سلاح الشباب في وعيهم وثقافتهم
هناك نقطة جوهرية يجب عدم إغفالها أو التغافل عنها، فشبابنا وفتياتنا اليوم مستهدفون أكثر من أي وقت مضى في وعيهم وثقافتهم وهويتهم الدينية، فهم المجال الحيوي الذي تعمل غالبية المؤسّسات الرسمية والأهلية من أجل غسل دماغه، أو تجييره لفكرة أو مشروع معيّن، أو الهائه عن قضاياه الكبرى، وما لم يكونوا مسلّحين بالوعي فإنّ التيار جارف يكتسح كل معصوب العينين.
وعلى هذا، يتعيّن أن يستحصل الشاب أو الفتاة موارد الوعي ومصادره في دوائر المتعدّدة، وإلّا كانوا ضحايا لأكثر من (مفترس) وقد لا يكون مفترساً في الظاهر لكنّه يعمل – من وراء ستار – لافتراسهم.. ولا نجاة إلّا بمزيد من الوعي.
- أوّلاً: وعي الأشخاص:
لكي تبني جسراً من الثقة بينك وبين أحد معارفك من الأصدقاء والزملاء والإخوان، لابدّ من أن تعي الأمور التالية:
1- سيرته الذاتية: كيف هو تعامله معك ومع الآخرين؟ ليس في أوقات المؤانسة واللعب والمسايرة، بل في أوقات الشدّة والضيق والحاجة فـ"الصديق عند الضيق".. أُنظر إليه في مواقفه.. هل هو متذبذب متقلب؟
هل هو صادق صريح؟ هل هو متعاون منفتح؟
هل هو لطيف المشعر متسامح؟
هل هو نفور غضوب؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تحدّد لك ملامح شخصيته.
هل تجد صعوبة في التحقّق من ذلك؟
هل تريد علاقات عابرة؟ هل الصداقة عندك تمضية وقت؟ تحمّل إذن وحدك نتائج العلاقات غير المدروسة.
2- اختباره وتمحيصه: جرِّب صديق في مواطن كثيرة.. جرِّبه إذا أغضبته.. جرِّبه إذا انتقدته.. جرِّبه إذا طلبت منه شيئاً.. جرِّبه إذا سافرت معه.. جرِّبه في نصرته لك أو خذلانه في المواقف الصعبة والمحرجة، فإذا ثبت لك أنّه حريص على أُخوّتك ضنين بصداقتك فلا يقاطعك أو يهجرك لأدنى اختلاف بينكما، ولا يخذلك في أوقات الحاجة والشدّة، ولا يظهر لك بغير الوجه الذي تعرفه فيه، فهو الصديق الصدوق والأخ الثقة.. فاحرص عليه لأنّه عملة نادرة.
3- وقد يكون من المفيد أن تتعرّف إلى أسرته لتعرف من أي نبع يشرب وإلى أي ثقافة تربوية ينتمي، فالأسر المعروفة بصلاحها والتزامها وتدينها وسيرتها الحسنة بين الناس، غالباً ما ينحدر عنها أبناء صالحون.. ولكلّ قاعدة استثناءات.
ولكنّ وعي الأشخاص لا يقف عند حدود الذين نتعرّف عليهم حديثاً، بل حتى الذين سبق أن تعرّفنا عليهم، فكيف تعرف أمثال هؤلاء على حقيقتهم؟
1- اختبر نواياهم برفضك لطروحاتهم وعروضهم، وانظر ما هو ردّ فعلهم؟ هل سيلجأون إلى مزيد من الضغط عليك ولو باستخدام الإغراء؟ هل سيهدّدونك بصراحة او من طرف خفيّ؟ هل سيتركونك بعدما ييأسون منك؟ أم أنّهم فعلاً يريدون بك خيراً؟
2- أدرس لهجتهم في الحديث معك.. أي الكلمات يستخدمونها، وأي المواضيع يطرحونها، واطرح على نفسك أسئلة: لماذا قالوا ذلك؟ وماذا يريدون بهذه الكلمة؟ وما هو مرادهم من هذا التلميح؟ لماذا أنت بالذات؟
3- سل عنهم مَنْ يعرفهم.. أي توثّق منهم بالسؤال والاستيضاح والتحرّي عن شخصياتهم ممّن يعرفونهم أكثر منك، ولا تكتفِ بالسؤال من شخص واحد.. سل أكثر من شخص حتى يسهل عليك اكتشاف النوايا.
4- لا تتردّد في قطع علاقتك بأي شخص مشبوه، أو تدور حوله علامات الاستفهام، فبمجرّد أن تعرف أنّه قرين سوء أو يبيت لك شراً، أو يريد أن يوقعك في مطب، بادر على الفور إلى إيقافه عند حدّه وقطع علاقتك به نهائياً.
- ثانياً: وعي الجماعات:
والجماعات قد تكون جمعيات أو نقابات أو منظمات أو اتحادات، أو هيئات، أو منظمات، أو أحزاباً، أو نوادٍ اجتماعية أو ترفيهية أو ثقافية، وحتى تتمكن من معرفة ما إذا كانت الجماعة على خطأ أو صواب، أو على حق أو على باطل، لابدّ لك من معرفة أمرين أساسين:
1- معرفة الأشخاص الذين يعملون ضمن هذه الجماعة: مَنْ هو رئيسهم؟ ومَنْ هم البارزون فيها؟ ومَنْ هم الأشخاص الذين تستقطبهم؟ وما هي طرق الكسب لديهم؟ ومَنْ هم الذين يموّلونها ويدعمونها مادياً ومعنوياً؟ هل هي – أي الجماعة – معروفة مشهورة؟ أم أنّها مجهولة مغمورة؟
ذلك أنّ معرفة الأشخاص الذين ينتمون أو ينتسبون إلى جماعة معيّنة في الاطمئنان إلى سلامة توجّه الجماعة، فإذا كان الأشخاص ممّن عرفوا بالصلاح والسيرة الحسنة والأخلاق الحميدة، زاد اطمئنانك إلى أنّ الجمعية – أياً كان عنوانها – لا تضم في صفوفها إلّا الخيّرين.
