الأنكحة المحرمة..الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
الموقع الرئيسي للشيخ.
...............
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله،و على آله و أصحابه،و من اهتدى بهداه.
أما بعد:[1]
فإن الله جل و علا شرع لعباده النكاح،و حرم عليهم السفاح،و حرم - أيضاً - أنكحة فاسدة كانت تعتادها الجاهلية،و بعضها شُرع في الإسلام ثم نسخ.
أما النكاح الشرعي الذي هو ضد السفاح هو: النكاح الذي يكون عن رضا من المرأة،و عن واسطة الولي،و بواسطة الإعلان و الشاهدين،و غير هذا من الإعلان،فهذا هو النكاح الشرعي الباقي،الذي قال الله فيه جل و علا: وَ أَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[2].
و قال فيه النبي عليه الصلاة و السلام: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛فإنه أغض للبصر،و أحصن للفرج،و من لم يستطع فعليه بالصوم؛فإنه له وجاء))[3]،و قال عليه الصلاة و السلام: ((تزوجوا الولود الودود؛فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة))[4]،و في لفظ: ((الأنبياء يوم القيامة)).
و قال صلى الله عليه و سلم: ((تنكح المرأة لأربع؛لجمالها و لمالها و لحسبها و لدينها،فاظفر بذات الدين تربت يداك))[5].
و قال صلى الله عليه و سلم: ((إذا جاءكم من ترضون دينه و خلقه فزوجوه،إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض و فساد كبير))[6]،و في لفظ: (( فساد عريض ))[7].
و الأحاديث في المعنى للحث على النكاح،و الترغيب فيه كثيرة.
و القرآن الكريم كذلك دل على شرعية النكاح،و رغب فيه،فقال تعالى: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ[8]. يعني: ألا تجوروا.
فالله سبحانه شرع لنا النكاح؛لما فيه من إعفاف الفروج،و لما فيه من تكثير الأمة؛فإن الأمة إذا لم يكن هناك نكاح انقرضت،و لكن من رحمة الله أن شرع النكاح،و جعل في الرجل الميل إلى المرأة، و جعل في المرأة الميل إلى الرجل،و كتب بينهما ما كتب لوجود الذرية؛حتى يبقى هذا النسل،و تبقى هذه الأمة إلى الأمد الذي حدده الله عز وجل.
و شرع لهذه الأمة التمسك بما بعث الله به أنبياءه من عهد آدم إلى يومنا هذا؛شرع النكاح و شرع التمسك بما خلقوا له من دين الله و عبادته سبحانه و تعالى حتى لا يزال في الأرض من يعبد الله و يتقيه،و يكثر من ذكره سبحانه و يطيع أوامره،و ينتهي عن نواهيه.
و جعل لهذه الدنيا أمداً تنتهي إليه،فإذا جاء الأمد قامت القيامة،و انتهى أمر هذا العالم، و صار الناس إلى الدار الأخرى؛و هي الجنة أو النار على حسب أعمالهم،فمن كان من أهل الإحسان في هذه الدار من أهل طاعة الله و رسوله،صار إلى دار النعيم و الكرامة و إلى دار أهل الإحسان؛ و هي الجنة،و من كان في هذه الدار من أهل الانحراف و الفساد و طاعة الشيطان أو عصيان الرحمن، صار إلى دار الهوان و دار العذاب و النكال؛و هي النار – نعوذ بالله من ذلك -.
و شرع في النكاح أموراً منها: أن تكون المرأة و الرجل خاليين من الموانع،صالحين للزواج بأن يكونا مسلمين أو كافرين،أو الزوج مسلماً و المرأة كتابية - من اليهود و النصارى المحصنات - فإنه يكون النكاح هكذا؛إما مسلمان،أو كافران،أو مسلم و كتابية محصنة من اليهود و النصارى.
فإذا اختل الأمر،صار هناك مانع: إذا كان الزوج مسلماً و المرأة غير كتابية و لا مسلمة – وثنية،مجوسية،شيوعية – لم يصح النكاح.
كذلك لابد - أيضاً - من كون المرأة خالية من الموانع؛ليست في عدة و لا في عصمة نكاح،بل تكون خالية مطلقة أو متوفى عنها،قد انتهت من العدة،أو لم تزوج أصلاً.
ثم هناك - أيضاً - موانع أخرى من القرابة و الرضاعة و المصاهرة،تكون سليمة من ذلك،و الرجل سليماً من ذلك،ليس بينهما ما يحرم النكاح؛لا قرابة,مثل كونها أخته أو عمته أو خالته أو بنت أخيه أو ما أشبه ذلك - من رضاع أو من نسب - و لا كونها أيضاً محرمة بالمصاهرة؛كأن تكون بنت زوجته المدخول بها،أو أم زوجته،أو جدتها،فلا يجوز له نكاحها.
فإذا صار الزوجين خاليين من الموانع،و توافرت الشروط الشرعية؛من رضا الزوجين - الزوج و الزوجة – الزوج بالمرأة و المرأة بالزوج – إلا ما استثني من حال صغر المرأة،إذا زوجها أبوها في حال صغرها و هي ابنة تسع،و اختار لها الزوج الصالح،فهذا يجوز إذا كان دون التسع - إذا اختار أبوها لها الزوج الصالح - كما زوّج الصديق رضي الله عنه عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه و سلم و هي صغيرة بنت ست أو سبع سنين بغير مشورتها؛لأنها صغيرة جداً.
أما إذا بلغت تسع سنين فأكثر فإنها تستشار و تخبر،و إذنها صماتها؛يعني سكوتها – هذا إذا كانت بكراً –،أما الثيب فلابد من نطقها،و لابد من مؤامرتها حتى تنطق،و حتى تصرح بالرضا،و لابد أيضاً من وجود الولي،و وجود الشاهدين.
