الدرس التونسي..إذا الشعب يوماً أراد الحياة.
* علي بدوان.
.........
قبل أكثر من ربع قرن مضى،و إبان خدمتي الوطنية العسكرية كضابط مجند في صفوف قوات أجنادين التابعة لجيش التحرير الفلسطيني،و في موقع متقدم على جبهة الجولان،و على بعد أمتار قليلة من قوات الإحتلال الإسرائيلية-الصهيونية،و تحديداً في المرتفع (2814) و المعروف بقمة جبل الشيخ أو قمة جبل حرمون،كتب أحد الجنود و بقلم (الفلوماستر) العريض على جدار إحدى (البركسات) تحت
الأرضية المخصصة لمبيتنا،بيتاً من الشعر قاله شاعر تونس أبو القاسم الشابي قبل عقود خلت:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة** فلابدّ أن يستجيب القدر.
في تلك الأثناء كان البيت الشعري إياه،الذي بتنا نقرأه طوال ساعات اليوم الواحد كلما وقعت أنظارنا عليه،يلخص درساً يومياً لنا،في عبره و مغازيه،و عامل تحفيز لنا في جهوزيتنا العسكرية، و في تحملنا أصقاع و ثلوج جبل الشيخ،كما في إيماننا الراسخ بأن إرادة الشعب تصنع المستحيل، و تستطيع أن تزيح عن صدر أي شعب كل أشكال المظالم،و أن تعيد تسطير حياته بطريقة ثانية من جديد،فأين نحن الآن من الدرس التونسي،و قد قال ابن تونس أبو القاسم الشابي قبل عقود طويلة: إن إرادة الشعب تفرض نفسها في نهاية المطاف؟
.........
- في الأسباب البعيدة للانتفاضة:
من نافلة القول بأن الحدث التونسي لم يأت دون مقدمات و ارتسامات و حراكات مستديمة على الأرض و في المجتمع و بناه المختلفة،لكنه جاء (صاعقاً و مفاجئاً) للعديد من الأطراف الدولية و خصوصاً منها فرنسا التي تحتفظ بعلاقات مميزة مع نظام بن علي،كما جاء (صاعقاً و مفاجئاً) لأركان النظام و قمة هرمه السياسي و الأمني الذين كانوا في رحلة الإطمئنان على استقرار النظام و حاله
بالرغم من تفشي الفساد و طغيان القمع و سوء الحال الإقتصادية لسواد الشعب على امتداد الأرض التونسية.
فقد كانت أجهزة الأمن التونسية تفرض سطوتها بقوة فولاذية على عموم تونس،و تكتم أنفاس الناس و تحصيها،و تكمم أفواه الجميع،و منها القوى السياسية على امتداد البلاد،و بكافة تلاوينها الفكرية و الأيديولوجية،من القوى و الإتجاهات الإسلامية إلى القوى اليسارية الديمقراطية المحسوبة على الصف العلماني،حيث باتت أعداد كبيرة من منتسبيها و مناصريها و قياداتها إما في السجون و المعتقلات داخل تونس أو في المنافي البعيدة خارج الأرض التونسية.
فالنظام التونسي هو الأشرس بوليسياً و الأكثر فساداً في المنطقة ضمن منظومة عائلات و أقارب أكلت الأخضر قبل اليابس.
و ساعده على ذلك ارتباط أجهزة الأمن التي يمتلكها بعلاقات مباشرة مع العديد من أنظمة القمع في العالم و مع أجهزة الغرب الإستخبارية،بل و تذهب العديد من المصادر لتأكيد مسألة الإختراق
المباشر لأجهزة أمن النظام من قبل جهاز (المخابرات الخارجية الإسرائيلية) المعروف بـ (موساد)، و هو ما بان واضحاً في اغتيال الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في أبريل/ نيسان عام 1988 في منزله بالقرب من حمامات الشط في العاصمة تونس.
لقد بلغت جهود و حدود القمع الأمني في تونس مداها في أكثر من مناسبة مرت على البلاد طوال السنوات التي تلت من وجود زين العابدين بن علي،و وصلت إلى حد التعدي على النقابات و الأطر الشعبية و الصحفيين و الزج بهم في زنازين الإعتقال.
