شرح معنى قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ.
.......
قال الله تعالى: و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
و السؤال هو: أن بعض المسلمين يأخذون بهذه الآية أنه لا حرج على المسلم أن يذهب و يشد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه و سلم يسأله أن يستغفر له رسول الله و هو في قبره،فهل هذا العمل صحيح كما قال تعالى؟
و هل معنى جاءوك باللغة أنه: جاءوك في حياتك أم في موتك؟
و هل يرتد المسلم عن الإسلام إذا لم يحكم سنة رسول الله؟
و هل التشاجر على الدنيا أم على الدين؟
...............
هذه الآية الكريمة فيها حث الأمة على المجيء إليه إذا ظلموا أنفسهم بشيء من المعاصي،أو وقعوا فيما هو أكبر من ذلك من الشرك أن يجيئوا إليه تائبين نادمين حتى يستغفر لهم عليه الصلاة و السلام،و المراد بهذا المجيء:
المجيء إليه في حياته صلى الله عليه و سلم،و هو يدعو المنافقين و غيرهم إلى أن يأتوا إليه ليعلنوا توبتهم و رجوعهم إلى الله،و يطلبوا منه عليه الصلاة و السلام أن يسأل الله أن يقبل توبتهم و أن يصلح أحوالهم و لهذا قال: وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ[1] فطاعة الرسول إنما تكون بإذن الله.
يعني الإذن الكوني القدري،فمن أذن الله له و أراد هدايته اهتدى،و من لم يأذن الله في هدايته لم يهتد،فالأمر بيده سبحانه،ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن..وَ مَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[2].
أما الإذن الشرعي فقد أذن سبحانه لجميع الثقلين أن يهتدوا و أراد منهم ذلك شرعا و أمرهم به،كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ[3]،و قال سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[4]،ثم قال: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ[5].
أي تائبين نادمين لا مجرد قول،و استغفر لهم الرسول أي: دعا لهم بالمغفرة،لوجدوا الله توابا رحيما فهو حث لهم أي للعباد على أن يأتوا للرسول صلى الله عليه و سلم ليعلنوا عنده توبتهم و ليسأل الله لهم؟ و ليس المراد بعد وفاته صلى الله عليه و سلم كما يظنه بعض الجهال،فالمجيء إليه بعد موته لهذا الغرض غير مشروع و إنما يؤتى للسلام عليه لمن كان في المدينة أو وصل إليها من خارجها لقصد الصلاة بالمسجد و القراءة فيه و نحو ذلك،فإذا أتى المسجد سلم على الرسول صلى الله عليه و سلم و على صاحبيه،لكن لا يشد الرحل من أجل زيارة القبر فقط،بل من أجل المسجد و تكون الزيارة لقبره صلى الله عليه و سلم، و قبر الصديق،و عمر رضي الله عنهما تابعة لزيارة المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام،و مسجدي هذا،و المسجد الأقصى)) متفق على صحته،فالقبور لا تشد إليها الرحال،و لكن متى وصل إلى المسجد النبوي فإنه يشرع له أن يسلم عليه صلى الله عليه و سلم،و يسلم على صاحبيه رضي الله عنهما،لكن لا يشد الرحال من أجل الزيارة فقط للحديث المتقدم.
و أما ما يتعلق بالاستغفار: فهذا يكون في حياته لا بعد وفاته،و الدليل على هذا أن الصحابة لم يفعلوا ذلك،و هم أعلم الناس بالنبي صلى الله عليه و سلم،و أفقه الناس في دينه،و لأنه عليه السلام لا يملك ذلك بعد وفاته،عليه السلام،كما قال صلى الله عليه و سلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية،أو علم ينتفع به،أو ولد صالح يدعو له)).
و أما ما أخبر به عليه الصلاة و السلام أن من صلى عليه تعرض صلاته عليه فذلك شيء خاص يتعلق بالصلاة عليه،و من صلى عليه صلى الله عليه بها عشرا،و قال عليه الصلاة و السلام: ((أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي)) قيل: يا رسول الله كيف و قد أرمت؟ أي بليت، قال: ((إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) فهذا حكم خاص بالصلاة عليه.
