ولقد تبين من مئات الدراسات والأبحاث أن أسلوب الآباء في معاملة أطفالهم يترتب عليه نتائج عميقة وباقية الأثر... ولقد أكدّت هذه الدراسات على أنّ الطفل الذي أنعم الله عليه بوالدين ذكيين عاطفياً يستفيد فائدة عظيمة، لأن أسلوب تبادل المشاعر فيما بينهما، بالإضافة إلى تعاملها المباشر مع الطفل، يمنحان أطفالهما الأذكياء دروساً عميقة إعتماداً على توافقهم مع عمليات التبادل العاطفية في الأسرة.
وقد ثبت أن أسوأ الأساليب العاطفية الأبوية الشائعة هي:
* تجاهل المشاعر تماماً. (ينظر الآباء إلى قلق أطفالهم على انّه شيء تافه وممل).
* أسلوب دعه وشأنه. (يقدّم الآباء لأبنائهم الرشوة كمغريات بهدف المساعدة على التخلص من الحزن والغضب).
* أسلوب احتقار مشاعر الطفل وعدم إحترامها. (يعمد الآباء إلى منع الطفل في إظهار غضبه، ويعاقبونه إذا ما ظهرت منه أقل علامة من التأثر، فيصرخون قائلين: "اسكت تماماً، لا تردّ عليّ...").
* انتهاز توتر الطفل واضطرابه. (أي عدم التفكير في مشاعر الطفل بجدية كافية، ومحاولة فهم ما يزعجه بالتحديد إضافة إلى التخفيف من مشاعره المتوترة.
ولكي يكون الآباء سنداً فاعلاً لأطفالهم، ينبغي عليهم أنفسهم أن يكونوا متمكنين من مبادئ الذكاء العاطفي المتمثل في:
- تنظيم المجموعات.
- الحلول التفاوضية.
- العلاقات الشخصية.
- التحليل الإجتماعي.
وهذه المبادئ يعبّر عنها بمسائل علائقية هامة تتمثل في:
- تناغم الآباء مع مشاعر أطفالهم.
- تمييز المشاعر المختلفة بنفاذ بصيرة وحنكة.
- التعبير عن المشاعر بصدق.
- القدرة على التعاطف.
وكل هذا يرتبط حتماً بالنضج – كونه محطة بالغة الخطورة في حياة الإنسان. وإذا كنّا قد أكّدنا على دور الأُم وتأثيرها في حياة الطفل، فهذا لا يلغي الدور الذي يمارسه الأب رغم أنّه ضئيلاً ولا يمكنه أن يكون بديلاً للعناية الأمومية في المرحلة الأولى من حياة الطفل، ومع ذلك ليس موضوعياً تحديد السن الذي يجب أن تبدأ في عناية الأب وإهتمامه بتربية الطفل، ولا يمكن أبداً رسم حدود فاصلة بين دوري الأُم والأب.. فكلاهما يمارسان تأثيراً نوعياً مختلفاً ومستمراً في حياة الطفل، ويتباين تأثير كل منهما مع النمو العمري للطفل... فالأب يمتلك السلطة من وجهة نظر الطفل، والأُم تمتلك الحب الذي تقدِّمه له... ونحن نعتقد أنّ السلطة والحب لا يتعارضان بل يتكاملان ويترابطان، وهما يشكلان الركيزتين الأساسيتين لعملية نمو الطفل، ولاسيّما في المستوى العاطفي.. لكنّه، وفي بعض الأحيان، يكون هناك إفراط في حب الأطفال من قبل الأُمّهات. فيصبح الحب في هذه الحالة، إمتلاكياً لا تضحوياً، يؤدي إلى إعاقة نمو الطفل العاطفي.
لهذا السبب، يجب أن يكون هناك توازن بين أدوار الأبوين في الأسرة. وإذا كان الآباء يتولون فعلياً الدور المركزي في العملية التربوية، ولكنهم غالباً ما يناشدون الآخرين مساعدتهم، وذلك بصورة متقطعه وأحياناً دورية أو حتى بصورة دائمة في بعض الحالات... والطفل قادر على التمييز بين مختلف الأدوار القائمة، حيث يعلن عن تمرده وعن احتجاجه وذلك عندما يريد الأخ الأكبر (أو الأخت) تربية الطفل، ويتزايد هذا الدور مع تزايد عمل الأُم خارج المنزل.. ومن الملاحظ أنّ الأجداد غالباً ما يميلون إلى سلوك التسامح والمحبة مع أحفادهم، وهذا الأمر يعزى في غالب الأحيان إلى كبر السن الذي يصقل الطباع عند الإنسان.
بيد أننا نؤكد مرّة أخرى على أهمية النضج الوالدي في العملية التربوية وتحقيق التوازن في الأدوار الأسرية. والسلطة التربوية غالباً ما تعاني من عيوب النقص أو الإفراط في الإستخدام، وهذه الظاهرة – سلطة الإفراط والتفريط – ليست جديدة، بل هي قديمة قدم الزمان. ويلاحظ اليوم أن ضعف السلطة يكاد يسود بالقياس إلى الإفراط في إستخدامها في أغلب المجتمعات (بإستثناء التربية العربية) وينبع هذا الضعف في السلطة الأسرية من ضعف تماسك الأسرة، الذي يقوم على أساس غياب الأبوين، وعملهما خارج المنزل.
والتساهل الذي يصدر عن الوالدين يدفع الطفل إلى الهروب من المنزل... وإنّ الوصول إلى إلغاء السلطة العائلية يؤدي في نهاية المطاف إلى إلغاء السلطات الإجتماعية.
