........
بين اندلاع مظاهرات الشبان المصريين الأولى يوم 25 يناير/ كانون الثاني2011 و خطاب الرئيس مبارك الثاني للشعب بخصوص المواجهة بين نظام الحكم و الحركة الشعبية فجر 2 فبراير/ شباط،عاشت مصر بعضاً من أبرز الأحداث في تاريخها.
خلال أيام قليلة من اندلاع المظاهرات،انفجرت ثورة شعبية بكل معنى الكلمة،أطلقها و قادها مجموعة من الشبان المتعلمين،أغلبهم من أبناء الطبقة الوسطى المصرية التي تعرضت في العقود القليلة الماضية لضغوط اجتماعية هائلة،و استشعرت حجم التراجع الذي تعرض له دور مصر و موقعها في محيطها و العالم.
و لكن الحركة الشعبية سرعان ما اتسعت لتضم كافة فئات الشعب و تغطي عموم الجغرافيا المصرية، من الإسكندرية إلى أسوان،و من العريش إلى مرسى مطروح.و قد جاء خطاب الرئيس مبارك الثاني عشية يوم احتجاج غير مسبوق في تاريخ مصر.
احتلت الثورة المصرية موقعاً بارزاً في اهتمامات العرب و العالم،و لم يعد ثمة شك في أنها ستترك أثراً بالغاً على مستقبل المشرق العربي–الإسلامي و علاقات المشرق و شعوبه بالعالم.
و لكن السؤال الهام الآن يتعلق بمستقبل مصر القريب،و بما يمكن أن ينجم عن الثورة المصرية من نتائج خلال الأسابيع و الشهور القليلة القادمة،سيما أن خطاب مبارك الأخير أكد على إصرار الرئيس على البقاء في موقعه حتى نهاية فترته الرئاسية الحالية في سبتمبر/ أيلول القادم،مرفوق بوعود بالإصلاح السياسي و الدستوري.
........
- ثورة شعبية و اضطراب قوى المعارضة السياسية.
ليس ثمة قوة سياسية واحدة تقف خلف الحركة الشعبية المصرية،بالرغم من وجود قوى معارضة سياسية عديدة في الساحة المصرية،بعضها قانوني و معترف به و البعض الآخر غير قانوني و غير معترف به.
و لكن ما أن اتسع نطاق الحركة الشعبية و اتخذت من ميدان التحرير بوسط القاهرة مركزاً لها، حتى التحقت بها جموع من الشبان المنتمين للقوى السياسية،إضافة إلى قادة و كوادر الأحزاب.
لم يكن من المتوقع أن تتحول المجموعات الشبابية النشطة،اختلاف مشاربها،في فترة قصيرة إلى حزب سياسي مؤطر،أو أن تنجح في طرح قيادة تمثيلية و برنامج سياسي محدد.
و أصبح على القوى السياسية المعارضة المتواجدة أصلاً أن تفرز هيئة تمثيلية واسعة الطيف للحركة الشعبية و أن تحول مطالب التغيير الشامل التي حملتها الحركة الشعبية إلى برنامج سياسي و تصور لانتقال سريع و منظم و سلمي للسلطة،يحقق مطالب الإصلاح السياسي و الاجتماعي.
بيد أن القوى السياسية لم تستطع خلال الأسبوع الأول من الحركة الشعبية الإتفاق فيما بينها، و ربما كان هذا أهم العناصر التي شجعت مبارك على إلقاء خطاب 2 فبراير/ شباط.
و قدر برز بين قوى لمعارضة توجهان رئيسان:
الأول،و عبّر عنه بيان الإخوان المسلمين في 1 فبراير/ شباط، الذي رفض الحوار مع الرئيس و نائبه الجديد،و دعا إلى تنحي الرئيس و مجموعته عن الحكم و حل مجلسي الشعب و الشورى،و تولي رئيس المحكمة الدستورية العليا الرئاسة مؤقتاً.
أما التوجه الثاني،و الذي يمثله حزبا الوفد و التجمع،فالمرجح أنه يقبل بالحوار مع نائب الرئيس،مع دعوته المعلنة لتخلي الرئيس عن الحكم،بمعنى أنه يقبل بانتقال الرئاسة لنائب الرئيس،و من ثم الاتفاق مع نائب الرئيس على جملة إصلاحات ببرنامج زمني.