فإذا توافرت الشروط - الزوج و الزوجة،و ما يجب في ذلك - صح النكاح،و صار نكاحاً شرعياً، بشرط أن يكون هذا النكاح للرغبة لا للتحليل،و لا مؤقتاً بوقت،و أن يتزوجها راغباً فيها، يريد الاستمتاع بها،و البقاء معها؛ليعفها و تعفه،و لما يسر الله من أولاد،و المصالح الأخرى.
.......
و هناك أنكحة تخالف النكاح الشرعي من ذلك: نكاح المتعة:
و هو: أن يتزوجها لمدة معينة ثم بعد ذلك يزول النكاح؛كأن يتزوجها شهراً أو شهرين أو ثلاثة، أو ما أشبه ذلك لمدة يتفقان عليها،هذا يقال له: نكاح المتعة.
و قد أبيح في الإسلام وقتا ما،ثم نسخ الله ذلك و حرمه على الأمة سبحانه و تعالى بأن جاء في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قال: ((إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء،و أن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة،فمن كان عنده منهن شيء فليخلِ سبيلها،و لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً))[9].
و ثبت من حديث علي رضي الله عنه و سلمة بن الأكوع،و ابن مسعود،و غيرهم أن الرسول عليه الصلاة و السلام نهى عن نكاح المتعة،فاستقرت الشريعة على تحريم نكاح المتعة،و أنه محرم.
و أن النكاح الشرعي،هو الذي يكون فيه الرغبة من الزوج للزوجة،ليس بينهم توقيت،بل يتزوجها على أنه راغب فيها؛لما يرجوه وراء ذلك من العفة،و النسل،و التعاون على الخير،فهذا هو النكاح الشرعي؛أن ينكح لرغبة فيها،ليستمتع بها،و يستعف بها،و لما يرجو من النسل و الذرية،فهذا هو النكاح الشرعي الذي أباحه الله.
و تقدم بيان شروطه،و ما ينبغي فيه،و جعله سبحانه و تعالى خيراً للأمة؛فيه تعاونها،و فيه تكثير نسلها،و فيه إعفاف رجالها و نسائها،و فيه الإحسان إلى الجنسين؛فالزوج يحسن إلى المرأة؛بإعفافها، و الإنفاق عليها،و صيانتها و حمايتها من ذئاب الرجال،إلى غير ذلك.
و المرأة تساعده على دينه و دنياه،و تعفه،و تراعى مصالحه،و تعينه على نوائب الدنيا و الآخرة.
و هذا النكاح الذي سمعتم - هو نكاح المتعة - قد نسخ في الإسلام،و استقر تحريمه،و كان عمر رضي الله عنه يتوعد من فعله بأن يرجمه رجم الزاني؛لأن الله قد حرمه،و استقر تحريمه في الشريعة،و لكن لم يزل في الناس من يستبيحه – و هم الرافضة - يستبيحون نكاح المتعة، و يفعلونه،و هو مشهور في كتبهم.
و ذلك مما أُخذ عليهم،و مما ضلوا فيه عن سواء السبيل،فلا ينبغي لعاقل أن يغتّر بهم،بل يجب الحذر مما هم عليه من الباطل،و أن يعلم المؤمن يقيناً أن هذا النكاح باطل،و أنه مما حرمه الله،و مما استقرت الشريعة على تحريمه،و سبق لكم حديث سمرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء،و أن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة،فمن كان عنده منهن شيء فليخلِ سبيلها،و لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً))[10]. أخرجه مسلم في صحيحه.
هذا النص و ما جاء في معناه،يبين أن هذا النسخ مستمر إلى يوم القيامة،و أنه انتهى أمر هذا النكاح،و لا يبقى له محل إباحة،بل قد نسخه الله و استمر تحريمه إلى يوم القيامة،و هو - كما تقدم - نكاح المتعة: النكاح المؤقت الذي يتفق عليه الرجل و المرأة لمدة معلومة،هذا هو نكاح المتعة.
و من عاداتهم: أنه إذا مضت المدة ينتهي،و لا يحتاج إلى طلاق،و لا إلى غير ذلك.و لكن لو جعلوا فيه طلاقاً، فهو أيضاً طلاق متعة؛ لو اتفقوا على شهرين أو ثلاثة، ثم يطلقها، ثم تعتد كله نكاح متعة،فالنكاح المؤقت نكاح متعة مطلقاً سواء كان فيه طلاق،أو بمجرد انتهاء المدة ينتهي الأمر فيما بينهم،أو شرطوا فيه الطلاق أو الفسخ،كله نكاح متعة،و هو محرم بالنص،و مكان إجماع من أهل العلم،فلا يوجد بين أهل العلم خلاف فيه،بل محرم عند أهل السنة و الجماعة قاطبة.
...............
النكاح الثاني من الأنكحة التي حرمها الله عز وجل و قد وقع فيها بعض الناس: نكاح التحليل:
و هو نكاح يفعله من حَرُمَتْ عليه زوجته بالطلاق بالطلقة الأخيرة الثالثة؛بعض الناس لضعف إيمانه،و قلة خوفه من الله عز و جل يتفق مع شخص آخر ليتزوجها،فإذا دخل بها و وطئها فارقها؛ حتى يعود إليها زوجها الأول،و هذا هو النكاح الذي يسمى: نكاح التحليل،و قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((أنه لعن المحلل و المحلل له))[11].