وفي النهاية يمكن القول بأن ضعف السلطة وغيابها يكافئان من حيث المبدأ حضور التسلط والإفراط في السلطة من حيث النتائج النفسية – الإجتماعية والتربوية التي يمكن أن تترتب على ذلك.
ونحن نعتقد أنّ التربية الحقة هي التي تقود الطفل – الإنسان إلى الحرِّية والثقافة والإبداع.. هي تربية المعرفة عن طريق تربية العقل، مع الحفاظ على خصوصيتنا الثقافية لكن دون التقوقع والتحجر عندها، على العكس يجب أن تأخذ التربية طريقها إلى معالم النهضة، الحرِّية، وثبة العقل وانفتاح الفكر سواء كان ذلك على مستوى مؤسسة الأسرة أم المدرسة، المعهد والجامعة إلخ... كل ذلك بهدف إحياء النزعة العقلية عند الناشئة والمتعلمين وصولاً إلى بناء الإنسان الحر القادر على تمثل المعرفة وإنتاجها بصورة إبداعية.
وإذا كانت المعرفة البشرية بطبيعتها متحولة.. تاريخ.. إنها حياة ذات تاريخ وطبيعة تفاعلية تحولية دائماً وأبداً. هي التجربة الإنسانية القائمة على الفعل/ الفكر، وعلى التفاعل الذي هو جوهر روح المعاشرة الإجتماعية وجذر نشأة الثقافة.
فالثقافة منتج إجتماعي لتكييف فرص ومناخ الفعل والتفاعل الإجتماعيين. ويتم تجسيدها عبر سلوك... هكذا يكون وجودها حيّ.
- لكن كيف يتم التعبير عن ذلك؟
إنّ مصير الأُمم في عصر المعلومات – عصرنا هذا – رهن بإبداع أبنائها، لذا فتنمية الإبداع والخيال، لها نصيبها الوافر في تربية عصر المعلومات، ومرّة أخرى، توفر تكنولوجيا المعلومات وسائل عدة لتحقيق هذه الغاية، نذكر منها على سبيل المثال:
1- اتباع أساليب التعلّم بالإكتشاف، ومن خلال التجربة والخطأ.
2- التعلُّم من الآخرين من خلال الحوار والمشاركة عن بعد عبر الإنترنيت.
3- إستخدام حضانات المعرفة، مما يتيح المجال الكي يمارس الفرد – كل فرد – بأن يمارس دور المكتشف، المخترع والمبدع.
وهذا يتطلب قبل كل شيء تربية أهل التربية كي يقوموا بدورهم على أكمل وجه...
ونحن نتكلّم عن تربية الإبداع، فلابدّ من تضافر جميع الجهود لتحقيق ذلك (الجهود التربوية، الإجتماعية، الإعلامية، الإقتصادية، السياسية إلخ...).
فكيف يمكن أن ينمو الإبداع ولدينا – نسبة فقر كبيرة وهذا يعيق عملية المعرفة ومتابعتها؟
ثمّ كيف يمكن أن ينمو الإبداع في مدارسنا ومؤسساتنا التربوية، في ظل مجتمع إستهلاكي لا يعرف إلاّ الإستهلاك؟
وفي ظل حشو تعليمي (عقول كاملة الإمتلاء!!! ولكنها ليست حسنة الإعداد؟!!!).
وكيف يمكن للأسرة إكتشاف مواهب صغارها في مرحلة مبكرة، والحرص عليها، وزيادة مناعتها، ضد آفة التقي السلبي في منظومتنا التربوية؟.
وهل يمكن لنا أن نحدّد أي نوع من الإبداع نريده لفئاتنا الإجتماعية المختلفة؟.
هذه التساؤلات لا تجد طريقها إلى الحلّ في الأمد القريب – في بلادنا – إلاّ إذ خطت العملية التربوية خطوة ثورية متمثلة في إعادة النظر بالأهداف التربوية المتوخاة والمطلوبة لإنسان الألف الثالث. فالتربية هي ساحة إلتقاء النفسي، الإجتماعي، السياسي، الإقتصادي إلخ... وعلاقتها بالمجتمع بمنزلة متغير تابع للفلسفة التربوية التي تسير على هداها... إذاً هل يتوجب تغيير فلسفتنا التربوية أم نكتفي بتغيير النظرة إلى التربية (الأهداف). نحن نعتقد انّه بتغيير الأهداف نحقق ما نتوخاه. وفي ظل هذا العصر المتزايد السرعة (تكنولوجيا المعلومات) تتهاوى أسوار المؤسسات التربوية التي تفصل التربية عن مجتمعها وصولاً إلى أن يصبح المجتمع – بأسره – هو المدرسة القصوى، لتتلاشى الحدود الفاصلة بين التربية والتنمية، ويصبح العالم هو الصف المدرسي "مُكَبّراً"، والصف المدرسي هو العالم "مصغراً".
وهكذا وفي ظل المتغيّر المعلوماتي، لم يعد إنعزال تربيتنا عن واقع مجتمعنا أمراً مقبولاً يمكن التجاوز عنه.