2- معرفة أفكار وآراء وطروحات وأساليب عمل وأهداف الجماعة: ماذا تريد منّك على وجه التحديد؟
ما هي خططها الحاضرة والمستقبلية؟
ماذا تريد تحقيقه من عملها؟
هل لديها نشرات أو كتب أو أدبيات معيّنة؟
اطلب الاطلاع عليها قبل ابداء الرفض أو الموافقة.. هل لديها أهداف سرّية غير معلنة؟
سل عن ذلك ممّن هم أعرف منك في هذه الأمور..ولا تنسَ أن تسأل أكثر من شخص، فقد يكون أحد الأشخاص غير دقيق في تشخيصه، أو أنّه يتحسّس من عمل الجمعيات أو العمل الجمعي بصفة عامة.. انظر إلى فكر الجماعة..قارنه مع فكرك كإنسان مسلم..هل يلتقيان؟
وأين يفترقان؟
ناقش قبل الدخول..اطرح أسئلتك كاملة وبوضوح شديد..احصل على أجوبة صريحة كاملة، ولا تقنع بالإشارات العمومية.
إنّ معرفة الأشخاص وحدها لا تكفي في الحكم على عمل الجماعة، فالعصابة أيضاً جماعة وتعمل لأهداف محدّدة، ولكنّها جماعة منحرفة، ولذا كان الاطلاع على فكر الجماعة وأساليبها وخططها وأهدافها ضماناً آخر لعدم انزلاقك أو تورطك في الانضمام إلى الجماعات المشبوهة أو المنحرفة.
ولابدّ من الإشارة هنا، إلى أنّ (وعي الأشخاص) و(وعي الجماعات) هو وعي اجتماعي وثقافي أيضاً يعتمد معرفة الناس واختلاف أصنافهم وطبائعهم وأفكارهم وأهدافهم، وليس بوسعك كفرد أن تحصل على هذه المعرفة، ولذا فليس من العيب ولا من النقص أن تستشير العارفين حتى يطمئن قلبك.
ولعلّك تلاحظ أنّ المؤسّسات اليوم لا تقبل عضواً فيها إلّا بعد أن تطمئن إلى خلفيته، وإلى الحصول على معلومات كافية بشأنه من خلال استبيان أو مقابلة، بل تطلب منه أن يقدّم لها أسماء مَنْ يعرفونه جيِّداً حتى يمكن الاتِّصال بهم والتحقّق من المعلوكات التي أدلى بها، فكيف تستكثر على نفسك – وأنت الوحيد – السؤال من الآخرين في قضايا مصيرية تهمّك؟!
وينبغي أن يكون الشخص الذي تسأله ثقة وذا تجربة وقادراً على أن يشير عليك، كأن يكون أباك، أو أخاك الأكبر، أو أمّك، أو خالك، أو عمّك، أو إمام المسجد الذي تصلّي فيه، أو أي شخص ترجح وعيه وثقافته وقدرته على التشخيص والتمحيص.
- ثالثاً: الوعي الديني:
وهو وعي يتفرّع إلى وعيين:
1- وعي الإسلام.
2- وعي المسلمين.
فلأجل أن تعي الإسلام وعياً صحيحاً لابدّ لك من ان تأخذه صافياً نقياً من منابعه ومصادره الأصيلة (أي الكتاب والسنّة) وقد تكفّل الله بحفظ الكتاب المجيد مصوناً من التحريف والزيادة والنقصان فلا مشكلة.
أمّا السنّة النبويّة (أقوال النبي وأفعاله وتقريراته) فقد تعرّضت للكذب عليه والوضع والدسّ والتحريف، وحتى تتحقّق من صحّة السنّة اعرضها على كتاب الله فإنّ وافقته فخذ بها وإلّا فاضرب بها عرض الجدار.
وتلك عملية ليست بالسهلة، وهي مهمّة العلماء والباحثين والمحقِّقين، ولذا فإنّ الوعي الديني يتطلّب أن تتعرّف على هؤلاء لتعرف نزاهتهم واخلاصهم ومدى علمهم ومعرفتهم، فليس كلُّ ما كتب أو قيل في الإسلام يمثل أصالة الإسلام وبقاءه.
أمّا وعي المسلمين فيتطلّب منك أن تعرض المسلم على مرآة القرآن الكريم والسنّة المطهرة لترى كم هو قريب أو بعيد عن الإسلام.. أي اعرف الإسلام تعرف أهله.
كما أنّ وعيك بأخيك المسلم يستدعي أن لا تفكّره لأنّه لا يلتزم الإسلام التزاماً كليّاً، أو لأنّه يختلف معك في فهمه وتفسيره للنصوص، فالنصوص الإسلامية مقدسة ولكن تفسيرها غير مقدس، ولذلك تختلف التفاسير بإختلاف المفسرين.
وعيك بالمسلمين يتطلّب الرفق بهم، والأخذ بأيديهم إلى درجات العلم والمعرفة والمعروف درجة درجة، وأن لا تجور عليهم في أحكامك، وأن تلتقي معهم على النقاط المشتركة التي توحّد الصف وتجعله بنياناً مرصوصاً.
ووعي المسلمين يتطلّب أيضاً المعرفة الدقيقة بأئمة المسلمين، فلا يغرك الاسم والرسم فتنظر إلى السطح وتتصوّره العمق، فقد يكون الزي الديني للخداع والتمويه.
ووعي المسلمين يقتضيك أن لا تتعصّب لهم فترى أنّ أُمّة الإسلام بمن فيها وما فيها هي أفضل الأُمم.. ليكن لديك المعيار الذي تقيس وتميّز به، فالمسلم مسلمٌ ما سلم الناس والمسلمون – من باب أولى – من يده ولسانه، وهو خير الناس ما نفع الناس.