كما وصلت الجهود الأمنية إلى حد تفاخر الرئيس بن علي بأن تونس استطاعت أن تخمد نشاط و وجود حركات "التطرف الأصولي الإسلامي الإرهابي" و ذلك في سياق تسويق نظامه أمام الغرب الأوروبي و الولايات المتحدة.
و ذلك على الرغم من نفي الجميع لوجود أي ظاهرة من مظاهر التطرف الإسلامي في تونس،فحركة النهضة التي تمثل التيار الإسلامي العريض في تونس،تتسم بالإعتدال و الوسطية،و لم يسجل عليها ارتكاب أي أعمال تطرف خلال العقود الماضية،قبل و بعد فزاعة (القاعدة) و التطرف الأصولي التي أصبحت الشماعة التي تلقى عليها آثام القمع السلطوي الفاشي المسلط على رقاب الناس في العديد من بلداننا العربية و عموم بلدان العالم الثالث خصوصاً البلدان الإسلامية منها،بل و وصلت الأمور في تونس إلى حد تقييد حركة ارتياد الناس للمساجد عبر تخصيص مسجد محدد لكل مواطن،بحيث لا يمكنه الصلاة في مسجد آخر.
إن سمة الإعتدال و الوسطية،لم تشفع لحركة النهضة في تونس على سبيل المثال،و لم تنجها من سيف الملاحقة و العقاب،فتعرضت لعملية قمع شديدة،دفعت بقائدها راشد الغنوشي للإقامة في المنافي،و هو ما وقع بحق باقي القوى التونسية بما فيها القوى الديمقراطية اليسارية العلمانية التي تعرضت بدورها اما إلى القمع المباشر كما حصل مع بعض منها،أو إلى المحاصرة و التضييق المستمر في
سياق السعي لتدجينها وراء يافطة النظام.
و عليه،فإن غياب الديمقراطية الحقيقية،و غياب الحريات السياسية و النقابية،و طغيان و تغول أجهزة الأمن،و امتداد أذرعتها الأخطبوطية في عموم المجتمع و حياة الناس،كانت بمثابة أسباب بعيدة للانتفاضة التونسية.
............
- الأسباب المباشرة و الفرز الطبقي:
إن هبّة و انتفاضة شعب تونس الخضراء،جاءت في أسبابها المباشرة،في سياقات التململ الكبير الذي بدأ بالغليان في مرجل المثالب الكبرى التي باتت تدمغ ببصماتها أركان النظام هناك،و على رأسها انتشار الفساد و المحسوبية،و ازدياد حدة الفرز الطبقي في المجتمع التونسي بين من يبسطون يدهم على مصدر القرار السياسي و يمتلكون الثروة الوطنية و يستولون و يتحكمون بمصادرها و هم قلة،و بين عامة الناس الذين يشكلون البنية التحتية لعموم المجتمع التونسي.
و بالتالي،فإن تلك المعادلة ذات الفرز الطبقي الحاد و الصارخ،أدت تلقائياً لبروز اصطفافات طبقية (أو لنقل اقتصادية) تبلورت رويداً رويداً،و هي إصطفافات لا مكان لسواد الناس فيها سوى القاع و القعر الإقتصادي في السلّم العام لمعيشة التوانسة و أحوالهم،من الفاقة و العوز و العيش ما دون خط الفقر،و فقدان الرعاية الصحية و خدمات الإغاثة الإجتماعية المفترضة من قبل الدولة.
حتى أصبحت حياة الناس في الشارع و المجتمع،تسير من سيئ إلى أسوأ لأسباب تتعلق بحالة الفساد المستشرية و المترافقة مع تدهور الوضع المعيشي و انفلات الرشاوى و سرقة المال العام،و انتفاخ دور مراكز قوى عسكرتاريا الأمن و المخابرات،في مشهد متكرر يُذكر بنماذج القمع و الإرهاب و الفساد المستشري في العديد من دول العالم الثالث.