أخيراً، إنّ مقاربة موضوع الثقافة يتطلب معرفة نظرية وخبرة عملية وهذا ينسحب على موضوع الثقافة الأسرية التي تعتبر مصدر لكل ثقافة، ومقاربتنا لهذا الموضوع هي محاولة الربط بين الثقافة من جهة والإنسان والمجتمع من جهة أخرى؛ على إعتبار أنّ الأسرة تتوجه بنسق ثقافي يتقارب مع الثقافة العامة لكن لا يفقد خصوصيته. سيما وأن أمامنا تحديات علمية وتكنولوجية فحسب، بل تحديات إجتماعية وثقافية أيضاً، في هذا العصر، الذي يتطلب منّا تعميق معرفتنا بـ: حواسنا، ذواتنا، بغيرنا وبعالمنا. إضافة إلى تنمية قدراتنا الذهنية.
وهذا يتطلب منّا تنشئة (بصفتها تعني العمل للمستقبل)؛ والوقفة "المستقبلية" تلائم التربية كل ملائمة. فنحن مع الطفل/ الإنسان بصفته كائناً فاعلاً ذا مقاصد، مع المعرفة بصفتها مساهم إنسانية ومع الكيفية التي تفسر بها معرفتنا حول العالم، وحول بعضنا البعضز وهذا تأكيد، من جيد، على دور الأسرة الثقافي.
وفي النهاية، لا بديل لأولوية الثقافة، التي أصبحت منظومتها تشمل التنمية بأسرها كعنصر ضمن عناصرها الأخرى.
المصدر: كتاب إجتماعيات التربية
*د.محمّد عبدالهادي
الأسرة وحدة إجتماعية تنتمي إلى طبقة إجتماعية ليست ذات طبيعة واحدة وتتوجه بنسق ثقافي يتقارب مع الثقافة العامة ولكن لا يفقد خاصيته. مما يغلب على الثقافة الأسرية أنّ الطفل يلعب به ولا يلاعب، فهو أداة تسلية.. إنّ هذا الكائن الطفل لا يستمد قيمته من ذاته، بل من مقدار النفع المادي أو المعنوي الذي يحمله لأهله، ومنذ البداية يوضع تحت التصرف والتدجين، وكثيراً ما ينتظر الآباء من أبنائهم تحقيق آمال الآباء المحبطة، التي لم يستطيعوا هم تحقيقها، ويحاولون تنشئة أطفالهم على صورتهم من حيث السلوك والمهنة وغير ذلك، وقد لا تتطابق الصورة التي ينتظرونها من أبنائهم مع الصورة الفعلية للأبناء، وفي هذه الحالة قد يكون الإرهاب التربوي هو السبيل لإجبار هذه الكينونة البشرية على أن تنقلب بصورة مصطنعة غير سوية.
وإنّ سلطة الأهل يمكن أن تأخذ شكلين أساسيين: سلطة قهرية وسلطة عقلية، حيث تقوم السلطة القهرية على مبدأ الطاعة، بينما تقوم السلطة العقلية على مبدأ التفاهم. وغني عن البيان أنّ السلطة – أياً كانت – يصاحبها – في غالب الأحيان – عنف. وانّ العنف الذي يمارس في الأسرة يأخذ أبعاداً إجتماعية تتجاوز حدود ما هو قائم أو سائد في الأسرة عينها فـ"الأسرة لا تلبي إحتياجات الكبار في المحافظة على سلطتهم فحسب ولكنها تلبي أيضاً إحتياجات أرباب المؤسسات الإجتماعية الأخرى". وعلى هذا الأساس تتم عملية إعادة إنتاج القهر والتسلّط والعبودية في المجتمع بصورة واضحة. وانّ التنشئة تسعى إلى أن تخلق الطاعة والأدب عند الطفل. والأساليب التي يلجأ إليها الأهل غالباً هي العقاب البدني ثمّ خلق المخاوف عند الطفل عن طريق كائنات خرافية. والتسلّط يأخذ طابع العنف بأشكاله المختلفة الرمزية والنفسية والمادية، ويتأسس على حواجز نفسية وتربوية كبيرة تقوم بين أطراف العملية التربوية في الأسرة والمدرسة؛ حيث لا يسمح للأطفال في المدرسة أو الأسرة بإبداء آرائهم أو توجيه إنتقاداتهم. ويمكن التمييز في هذا السياق بين مجموعتين من العقوبات التي يتأسس عليها التسلّط التربوي، وهما:
- أساليب القمع النفسي مثل: الإزدراء، الإحتقار، الامتهان، السخرية، التهكم، التبخيس، أحكام الدونية، التخويف والحرمان.
- أساليب العقاب البدني والفيزيائي مثل: الضرب بأشكاله المختلفة وبأدواته المتنوعة، الحرمان، السجن والمنع، فالعلاقات القائمة في بيئة التسلّط هي علاقات قوامها التباين بين أطراف هذه العلاقة، بين الكبير والصغير، بين القوي والضعيف، بين السيد والمسود، بين الغالب والمغلوب، بين الآمر والمأمور، وذلك كله دون وجود حدود وسطى لطبيعة التطرف في هذه العلاقات القائمة بين أفراد الأسرة. وغالباً ما تعتمد العقوبات النفسية التي يكون أثرها أكثر خطراً من أثر العقوبات الجسدية في التأثير في شخصية الطفل وهدمها.
ومن الأساليب النفسية المعتمدة في تربية التسلّط أساليب التحقير، الازدراء والتوبيخ، فبعض الآباء والأُمّهات يبحثون عن أخطاء الطفل ويبدون ملاحظات نقدية هدّامة لسلوكه، مما يفقد الطفل ثقته بنفسه، ويجعله متردداً في أي عمل يقدم عليه خوفاً من حرمانه من رضا الكبار وحبهم. ويعامل بعض الآباء أطفالهم بروح القسوة والتعسف ظناً منهم أنّ هذه القسوة تصلح من شأنهم وحالهم، وهم لا يعرفون بأنّ ذلك يفقد الطفل تدريجياً أهم مقومات تكامله النفسي ونموه الإنفعالي والعقلي.