والوعي الديني – بعد هذا وذاك – يستدعي معرفة المسؤوليات الدينية والإجتماعية والأخلاقية والسياسية التي تتحمّلها سواء بالنسبة إليك كشخص أو إلى العائلة والمجتمع والحياة، وأن تميّز بين (الإسلام) وبين (المسلمين) فلا تلقي اللوم والتقصير والتخلّف والازدواجية والتجاوز على عاتق الإسلام وتنسى أنّ بعض المسلمين لم يحسن إسلامهم، وإلّا فالإسلام خيرُ مربّ وخيرُ مصلح ومعلّم وهاد.
- رابعاً: الوعي السياسي:
يشتمل الوعي السياسي على فهم عدّة أمور، منها:
1- الحركات والأحزاب والمؤسّسات، وقد تحدثنا عن ذلك في مناقشة (وعي الجماعات).
2- الشعارات.
3- الأحداث.
4- الأخبار.
فأمّا وعي الشعارات، وهي الآراء والأفكار المضغوطة في كلمات معدودات، للتعبير عن هدف معيّن، أو للتحريض على عمل معيّن أو الوقوف ضدّه، فيحتاج إلى معرفة:
أ) مُطلق الشعار: إلجأ إلى الأسئلة دائماً، وابحث عن الأجوبة شخصياً وبالتعاون مع الآخرين: مَنْ الذي أطلق الشعار؟ وما هي هويته الفكرية والسياسية؟ فقد ينطلي عليك الشعار السياسي الرنان البرّاق إذا لم تتعرف على هوية مطلقيه.
ب) مضمون الشعار: هل يحتوي على ترويج للباطل أو الإنحراف؟ هل يريد الدفاع عن الحق؟ هل هو (كلمة حق يراد بها باطل)؟ فقد تكون الشعارات صادقة لكن يراد الوصول من خلالها إلى أغراض مشبوهة ودنيئة، وقد تدّعي الدفاع عن حقوق الأكثرية لكنّها تبحث عن مصالح الأقلية.
كما يتطلّب وعي المضمون دراسته لمعرفة ما إذا كان يلتقي أو يتناقض مع ما تحمله من فكر وعقيدة، فقد يكون صحيحاً في الظاهر لكنّه مرفوض إسلامياً.
ج) المجال الذي يُطلق فيه: أي، إلى مَنْ يراد توجيه الشعار؟ إلى أي شريحة إجتماعية؟ ومَنْ هم الذين يصدّقونه ويروّجون له؟ وما هي تأثيراته الجانبية على متلقيه؟
د) الغاية من الشعار: ويمكن التعرّف على غاية أي شعار من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: لماذا في هذا الوقت بالذات؟ وما هي الأمور التي يستهدفها حاضراً ومستقبلاً؟
وأمّا وعي الأحداث المعاصرة أو التأريخية، فيتطلّب:
1- معرفة شخصيات الحدث.
2- معرفة مجريات الحدث.
وهذا ما يطلق عليه في بعض الدراسات بمعرفة (السند) و(المتن) فأيّما حدث سياسي، ولنفترض إبرام اتفاق أو معاهدة يحتاج لوعيه إلى معرفة القائمين أو الموقعين على الاتفاق، ومعرفة بنود الاتفاق والدواعي التي دعت إليه، ومن المستفيد منه، وما هي انعكاساته الداخلية والخارجية، الآنية والمستقبلية.
وأمّا معرفة ملابسات الحدث وتفاصيله وتداعياته والظروف المحيطة به: كيف بدأ؟ وكيف نما وتطوّر؟ وإلى أين انتهى؟ وما هي الجوانب الغامضة منه؟ فتعطيك تصوّراً عن طبيعة الحدث وسياقه وافرازاته.
وحتى تتمكّن من تحليل ورصد حدث معيّن لابدّ لك من ملاحقة أو متابعة لمجرياته، فلا يكفي أن تنظر إليه من خلال مقطع من مقاطعه، بل لابدّ من استقرائه من جذوره، لتقف على العوامل والأسباب التي صنعته، والتي صعّدته، والتي انتهت به إلى ما وصل إليه.
وأمّا وعي الأخبار فيحتاج أيضاً إلى الإجابة عن مجموعة من الأسئلة:
مَنْ؟ أي مَن الذي قال؟ ومَنْ الذي فعل؟
ماذا؟ أي ماذا قال؟ وماذا جرى؟
متى؟ أي في أي ظرف قاله، وفي أي وقت؟
أين؟ أي في أي مكان حصل ذلك؟
كيف؟ أي التفاصيل الأخرى المتعلّقة بالخبر.
وقد حذّر القرآن الكريم من تصديق الأخبار على علّاتها لئلّا يكون ذلك سبباً لتخريب العلاقات الإجتماعية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات/ 6).
وقد جاء في الحديث: "اعقل الخبر عقل رعاية لا عقل رواية" أي لا تأخذه كمسلّمة وإنّما ادرسه وتفحّصه جيِّداً، قبل أن تنقله بدورك، أو ترتب عليه أثراً.
- خامساً: الوعي الإعلامي:
وهذا الوعي يأتي كرديف أو مكمّل للوعي السياسي، فثمة تلازم شديد بين الإينين، وإن كان للإعلام مساحاته المستقلة.
وفي الوعي الإعلامي نحتاج إلى معرفة:
1- الجهلة الإعلامية المسوّقة (المُرسِل).
2- المضمون الإعلامي (الرسالة).
3- الجهة التي تبث إليها تلك الرسالة (المُستَقبِل).
فمعرفة هذه الأمور الثلاثة ضرورية حتى لا نقع في التضليل الإعلامي، لأنّ المتلاعبين بالعقول والعواطف في أجهزة الإعلام ووسائله المختلفة من الكثرة، بحيث يندر الصفاء الإعلامي.
والمراد بالجهة الإعلامية المسوّقة، تلك التي تقف وراء إعلام ما، تخطط به وترسم له طرق الوصول إلى المتلقّي مشاهداً ومستمعاً وقارئاً، وتضع له أهدافه الثابتة والمتغيِّرة، وقد تكون جهة رسمية أو أهلية، لكن معرفة ذلك وادراكه جيِّداً يحدّد الثقة بهذه الوسيلة الإعلامية أو تلك.