هذا لا يعني بالطبع أن المواقف ثابتة؛فالحقيقة أن مواقف الأحزاب السياسية تتغير باستمرار؛ و ليس من المستبعد أن يؤدي خطاب إعلان الرئيس عن إصراره على البقاء إلى تبلور مواقف جديدة من الأحزاب السياسية.
..........
- نظام حكم متشبث
تمثلت استجابة الرئيس الأولى للحركة الشعبية بتعيين السيد عمر سليمان،رئيس جهاز المخابرات المصرية بالغ النفوذ و المقرب من الرئيس مبارك و أحد الصانعين الرئيسيين لسياسية مصر الخارجية خلال العقد الأخير،نائباً للرئيس.
كما أعلن مبارك إقالة حكومة نظيف،التي اتبعت سياسية اقتصادية نيو–ليبرالية و عجت برجال الإعلام،و تعيين أحمد شفيق،قائد القوات الجوية الأسبق و المسؤول عن الطيران المدني و أحد المقربين للرئيس مبارك،رئيساً للوزراء.
و الواضح أن الخطوتين قصد بهما الإيحاء بأن النظام قد تخلى عن توريث الحكم لإبن الرئيس و أن الرئيس لن يترشح ثانية للرئاسة في سبتمبر/ أيلول المقبل،و أن الوزارة الجديدة ستجتجيب للمطالب الاجتماعية للحركة الشعبية.
و سرعان ما كلف الرئيس نائبه ببدء حوار مع قوى المعارضة،بدون أن يحدد معنى هذا الحوار،و القوى التي ستدعى للمشاركة فيه.
انسحبت قوات الأمن من شوارع المدن بعد المواجهات الدامية مع المتظاهرين يوم الجمعة 28 يناير/ كانون الثاني،و فتحت أبواب السجون لهروب الآلاف من مساجين الحق العام و بعض المعتقلين السياسيين.
و بدا أن مراهنة النظام الثانية تدور حول توليد الخوف في المدن المصرية من انتشار النهب و السلب و إمكانية انفجار العنف،إضافة إلى إرهاق المتظاهرين.
بيد أن هذه الخطوات لم تنجح في احتواء الحركة الشعبية،التي تطورت إلى مظاهرات الأول من فبراير/ شباط المليونية.و كان ملفتاً مساء 31 يناير/ كانون الثاني أن صدور بيان الجيش المصري الذي أعلن عن اعتراف القوات المسلحة بشرعية مطالب الشعب و التأكيد من جديد على أن قوات الجيش المنتشرة في أنحاء المدن المصرية لن تواجه الشعب،بل ستعمل على حمايته و حماية الممتلكات العامة و الخاصة.
و لكن الجيش كما يبدو ظل ملتزماً موقف الحياد الدستوري بين الحركة الشعبية و النظام،بمعنى الظهور بمظهر المتعاطف مع الشعب و الإحجام عن اتخاذ أية خطوة ذات سمة انقلابية،حريصاً على الحفاظ على جسم الدولة.
و ربما لا يختلف موقف أركان النظام الآخرين،بما في ذلك نائب الرئيس سليمان و رئيس الوزراء شفيق كثيراً في اقتناعهم بأن حكم مبارك قد انتهى بالفعل،بدون أن يتخذوا خطوة تفسر بالإنقلاب عليه،إما لأن ثمة رغبة بالحفاظ على المسار الدستوري،أو الخوف من أن تؤدي إطاحة الرئيس بالفعل الشعبي إلى الإطاحة بالنظام ككل.
و قد تمثل التطور الملفت الآخر في تحريك النظام لعدة آلاف من أنصاره صبيحة 2 فبراير/ شباط للتظاهر دعماً للرئيس و تأييد الخطاب الذي أدلى به.و لكن مظاهرات دعم الرئيس لم تقترب و لو قليلاً من حجم المظاهرات الداعية إلى إطاحته؛و لكنها تؤشر على أية حال إلى تصميم الرئيس على البقاء في موقعه،و إلى أن الاستجابة للحركة الشعبية لن تكون إلا جزئية و بطيئة.
.........
- مواقف الخارج
بالنظر إلى علاقات التحالف المصرية–الأميركية الوثيقة،فقد وجهت الأنظار من البداية إلى رد الفعل الأميركي.و قد تطور موقف إدارة أوباما من تصريحات التأكيد على استقرار مصر إلى تصريح وزيرة الخارجية الأميركية يوم الأحد 30 يناير/ كانون الثاني الداعي إلى "انتقال منظم للسلطة".