وغالباً ما ينتمي الآباء المتسلّطون إلى بيئة تربوية متسلّطة وإلى أسر متسلّطة تمارس العنف والإكراه في العملية التربوية. ولذلك فإنّ هذه الممارسات تنبع وتتدفق عفوياً من دواخلهم. فالخبرات التربوية القاسية التي عاشها الآباء في طفولتهم تشكل منطلق الممارسات التربوية الجلفاء في مرحلة الرشد، الرجولة والكهولة. وغالباً ما يكون الأطفال والأبناء وأحياناً الزوجات ضحايا تلك الممارسات التربوية القاسية لهؤلاء الآباء (الإنفجارات العصبية التي تأخذ مسار التفريغ السيكولوجي) وفي هذا المجال تشير دراسات متعددة إلى أنّ الآباء الذي يعانون إضطرابات نفسية هم غالباً هؤلاء الذين يمارسون الطغيان والإستبداد وتنسحب هذه الحالة على وضعية الأُمّهات المطلقات اللواتي يستخدمن السلطة لتعزيز إحساسهنّ بالوجود، فهنّ عاطفيات إلى حد التملك، حيث يرفضن أن يمنحن أطفالهنّ أي إستقلال، أو يمنعهم من المشاركة في أي مبادرة مهما يكن أمرها.
وتنطلق التربية المتسلطة هذه من خلفيات ثقافية تتمثل في مبادئ تربوية؛ أبوية المنشأ، تقليدية الإتجاه ومنها "أنّ الطفل الصغير صفحة بيضاء، وانّ التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، وانّ الطفل راشد صغير له ما للكبير من قدرات وبخاصة على المستوى الأخلاقي، وانّ الطفل ينطوي على نزعة شريرة يجب أن تستأصل بالعقاب والإكراه، وذلك كله يبرر إستخدام العقاب ضده في كل شاردة وواردة".
بإختصار، تفتقر الأجواء التربوية التسلطية إلى العلاقات الإنسانية الدافئة، وتوجد بين أفراد هذه الأسر حواجز نفسية وإجتماعية وأخلاقية تدفع الطفل إلى مزيد من أحاسيس البؤس والشقاء والعدمية.
وإنّ الأطفال ضحايا العنف التربوي، لا يمثلون نموذجاً واحداً، وذلك لأنّ النتائج النفسية للعنف مرهونة بالوضعية والشروط التي يوجد فيها العنف نفسه.
وفي هذا المجال يؤكد فيلو (Filloux) على أهمية السلطة والحرِّية والتجربة الإنفعالية للفرد في تكوين الشخصية الفردية (تأثير الأسرة، الأقرباء والأصدقاء أيضاً).
ومن غير أدنى شك أنّ التسلط التربوي ينمي في الشخصية قيم البغضاء، الضغينة، التسلطن التصلب، الجمود، الكراهية، القلق، الخجل، الإضطراب، الإثم، مركب النقص، فقدان القدرة على التكيف، الإتكالية وروح الإنهزام. وعلى المستوى المعرفي لا يمكن لهذه التربية أن تنمي في الإنسان القدرة على الإبداع وحب التحصيل أو الميل إلى تأكيد الذات وحضورها. ويمكن أسلوب التسلط في أصل العقد والأمراض النفسية.
كما أنّ تربية الإكراه والتسلّط تؤدي إلى عملية هدم في الشخصية، وإلى حالة أزمة متواصلة ومستمرة تفقد فيها الشخصية مشاعر الإحساس بالأمن والإنتماء والثقة إلخ...
وأخيراً نقول أنّ السلطة، مهما تكن ضرورتها أو شرعيتها، تغري مَن يمتلكها بممارسة التعسف والعنف، وهو إغراء يتملّك ممارسها، وأنّ العنف هو بالضرورة حصاد هذه الغواية وذاك الإغراء... وهذا ينسحب على التسلّط التربوي بالطبع، الذي يقوم على مفهوم أو على مبدأ الإلزام والإكراه والإفراط في إستخدام السلطة الأبوية، ويقوم على مبدأ العلاقات العامودية، العلاقات بين السيد والمسود، بين الكبير والصغير، بين القوي والضعيف، بين التابع والمتبوع، ويمارس العنف هنا بأشكاله النفسية والفيزيائية ويقوم على أساس:
1- التباين في القوة بين الأب والأُم.
2- اللجوء إلى العنف بأشكاله.
3- المجافاة الإنفعالية والعاطفية بين الآباء والأبناء.
4- وجود حواجز نفسية وتربوية بين الآباء والأبناء.
ويتم اللجوء هنا إلى أساليب القمع والإزدراء والإحتقار والتهكم والامتهان والتبخيس، وأحكام الدونية والحرمان والعقاب الجسدي، وهناك غياب كامل لعلاقات الحب والحنان والتساند والتعاطف.