و في الحديث الآخر عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام))،فهذا شيء خاص للرسول صلى الله عليه و سلم،و أنه يبلغ ذلك،و أما أن يأتي من ظلم نفسه ليتوب عند القبر و يستغفر عند القبر فهذا لا أصل له،بل هو منكر و لا يجوز و هو وسيلة للشرك،مثل أن يأتي فيسأله الشفاعة أو شفاء المريض أو النصر على الأعداء أو نحو ذلك،أو يسأله أن يدعو له فهذا لا يجوز؛لأن هذا ليس من خصائصه صلى الله عليه و سلم بعد وفاته و لا من خصائص غيره،فكل من مات لا يدعى و لا يطلب منه الشفاعة لا النبي و لا غيره،و إنما الشفاعة تطلب منه في حياته،فيقال: يا رسول الله اشفع لي أن يغفر الله لي،اشفع لي أن يشفي الله مريضي،و أن يرد غائبي،و أن يعطيني كذا و كذا،و هكذا يوم القيامة بعد البعث و النشور،فإن المؤمنين يأتون آدم ليشفع لهم إلى الله حتى يقضي بينهم فيعتذر و يحيلهم إلى نوح،فيأتونه فيعتذر ثم يحيلهم نوح إلى إبراهيم،فيعتذر فيحيلهم إبراهيم إلى موسى،فيعتذر ثم يحيلهم موسى إلى عيسى،فيعتذر -عليهم جميعا الصلاة و السلام- ثم يحيلهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه و سلم،فيأتونه فيقول عليه الصلاة و السلام: ((أنا لها أنا لها))،فيتقدم و يسجد تحت العرش و يحمد ربه بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه،ثم يقال له: ((ارفع رأسك و قل تسمع و سل تعط و اشفع تشفع))،فيشفع صلى الله عليه و سلم في أهل الموقف حتى يقضى بينهم،و هكذا يشفع في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة؛لأنه صلى الله عليه و سلم موجود،أما في البرزخ بعد وفاته صلى الله عليه و سلم فلا يسأل الشفاعة و لا يسأل شفاء المريض و لا رد الغائب و لا غير ذلك من الأمور،و هكذا بقية الأموات لا يسألون شيئا من هذه الأمور،بل يدعى لهم و يستغفر لهم إذا كانوا مسلمين،و إنما تطلب هذه الأمور من الله سبحانه،مثل أن يقول المسلم: اللهم شفع في نبيك عليه الصلاة و السلام،اللهم اشف مريضي،اللهم انصرني على عدوي،و نحو ذلك؛لأنه سبحانه يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[6]،و يقول عز و جل: وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.[7] الآية.
أما قوله تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.[8] الآية فهي عامة على ظاهرها،فلا يجوز للمسلمين أن يخرجوا على شريعة الله،بل يجب عليهم أن يحكموا شرع الله في كل شيء، فيما يتعلق بالعبادات،و فيما يتعلق بالمعاملات،و في جميع الشئون الدينية و الدنيوية لكونها تعم الجميع،و لأن الله سبحانه يقول: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[9]،و يقول: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[10]،وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[11]،وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[12]،فهذه الآيات عامة لجميع الشئون التي يتنازع فيها الناس و يختلفون فيها،و لهذا قال سبحانه: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ يعني الناس من المسلمين و غيرهم حَتَّى يُحَكِّمُوكَ يعني محمدا صلى الله عليه و سلم،و ذلك بتحكيمه صلى الله عليه و سلم حال حياته و تحكيم سنته بعد وفاته،فالتحكيم لسنته هو التحكيم لما أنزل من القرآن و السنة،فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما تنازعوا فيه،هذا هو الواجب عليهم أن يحكموا القرآن الكريم،و الرسول صلى الله عليه و سلم في حياته و بعد وفاته باتباع سنته التي هي بيان القرآن الكريم و تفسير له و دلالة على معانيه،أما قوله سبحانه ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا فمعناه أنه يجب أن تنشرح صدورهم لحكمه صلى الله عليه و سلم،و ألا يبقى في صدروهم حرج مما قضى بحكمه عليه الصلاة و السلام؛لأن حكمه هو الحق الذي لا ريب فيه و هو حكم الله عز و جل،فالواجب التسليم له و انشراح الصدر بذلك و عدم الحرج،بل عليهم أن يسلموا لذلك تسليما كاملا رضا بحكم الله و اطمئنانا إليه،هذا هو الواجب على جميع المسلمين فيما شجر بينهم من دعاوى و خصومات،سواء كانت متعلقة بالعبادات أو بالأموال أو بالأنكحة أو الطلاق أو بغيرها من شؤونهم.