و الواضح أن واشنطن أفادت من تجاربها السابقة،و تحركت سريعاً إلى دعم توجهات التحول الديمقراطي في مصر.
الدافع الرئيس خلف التطور السريع في الموقف الأميركي ينبع من خوف واشنطن من تفاقم الأوضاع في مصر إلى انهيار بالغ للدولة المصرية،و ولادة نظام حكم راديكالي معاد للولايات المتحدة و للدولة العبرية.
و ظل الموقف الأميركي على دعوته لانتقال سلمي و منظم للحكم بعد الاتصال الذي قام به الرئيس أوباما بالرئيس مبارك،بعد إلقاء الأخير خطابه المثير في الساعات الأولى من فبراير/ شباط.و لم يختلف موقف الدول الأوروبية الرئيسية،فرنسا و ألمانيا و بريطانيا،كثيراً عن الموقف الأميركي، و إن جاءت لاحقة بالأخير.
الإعتقاد الواسع أن الأميركيين لا يرغبون في أن يسيطر نائب الرئيس سليمان على المرحلة الإنتقالية،و أنهم باتوا يؤيدون دوراً رئيساً للمعارض الليبرالي محمد البرادعي،بالرغم من اختلاف الرأي في الأوساط السياسية المصرية المعارضة حول البرادعي و دوره.
و لكن طبيعة النظام المصري و عمق جذور الدولة المصرية يجعل الدور الأميركي محدوداً.فالأميركيون لن يستيطيعوا،و إن أرادوا،فرض تنحي مبارك،و لا فرض مَن يريدون لقيادة المرحلة الانتقالية إن نجحت الحركة الشعبية في إطاحته.
الدعم الأبرز للرئيس مبارك جاء من قادة الدولة العبرية،و من المملكة العربية السعودية،إلى جانب تعاطف غير مؤثر بالضرورة من زعماء عرب آخرين.
......
- إلى أين؟
ليس ثمة شك في أن الحركة الشعبية قد حققت أهدافاً هامة حتى الآن؛فسيناريو التوريث قد انتهى، و لم يعد بإمكان الرئيس مبارك طلب تجديد رئاسته في سبتمبر/ أيلول المقبل.
السؤال الآن هو ما إن كانت الحركة الشعبية ستستطيع إطاحة الرئيس خلال الأيام القليلة القادمة،و ما إن كان خلع الرئيس سيؤدي إلى نهاية نظام الحكم،بدون أن يؤدي إلى تقويض جسم الدولة ذاتها.
الواضح أن مستقبل الرئيس بات محكوماً بإرادة الحركة الشعبية المناهضة له،و ما إن كانت الحركة ستستمر إلى أن تفرض على المؤسسة العسكرية و مجموعة رجال الحكم اللصيقة بالرئيس،اتخاذ موقف حاسم يؤدي إلى تنحي الرئيس.
و في حال تنحي الرئيس،فمن الواضح أن توافق قوى المعارضة السياسية،الشرعية منها و غير المصرح بها،سيكون بالغ الأهمية في تحديد ملامح المرحلة الإنتقالية،و ما إن كان نائب الرئيس عمر سليمان سيحتل موقع الرئاسة لبعض الوقت،و من ثم لفترة زمنية أطول،أو أن نظام الحكم كله سيطاح به، رئاسة و برلماناً و حزباً حاكماً،و ولادة جمهورية مصرية جديدة.
الموقف الدولي،و موقف واشنطن على وجه الخصوص،سيكون هاماً بلا شك،سيما على المستوى المعنوي و في مجال التأثير غير المباشر.
و لكن دور واشنطن الفعلي ثانوي،ليس فقط لصلابة الوطنية المصرية،و لكن أيضاً لحجم الدولة المصرية و عمق جذورها.وقوف واشنطن خلف هذه الشخصية أو تلك لا يعني أن الإدارة الأميركية ستستطيع فرض مَن تريد.
أما تدخل الدولة الإسرائيلية،و لو تلميحاً،لصالح الرئيس مبارك أو أية شخصية أخرى،فستصب مباشرة ضده.
مستقبل مصر القريب،باختصار،محكوم الآن بنتائج الصراع بين إرادتين: إرادة الحركة الشعبية، و إرادة نظام الحكم و الطبقة الحاكمة.
.........
* مركز الجزيرة للدراسات.
موقع البلاغ.
عدل سابقا من قبل In The Zone في الإثنين ديسمبر 31, 2012 10:00 pm عدل 1 مرات