لكن هل تعد كل ممارسة لسلطة المربي تسلّطاً؟
وهل يقع التسلّط التربوي في دائرة التناقض القائم بين المطالب النمائية للطفل وإستراتيجية التربية وفقاً لتصورات المربي الإجتماعية؟
ثمّ هل كل تأثير سلبي في سلوك الطفل تسلّطاً، أم أنّ هذا التأثير يجب أن يصل إلى شدّة معينة كي يصبح إرهاباً وتسلّطاً؟
نجيب هنا بأنّ التسلّط عملية تستهدف غاية وتتعلق بنوع التقنيات المستخدمة في ضبط السلوك (سلوك الضحية): كالعقاب، الحرمان، التعزيزي إلخ... حتى التعزيز هو نوع من التسلّط، التعسف أو العنف.
كما مؤكد على دور الأسرة، لاسيّما الأسرة المثقفة، إذ يتوجب عليها مراقبة الأطفال والأولاد بهدف إكتشاف ميولهم وتنمية قدراتهم كما يجب أن تؤمن لهم جواً ملائماً من الأمن الإجتماعي... لاسيما في مرحلة الطفولة الأولى (من الولادة وحتى 3 إلى 5 سنوات) والتي يسميها علماء النفس بالشخصية الأساسية، هذه المرحلة هي من إختصاص الأسرة حتى ولو دخل الطفل إلى المدرسة وحتى ولو وضع في حاضنات الأطفال (الحضانة أو رياض الأطفال)؛ فالأسرة تظل مسؤولة عنه، ليس فقط لجهة تأمين الحاجات الغذائية، بل لتأمين جو صالح لنموه السليم. وفيما بعد تخف مسؤولية الأسرة وتنتقل إلى مؤسسة أخرى هي المدرسة، كما يقول علماء النفس، لا تعدّل في السلوك كثيراً بل تبقى شخصية الطفل ذات طابع أولي.
إذاً، أنّ السنوات الأولى هي السنوات التكوينية للطفل. في هذه الفترة العمرية تتفتح المشاعر الطبيعية ومسؤولية العائلة أن تؤمن الحنان، الدفء والأمان لأطفالها إلى جانب الغذاء والمسكن والحياة الهانئة. وهي تمدهم بعاداتها وتفيدهم بخبراتها.
ولاشكّ في أنّ الطفل/ الولد يتعرض لمواقف ومؤثرات تساهم في تكوين شخصيته، وان جانباً كبيراً من عملية التعليم والتربة والتعلّم (التنشئة) يتمثل في تأمين الحاجات الإنسانية بأساليب معينة. ولكي تنمّي الأسرة الضمير الإنساني والأخلاقي لأبنائها، فلابدّ أن تزرع في شخصياتهم جملة أمور هامة تتمثل في:
- الإيمان بالمثل العليا: كالحقيقة، الجمال الخير إلخ...
- إحترام الطبيعة وما خلق الله عليها من إنسان، نبات وجماد.
- إحترام الغير، وهذا يتم تعليمه من خلال إحترامنا لأنفسنا ولغيرنا.
- الإنفتاح الذي يحقق جانباً من جوانب التوازن في شخصية الطفل – الإنسان عن طريق تنمية عواطفه وإنفعالاته في مجالات واسعة.
- قبول التعاون مع الأطفال الآخرين وتباين حاجة الطفل إلى الغير.
- دفع الطفل للقيام بنشاطات جماعية (أعمال كشفية، رحلات، حفلات، زيارات إلخ...) وإشعاره بمدى أهمية الجماعة وتماسكها، مما ينعكس إيجاباً على عملية انخراطه في المجتمع. وهكذا، فإن مسؤولية الأسرة كبيرة جدّاً، لأنّ الصورة التي سيكون عليها الإنسان متوقفة إلى حد بعيد على الصور التي سجلها الطفل لوالديه كل على حدة، وفي الوقت نفسه لباقي أفراد الأسرة.
من هنا ضرورة التيقظ عند الأهل والجهوزية الدائمة لتقديم صور بمواصفات حميدة، قويمة السلوك، متزنة الإنفعالات، نقية الضمير، لكي يحفرها الطفل في ذاكرته الخاصة. لأنّ دور الأسرة – كمؤسسة إجتماعية – هو أن تعيد إنتاج جزء من ثقافة المجتمع عبر نقلها لقيم المجتمع الثقافية، عاداته، تقاليده ومفاهيمه.
- لكن أيّة أسرة؟
بالطبع، الأسرة المثقفة. فلقد أدرك المربون والباحثون – على حد سواء – أنّ الأولاد الوافدين من بعض البيوت يتعلمون في المدرسة أفضل من أقرانهم الوافدين من بيوت أخرى في نفس المجتمع... فالتلاميذ الذين ينمون في أسر تتميز بمستوى ثقافي عالٍ يختلفون عن أقرانهم الوافدين من أوساط ثقافية متوسطة، ومن هنا فإن هؤلاء التلاميذ عندما يأتون إلى المدرسة يكونوا متأثرين بثقافة أسرهم ونظرتها للحياة، الأمر الذي يساعدهم على القيام بواجباتهم المدرسية خير قيام.