المحلل: هو التيس المستعار،و الزوج هو الذي يطلبه لتحليلها،و المحلل له هو: الزوج الأول المطلق.هذا نكاح باطل و حرام؛إذا اتفقا عليه للتواطؤ،أو بالشرط اللفظي،أو بالكتابة،كل ذلك محرم؛للأحاديث التي جاءت في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه: ((لعن المحلل و المحلل له))،جاء في ذلك عدة أحاديث،منها:
حديث ابن مسعود و أبي هريرة و غيرهما،و في لفظ يروى عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال: ((ألا أنبئكم بالتيس المستعار؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((هو المحلل،لعن الله المحلل،و المحلل له)).
سمي تيساً مستعاراً؛لأنه جيء به للضراب،ليس زوجاً،و إنما جيء به ليدخل بها مرة،يجامعها مرة ثم يفارقها،لأن الله سبحانه و تعالى قال في المطلقة آخر الثلاثة: فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ[12].
فهذا المطلق الطلقة الثالثة،لما رأى أنه لا حيلة له إلا بزوج،و هو يريدها و تريده،زين لهم الشيطان هذا العمل السيء،و هو: الاتفاق مع شخص يسمى المحلل،و يعطونه ما شاء الله من المال، و ترضى به الزوجة رضاً مؤقتاً ليحللها لزوجها،فلا تنظر في حاله،و لا نسبه،و لا أهليته في الغالب؛ لأنه لا يهمهم إلا أن يدخل عليها مرة،ثم يخرج و ينتهي الأمر؛ليحللّها للزوج الأول.
و هذا من أقبح الباطل،و من أعظم الفساد،و هو زانٍ في المعنى؛لأنه ما تزوجها لتكون زوجة؛ لتعفه،و لتبقى لديه لتحصنه؛ليرجو منها وجود الذرية،لا،إنما جاء تيساً مستعاراً ليحللها لمن قبله بوطء مرة واحدة،ثم يفارقها و ينتهي منها،هذا هو المحلل،و نكاحه باطل،و ليس بشرعي.
و لا تحل للزوج الأول إذا علم هذا،فإنه يستحق أن يؤدّب و يعزر بالتعزير البليغ الذي يردعه أمثاله،و هذه الزوجة لا تحل بذلك،بل يعزر أيضاً المحلل،و هي كذلك إذا كانت راضية،كلهم يعزّرون لهذا العمل السيء؛لأنه نكاح فاسد و لا تحل له،نكاح خبيث،نكاح منكر و معصية؛فوجب أن يعزر القائمون به: المحلِّل و المحللَّة و المحلَّل له أيضاً،كلهم سواء.
فالمرأة إذا كانت راضية و عالمة بهذا الشيء،فهي أيضاً تستحق التعزير و التأديب؛لرضاها بالمعصية و مواطأتها عليها،و لو أراد أن يبقى عندها لم تحل له،ما دام نكحها بهذه النية و بهذا القصد،فإنه نكاح فاسد،و لا تحل للزوج الأول؛لأن هذا ليس بزواج،و الله قال: حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، و هذا تيس مستعار،و ليس بزوج شرعي،فلا يحللها للزوج الأول.
...........
و النكاح الثالث الفاسد أيضاً: نكاح يسمى: نكاح الشغار،و يسمى عند بعض الناس: نكاح البدل:
و هو نكاح يشترط فيه كل واحد من الوليّين نكاح الأخرى،فيقول أحدهما للآخر: زوّجني و أزوجك؛زوجني بنتك و أزوجك بنتي،أو زوجني أختك و أزوجك أختي،أو زوج ابني و أنا أزوج ابنك،أو زوجني و أنا أزوج ابنك،أو زوج ابني و أنا أزوجك،أو أزوج أخاك،أو ما أشبه ذلك،هذا هو الشغار.
قالوا: سمي شغاراً من الخلو؛لأنه في الغالب لا يهمهم المهر،و إنما يهمهم الاتفاق على هذا العمل، يقال: بلاد شاغرة،يعني: خلت من أهلها،و يقال: مكان شاغر: خالي،و يقال: شغر الكلب برجله: إذا رفعها ليبول،فأخلى مكانها.
و قيل: سمي شغاراً من شغور الكلب برجله،المعنى كأنه يقول: لا تمسها و لا تمس رجلها،حتى أمس أو حتى أباشر رجل أختك أو بنتك أو عمتك،أو ما أشبه ذلك.
و بكل حال فهو منكر و فاسد،و إن لم يخل من المهر،و إن سمي فيه مهر؛لما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم: ((أنه نهى عن الشغار)) في حديث ابن عمر،و من حديث جابر رضي الله عنه و من حديث معاوية،و من أحاديث أخرى في النهي عن الشغار،و في حديث أبي هريرة: و الشغار هو: (أن يقول الرجل: زوجني ابنتك و أزوجك ابنتي،أو زوجني أختك و أزوجك أختي،هذا هو الشغار).
أما ما جاء في حديث ابن عمر رضى الله عنهما بقوله: (إن الشغار هو: أن يزوج هذا هذا،و هذا هذا،و ليس بينهما صداق).
هذا من كلام نافع مولى ابن عمر و ليس من كلام النبي صلى الله عليه و سلم و قال جماعة: هو من كلام مالك بن أنس - الراوي عن نافع - و بكل حال فهو ليس من كلام النبي صلى الله عليه و سلم، و إنما هو من كلام من دون النبي صلى الله عليه و سلم و هو نافع مولى ابن عمر أو مالك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في البلوغ: (و اتفقا من وجه آخر على أن تسمية الشغار من كلام نافع،فليس من كلام النبي عليه الصلاة و السلام و قد اتفق الشيخان على أنه من تفسير نافع، و ليس من كلام النبي عليه الصلاة و السلام.
و بعض الفقهاء رحمة الله عليهم أخذ بما قال نافع،و قالوا: إنه لا يكون شغاراً إلا إذا خلا من المهر،أما إذا كان فيه المهر كاملاً فليس فيه حيلة،و المهر كاملاً لهذه و لهذه،فإنه لا يكون شغاراً).