و هذا الإيمان المنفي هو أصل الإيمان بالله و رسوله بالنسبة إلى تحكيم الشريعة و الرضا بها، و الإيمان بأنها الحكم بين الناس،فلا بد من هذا،فمن زعم أنه يجوز الحكم بغيرها أو قال: إنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى الآباء أو إلى الأجداد أو إلى القوانين الوضيعة التي وضعها الرجال سواء كانت شرقية أو غربية فمن زعم أن هذا يجوز فإن الإيمان منتف عنه و يكون بذلك كافرا كفرا أكبر،فمن رأى أن شرع الله لا يجب تحكيمه و لكن لو حكم كان أفضل،أو رأى أن القانون أفضل،أو رأى أن القانون يساوي حكم الله فهو مرتد عن الإسلام.
و هي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يقول: إن الشرع أفضل و لكن لا مانع من تحكيم غير الشرع.
النوع الثاني: أن يقول: إن الشرع و القانون سواء و لا فرق.
النوع الثالث: أن يقول إن القانون أفضل و أولى من الشرع.و هذا أقبح الثلاثة،و كلها كفر و ردة عن الإسلام.
أما الذي يرى أن الواجب تحكيم شرع الله،و أنه لا يجوز تحكيم القوانين و لا غيرها مما يخالف شرع الله و لكنه قد يحكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه ضد المحكوم عليه،أو لرشوة،أو لأمور سياسية،أو ما أشبه ذلك من الأسباب و هو يعلم أنه ظالم و مخطئ و مخالف للشرع فهذا يكون ناقص الإيمان،و قد انتفى في حقه كمال الإيمان الواجب،و هو بذلك يكون كافرا كفرا أصغر و ظالما ظلما أصغر و فاسقا فسقا أصغر،كما صح معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما و مجاهد و جماعة من السلف رحمهم الله،و هو قول أهل السنة و الجماعة خلافا للخوارج و المعتزلة و من سلك سبيلهم.
و الله المستعان.
..........
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى.
الموقع الرئيسي للشيخ
..............
[1] سورة النساء الآية 64.
[2] سورة التكوير الآية 29.
[3] سورة البقرة الآية 21.
[4] سورة النساء الآية 26.
[5] سورة النساء الآية 64.
[6] سورة غافر الآية 60.
[7] سورة البقرة الآية 186
[8] سورة النساء الآية 65.
[9] سورة المائدة الآية 50.
[10] سورة المائدة الآية 44.
[11] سورة المائدة الآية 45.
[12] سورة المائدة الآية 47.
.......
قال الله تعالى: و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
و السؤال هو: أن بعض المسلمين يأخذون بهذه الآية أنه لا حرج على المسلم أن يذهب و يشد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه و سلم يسأله أن يستغفر له رسول الله و هو في قبره،فهل هذا العمل صحيح كما قال تعالى؟
و هل معنى جاءوك باللغة أنه: جاءوك في حياتك أم في موتك؟
و هل يرتد المسلم عن الإسلام إذا لم يحكم سنة رسول الله؟
و هل التشاجر على الدنيا أم على الدين؟
...............
هذه الآية الكريمة فيها حث الأمة على المجيء إليه إذا ظلموا أنفسهم بشيء من المعاصي،أو وقعوا فيما هو أكبر من ذلك من الشرك أن يجيئوا إليه تائبين نادمين حتى يستغفر لهم عليه الصلاة و السلام،و المراد بهذا المجيء:
المجيء إليه في حياته صلى الله عليه و سلم،و هو يدعو المنافقين و غيرهم إلى أن يأتوا إليه ليعلنوا توبتهم و رجوعهم إلى الله،و يطلبوا منه عليه الصلاة و السلام أن يسأل الله أن يقبل توبتهم و أن يصلح أحوالهم و لهذا قال: وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ[1] فطاعة الرسول إنما تكون بإذن الله.
يعني الإذن الكوني القدري،فمن أذن الله له و أراد هدايته اهتدى،و من لم يأذن الله في هدايته لم يهتد،فالأمر بيده سبحانه،ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن..وَ مَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[2].
أما الإذن الشرعي فقد أذن سبحانه لجميع الثقلين أن يهتدوا و أراد منهم ذلك شرعا و أمرهم به،كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ[3]،و قال سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[4]،ثم قال: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ[5].