والمراد بالرسالة الإعلامية، مضمون المواد والبرامج والفعاليات التي يقدِّمها الإعلام، وبإمكانك أن تقرأ هوية الذين يقفون خلف هذه الرسالة من خلال الرسالة نفسها. فبالمتابعة الدقيقة والمستمرة سيتضح لك بأنّ طبيعة المادة الإعلامية المرسلة كاشفة – إلى حدٍّ بعيد – عن هويّة المُرسِلين، وقد لا تعرفهم بالوجوه والأسماء، لكنّك تعرفهم بالتوجهات.
وأمّا المراد بالمُستَقبِل، فهو أنت وأنا وسائر المستمعين والمشاهدين والقرّاء من مختلف الشرائح النسوية والرجالية والشبابية والأطفال، أي إنّنا المُستهدفون من الرسائل الإعلامية التي تدرس طباعنا وأمزجتنا وأذواقنا وغرائزنا وردود أفعالنا لتخاطبنا من خلالها.
وما لم نعِ ما يراد بنا من خلال وسائل الإعلام فإنّنا واقعون في فخ التضليل الإعلامي والإثارة الإعلامية بل والتسميم الإعلامي.
غير أنّ هذا لا يعني أنّ مواد الإعلام مسمومة كلّها، فالوعي الإعلامي، كما يفرز السلبي الرديء، يفرز الإيجابي النافع، وبذلك تتوازن النظرة إلى الإعلام.
- سادساً: الوعي الإقتصادي:
الوعي حلقات متكاملة غير منفصلة، أي أنّ حلقات الوعي أو دوائر تتنافذ على بعضها البعض. فالوعي الإقتصادي وهو معرفة حركة الإقتصاد والمال في المنجم والسوق والاستهلاك، غير منفصل بالمرّة عن الوعي السياسي والوعي الإعلامي والوعي الثقافي والوعي الديني ووعي الأشخاص الجماعات.
فالمواد المصنّعة حيادية، لكنّ الجهات المُنِّعة ليست بريئة دائماً، وإنّما هي تحمّل السلع والخدمات رسالتها أيضاً، كما مرّ بنا في الجانب الإعلامي، فما من سلعة أو بضاعة إلّا ولها وجهان (وجه استهلاكي) ويتمثل بالانتفاع من استخدامها، و(وجه ثقافي) يتمثّل فيها تعبّر عنه من مضمون مادي أو معنوي.
إنّ غرس النزعة الاستهلاكية فيك هدف لغالبية التجّار حتى وإن طرحوا بضائعهم على أنّها توفر لك الراحة وتحقّق المزيد من الرفاه. فالهدف الأوّل تحقيق أكبر نسبة من الأرباح للمنتج والمصدّر والبائع، أمّا المستهلك فهو هدف لهؤلاء الثلاثة.
إنّ الموجة الإعلانية التي تغمرك طوال ساعات البث التلفزيوني في الترويج لبضائع عديدة، لا تدعك حرّاً أو تفكّر بإستقلال تام، فهي موجة إيحائية مؤثرة تصوّر لك ما هو ثانوي وكمالي على أنّه أساسي وضروري، وسمة من سمات العصر، الأمر الذي يجعلك كمستهلك تدور في دوّامة (حمّى التسوّق) ليس على صعيد الأثرياء فقط، بل حتى بالنسبة لذوي الدخل المحدود أو المتوسّط.
والوعي الإقتصادي لا يقتصر على معرفة الإستهلاك وخفاياه، بل يشكل كلّ الحركة الإقصادية سواء من حيث الإنتاج والاستثمار والديون والشروط الموضوعة من قبل الدائنين، والتبعية الإقتصادية التي تجر معها عجلة التبعية السياسية، والتصرّف بأسواق النفط والعملات وما إلى ذلك.
- فوائد الوعي:
وحتى نلخّص رسالة هذا الكتيب، نقول إنّ للبصيرة أو الوعي فوائده الكثيرة، ومنها:
1- الغوص في الأعماق وعدم الوقوف عند السطح. فقد يكون السطح لامعاً برّاقاً لكنّ ما تحته خواء، أو جيفة، أو خطر محدق، أو معدن مزيّف، أي أنّ الوعي يجنبنا من الوقوع في الخداع والتغرير والتضليل والتزوير.
2- الوعي يفيدنا في الربط بين الأشياء. فما قد يبدو في الظاهر منفصلاً عن بعضه، هو ذو علاقة – بنحو أو بآخر – بغيره من الأشياء، كما هي علاقة الإعلام بالسياسة وعلاقتهما بالثقافة وعلاقة الجميع بالتربية. وبمعنى آخر، إنّ الواعي ينظر إلى الأمور والأشياء نظرة شمولية، وليس نظرة تجزيئية، حتى يدرك العلاقة بينها.
3- إنّ التديُّن والإيمان يستلزم بالضرورة الوعي والبصيرة، أمّا إذا كان تديننا بلا وعي وإيماننا بلا بصيرة، فإنّه سيكون تديُّناً ساذجاً. ولذا فإنّنا حينما نقرأ في الحديث: "حبذا نومُ الأكياس وفطرهم" فإنّنا نفهم بأنّ قيمة (الوعي) أكبر من قيمة (التديُّن) فإذا اجتمعنا فهو الخير.
4- الوعي ذو أثر أكبر من دائرة الشخص الواعي نفسه، فهو بوعيه يمكن أن ينير الدرب للآخرين الذين تنطلي عليهم الألاعيب والخدع والشعارات والتصريحات والإعلانات والدعايات، أي أنّه يفتح عيونهم للإبصار أكثر، وهذا ما يفعله أرباب الوعي الإسلامي العميق في كتاباتهم وخطاباتهم التي تزيد في وعينا وقدرتنا على التشخيص الدقيق.
5- الوعي يفتح الأبواب المقفلة بالكثير من الاستيضاحات والأسئلة: مَنْ؟
ولماذا؟ ومتى؟ وكيف؟
أي أن كلّ شيء بالنسبة للواعي مادّة للدرس، يأخذ منها درساً وعبرة ويحلّلها، ويقرأها بعيون ثانية، فيزداد معرفة بالأشياء والأفكار والعلاقات.