و هذا قول ضعيف و مرجوح،و الصواب: أنه يكون شغاراً مطلقاً -إذا كان فيه الشغر- لظاهر الأحاديث عن النبي عليه الصلاة و السلام؛لأنه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: و الشغار: (أن يقول الرجل: زوجني أختك و أزوجك أختي،أو زوجني بنتك و أزوجك بنتي)[13]،و لم يقل و ليس بينهما صداق،بل أطلق؛و لما ثبت في المسند و سنن أبي داود بسند صحيح،عن معاوية رضي الله عنه أنه رفع إليه أمير المدينة: أن شخصين تزوجا شغاراً،و قد سميا مهراً،فكتب معاوية رضي الله عنه إلى أمير المدينة أن يفرق بينهما،و قال: هذا هو الشغار الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة و السلام مع أنهما قد سميا مهراً.
فدل ذلك،على أن الشغار هو ما فيه مشارطة - سواء سمي فيه المهر أم لم يسم فيه المهر-،و الحكمة في ذلك -و الله أعلم- أنه وسيلة لظلم النساء،و إجبارهن على أزواج لا ترضاهم النساء،و سبب - أيضاً - لعدم المبالاة بمهورهن،و سبب - أيضاً - للنزاع المتواصل و الخصومات الكثيرة.
فمن رحمة الله أن حرَّم الله ذلك؛حتى لا يجبر النساء بغير حق،و حتى لا يظلمن،و حتى يسد باب النزاع و الخصومات،فإنَّ الذين فعلوا هذا و قد جربوا ما فيه من الشر،فإنه تكثر بينهم النزاعات و الخصومات،و إذا جرى بين هذا و زوجته شيء،و خرجت لعلة،خرجت الأخرى،أو طلب وليها بإخراجها حتى تعود هذه،و هكذا في النزاع متى ساءت الحال بين هذا و زوجته،لحقتها الأخرى؛لأنه مشروط على هذا، و هذا مشروط عليه أن ينكح هذا هذه،و هذا هذه،فكلما جرى نزاع ساءت الحال بين الجميع.
ثم الولي لا يبالي،بل يحبسها و يؤذيها،حتى يجد امرأة أخرى،و يشترطها لنفسه أو لولده أو لابن أخيه أو لأخيه،فتكون النساء حبساً مظلومات لحاجات الأولياء،و لمصالح الأولياء،و لظلم الأولياء؛و من أجل هذا حرم الله الشغار،و نهى عنه نبيه عليه الصلاة و السلام؛حتى لا تظلم النساء،و حتى لا يتخذ تزويجهن للهوى و الظلم،و إرضاء الأولياء،و تحصيل مقاصدهم و أهواءهم،بل على الولي أن يطلب لها الزوج المناسب –الزوج الشرعي–،و لا يعلق ذلك بأن يزوج ابن هذا أو أخ هذا أو عم هذا،و ما أشبه ذلك.
فهذا هو نكاح الشغار،و هو المسمى: نكاح البدل.
و الصواب: أنه لا يجوز مطلقاً،سواء كان فيه مهر أو لم يكن فيه مهر،هذا هو أرجح قولي العلماء في هذه المسألة،و هو الموافق للأحاديث الصحيحة،و هو الموافق للمعنى الذي من أجله حرم الله الشغار،الذي هو البدل،و نهى عنه النبي عليه الصلاة و السلام لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة – و إن سمي فيه مهر–،و الله المستعان،و لا حول و لا قوة إلا بالله.
............
أسأل الله أن يمن على المسلمين بالعافية من كل ما يغضبه.
والواجب على من يستمع مثل هذه الفائدة أن يبلغها إلى غيره؛لأن هذا كثير عند بعض الناس، فمسألة الشغار هذه موجودة في الحاضرة و البادية،و لعله في البادية أكثر،و في القرى،فينبغي تبليغ ذلك لمن يستطيعه الإنسان،و لاسيما في هذا الوقت؛عند غلاء المهور صار كل واحد يحبس ابنته أو أخته،يقول: لعله يحصل لي من يزوجني أخته أو بنته،فتبقى عنده بنته إلى أن تبلغ الأربعين سنة أو الثلاثين سنة،يرجو وجود من يزوجه أو يزوج ولده،و هذا من الظلم الظاهر و المعصية الظاهرة،فيجب على الإخوان أن يبلّغوا من علموا ذلك منه،و أن يخوفوه من الله،و أن يحذّروه نقمة الله،فإن هذا ظلم للنساء.لا يجوز هذا النكاح في هذه الصفة،أمر لا يجوز أيضاً،و نسأل الله للجميع الهداية و العافية.
...................
[1] محاضرة لسماحته بعنوان (الأنكحة المحرمة كالشغار و المتعة) في الجامع الكبير بالرياض.
[2] سورة النور الآية 32.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه، برقم: 3352.
[4] أخرجه أبو داود في (سننه)،باب (النهي عن التزويج من لم يلد من النساء).
[5] أخرجه البخاري،برقم: (4802) 5/ 1958،و مسلم في صحيحه،باب (استحباب نكاح ذات الدين) برقم (1466) 2/ 1086.
[6] كتاب السنن،حديث رقم: (590) 1/190.
[7] أخرجه الترمذي في سننه،باب (ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه)،برقم: (1084)3/ 394.
[8] سورة النساء، الآية 3.
[9] أخرجه مسلم في صحيحه برقم: (1406) 2/ 1025.
[10] أخرجه مسلم في صحيحه, برقم: (1406) 2 / 1025.
[11] أخرجه ابن ماجة في سننه، برقم:(1936) 1/ 623.
[12] سورة البقرة، الآية 230.
[13] أخرجه مسلم في صحيحه برقم: (1416)،2/ 1035.