لقد أشعلت حالة العوز و الفاقة،و الفقر المدقع لقطاعات غالبية الناس الشرارة الأولية التي أدت لاندلاع اللهيب في عموم الأرض التونسية من شمالها إلى جنوبها و من شرقها إلى غربها،في مشهد يُذكرنا بما وقع في أكثر من بلد في العالم،من الفلبين التي غادرها الدكتاتور فرديناند ماركوس هرباً من شعبه الذي نهض بالرغم من وطأة الضغط و الإجهاد المثقل عليه،إلى إيران التي هز
شعبها و دحر ركيزة أساسية من ركائز التبعية للغرب الإستعماري في ثورة حملت مضامين إجتماعية إقتصادية جذرية،و مضامين سياسية عميقة انتقلت بإيران من موقع إلى موقع آخر في التشكيلة السياسية الإقليمية و الدولية.
و من جانب آخر،فإن أسباباً سياسية إضافية اختمرت و ساعدت على تكدس و تراكم الإحتقان اليومي في المجتمع التونسي و عند عموم الناس و الأحزاب و مؤسسات المجتمع المدني،فما جرى في انتفاضة تونس الخضراء ليس فقط حركة اجتماعية من أجل لقمة الخبز و حياة الناس الإقتصادية (و هي أهداف نبيلة و مشروعة و عادلة و هامة و مباشرة بلا شك)،بل هي أيضاً ثورة شعبية عارمة لها مطالبها السياسية بعد أن باتت تونس و منذ عقود خلت تدور في فلك بعيد عن مطامح و مشاعر و مواقف غالبية الشعب التونسي و قواه السياسية و الوطنية بالنسبة للقضايا السياسية
الداخلية و القضايا العربية الجامعة،و في القلب منها القضية الفلسطينية.
و أكثر من ذلك،فقد تحولت تونس في العقدين الأخيرين إلى بلد حيادي (في أحسن الأحوال) بالنسبة للصراع العربي و الفلسطيني مع العدو الإسرائيلي،و باتت الوفود الإسرائيلية إليها ذهاباً و إياباً تحت عناوين مختلفة.
إن القوى التونسية معنية الآن بأخذ زمام المبادرة،و أن تعلن على الملأ عن المطالب السياسية للشعب التونسي،بالنسبة للداخل و الخارج و لمستقبل تونس،و أن تصيغها بطريقة برنامجية واضحة تمهد للانتقال بتونس من وضع إلى وضع آخر،يؤسس لحالة ديمقراطية حقيقية تستمد روحيتها من خيارات الناس،و من أهدافهم المطلبية الإجتماعية و السياسية التي رفعوها تباعاً و كل يوم خلال الأسبوعين الماضيين.
............
- سمات الإنتفاضة التونسية:
إن من أروع سمات الإنتفاضة التونسية المجيدة،و التي تسجل لشعب تونس الخضراء،أن شرارات تلك الإنتفاضة اندلعت على يد الشعب و بسطائه و من قبل بأوسع إطاراته حضوراً،من سوق الخضار إلى عموم الميادين،و قد امتدت و انتشرت كالنار في الهشيم،و لم تطلقها القوى السياسية التي كانت منكفئة بشكل عام عن الفعل المباشر في مقارعة النظام تحت تأثير القمع و سياط الإستبداد
السلطوي.
فكان الشعب التونسي في انتفاضته العفوية مقداماً و سباقاً على أحزابه،فخرج الشعب عن بكرة أبيه بلا أوامر و لا توجيه و لا قيادة و لا معارضة مستنسخة أو هلامية أو شكلية،خرج بعفوية حقيقية متلمساً مصالحه المباشرة،و عاقداً العزم على انتزاع حقوقه من بين أنياب الطغاة.
إن روعة انتفاضة الشعب التونسي تكمن أيضاً،في امتدادها اليومي طوال الأسبوعين الماضيين و دون برمجة أو قيادة حزبية من فصائل و أحزاب المعارضة،و كأنها حالة منظمة و مسيطر عليها،و هي في ذلك تؤشر على المدايات المتسعة و المترسخة من الإحتقان في صفوف الناس من النظام السياسي و الإجتماعي و الإقتصادي في عموم البلاد.