البلاغ
هناك نقطة جوهرية يجب عدم إغفالها أو التغافل عنها، فشبابنا وفتياتنا اليوم مستهدفون أكثر من أي وقت مضى في وعيهم وثقافتهم وهويتهم الدينية، فهم المجال الحيوي الذي تعمل غالبية المؤسّسات الرسمية والأهلية من أجل غسل دماغه، أو تجييره لفكرة أو مشروع معيّن، أو الهائه عن قضاياه الكبرى، وما لم يكونوا مسلّحين بالوعي فإنّ التيار جارف يكتسح كل معصوب العينين.
وعلى هذا، يتعيّن أن يستحصل الشاب أو الفتاة موارد الوعي ومصادره في دوائر المتعدّدة، وإلّا كانوا ضحايا لأكثر من (مفترس) وقد لا يكون مفترساً في الظاهر لكنّه يعمل – من وراء ستار – لافتراسهم.. ولا نجاة إلّا بمزيد من الوعي.
- أوّلاً: وعي الأشخاص:
لكي تبني جسراً من الثقة بينك وبين أحد معارفك من الأصدقاء والزملاء والإخوان، لابدّ من أن تعي الأمور التالية:
1- سيرته الذاتية: كيف هو تعامله معك ومع الآخرين؟ ليس في أوقات المؤانسة واللعب والمسايرة، بل في أوقات الشدّة والضيق والحاجة فـ"الصديق عند الضيق".. أُنظر إليه في مواقفه.. هل هو متذبذب متقلب؟
هل هو صادق صريح؟ هل هو متعاون منفتح؟
هل هو لطيف المشعر متسامح؟
هل هو نفور غضوب؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تحدّد لك ملامح شخصيته.
هل تجد صعوبة في التحقّق من ذلك؟
هل تريد علاقات عابرة؟ هل الصداقة عندك تمضية وقت؟ تحمّل إذن وحدك نتائج العلاقات غير المدروسة.
2- اختباره وتمحيصه: جرِّب صديق في مواطن كثيرة.. جرِّبه إذا أغضبته.. جرِّبه إذا انتقدته.. جرِّبه إذا طلبت منه شيئاً.. جرِّبه إذا سافرت معه.. جرِّبه في نصرته لك أو خذلانه في المواقف الصعبة والمحرجة، فإذا ثبت لك أنّه حريص على أُخوّتك ضنين بصداقتك فلا يقاطعك أو يهجرك لأدنى اختلاف بينكما، ولا يخذلك في أوقات الحاجة والشدّة، ولا يظهر لك بغير الوجه الذي تعرفه فيه، فهو الصديق الصدوق والأخ الثقة.. فاحرص عليه لأنّه عملة نادرة.
3- وقد يكون من المفيد أن تتعرّف إلى أسرته لتعرف من أي نبع يشرب وإلى أي ثقافة تربوية ينتمي، فالأسر المعروفة بصلاحها والتزامها وتدينها وسيرتها الحسنة بين الناس، غالباً ما ينحدر عنها أبناء صالحون.. ولكلّ قاعدة استثناءات.
ولكنّ وعي الأشخاص لا يقف عند حدود الذين نتعرّف عليهم حديثاً، بل حتى الذين سبق أن تعرّفنا عليهم، فكيف تعرف أمثال هؤلاء على حقيقتهم؟
1- اختبر نواياهم برفضك لطروحاتهم وعروضهم، وانظر ما هو ردّ فعلهم؟ هل سيلجأون إلى مزيد من الضغط عليك ولو باستخدام الإغراء؟ هل سيهدّدونك بصراحة او من طرف خفيّ؟ هل سيتركونك بعدما ييأسون منك؟ أم أنّهم فعلاً يريدون بك خيراً؟
2- أدرس لهجتهم في الحديث معك.. أي الكلمات يستخدمونها، وأي المواضيع يطرحونها، واطرح على نفسك أسئلة: لماذا قالوا ذلك؟ وماذا يريدون بهذه الكلمة؟ وما هو مرادهم من هذا التلميح؟ لماذا أنت بالذات؟
3- سل عنهم مَنْ يعرفهم.. أي توثّق منهم بالسؤال والاستيضاح والتحرّي عن شخصياتهم ممّن يعرفونهم أكثر منك، ولا تكتفِ بالسؤال من شخص واحد.. سل أكثر من شخص حتى يسهل عليك اكتشاف النوايا.
4- لا تتردّد في قطع علاقتك بأي شخص مشبوه، أو تدور حوله علامات الاستفهام، فبمجرّد أن تعرف أنّه قرين سوء أو يبيت لك شراً، أو يريد أن يوقعك في مطب، بادر على الفور إلى إيقافه عند حدّه وقطع علاقتك به نهائياً.
- ثانياً: وعي الجماعات:
والجماعات قد تكون جمعيات أو نقابات أو منظمات أو اتحادات، أو هيئات، أو منظمات، أو أحزاباً، أو نوادٍ اجتماعية أو ترفيهية أو ثقافية، وحتى تتمكن من معرفة ما إذا كانت الجماعة على خطأ أو صواب، أو على حق أو على باطل، لابدّ لك من معرفة أمرين أساسين:
1- معرفة الأشخاص الذين يعملون ضمن هذه الجماعة: مَنْ هو رئيسهم؟ ومَنْ هم البارزون فيها؟ ومَنْ هم الأشخاص الذين تستقطبهم؟ وما هي طرق الكسب لديهم؟ ومَنْ هم الذين يموّلونها ويدعمونها مادياً ومعنوياً؟ هل هي – أي الجماعة – معروفة مشهورة؟ أم أنّها مجهولة مغمورة؟
ذلك أنّ معرفة الأشخاص الذين ينتمون أو ينتسبون إلى جماعة معيّنة في الاطمئنان إلى سلامة توجّه الجماعة، فإذا كان الأشخاص ممّن عرفوا بالصلاح والسيرة الحسنة والأخلاق الحميدة، زاد اطمئنانك إلى أنّ الجمعية – أياً كان عنوانها – لا تضم في صفوفها إلّا الخيّرين.