أي تائبين نادمين لا مجرد قول،و استغفر لهم الرسول أي: دعا لهم بالمغفرة،لوجدوا الله توابا رحيما فهو حث لهم أي للعباد على أن يأتوا للرسول صلى الله عليه و سلم ليعلنوا عنده توبتهم و ليسأل الله لهم؟ و ليس المراد بعد وفاته صلى الله عليه و سلم كما يظنه بعض الجهال،فالمجيء إليه بعد موته لهذا الغرض غير مشروع و إنما يؤتى للسلام عليه لمن كان في المدينة أو وصل إليها من خارجها لقصد الصلاة بالمسجد و القراءة فيه و نحو ذلك،فإذا أتى المسجد سلم على الرسول صلى الله عليه و سلم و على صاحبيه،لكن لا يشد الرحل من أجل زيارة القبر فقط،بل من أجل المسجد و تكون الزيارة لقبره صلى الله عليه و سلم، و قبر الصديق،و عمر رضي الله عنهما تابعة لزيارة المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام،و مسجدي هذا،و المسجد الأقصى)) متفق على صحته،فالقبور لا تشد إليها الرحال،و لكن متى وصل إلى المسجد النبوي فإنه يشرع له أن يسلم عليه صلى الله عليه و سلم،و يسلم على صاحبيه رضي الله عنهما،لكن لا يشد الرحال من أجل الزيارة فقط للحديث المتقدم.
و أما ما يتعلق بالاستغفار: فهذا يكون في حياته لا بعد وفاته،و الدليل على هذا أن الصحابة لم يفعلوا ذلك،و هم أعلم الناس بالنبي صلى الله عليه و سلم،و أفقه الناس في دينه،و لأنه عليه السلام لا يملك ذلك بعد وفاته،عليه السلام،كما قال صلى الله عليه و سلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية،أو علم ينتفع به،أو ولد صالح يدعو له)).
و أما ما أخبر به عليه الصلاة و السلام أن من صلى عليه تعرض صلاته عليه فذلك شيء خاص يتعلق بالصلاة عليه،و من صلى عليه صلى الله عليه بها عشرا،و قال عليه الصلاة و السلام: ((أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي)) قيل: يا رسول الله كيف و قد أرمت؟ أي بليت، قال: ((إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) فهذا حكم خاص بالصلاة عليه.
و في الحديث الآخر عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام))،فهذا شيء خاص للرسول صلى الله عليه و سلم،و أنه يبلغ ذلك،و أما أن يأتي من ظلم نفسه ليتوب عند القبر و يستغفر عند القبر فهذا لا أصل له،بل هو منكر و لا يجوز و هو وسيلة للشرك،مثل أن يأتي فيسأله الشفاعة أو شفاء المريض أو النصر على الأعداء أو نحو ذلك،أو يسأله أن يدعو له فهذا لا يجوز؛لأن هذا ليس من خصائصه صلى الله عليه و سلم بعد وفاته و لا من خصائص غيره،فكل من مات لا يدعى و لا يطلب منه الشفاعة لا النبي و لا غيره،و إنما الشفاعة تطلب منه في حياته،فيقال: يا رسول الله اشفع لي أن يغفر الله لي،اشفع لي أن يشفي الله مريضي،و أن يرد غائبي،و أن يعطيني كذا و كذا،و هكذا يوم القيامة بعد البعث و النشور،فإن المؤمنين يأتون آدم ليشفع لهم إلى الله حتى يقضي بينهم فيعتذر و يحيلهم إلى نوح،فيأتونه فيعتذر ثم يحيلهم نوح إلى إبراهيم،فيعتذر فيحيلهم إبراهيم إلى موسى،فيعتذر ثم يحيلهم موسى إلى عيسى،فيعتذر -عليهم جميعا الصلاة و السلام- ثم يحيلهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه و سلم،فيأتونه فيقول عليه الصلاة و السلام: ((أنا لها أنا لها))،فيتقدم و يسجد تحت العرش و يحمد ربه بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه،ثم يقال له: ((ارفع رأسك و قل تسمع و سل تعط و اشفع تشفع))،فيشفع صلى الله عليه و سلم في أهل الموقف حتى يقضى بينهم،و هكذا يشفع في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة؛لأنه صلى الله عليه و سلم موجود،أما في البرزخ بعد وفاته صلى الله عليه و سلم فلا يسأل الشفاعة و لا يسأل شفاء المريض و لا رد الغائب و لا غير ذلك من الأمور،و هكذا بقية الأموات لا يسألون شيئا من هذه الأمور،بل يدعى لهم و يستغفر لهم إذا كانوا مسلمين،و إنما تطلب هذه الأمور من الله سبحانه،مثل أن يقول المسلم: اللهم شفع في نبيك عليه الصلاة و السلام،اللهم اشف مريضي،اللهم انصرني على عدوي،و نحو ذلك؛لأنه سبحانه يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[6]،و يقول عز و جل: وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.[7] الآية.