وهكذا فإنّ الناقل الأوّل للثقافة هو العائلة، فهي التي تطبع الأطفال بطابع الأنماط الثقافية السائدة وترسم لهم مقاييس الحياة الإجتماعية.. ولأنّ الأطفال يذهبون إلى المدرسة حاملين بذور الفضائل والعيوب أيضاً التي تخلقوا بها في بيوتهم وبيئتهم... فهذا ولد متزن، هادئ، ذكي، شديد الثقة بالنفس، مرن وقابل للتكيّف وذلك مضطرب، قلق خائف، نفور أو منطوٍ على نفسه، أو غبي أو مهمل... وهذا ولد يعيش في جو بيتي صالح، منحه المحبة المتزن وعلّمه الثقة بالنفس، وزوّده بالخبرة اللازمة وحَرصَ على صحته الجسدية والنفسية، وعلى إستقراره العاطفي، وعلى سلامة نطقه وكلامه وجعله قادراً على التكيّف الإجتماعي، وذلك ولد يعيش في جوّ عائلي مشحون بالبغضاء والمشاجرة، أو في بيت هجره أوبه أو أُمّه، أو في بيت تُرِكَ فيه أمر تربيته للخدم، أو في بيئة أغرقته في سيل من العطف والدلال، وإلى ما هنالك من أجواء غير صالحة تجعل عمل المدرسة صعباً ما لم يساندها الأهل على تنمية ما هو صالح في أبنائهم، وإصلاح ما هو فاسد، وتقويم نجاحهم أو فشلهم، أو تأخرهم أو مدى تكيّفهم.
وهكذا فالعائلة تتحمل المسؤولية الأساسية في تكوين الشخصية، السلوكية الإنسانية عبر التربية الإجتماعية، الأخلاقية والمدنية التي تمنحها لأبنائها، أما كيفية قيام الأسرة بمهامها فهي عبر التعليم.
وهذا ما يفرض تعلّم الأسرة أوّلاً... كما المطلوب منها أن تقرّب من أبنائها مفهوم النظام الإجتماعي ووظيفته في الحياة وهذه أمور تكتسب مع الوقت تدرجاً مع النمو العقلي للولد وتطوّر حاسته الإجتماعية.
وفي الأسرة يتلقى الطفل كثيراً من الخبرات والمهارات الأساسية، فيمتصها عن طريق التقليد والمحاكاة... والطفل في نهاية المطاف – هو الذي يدفع ثمن فشل أو نجاح العمل التربوي (الأسري أو المدرسي)... أضف إلى ذلك أنّ للسلوك الإجتماعي، الذي يتحرف في إطاره الطفل، مؤثرات بالغة على نموه؛ وهذه المؤثرات تلتحم إلتحاماً شديداً مع مؤثرات المدرسة لتستوي مع كل هذا عمليات بناء الشخصية.
- ويبقى أن نسأل عن دور المرأة أو دور الأُم في الأسرة؟
فالأُم مدرسة... هكذا قالوا. وهذا هو الواقع... وهي بذلك تحمل مسؤولة كبيرة في التنشئة فربّما تحمل ثلاثة أرباع هذه المسؤولة أو أكثر.. فالأُم هي المعلّم الأوّل، لذا يجب أن تتمتع بقدر مهم من العلم والثقافة كي توجه الأبناء نحو الفضيلة.. فبالعلم والثقافة تمكن المرأة أو الأُم من إدارة مؤسستها "مملكتها الصغيرة" وتنشئة أولادها تنشئة سليمة...
وبما أنّ الأُم هي الركن الأساسي الذي يساعد في بناء الأسرة السعيدة والناجحة. وهكذا فإن أي خلل في مستواها الثقافي أو في وضعها الصحي، أو في علاقاتها مع زوجها وأولادها من شأنّه أن يعرّض الأسرة للتفكك والدمار، وهذا ما أكدته نتائج بعض الدراسات التي أظهرت إرتباطات إيجابية بين مستوى التعليم (تعليم الأُم) ومدى تنظيم أسرتها ووعيها ومسؤوليتها إتّجاه الأبناء، وبين نجاح الأبناء وإستمرارهم في دراستهم؛ مما يظهر بالتالي في إنتاجية المجتمع.
هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى فلقد أثبتت بعض الدراسات على أن هناك علاقة وثيقة بين التحصيل الدراسي وبين مستوى تعليم الأهل (وهذه العلاقات إيجابية جدّاً فنسبة الأميين بين أُمّهات وآباء المتأخرين دراسياً هي نسبة مرتفعة، وقد شملت هذه الدراسات الجنسين معاً في الريف والمدينة).
ومما لاشكّ فيه، أنّ الأبناء يتأثروا بجميع أحوال الأسرة الإجتماعية، الثقافية، الإقتصادية والسياسية أيضاً...
ولقد تبين من مئات الدراسات والأبحاث أن أسلوب الآباء في معاملة أطفالهم يترتب عليه نتائج عميقة وباقية الأثر... ولقد أكدّت هذه الدراسات على أنّ الطفل الذي أنعم الله عليه بوالدين ذكيين عاطفياً يستفيد فائدة عظيمة، لأن أسلوب تبادل المشاعر فيما بينهما، بالإضافة إلى تعاملها المباشر مع الطفل، يمنحان أطفالهما الأذكياء دروساً عميقة إعتماداً على توافقهم مع عمليات التبادل العاطفية في الأسرة.
وقد ثبت أن أسوأ الأساليب العاطفية الأبوية الشائعة هي:
* تجاهل المشاعر تماماً. (ينظر الآباء إلى قلق أطفالهم على انّه شيء تافه وممل).
* أسلوب دعه وشأنه. (يقدّم الآباء لأبنائهم الرشوة كمغريات بهدف المساعدة على التخلص من الحزن والغضب).
* أسلوب احتقار مشاعر الطفل وعدم إحترامها. (يعمد الآباء إلى منع الطفل في إظهار غضبه، ويعاقبونه إذا ما ظهرت منه أقل علامة من التأثر، فيصرخون قائلين: "اسكت تماماً، لا تردّ عليّ...").