2- معرفة أفكار وآراء وطروحات وأساليب عمل وأهداف الجماعة: ماذا تريد منّك على وجه التحديد؟
ما هي خططها الحاضرة والمستقبلية؟
ماذا تريد تحقيقه من عملها؟
هل لديها نشرات أو كتب أو أدبيات معيّنة؟
اطلب الاطلاع عليها قبل ابداء الرفض أو الموافقة.. هل لديها أهداف سرّية غير معلنة؟
سل عن ذلك ممّن هم أعرف منك في هذه الأمور..ولا تنسَ أن تسأل أكثر من شخص، فقد يكون أحد الأشخاص غير دقيق في تشخيصه، أو أنّه يتحسّس من عمل الجمعيات أو العمل الجمعي بصفة عامة.. انظر إلى فكر الجماعة..قارنه مع فكرك كإنسان مسلم..هل يلتقيان؟
وأين يفترقان؟
ناقش قبل الدخول..اطرح أسئلتك كاملة وبوضوح شديد..احصل على أجوبة صريحة كاملة، ولا تقنع بالإشارات العمومية.
إنّ معرفة الأشخاص وحدها لا تكفي في الحكم على عمل الجماعة، فالعصابة أيضاً جماعة وتعمل لأهداف محدّدة، ولكنّها جماعة منحرفة، ولذا كان الاطلاع على فكر الجماعة وأساليبها وخططها وأهدافها ضماناً آخر لعدم انزلاقك أو تورطك في الانضمام إلى الجماعات المشبوهة أو المنحرفة.
ولابدّ من الإشارة هنا، إلى أنّ (وعي الأشخاص) و(وعي الجماعات) هو وعي اجتماعي وثقافي أيضاً يعتمد معرفة الناس واختلاف أصنافهم وطبائعهم وأفكارهم وأهدافهم، وليس بوسعك كفرد أن تحصل على هذه المعرفة، ولذا فليس من العيب ولا من النقص أن تستشير العارفين حتى يطمئن قلبك.
ولعلّك تلاحظ أنّ المؤسّسات اليوم لا تقبل عضواً فيها إلّا بعد أن تطمئن إلى خلفيته، وإلى الحصول على معلومات كافية بشأنه من خلال استبيان أو مقابلة، بل تطلب منه أن يقدّم لها أسماء مَنْ يعرفونه جيِّداً حتى يمكن الاتِّصال بهم والتحقّق من المعلوكات التي أدلى بها، فكيف تستكثر على نفسك – وأنت الوحيد – السؤال من الآخرين في قضايا مصيرية تهمّك؟!
وينبغي أن يكون الشخص الذي تسأله ثقة وذا تجربة وقادراً على أن يشير عليك، كأن يكون أباك، أو أخاك الأكبر، أو أمّك، أو خالك، أو عمّك، أو إمام المسجد الذي تصلّي فيه، أو أي شخص ترجح وعيه وثقافته وقدرته على التشخيص والتمحيص.
- ثالثاً: الوعي الديني:
وهو وعي يتفرّع إلى وعيين:
1- وعي الإسلام.
2- وعي المسلمين.
فلأجل أن تعي الإسلام وعياً صحيحاً لابدّ لك من ان تأخذه صافياً نقياً من منابعه ومصادره الأصيلة (أي الكتاب والسنّة) وقد تكفّل الله بحفظ الكتاب المجيد مصوناً من التحريف والزيادة والنقصان فلا مشكلة.
أمّا السنّة النبويّة (أقوال النبي وأفعاله وتقريراته) فقد تعرّضت للكذب عليه والوضع والدسّ والتحريف، وحتى تتحقّق من صحّة السنّة اعرضها على كتاب الله فإنّ وافقته فخذ بها وإلّا فاضرب بها عرض الجدار.
وتلك عملية ليست بالسهلة، وهي مهمّة العلماء والباحثين والمحقِّقين، ولذا فإنّ الوعي الديني يتطلّب أن تتعرّف على هؤلاء لتعرف نزاهتهم واخلاصهم ومدى علمهم ومعرفتهم، فليس كلُّ ما كتب أو قيل في الإسلام يمثل أصالة الإسلام وبقاءه.
أمّا وعي المسلمين فيتطلّب منك أن تعرض المسلم على مرآة القرآن الكريم والسنّة المطهرة لترى كم هو قريب أو بعيد عن الإسلام.. أي اعرف الإسلام تعرف أهله.
كما أنّ وعيك بأخيك المسلم يستدعي أن لا تفكّره لأنّه لا يلتزم الإسلام التزاماً كليّاً، أو لأنّه يختلف معك في فهمه وتفسيره للنصوص، فالنصوص الإسلامية مقدسة ولكن تفسيرها غير مقدس، ولذلك تختلف التفاسير بإختلاف المفسرين.
وعيك بالمسلمين يتطلّب الرفق بهم، والأخذ بأيديهم إلى درجات العلم والمعرفة والمعروف درجة درجة، وأن لا تجور عليهم في أحكامك، وأن تلتقي معهم على النقاط المشتركة التي توحّد الصف وتجعله بنياناً مرصوصاً.
ووعي المسلمين يتطلّب أيضاً المعرفة الدقيقة بأئمة المسلمين، فلا يغرك الاسم والرسم فتنظر إلى السطح وتتصوّره العمق، فقد يكون الزي الديني للخداع والتمويه.
ووعي المسلمين يقتضيك أن لا تتعصّب لهم فترى أنّ أُمّة الإسلام بمن فيها وما فيها هي أفضل الأُمم.. ليكن لديك المعيار الذي تقيس وتميّز به، فالمسلم مسلمٌ ما سلم الناس والمسلمون – من باب أولى – من يده ولسانه، وهو خير الناس ما نفع الناس.
والوعي الديني – بعد هذا وذاك – يستدعي معرفة المسؤوليات الدينية والإجتماعية والأخلاقية والسياسية التي تتحمّلها سواء بالنسبة إليك كشخص أو إلى العائلة والمجتمع والحياة، وأن تميّز بين (الإسلام) وبين (المسلمين) فلا تلقي اللوم والتقصير والتخلّف والازدواجية والتجاوز على عاتق الإسلام وتنسى أنّ بعض المسلمين لم يحسن إسلامهم، وإلّا فالإسلام خيرُ مربّ وخيرُ مصلح ومعلّم وهاد.