إن انتفاضة تونس التي انطلقت من الشارع هي الآن أمانة بيد القوى السياسية التونسية التي سارت معها (و لا نقول التي ركبت موجتها) و ذلك للحفاظ على أهدافها و مساعيها،و تجنب أي صفقات قد تجري لوأدها أو لإحتوائها تحت عناوين الإصلاحات التي جاء بها الرئيس بن علي في خطابه الأخير قبل مغادرته تونس فاراً من شعبه،حين قدم التنازلات المتتالية و هو مرتعد عبر شاشات التلفاز بعد أن كان وسم الإنتفاضة و المنتفضين بالإرهابيين و الأصوليين في خطابه (الديماغوجي) الأول.
فهناك محاولات للإلتفاف على إنجاز الشعب التونسي المعمد بدماء شهدائه الأبرار من أبناء سواد الناس،حتى بعيد مغادرة زين العابدين تونس هرباً بطائرة (هليوكبتر).
إن الدرس التونسي،بليغ،و حاد،و قاطع،و على الطغاة استيعابه،فحركة الناس هي التي تكتب التاريخ في نهاية المطاف،مهما استبد الطغاة،و مهما طالت أيديهم و أجهزتهم القمعية رقاب الناس و العباد،و مهما امتلكوا من دعم و إسناد خارجي.
فالذين كانوا مع الرئيس بن علي في الأمس القريب رفضوا استقباله اليوم،و تحفظوا على قدومه إليهم.
لقد غادر بن علي تونس و انتهى على الأرجح إلى ركن مهمل خارج تونس كما كان مصير شاه إيران و هيلاسلاسي و فرديناند ماركوس..
لكن النظام بمحتواه السياسي و بتركيبته و بنيته الإجتماعية و الإقتصادية التي (حلبت و امتصت) تونس و خيراتها حتى الجرعة الأخيرة لم يسقط بعد،و مازالت السدة الحاكمة و أجهزتها القمعية (هي هي) حتى الآن،قابعة هناك في أبراجها المهتزة تحت وطأة فعل الشارع التونسي.
...........
موقع البلاغ.
* علي بدوان.
.........
قبل أكثر من ربع قرن مضى،و إبان خدمتي الوطنية العسكرية كضابط مجند في صفوف قوات أجنادين التابعة لجيش التحرير الفلسطيني،و في موقع متقدم على جبهة الجولان،و على بعد أمتار قليلة من قوات الإحتلال الإسرائيلية-الصهيونية،و تحديداً في المرتفع (2814) و المعروف بقمة جبل الشيخ أو قمة جبل حرمون،كتب أحد الجنود و بقلم (الفلوماستر) العريض على جدار إحدى (البركسات) تحت
الأرضية المخصصة لمبيتنا،بيتاً من الشعر قاله شاعر تونس أبو القاسم الشابي قبل عقود خلت:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة** فلابدّ أن يستجيب القدر.
في تلك الأثناء كان البيت الشعري إياه،الذي بتنا نقرأه طوال ساعات اليوم الواحد كلما وقعت أنظارنا عليه،يلخص درساً يومياً لنا،في عبره و مغازيه،و عامل تحفيز لنا في جهوزيتنا العسكرية، و في تحملنا أصقاع و ثلوج جبل الشيخ،كما في إيماننا الراسخ بأن إرادة الشعب تصنع المستحيل، و تستطيع أن تزيح عن صدر أي شعب كل أشكال المظالم،و أن تعيد تسطير حياته بطريقة ثانية من جديد،فأين نحن الآن من الدرس التونسي،و قد قال ابن تونس أبو القاسم الشابي قبل عقود طويلة: إن إرادة الشعب تفرض نفسها في نهاية المطاف؟
.........
- في الأسباب البعيدة للانتفاضة:
من نافلة القول بأن الحدث التونسي لم يأت دون مقدمات و ارتسامات و حراكات مستديمة على الأرض و في المجتمع و بناه المختلفة،لكنه جاء (صاعقاً و مفاجئاً) للعديد من الأطراف الدولية و خصوصاً منها فرنسا التي تحتفظ بعلاقات مميزة مع نظام بن علي،كما جاء (صاعقاً و مفاجئاً) لأركان النظام و قمة هرمه السياسي و الأمني الذين كانوا في رحلة الإطمئنان على استقرار النظام و حاله
بالرغم من تفشي الفساد و طغيان القمع و سوء الحال الإقتصادية لسواد الشعب على امتداد الأرض التونسية.