الموقع الرئيسي للشيخ.
...............
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله،و على آله و أصحابه،و من اهتدى بهداه.
أما بعد:[1]
فإن الله جل و علا شرع لعباده النكاح،و حرم عليهم السفاح،و حرم - أيضاً - أنكحة فاسدة كانت تعتادها الجاهلية،و بعضها شُرع في الإسلام ثم نسخ.
أما النكاح الشرعي الذي هو ضد السفاح هو: النكاح الذي يكون عن رضا من المرأة،و عن واسطة الولي،و بواسطة الإعلان و الشاهدين،و غير هذا من الإعلان،فهذا هو النكاح الشرعي الباقي،الذي قال الله فيه جل و علا: وَ أَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[2].
و قال فيه النبي عليه الصلاة و السلام: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛فإنه أغض للبصر،و أحصن للفرج،و من لم يستطع فعليه بالصوم؛فإنه له وجاء))[3]،و قال عليه الصلاة و السلام: ((تزوجوا الولود الودود؛فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة))[4]،و في لفظ: ((الأنبياء يوم القيامة)).
و قال صلى الله عليه و سلم: ((تنكح المرأة لأربع؛لجمالها و لمالها و لحسبها و لدينها،فاظفر بذات الدين تربت يداك))[5].
و قال صلى الله عليه و سلم: ((إذا جاءكم من ترضون دينه و خلقه فزوجوه،إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض و فساد كبير))[6]،و في لفظ: (( فساد عريض ))[7].
و الأحاديث في المعنى للحث على النكاح،و الترغيب فيه كثيرة.
و القرآن الكريم كذلك دل على شرعية النكاح،و رغب فيه،فقال تعالى: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ[8]. يعني: ألا تجوروا.
فالله سبحانه شرع لنا النكاح؛لما فيه من إعفاف الفروج،و لما فيه من تكثير الأمة؛فإن الأمة إذا لم يكن هناك نكاح انقرضت،و لكن من رحمة الله أن شرع النكاح،و جعل في الرجل الميل إلى المرأة، و جعل في المرأة الميل إلى الرجل،و كتب بينهما ما كتب لوجود الذرية؛حتى يبقى هذا النسل،و تبقى هذه الأمة إلى الأمد الذي حدده الله عز وجل.
و شرع لهذه الأمة التمسك بما بعث الله به أنبياءه من عهد آدم إلى يومنا هذا؛شرع النكاح و شرع التمسك بما خلقوا له من دين الله و عبادته سبحانه و تعالى حتى لا يزال في الأرض من يعبد الله و يتقيه،و يكثر من ذكره سبحانه و يطيع أوامره،و ينتهي عن نواهيه.
و جعل لهذه الدنيا أمداً تنتهي إليه،فإذا جاء الأمد قامت القيامة،و انتهى أمر هذا العالم، و صار الناس إلى الدار الأخرى؛و هي الجنة أو النار على حسب أعمالهم،فمن كان من أهل الإحسان في هذه الدار من أهل طاعة الله و رسوله،صار إلى دار النعيم و الكرامة و إلى دار أهل الإحسان؛ و هي الجنة،و من كان في هذه الدار من أهل الانحراف و الفساد و طاعة الشيطان أو عصيان الرحمن، صار إلى دار الهوان و دار العذاب و النكال؛و هي النار – نعوذ بالله من ذلك -.
و شرع في النكاح أموراً منها: أن تكون المرأة و الرجل خاليين من الموانع،صالحين للزواج بأن يكونا مسلمين أو كافرين،أو الزوج مسلماً و المرأة كتابية - من اليهود و النصارى المحصنات - فإنه يكون النكاح هكذا؛إما مسلمان،أو كافران،أو مسلم و كتابية محصنة من اليهود و النصارى.
فإذا اختل الأمر،صار هناك مانع: إذا كان الزوج مسلماً و المرأة غير كتابية و لا مسلمة – وثنية،مجوسية،شيوعية – لم يصح النكاح.
كذلك لابد - أيضاً - من كون المرأة خالية من الموانع؛ليست في عدة و لا في عصمة نكاح،بل تكون خالية مطلقة أو متوفى عنها،قد انتهت من العدة،أو لم تزوج أصلاً.
ثم هناك - أيضاً - موانع أخرى من القرابة و الرضاعة و المصاهرة،تكون سليمة من ذلك،و الرجل سليماً من ذلك،ليس بينهما ما يحرم النكاح؛لا قرابة,مثل كونها أخته أو عمته أو خالته أو بنت أخيه أو ما أشبه ذلك - من رضاع أو من نسب - و لا كونها أيضاً محرمة بالمصاهرة؛كأن تكون بنت زوجته المدخول بها،أو أم زوجته،أو جدتها،فلا يجوز له نكاحها.
فإذا صار الزوجين خاليين من الموانع،و توافرت الشروط الشرعية؛من رضا الزوجين - الزوج و الزوجة – الزوج بالمرأة و المرأة بالزوج – إلا ما استثني من حال صغر المرأة،إذا زوجها أبوها في حال صغرها و هي ابنة تسع،و اختار لها الزوج الصالح،فهذا يجوز إذا كان دون التسع - إذا اختار أبوها لها الزوج الصالح - كما زوّج الصديق رضي الله عنه عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه و سلم و هي صغيرة بنت ست أو سبع سنين بغير مشورتها؛لأنها صغيرة جداً.
أما إذا بلغت تسع سنين فأكثر فإنها تستشار و تخبر،و إذنها صماتها؛يعني سكوتها – هذا إذا كانت بكراً –،أما الثيب فلابد من نطقها،و لابد من مؤامرتها حتى تنطق،و حتى تصرح بالرضا،و لابد أيضاً من وجود الولي،و وجود الشاهدين.