- رابعاً: الوعي السياسي:
يشتمل الوعي السياسي على فهم عدّة أمور، منها:
1- الحركات والأحزاب والمؤسّسات، وقد تحدثنا عن ذلك في مناقشة (وعي الجماعات).
2- الشعارات.
3- الأحداث.
4- الأخبار.
فأمّا وعي الشعارات، وهي الآراء والأفكار المضغوطة في كلمات معدودات، للتعبير عن هدف معيّن، أو للتحريض على عمل معيّن أو الوقوف ضدّه، فيحتاج إلى معرفة:
أ) مُطلق الشعار: إلجأ إلى الأسئلة دائماً، وابحث عن الأجوبة شخصياً وبالتعاون مع الآخرين: مَنْ الذي أطلق الشعار؟ وما هي هويته الفكرية والسياسية؟ فقد ينطلي عليك الشعار السياسي الرنان البرّاق إذا لم تتعرف على هوية مطلقيه.
ب) مضمون الشعار: هل يحتوي على ترويج للباطل أو الإنحراف؟ هل يريد الدفاع عن الحق؟ هل هو (كلمة حق يراد بها باطل)؟ فقد تكون الشعارات صادقة لكن يراد الوصول من خلالها إلى أغراض مشبوهة ودنيئة، وقد تدّعي الدفاع عن حقوق الأكثرية لكنّها تبحث عن مصالح الأقلية.
كما يتطلّب وعي المضمون دراسته لمعرفة ما إذا كان يلتقي أو يتناقض مع ما تحمله من فكر وعقيدة، فقد يكون صحيحاً في الظاهر لكنّه مرفوض إسلامياً.
ج) المجال الذي يُطلق فيه: أي، إلى مَنْ يراد توجيه الشعار؟ إلى أي شريحة إجتماعية؟ ومَنْ هم الذين يصدّقونه ويروّجون له؟ وما هي تأثيراته الجانبية على متلقيه؟
د) الغاية من الشعار: ويمكن التعرّف على غاية أي شعار من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: لماذا في هذا الوقت بالذات؟ وما هي الأمور التي يستهدفها حاضراً ومستقبلاً؟
وأمّا وعي الأحداث المعاصرة أو التأريخية، فيتطلّب:
1- معرفة شخصيات الحدث.
2- معرفة مجريات الحدث.
وهذا ما يطلق عليه في بعض الدراسات بمعرفة (السند) و(المتن) فأيّما حدث سياسي، ولنفترض إبرام اتفاق أو معاهدة يحتاج لوعيه إلى معرفة القائمين أو الموقعين على الاتفاق، ومعرفة بنود الاتفاق والدواعي التي دعت إليه، ومن المستفيد منه، وما هي انعكاساته الداخلية والخارجية، الآنية والمستقبلية.
وأمّا معرفة ملابسات الحدث وتفاصيله وتداعياته والظروف المحيطة به: كيف بدأ؟ وكيف نما وتطوّر؟ وإلى أين انتهى؟ وما هي الجوانب الغامضة منه؟ فتعطيك تصوّراً عن طبيعة الحدث وسياقه وافرازاته.
وحتى تتمكّن من تحليل ورصد حدث معيّن لابدّ لك من ملاحقة أو متابعة لمجرياته، فلا يكفي أن تنظر إليه من خلال مقطع من مقاطعه، بل لابدّ من استقرائه من جذوره، لتقف على العوامل والأسباب التي صنعته، والتي صعّدته، والتي انتهت به إلى ما وصل إليه.
وأمّا وعي الأخبار فيحتاج أيضاً إلى الإجابة عن مجموعة من الأسئلة:
مَنْ؟ أي مَن الذي قال؟ ومَنْ الذي فعل؟
ماذا؟ أي ماذا قال؟ وماذا جرى؟
متى؟ أي في أي ظرف قاله، وفي أي وقت؟
أين؟ أي في أي مكان حصل ذلك؟
كيف؟ أي التفاصيل الأخرى المتعلّقة بالخبر.
وقد حذّر القرآن الكريم من تصديق الأخبار على علّاتها لئلّا يكون ذلك سبباً لتخريب العلاقات الإجتماعية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات/ 6).
وقد جاء في الحديث: "اعقل الخبر عقل رعاية لا عقل رواية" أي لا تأخذه كمسلّمة وإنّما ادرسه وتفحّصه جيِّداً، قبل أن تنقله بدورك، أو ترتب عليه أثراً.
- خامساً: الوعي الإعلامي:
وهذا الوعي يأتي كرديف أو مكمّل للوعي السياسي، فثمة تلازم شديد بين الإينين، وإن كان للإعلام مساحاته المستقلة.
وفي الوعي الإعلامي نحتاج إلى معرفة:
1- الجهلة الإعلامية المسوّقة (المُرسِل).
2- المضمون الإعلامي (الرسالة).
3- الجهة التي تبث إليها تلك الرسالة (المُستَقبِل).
فمعرفة هذه الأمور الثلاثة ضرورية حتى لا نقع في التضليل الإعلامي، لأنّ المتلاعبين بالعقول والعواطف في أجهزة الإعلام ووسائله المختلفة من الكثرة، بحيث يندر الصفاء الإعلامي.
والمراد بالجهة الإعلامية المسوّقة، تلك التي تقف وراء إعلام ما، تخطط به وترسم له طرق الوصول إلى المتلقّي مشاهداً ومستمعاً وقارئاً، وتضع له أهدافه الثابتة والمتغيِّرة، وقد تكون جهة رسمية أو أهلية، لكن معرفة ذلك وادراكه جيِّداً يحدّد الثقة بهذه الوسيلة الإعلامية أو تلك.