فقد كانت أجهزة الأمن التونسية تفرض سطوتها بقوة فولاذية على عموم تونس،و تكتم أنفاس الناس و تحصيها،و تكمم أفواه الجميع،و منها القوى السياسية على امتداد البلاد،و بكافة تلاوينها الفكرية و الأيديولوجية،من القوى و الإتجاهات الإسلامية إلى القوى اليسارية الديمقراطية المحسوبة على الصف العلماني،حيث باتت أعداد كبيرة من منتسبيها و مناصريها و قياداتها إما في السجون و المعتقلات داخل تونس أو في المنافي البعيدة خارج الأرض التونسية.
فالنظام التونسي هو الأشرس بوليسياً و الأكثر فساداً في المنطقة ضمن منظومة عائلات و أقارب أكلت الأخضر قبل اليابس.
و ساعده على ذلك ارتباط أجهزة الأمن التي يمتلكها بعلاقات مباشرة مع العديد من أنظمة القمع في العالم و مع أجهزة الغرب الإستخبارية،بل و تذهب العديد من المصادر لتأكيد مسألة الإختراق
المباشر لأجهزة أمن النظام من قبل جهاز (المخابرات الخارجية الإسرائيلية) المعروف بـ (موساد)، و هو ما بان واضحاً في اغتيال الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في أبريل/ نيسان عام 1988 في منزله بالقرب من حمامات الشط في العاصمة تونس.
لقد بلغت جهود و حدود القمع الأمني في تونس مداها في أكثر من مناسبة مرت على البلاد طوال السنوات التي تلت من وجود زين العابدين بن علي،و وصلت إلى حد التعدي على النقابات و الأطر الشعبية و الصحفيين و الزج بهم في زنازين الإعتقال.
كما وصلت الجهود الأمنية إلى حد تفاخر الرئيس بن علي بأن تونس استطاعت أن تخمد نشاط و وجود حركات "التطرف الأصولي الإسلامي الإرهابي" و ذلك في سياق تسويق نظامه أمام الغرب الأوروبي و الولايات المتحدة.
و ذلك على الرغم من نفي الجميع لوجود أي ظاهرة من مظاهر التطرف الإسلامي في تونس،فحركة النهضة التي تمثل التيار الإسلامي العريض في تونس،تتسم بالإعتدال و الوسطية،و لم يسجل عليها ارتكاب أي أعمال تطرف خلال العقود الماضية،قبل و بعد فزاعة (القاعدة) و التطرف الأصولي التي أصبحت الشماعة التي تلقى عليها آثام القمع السلطوي الفاشي المسلط على رقاب الناس في العديد من بلداننا العربية و عموم بلدان العالم الثالث خصوصاً البلدان الإسلامية منها،بل و وصلت الأمور في تونس إلى حد تقييد حركة ارتياد الناس للمساجد عبر تخصيص مسجد محدد لكل مواطن،بحيث لا يمكنه الصلاة في مسجد آخر.
إن سمة الإعتدال و الوسطية،لم تشفع لحركة النهضة في تونس على سبيل المثال،و لم تنجها من سيف الملاحقة و العقاب،فتعرضت لعملية قمع شديدة،دفعت بقائدها راشد الغنوشي للإقامة في المنافي،و هو ما وقع بحق باقي القوى التونسية بما فيها القوى الديمقراطية اليسارية العلمانية التي تعرضت بدورها اما إلى القمع المباشر كما حصل مع بعض منها،أو إلى المحاصرة و التضييق المستمر في
سياق السعي لتدجينها وراء يافطة النظام.
و عليه،فإن غياب الديمقراطية الحقيقية،و غياب الحريات السياسية و النقابية،و طغيان و تغول أجهزة الأمن،و امتداد أذرعتها الأخطبوطية في عموم المجتمع و حياة الناس،كانت بمثابة أسباب بعيدة للانتفاضة التونسية.