فإذا توافرت الشروط - الزوج و الزوجة،و ما يجب في ذلك - صح النكاح،و صار نكاحاً شرعياً، بشرط أن يكون هذا النكاح للرغبة لا للتحليل،و لا مؤقتاً بوقت،و أن يتزوجها راغباً فيها، يريد الاستمتاع بها،و البقاء معها؛ليعفها و تعفه،و لما يسر الله من أولاد،و المصالح الأخرى.
.......
و هناك أنكحة تخالف النكاح الشرعي من ذلك: نكاح المتعة:
و هو: أن يتزوجها لمدة معينة ثم بعد ذلك يزول النكاح؛كأن يتزوجها شهراً أو شهرين أو ثلاثة، أو ما أشبه ذلك لمدة يتفقان عليها،هذا يقال له: نكاح المتعة.
و قد أبيح في الإسلام وقتا ما،ثم نسخ الله ذلك و حرمه على الأمة سبحانه و تعالى بأن جاء في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قال: ((إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء،و أن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة،فمن كان عنده منهن شيء فليخلِ سبيلها،و لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً))[9].
و ثبت من حديث علي رضي الله عنه و سلمة بن الأكوع،و ابن مسعود،و غيرهم أن الرسول عليه الصلاة و السلام نهى عن نكاح المتعة،فاستقرت الشريعة على تحريم نكاح المتعة،و أنه محرم.
و أن النكاح الشرعي،هو الذي يكون فيه الرغبة من الزوج للزوجة،ليس بينهم توقيت،بل يتزوجها على أنه راغب فيها؛لما يرجوه وراء ذلك من العفة،و النسل،و التعاون على الخير،فهذا هو النكاح الشرعي؛أن ينكح لرغبة فيها،ليستمتع بها،و يستعف بها،و لما يرجو من النسل و الذرية،فهذا هو النكاح الشرعي الذي أباحه الله.
و تقدم بيان شروطه،و ما ينبغي فيه،و جعله سبحانه و تعالى خيراً للأمة؛فيه تعاونها،و فيه تكثير نسلها،و فيه إعفاف رجالها و نسائها،و فيه الإحسان إلى الجنسين؛فالزوج يحسن إلى المرأة؛بإعفافها، و الإنفاق عليها،و صيانتها و حمايتها من ذئاب الرجال،إلى غير ذلك.
و المرأة تساعده على دينه و دنياه،و تعفه،و تراعى مصالحه،و تعينه على نوائب الدنيا و الآخرة.
و هذا النكاح الذي سمعتم - هو نكاح المتعة - قد نسخ في الإسلام،و استقر تحريمه،و كان عمر رضي الله عنه يتوعد من فعله بأن يرجمه رجم الزاني؛لأن الله قد حرمه،و استقر تحريمه في الشريعة،و لكن لم يزل في الناس من يستبيحه – و هم الرافضة - يستبيحون نكاح المتعة، و يفعلونه،و هو مشهور في كتبهم.
و ذلك مما أُخذ عليهم،و مما ضلوا فيه عن سواء السبيل،فلا ينبغي لعاقل أن يغتّر بهم،بل يجب الحذر مما هم عليه من الباطل،و أن يعلم المؤمن يقيناً أن هذا النكاح باطل،و أنه مما حرمه الله،و مما استقرت الشريعة على تحريمه،و سبق لكم حديث سمرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء،و أن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة،فمن كان عنده منهن شيء فليخلِ سبيلها،و لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً))[10]. أخرجه مسلم في صحيحه.
هذا النص و ما جاء في معناه،يبين أن هذا النسخ مستمر إلى يوم القيامة،و أنه انتهى أمر هذا النكاح،و لا يبقى له محل إباحة،بل قد نسخه الله و استمر تحريمه إلى يوم القيامة،و هو - كما تقدم - نكاح المتعة: النكاح المؤقت الذي يتفق عليه الرجل و المرأة لمدة معلومة،هذا هو نكاح المتعة.
و من عاداتهم: أنه إذا مضت المدة ينتهي،و لا يحتاج إلى طلاق،و لا إلى غير ذلك.و لكن لو جعلوا فيه طلاقاً، فهو أيضاً طلاق متعة؛ لو اتفقوا على شهرين أو ثلاثة، ثم يطلقها، ثم تعتد كله نكاح متعة،فالنكاح المؤقت نكاح متعة مطلقاً سواء كان فيه طلاق،أو بمجرد انتهاء المدة ينتهي الأمر فيما بينهم،أو شرطوا فيه الطلاق أو الفسخ،كله نكاح متعة،و هو محرم بالنص،و مكان إجماع من أهل العلم،فلا يوجد بين أهل العلم خلاف فيه،بل محرم عند أهل السنة و الجماعة قاطبة.
...............
النكاح الثاني من الأنكحة التي حرمها الله عز وجل و قد وقع فيها بعض الناس: نكاح التحليل:
و هو نكاح يفعله من حَرُمَتْ عليه زوجته بالطلاق بالطلقة الأخيرة الثالثة؛بعض الناس لضعف إيمانه،و قلة خوفه من الله عز و جل يتفق مع شخص آخر ليتزوجها،فإذا دخل بها و وطئها فارقها؛ حتى يعود إليها زوجها الأول،و هذا هو النكاح الذي يسمى: نكاح التحليل،و قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((أنه لعن المحلل و المحلل له))[11].
المحلل: هو التيس المستعار،و الزوج هو الذي يطلبه لتحليلها،و المحلل له هو: الزوج الأول المطلق.هذا نكاح باطل و حرام؛إذا اتفقا عليه للتواطؤ،أو بالشرط اللفظي،أو بالكتابة،كل ذلك محرم؛للأحاديث التي جاءت في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه: ((لعن المحلل و المحلل له))،جاء في ذلك عدة أحاديث،منها:
حديث ابن مسعود و أبي هريرة و غيرهما،و في لفظ يروى عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال: ((ألا أنبئكم بالتيس المستعار؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((هو المحلل،لعن الله المحلل،و المحلل له)).