أما قوله تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.[8] الآية فهي عامة على ظاهرها،فلا يجوز للمسلمين أن يخرجوا على شريعة الله،بل يجب عليهم أن يحكموا شرع الله في كل شيء، فيما يتعلق بالعبادات،و فيما يتعلق بالمعاملات،و في جميع الشئون الدينية و الدنيوية لكونها تعم الجميع،و لأن الله سبحانه يقول: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[9]،و يقول: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[10]،وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[11]،وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[12]،فهذه الآيات عامة لجميع الشئون التي يتنازع فيها الناس و يختلفون فيها،و لهذا قال سبحانه: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ يعني الناس من المسلمين و غيرهم حَتَّى يُحَكِّمُوكَ يعني محمدا صلى الله عليه و سلم،و ذلك بتحكيمه صلى الله عليه و سلم حال حياته و تحكيم سنته بعد وفاته،فالتحكيم لسنته هو التحكيم لما أنزل من القرآن و السنة،فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما تنازعوا فيه،هذا هو الواجب عليهم أن يحكموا القرآن الكريم،و الرسول صلى الله عليه و سلم في حياته و بعد وفاته باتباع سنته التي هي بيان القرآن الكريم و تفسير له و دلالة على معانيه،أما قوله سبحانه ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا فمعناه أنه يجب أن تنشرح صدورهم لحكمه صلى الله عليه و سلم،و ألا يبقى في صدروهم حرج مما قضى بحكمه عليه الصلاة و السلام؛لأن حكمه هو الحق الذي لا ريب فيه و هو حكم الله عز و جل،فالواجب التسليم له و انشراح الصدر بذلك و عدم الحرج،بل عليهم أن يسلموا لذلك تسليما كاملا رضا بحكم الله و اطمئنانا إليه،هذا هو الواجب على جميع المسلمين فيما شجر بينهم من دعاوى و خصومات،سواء كانت متعلقة بالعبادات أو بالأموال أو بالأنكحة أو الطلاق أو بغيرها من شؤونهم.
و هذا الإيمان المنفي هو أصل الإيمان بالله و رسوله بالنسبة إلى تحكيم الشريعة و الرضا بها، و الإيمان بأنها الحكم بين الناس،فلا بد من هذا،فمن زعم أنه يجوز الحكم بغيرها أو قال: إنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى الآباء أو إلى الأجداد أو إلى القوانين الوضيعة التي وضعها الرجال سواء كانت شرقية أو غربية فمن زعم أن هذا يجوز فإن الإيمان منتف عنه و يكون بذلك كافرا كفرا أكبر،فمن رأى أن شرع الله لا يجب تحكيمه و لكن لو حكم كان أفضل،أو رأى أن القانون أفضل،أو رأى أن القانون يساوي حكم الله فهو مرتد عن الإسلام.
و هي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يقول: إن الشرع أفضل و لكن لا مانع من تحكيم غير الشرع.
النوع الثاني: أن يقول: إن الشرع و القانون سواء و لا فرق.
النوع الثالث: أن يقول إن القانون أفضل و أولى من الشرع.و هذا أقبح الثلاثة،و كلها كفر و ردة عن الإسلام.
أما الذي يرى أن الواجب تحكيم شرع الله،و أنه لا يجوز تحكيم القوانين و لا غيرها مما يخالف شرع الله و لكنه قد يحكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه ضد المحكوم عليه،أو لرشوة،أو لأمور سياسية،أو ما أشبه ذلك من الأسباب و هو يعلم أنه ظالم و مخطئ و مخالف للشرع فهذا يكون ناقص الإيمان،و قد انتفى في حقه كمال الإيمان الواجب،و هو بذلك يكون كافرا كفرا أصغر و ظالما ظلما أصغر و فاسقا فسقا أصغر،كما صح معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما و مجاهد و جماعة من السلف رحمهم الله،و هو قول أهل السنة و الجماعة خلافا للخوارج و المعتزلة و من سلك سبيلهم.
و الله المستعان.
..........
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى.
الموقع الرئيسي للشيخ
..............
[1] سورة النساء الآية 64.
[2] سورة التكوير الآية 29.
[3] سورة البقرة الآية 21.
[4] سورة النساء الآية 26.
[5] سورة النساء الآية 64.
[6] سورة غافر الآية 60.
[7] سورة البقرة الآية 186
[8] سورة النساء الآية 65.
[9] سورة المائدة الآية 50.
[10] سورة المائدة الآية 44.
[11] سورة المائدة الآية 45.
[12] سورة المائدة الآية 47.
عدل سابقا من قبل In The Zone في الجمعة يونيو 01, 2012 9:01 pm عدل 1 مرات