* انتهاز توتر الطفل واضطرابه. (أي عدم التفكير في مشاعر الطفل بجدية كافية، ومحاولة فهم ما يزعجه بالتحديد إضافة إلى التخفيف من مشاعره المتوترة.
ولكي يكون الآباء سنداً فاعلاً لأطفالهم، ينبغي عليهم أنفسهم أن يكونوا متمكنين من مبادئ الذكاء العاطفي المتمثل في:
- تنظيم المجموعات.
- الحلول التفاوضية.
- العلاقات الشخصية.
- التحليل الإجتماعي.
وهذه المبادئ يعبّر عنها بمسائل علائقية هامة تتمثل في:
- تناغم الآباء مع مشاعر أطفالهم.
- تمييز المشاعر المختلفة بنفاذ بصيرة وحنكة.
- التعبير عن المشاعر بصدق.
- القدرة على التعاطف.
وكل هذا يرتبط حتماً بالنضج – كونه محطة بالغة الخطورة في حياة الإنسان. وإذا كنّا قد أكّدنا على دور الأُم وتأثيرها في حياة الطفل، فهذا لا يلغي الدور الذي يمارسه الأب رغم أنّه ضئيلاً ولا يمكنه أن يكون بديلاً للعناية الأمومية في المرحلة الأولى من حياة الطفل، ومع ذلك ليس موضوعياً تحديد السن الذي يجب أن تبدأ في عناية الأب وإهتمامه بتربية الطفل، ولا يمكن أبداً رسم حدود فاصلة بين دوري الأُم والأب.. فكلاهما يمارسان تأثيراً نوعياً مختلفاً ومستمراً في حياة الطفل، ويتباين تأثير كل منهما مع النمو العمري للطفل... فالأب يمتلك السلطة من وجهة نظر الطفل، والأُم تمتلك الحب الذي تقدِّمه له... ونحن نعتقد أنّ السلطة والحب لا يتعارضان بل يتكاملان ويترابطان، وهما يشكلان الركيزتين الأساسيتين لعملية نمو الطفل، ولاسيّما في المستوى العاطفي.. لكنّه، وفي بعض الأحيان، يكون هناك إفراط في حب الأطفال من قبل الأُمّهات. فيصبح الحب في هذه الحالة، إمتلاكياً لا تضحوياً، يؤدي إلى إعاقة نمو الطفل العاطفي.
لهذا السبب، يجب أن يكون هناك توازن بين أدوار الأبوين في الأسرة. وإذا كان الآباء يتولون فعلياً الدور المركزي في العملية التربوية، ولكنهم غالباً ما يناشدون الآخرين مساعدتهم، وذلك بصورة متقطعه وأحياناً دورية أو حتى بصورة دائمة في بعض الحالات... والطفل قادر على التمييز بين مختلف الأدوار القائمة، حيث يعلن عن تمرده وعن احتجاجه وذلك عندما يريد الأخ الأكبر (أو الأخت) تربية الطفل، ويتزايد هذا الدور مع تزايد عمل الأُم خارج المنزل.. ومن الملاحظ أنّ الأجداد غالباً ما يميلون إلى سلوك التسامح والمحبة مع أحفادهم، وهذا الأمر يعزى في غالب الأحيان إلى كبر السن الذي يصقل الطباع عند الإنسان.
بيد أننا نؤكد مرّة أخرى على أهمية النضج الوالدي في العملية التربوية وتحقيق التوازن في الأدوار الأسرية. والسلطة التربوية غالباً ما تعاني من عيوب النقص أو الإفراط في الإستخدام، وهذه الظاهرة – سلطة الإفراط والتفريط – ليست جديدة، بل هي قديمة قدم الزمان. ويلاحظ اليوم أن ضعف السلطة يكاد يسود بالقياس إلى الإفراط في إستخدامها في أغلب المجتمعات (بإستثناء التربية العربية) وينبع هذا الضعف في السلطة الأسرية من ضعف تماسك الأسرة، الذي يقوم على أساس غياب الأبوين، وعملهما خارج المنزل.
والتساهل الذي يصدر عن الوالدين يدفع الطفل إلى الهروب من المنزل... وإنّ الوصول إلى إلغاء السلطة العائلية يؤدي في نهاية المطاف إلى إلغاء السلطات الإجتماعية.
وفي النهاية يمكن القول بأن ضعف السلطة وغيابها يكافئان من حيث المبدأ حضور التسلط والإفراط في السلطة من حيث النتائج النفسية – الإجتماعية والتربوية التي يمكن أن تترتب على ذلك.
ونحن نعتقد أنّ التربية الحقة هي التي تقود الطفل – الإنسان إلى الحرِّية والثقافة والإبداع.. هي تربية المعرفة عن طريق تربية العقل، مع الحفاظ على خصوصيتنا الثقافية لكن دون التقوقع والتحجر عندها، على العكس يجب أن تأخذ التربية طريقها إلى معالم النهضة، الحرِّية، وثبة العقل وانفتاح الفكر سواء كان ذلك على مستوى مؤسسة الأسرة أم المدرسة، المعهد والجامعة إلخ... كل ذلك بهدف إحياء النزعة العقلية عند الناشئة والمتعلمين وصولاً إلى بناء الإنسان الحر القادر على تمثل المعرفة وإنتاجها بصورة إبداعية.