سمي تيساً مستعاراً؛لأنه جيء به للضراب،ليس زوجاً،و إنما جيء به ليدخل بها مرة،يجامعها مرة ثم يفارقها،لأن الله سبحانه و تعالى قال في المطلقة آخر الثلاثة: فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ[12].
فهذا المطلق الطلقة الثالثة،لما رأى أنه لا حيلة له إلا بزوج،و هو يريدها و تريده،زين لهم الشيطان هذا العمل السيء،و هو: الاتفاق مع شخص يسمى المحلل،و يعطونه ما شاء الله من المال، و ترضى به الزوجة رضاً مؤقتاً ليحللها لزوجها،فلا تنظر في حاله،و لا نسبه،و لا أهليته في الغالب؛ لأنه لا يهمهم إلا أن يدخل عليها مرة،ثم يخرج و ينتهي الأمر؛ليحللّها للزوج الأول.
و هذا من أقبح الباطل،و من أعظم الفساد،و هو زانٍ في المعنى؛لأنه ما تزوجها لتكون زوجة؛ لتعفه،و لتبقى لديه لتحصنه؛ليرجو منها وجود الذرية،لا،إنما جاء تيساً مستعاراً ليحللها لمن قبله بوطء مرة واحدة،ثم يفارقها و ينتهي منها،هذا هو المحلل،و نكاحه باطل،و ليس بشرعي.
و لا تحل للزوج الأول إذا علم هذا،فإنه يستحق أن يؤدّب و يعزر بالتعزير البليغ الذي يردعه أمثاله،و هذه الزوجة لا تحل بذلك،بل يعزر أيضاً المحلل،و هي كذلك إذا كانت راضية،كلهم يعزّرون لهذا العمل السيء؛لأنه نكاح فاسد و لا تحل له،نكاح خبيث،نكاح منكر و معصية؛فوجب أن يعزر القائمون به: المحلِّل و المحللَّة و المحلَّل له أيضاً،كلهم سواء.
فالمرأة إذا كانت راضية و عالمة بهذا الشيء،فهي أيضاً تستحق التعزير و التأديب؛لرضاها بالمعصية و مواطأتها عليها،و لو أراد أن يبقى عندها لم تحل له،ما دام نكحها بهذه النية و بهذا القصد،فإنه نكاح فاسد،و لا تحل للزوج الأول؛لأن هذا ليس بزواج،و الله قال: حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، و هذا تيس مستعار،و ليس بزوج شرعي،فلا يحللها للزوج الأول.
...........
و النكاح الثالث الفاسد أيضاً: نكاح يسمى: نكاح الشغار،و يسمى عند بعض الناس: نكاح البدل:
و هو نكاح يشترط فيه كل واحد من الوليّين نكاح الأخرى،فيقول أحدهما للآخر: زوّجني و أزوجك؛زوجني بنتك و أزوجك بنتي،أو زوجني أختك و أزوجك أختي،أو زوج ابني و أنا أزوج ابنك،أو زوجني و أنا أزوج ابنك،أو زوج ابني و أنا أزوجك،أو أزوج أخاك،أو ما أشبه ذلك،هذا هو الشغار.
قالوا: سمي شغاراً من الخلو؛لأنه في الغالب لا يهمهم المهر،و إنما يهمهم الاتفاق على هذا العمل، يقال: بلاد شاغرة،يعني: خلت من أهلها،و يقال: مكان شاغر: خالي،و يقال: شغر الكلب برجله: إذا رفعها ليبول،فأخلى مكانها.
و قيل: سمي شغاراً من شغور الكلب برجله،المعنى كأنه يقول: لا تمسها و لا تمس رجلها،حتى أمس أو حتى أباشر رجل أختك أو بنتك أو عمتك،أو ما أشبه ذلك.
و بكل حال فهو منكر و فاسد،و إن لم يخل من المهر،و إن سمي فيه مهر؛لما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم: ((أنه نهى عن الشغار)) في حديث ابن عمر،و من حديث جابر رضي الله عنه و من حديث معاوية،و من أحاديث أخرى في النهي عن الشغار،و في حديث أبي هريرة: و الشغار هو: (أن يقول الرجل: زوجني ابنتك و أزوجك ابنتي،أو زوجني أختك و أزوجك أختي،هذا هو الشغار).
أما ما جاء في حديث ابن عمر رضى الله عنهما بقوله: (إن الشغار هو: أن يزوج هذا هذا،و هذا هذا،و ليس بينهما صداق).
هذا من كلام نافع مولى ابن عمر و ليس من كلام النبي صلى الله عليه و سلم و قال جماعة: هو من كلام مالك بن أنس - الراوي عن نافع - و بكل حال فهو ليس من كلام النبي صلى الله عليه و سلم، و إنما هو من كلام من دون النبي صلى الله عليه و سلم و هو نافع مولى ابن عمر أو مالك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في البلوغ: (و اتفقا من وجه آخر على أن تسمية الشغار من كلام نافع،فليس من كلام النبي عليه الصلاة و السلام و قد اتفق الشيخان على أنه من تفسير نافع، و ليس من كلام النبي عليه الصلاة و السلام.
و بعض الفقهاء رحمة الله عليهم أخذ بما قال نافع،و قالوا: إنه لا يكون شغاراً إلا إذا خلا من المهر،أما إذا كان فيه المهر كاملاً فليس فيه حيلة،و المهر كاملاً لهذه و لهذه،فإنه لا يكون شغاراً).