............
- الأسباب المباشرة و الفرز الطبقي:
إن هبّة و انتفاضة شعب تونس الخضراء،جاءت في أسبابها المباشرة،في سياقات التململ الكبير الذي بدأ بالغليان في مرجل المثالب الكبرى التي باتت تدمغ ببصماتها أركان النظام هناك،و على رأسها انتشار الفساد و المحسوبية،و ازدياد حدة الفرز الطبقي في المجتمع التونسي بين من يبسطون يدهم على مصدر القرار السياسي و يمتلكون الثروة الوطنية و يستولون و يتحكمون بمصادرها و هم قلة،و بين عامة الناس الذين يشكلون البنية التحتية لعموم المجتمع التونسي.
و بالتالي،فإن تلك المعادلة ذات الفرز الطبقي الحاد و الصارخ،أدت تلقائياً لبروز اصطفافات طبقية (أو لنقل اقتصادية) تبلورت رويداً رويداً،و هي إصطفافات لا مكان لسواد الناس فيها سوى القاع و القعر الإقتصادي في السلّم العام لمعيشة التوانسة و أحوالهم،من الفاقة و العوز و العيش ما دون خط الفقر،و فقدان الرعاية الصحية و خدمات الإغاثة الإجتماعية المفترضة من قبل الدولة.
حتى أصبحت حياة الناس في الشارع و المجتمع،تسير من سيئ إلى أسوأ لأسباب تتعلق بحالة الفساد المستشرية و المترافقة مع تدهور الوضع المعيشي و انفلات الرشاوى و سرقة المال العام،و انتفاخ دور مراكز قوى عسكرتاريا الأمن و المخابرات،في مشهد متكرر يُذكر بنماذج القمع و الإرهاب و الفساد المستشري في العديد من دول العالم الثالث.
لقد أشعلت حالة العوز و الفاقة،و الفقر المدقع لقطاعات غالبية الناس الشرارة الأولية التي أدت لاندلاع اللهيب في عموم الأرض التونسية من شمالها إلى جنوبها و من شرقها إلى غربها،في مشهد يُذكرنا بما وقع في أكثر من بلد في العالم،من الفلبين التي غادرها الدكتاتور فرديناند ماركوس هرباً من شعبه الذي نهض بالرغم من وطأة الضغط و الإجهاد المثقل عليه،إلى إيران التي هز
شعبها و دحر ركيزة أساسية من ركائز التبعية للغرب الإستعماري في ثورة حملت مضامين إجتماعية إقتصادية جذرية،و مضامين سياسية عميقة انتقلت بإيران من موقع إلى موقع آخر في التشكيلة السياسية الإقليمية و الدولية.
و من جانب آخر،فإن أسباباً سياسية إضافية اختمرت و ساعدت على تكدس و تراكم الإحتقان اليومي في المجتمع التونسي و عند عموم الناس و الأحزاب و مؤسسات المجتمع المدني،فما جرى في انتفاضة تونس الخضراء ليس فقط حركة اجتماعية من أجل لقمة الخبز و حياة الناس الإقتصادية (و هي أهداف نبيلة و مشروعة و عادلة و هامة و مباشرة بلا شك)،بل هي أيضاً ثورة شعبية عارمة لها مطالبها السياسية بعد أن باتت تونس و منذ عقود خلت تدور في فلك بعيد عن مطامح و مشاعر و مواقف غالبية الشعب التونسي و قواه السياسية و الوطنية بالنسبة للقضايا السياسية
الداخلية و القضايا العربية الجامعة،و في القلب منها القضية الفلسطينية.
و أكثر من ذلك،فقد تحولت تونس في العقدين الأخيرين إلى بلد حيادي (في أحسن الأحوال) بالنسبة للصراع العربي و الفلسطيني مع العدو الإسرائيلي،و باتت الوفود الإسرائيلية إليها ذهاباً و إياباً تحت عناوين مختلفة.