والمراد بالرسالة الإعلامية، مضمون المواد والبرامج والفعاليات التي يقدِّمها الإعلام، وبإمكانك أن تقرأ هوية الذين يقفون خلف هذه الرسالة من خلال الرسالة نفسها. فبالمتابعة الدقيقة والمستمرة سيتضح لك بأنّ طبيعة المادة الإعلامية المرسلة كاشفة – إلى حدٍّ بعيد – عن هويّة المُرسِلين، وقد لا تعرفهم بالوجوه والأسماء، لكنّك تعرفهم بالتوجهات.
وأمّا المراد بالمُستَقبِل، فهو أنت وأنا وسائر المستمعين والمشاهدين والقرّاء من مختلف الشرائح النسوية والرجالية والشبابية والأطفال، أي إنّنا المُستهدفون من الرسائل الإعلامية التي تدرس طباعنا وأمزجتنا وأذواقنا وغرائزنا وردود أفعالنا لتخاطبنا من خلالها.
وما لم نعِ ما يراد بنا من خلال وسائل الإعلام فإنّنا واقعون في فخ التضليل الإعلامي والإثارة الإعلامية بل والتسميم الإعلامي.
غير أنّ هذا لا يعني أنّ مواد الإعلام مسمومة كلّها، فالوعي الإعلامي، كما يفرز السلبي الرديء، يفرز الإيجابي النافع، وبذلك تتوازن النظرة إلى الإعلام.
- سادساً: الوعي الإقتصادي:
الوعي حلقات متكاملة غير منفصلة، أي أنّ حلقات الوعي أو دوائر تتنافذ على بعضها البعض. فالوعي الإقتصادي وهو معرفة حركة الإقتصاد والمال في المنجم والسوق والاستهلاك، غير منفصل بالمرّة عن الوعي السياسي والوعي الإعلامي والوعي الثقافي والوعي الديني ووعي الأشخاص الجماعات.
فالمواد المصنّعة حيادية، لكنّ الجهات المُنِّعة ليست بريئة دائماً، وإنّما هي تحمّل السلع والخدمات رسالتها أيضاً، كما مرّ بنا في الجانب الإعلامي، فما من سلعة أو بضاعة إلّا ولها وجهان (وجه استهلاكي) ويتمثل بالانتفاع من استخدامها، و(وجه ثقافي) يتمثّل فيها تعبّر عنه من مضمون مادي أو معنوي.
إنّ غرس النزعة الاستهلاكية فيك هدف لغالبية التجّار حتى وإن طرحوا بضائعهم على أنّها توفر لك الراحة وتحقّق المزيد من الرفاه. فالهدف الأوّل تحقيق أكبر نسبة من الأرباح للمنتج والمصدّر والبائع، أمّا المستهلك فهو هدف لهؤلاء الثلاثة.
إنّ الموجة الإعلانية التي تغمرك طوال ساعات البث التلفزيوني في الترويج لبضائع عديدة، لا تدعك حرّاً أو تفكّر بإستقلال تام، فهي موجة إيحائية مؤثرة تصوّر لك ما هو ثانوي وكمالي على أنّه أساسي وضروري، وسمة من سمات العصر، الأمر الذي يجعلك كمستهلك تدور في دوّامة (حمّى التسوّق) ليس على صعيد الأثرياء فقط، بل حتى بالنسبة لذوي الدخل المحدود أو المتوسّط.
والوعي الإقتصادي لا يقتصر على معرفة الإستهلاك وخفاياه، بل يشكل كلّ الحركة الإقصادية سواء من حيث الإنتاج والاستثمار والديون والشروط الموضوعة من قبل الدائنين، والتبعية الإقتصادية التي تجر معها عجلة التبعية السياسية، والتصرّف بأسواق النفط والعملات وما إلى ذلك.
- فوائد الوعي:
وحتى نلخّص رسالة هذا الكتيب، نقول إنّ للبصيرة أو الوعي فوائده الكثيرة، ومنها:
1- الغوص في الأعماق وعدم الوقوف عند السطح. فقد يكون السطح لامعاً برّاقاً لكنّ ما تحته خواء، أو جيفة، أو خطر محدق، أو معدن مزيّف، أي أنّ الوعي يجنبنا من الوقوع في الخداع والتغرير والتضليل والتزوير.
2- الوعي يفيدنا في الربط بين الأشياء. فما قد يبدو في الظاهر منفصلاً عن بعضه، هو ذو علاقة – بنحو أو بآخر – بغيره من الأشياء، كما هي علاقة الإعلام بالسياسة وعلاقتهما بالثقافة وعلاقة الجميع بالتربية. وبمعنى آخر، إنّ الواعي ينظر إلى الأمور والأشياء نظرة شمولية، وليس نظرة تجزيئية، حتى يدرك العلاقة بينها.
3- إنّ التديُّن والإيمان يستلزم بالضرورة الوعي والبصيرة، أمّا إذا كان تديننا بلا وعي وإيماننا بلا بصيرة، فإنّه سيكون تديُّناً ساذجاً. ولذا فإنّنا حينما نقرأ في الحديث: "حبذا نومُ الأكياس وفطرهم" فإنّنا نفهم بأنّ قيمة (الوعي) أكبر من قيمة (التديُّن) فإذا اجتمعنا فهو الخير.
4- الوعي ذو أثر أكبر من دائرة الشخص الواعي نفسه، فهو بوعيه يمكن أن ينير الدرب للآخرين الذين تنطلي عليهم الألاعيب والخدع والشعارات والتصريحات والإعلانات والدعايات، أي أنّه يفتح عيونهم للإبصار أكثر، وهذا ما يفعله أرباب الوعي الإسلامي العميق في كتاباتهم وخطاباتهم التي تزيد في وعينا وقدرتنا على التشخيص الدقيق.
5- الوعي يفتح الأبواب المقفلة بالكثير من الاستيضاحات والأسئلة: مَنْ؟
ولماذا؟ ومتى؟ وكيف؟
أي أن كلّ شيء بالنسبة للواعي مادّة للدرس، يأخذ منها درساً وعبرة ويحلّلها، ويقرأها بعيون ثانية، فيزداد معرفة بالأشياء والأفكار والعلاقات.
البلاغ