و هذا قول ضعيف و مرجوح،و الصواب: أنه يكون شغاراً مطلقاً -إذا كان فيه الشغر- لظاهر الأحاديث عن النبي عليه الصلاة و السلام؛لأنه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: و الشغار: (أن يقول الرجل: زوجني أختك و أزوجك أختي،أو زوجني بنتك و أزوجك بنتي)[13]،و لم يقل و ليس بينهما صداق،بل أطلق؛و لما ثبت في المسند و سنن أبي داود بسند صحيح،عن معاوية رضي الله عنه أنه رفع إليه أمير المدينة: أن شخصين تزوجا شغاراً،و قد سميا مهراً،فكتب معاوية رضي الله عنه إلى أمير المدينة أن يفرق بينهما،و قال: هذا هو الشغار الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة و السلام مع أنهما قد سميا مهراً.
فدل ذلك،على أن الشغار هو ما فيه مشارطة - سواء سمي فيه المهر أم لم يسم فيه المهر-،و الحكمة في ذلك -و الله أعلم- أنه وسيلة لظلم النساء،و إجبارهن على أزواج لا ترضاهم النساء،و سبب - أيضاً - لعدم المبالاة بمهورهن،و سبب - أيضاً - للنزاع المتواصل و الخصومات الكثيرة.
فمن رحمة الله أن حرَّم الله ذلك؛حتى لا يجبر النساء بغير حق،و حتى لا يظلمن،و حتى يسد باب النزاع و الخصومات،فإنَّ الذين فعلوا هذا و قد جربوا ما فيه من الشر،فإنه تكثر بينهم النزاعات و الخصومات،و إذا جرى بين هذا و زوجته شيء،و خرجت لعلة،خرجت الأخرى،أو طلب وليها بإخراجها حتى تعود هذه،و هكذا في النزاع متى ساءت الحال بين هذا و زوجته،لحقتها الأخرى؛لأنه مشروط على هذا، و هذا مشروط عليه أن ينكح هذا هذه،و هذا هذه،فكلما جرى نزاع ساءت الحال بين الجميع.
ثم الولي لا يبالي،بل يحبسها و يؤذيها،حتى يجد امرأة أخرى،و يشترطها لنفسه أو لولده أو لابن أخيه أو لأخيه،فتكون النساء حبساً مظلومات لحاجات الأولياء،و لمصالح الأولياء،و لظلم الأولياء؛و من أجل هذا حرم الله الشغار،و نهى عنه نبيه عليه الصلاة و السلام؛حتى لا تظلم النساء،و حتى لا يتخذ تزويجهن للهوى و الظلم،و إرضاء الأولياء،و تحصيل مقاصدهم و أهواءهم،بل على الولي أن يطلب لها الزوج المناسب –الزوج الشرعي–،و لا يعلق ذلك بأن يزوج ابن هذا أو أخ هذا أو عم هذا،و ما أشبه ذلك.
فهذا هو نكاح الشغار،و هو المسمى: نكاح البدل.
و الصواب: أنه لا يجوز مطلقاً،سواء كان فيه مهر أو لم يكن فيه مهر،هذا هو أرجح قولي العلماء في هذه المسألة،و هو الموافق للأحاديث الصحيحة،و هو الموافق للمعنى الذي من أجله حرم الله الشغار،الذي هو البدل،و نهى عنه النبي عليه الصلاة و السلام لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة – و إن سمي فيه مهر–،و الله المستعان،و لا حول و لا قوة إلا بالله.
............
أسأل الله أن يمن على المسلمين بالعافية من كل ما يغضبه.
والواجب على من يستمع مثل هذه الفائدة أن يبلغها إلى غيره؛لأن هذا كثير عند بعض الناس، فمسألة الشغار هذه موجودة في الحاضرة و البادية،و لعله في البادية أكثر،و في القرى،فينبغي تبليغ ذلك لمن يستطيعه الإنسان،و لاسيما في هذا الوقت؛عند غلاء المهور صار كل واحد يحبس ابنته أو أخته،يقول: لعله يحصل لي من يزوجني أخته أو بنته،فتبقى عنده بنته إلى أن تبلغ الأربعين سنة أو الثلاثين سنة،يرجو وجود من يزوجه أو يزوج ولده،و هذا من الظلم الظاهر و المعصية الظاهرة،فيجب على الإخوان أن يبلّغوا من علموا ذلك منه،و أن يخوفوه من الله،و أن يحذّروه نقمة الله،فإن هذا ظلم للنساء.لا يجوز هذا النكاح في هذه الصفة،أمر لا يجوز أيضاً،و نسأل الله للجميع الهداية و العافية.
...................
[1] محاضرة لسماحته بعنوان (الأنكحة المحرمة كالشغار و المتعة) في الجامع الكبير بالرياض.
[2] سورة النور الآية 32.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه، برقم: 3352.
[4] أخرجه أبو داود في (سننه)،باب (النهي عن التزويج من لم يلد من النساء).
[5] أخرجه البخاري،برقم: (4802) 5/ 1958،و مسلم في صحيحه،باب (استحباب نكاح ذات الدين) برقم (1466) 2/ 1086.
[6] كتاب السنن،حديث رقم: (590) 1/190.
[7] أخرجه الترمذي في سننه،باب (ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه)،برقم: (1084)3/ 394.
[8] سورة النساء، الآية 3.
[9] أخرجه مسلم في صحيحه برقم: (1406) 2/ 1025.
[10] أخرجه مسلم في صحيحه, برقم: (1406) 2 / 1025.
[11] أخرجه ابن ماجة في سننه، برقم:(1936) 1/ 623.
[12] سورة البقرة، الآية 230.
[13] أخرجه مسلم في صحيحه برقم: (1416)،2/ 1035.