إن القوى التونسية معنية الآن بأخذ زمام المبادرة،و أن تعلن على الملأ عن المطالب السياسية للشعب التونسي،بالنسبة للداخل و الخارج و لمستقبل تونس،و أن تصيغها بطريقة برنامجية واضحة تمهد للانتقال بتونس من وضع إلى وضع آخر،يؤسس لحالة ديمقراطية حقيقية تستمد روحيتها من خيارات الناس،و من أهدافهم المطلبية الإجتماعية و السياسية التي رفعوها تباعاً و كل يوم خلال الأسبوعين الماضيين.
............
- سمات الإنتفاضة التونسية:
إن من أروع سمات الإنتفاضة التونسية المجيدة،و التي تسجل لشعب تونس الخضراء،أن شرارات تلك الإنتفاضة اندلعت على يد الشعب و بسطائه و من قبل بأوسع إطاراته حضوراً،من سوق الخضار إلى عموم الميادين،و قد امتدت و انتشرت كالنار في الهشيم،و لم تطلقها القوى السياسية التي كانت منكفئة بشكل عام عن الفعل المباشر في مقارعة النظام تحت تأثير القمع و سياط الإستبداد
السلطوي.
فكان الشعب التونسي في انتفاضته العفوية مقداماً و سباقاً على أحزابه،فخرج الشعب عن بكرة أبيه بلا أوامر و لا توجيه و لا قيادة و لا معارضة مستنسخة أو هلامية أو شكلية،خرج بعفوية حقيقية متلمساً مصالحه المباشرة،و عاقداً العزم على انتزاع حقوقه من بين أنياب الطغاة.
إن روعة انتفاضة الشعب التونسي تكمن أيضاً،في امتدادها اليومي طوال الأسبوعين الماضيين و دون برمجة أو قيادة حزبية من فصائل و أحزاب المعارضة،و كأنها حالة منظمة و مسيطر عليها،و هي في ذلك تؤشر على المدايات المتسعة و المترسخة من الإحتقان في صفوف الناس من النظام السياسي و الإجتماعي و الإقتصادي في عموم البلاد.
إن انتفاضة تونس التي انطلقت من الشارع هي الآن أمانة بيد القوى السياسية التونسية التي سارت معها (و لا نقول التي ركبت موجتها) و ذلك للحفاظ على أهدافها و مساعيها،و تجنب أي صفقات قد تجري لوأدها أو لإحتوائها تحت عناوين الإصلاحات التي جاء بها الرئيس بن علي في خطابه الأخير قبل مغادرته تونس فاراً من شعبه،حين قدم التنازلات المتتالية و هو مرتعد عبر شاشات التلفاز بعد أن كان وسم الإنتفاضة و المنتفضين بالإرهابيين و الأصوليين في خطابه (الديماغوجي) الأول.
فهناك محاولات للإلتفاف على إنجاز الشعب التونسي المعمد بدماء شهدائه الأبرار من أبناء سواد الناس،حتى بعيد مغادرة زين العابدين تونس هرباً بطائرة (هليوكبتر).
إن الدرس التونسي،بليغ،و حاد،و قاطع،و على الطغاة استيعابه،فحركة الناس هي التي تكتب التاريخ في نهاية المطاف،مهما استبد الطغاة،و مهما طالت أيديهم و أجهزتهم القمعية رقاب الناس و العباد،و مهما امتلكوا من دعم و إسناد خارجي.
فالذين كانوا مع الرئيس بن علي في الأمس القريب رفضوا استقباله اليوم،و تحفظوا على قدومه إليهم.
لقد غادر بن علي تونس و انتهى على الأرجح إلى ركن مهمل خارج تونس كما كان مصير شاه إيران و هيلاسلاسي و فرديناند ماركوس..
لكن النظام بمحتواه السياسي و بتركيبته و بنيته الإجتماعية و الإقتصادية التي (حلبت و امتصت) تونس و خيراتها حتى الجرعة الأخيرة لم يسقط بعد،و مازالت السدة الحاكمة و أجهزتها القمعية (هي هي) حتى الآن،قابعة هناك في أبراجها المهتزة تحت وطأة فعل الشارع التونسي.
...........
موقع البلاغ.