وإذا كانت المعرفة البشرية بطبيعتها متحولة.. تاريخ.. إنها حياة ذات تاريخ وطبيعة تفاعلية تحولية دائماً وأبداً. هي التجربة الإنسانية القائمة على الفعل/ الفكر، وعلى التفاعل الذي هو جوهر روح المعاشرة الإجتماعية وجذر نشأة الثقافة.
فالثقافة منتج إجتماعي لتكييف فرص ومناخ الفعل والتفاعل الإجتماعيين. ويتم تجسيدها عبر سلوك... هكذا يكون وجودها حيّ.
- لكن كيف يتم التعبير عن ذلك؟
إنّ مصير الأُمم في عصر المعلومات – عصرنا هذا – رهن بإبداع أبنائها، لذا فتنمية الإبداع والخيال، لها نصيبها الوافر في تربية عصر المعلومات، ومرّة أخرى، توفر تكنولوجيا المعلومات وسائل عدة لتحقيق هذه الغاية، نذكر منها على سبيل المثال:
1- اتباع أساليب التعلّم بالإكتشاف، ومن خلال التجربة والخطأ.
2- التعلُّم من الآخرين من خلال الحوار والمشاركة عن بعد عبر الإنترنيت.
3- إستخدام حضانات المعرفة، مما يتيح المجال الكي يمارس الفرد – كل فرد – بأن يمارس دور المكتشف، المخترع والمبدع.
وهذا يتطلب قبل كل شيء تربية أهل التربية كي يقوموا بدورهم على أكمل وجه...
ونحن نتكلّم عن تربية الإبداع، فلابدّ من تضافر جميع الجهود لتحقيق ذلك (الجهود التربوية، الإجتماعية، الإعلامية، الإقتصادية، السياسية إلخ...).
فكيف يمكن أن ينمو الإبداع ولدينا – نسبة فقر كبيرة وهذا يعيق عملية المعرفة ومتابعتها؟
ثمّ كيف يمكن أن ينمو الإبداع في مدارسنا ومؤسساتنا التربوية، في ظل مجتمع إستهلاكي لا يعرف إلاّ الإستهلاك؟
وفي ظل حشو تعليمي (عقول كاملة الإمتلاء!!! ولكنها ليست حسنة الإعداد؟!!!).
وكيف يمكن للأسرة إكتشاف مواهب صغارها في مرحلة مبكرة، والحرص عليها، وزيادة مناعتها، ضد آفة التقي السلبي في منظومتنا التربوية؟.
وهل يمكن لنا أن نحدّد أي نوع من الإبداع نريده لفئاتنا الإجتماعية المختلفة؟.
هذه التساؤلات لا تجد طريقها إلى الحلّ في الأمد القريب – في بلادنا – إلاّ إذ خطت العملية التربوية خطوة ثورية متمثلة في إعادة النظر بالأهداف التربوية المتوخاة والمطلوبة لإنسان الألف الثالث. فالتربية هي ساحة إلتقاء النفسي، الإجتماعي، السياسي، الإقتصادي إلخ... وعلاقتها بالمجتمع بمنزلة متغير تابع للفلسفة التربوية التي تسير على هداها... إذاً هل يتوجب تغيير فلسفتنا التربوية أم نكتفي بتغيير النظرة إلى التربية (الأهداف). نحن نعتقد انّه بتغيير الأهداف نحقق ما نتوخاه. وفي ظل هذا العصر المتزايد السرعة (تكنولوجيا المعلومات) تتهاوى أسوار المؤسسات التربوية التي تفصل التربية عن مجتمعها وصولاً إلى أن يصبح المجتمع – بأسره – هو المدرسة القصوى، لتتلاشى الحدود الفاصلة بين التربية والتنمية، ويصبح العالم هو الصف المدرسي "مُكَبّراً"، والصف المدرسي هو العالم "مصغراً".
وهكذا وفي ظل المتغيّر المعلوماتي، لم يعد إنعزال تربيتنا عن واقع مجتمعنا أمراً مقبولاً يمكن التجاوز عنه.
أخيراً، إنّ مقاربة موضوع الثقافة يتطلب معرفة نظرية وخبرة عملية وهذا ينسحب على موضوع الثقافة الأسرية التي تعتبر مصدر لكل ثقافة، ومقاربتنا لهذا الموضوع هي محاولة الربط بين الثقافة من جهة والإنسان والمجتمع من جهة أخرى؛ على إعتبار أنّ الأسرة تتوجه بنسق ثقافي يتقارب مع الثقافة العامة لكن لا يفقد خصوصيته. سيما وأن أمامنا تحديات علمية وتكنولوجية فحسب، بل تحديات إجتماعية وثقافية أيضاً، في هذا العصر، الذي يتطلب منّا تعميق معرفتنا بـ: حواسنا، ذواتنا، بغيرنا وبعالمنا. إضافة إلى تنمية قدراتنا الذهنية.
وهذا يتطلب منّا تنشئة (بصفتها تعني العمل للمستقبل)؛ والوقفة "المستقبلية" تلائم التربية كل ملائمة. فنحن مع الطفل/ الإنسان بصفته كائناً فاعلاً ذا مقاصد، مع المعرفة بصفتها مساهم إنسانية ومع الكيفية التي تفسر بها معرفتنا حول العالم، وحول بعضنا البعضز وهذا تأكيد، من جيد، على دور الأسرة الثقافي.
وفي النهاية، لا بديل لأولوية الثقافة، التي أصبحت منظومتها تشمل التنمية بأسرها كعنصر ضمن عناصرها الأخرى.
المصدر: كتاب إجتماعيات التربية