نقد القومية العربية على ضوء الإسلام و الواقع
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
http://binbaz.org.sa/
......................
الحمد لله،و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد:
فلا يشك مسلم له أدنى بصيرة بالتاريخ الإسلامي في فضل العرب المسلمين، و ما قاموا به من حمل رسالة الإسلام في القرون المفضلة، و تبليغه لكافة الشعوب، و الصدق في الدعوة إليه، و الجهاد لنشره و الدفاع عنه، و تحمل المشاق العظيمة في ذلك، حتى أظهرها الله على أيديهم وخفقت رايته في غالب المعمورة، وشاهد العالم على أيدي دعاة الإسلام في صدر الإسلام أكمل نظام وأعدل حاكم، ورأوا في الإسلام كل ما يريدون وينشدون من خير الدنيا والآخرة، ووجدوا في الإسلام تنظيم حياة سعيدة تكفل لهم العزة والكرامة والحرية من عبادة العبيد، وظلم المستبدين، والولاة الغاشمين، ووجدوا في الإسلام تنظيم علاقتهم بالله سبحانه: بعبادة عظيمة تصلهم بالله، وتطهر قلوبهم من الشرك والحقد والكبر، وتغرس فيها غاية الحب لله وكمال الذل له والتلذذ بمناجاته، وتعرفهم بربهم وبأنفسهم، وتذكرهم بالله وعظيم حقه كلما غفلوا أو كادوا أن يغفلوا وجدوا في الإسلام تنظيم علاقتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وماذا يجب عليهم من حقه والسير في سبيله، ووجدوا في الإسلام أيضا تنظيم العلاقات التي بين الراعي والرعية، وبين الرجل وأهله، وبين الرجل وأقاربه، وبين الرجل وإخوانه المسلمين، وبين المسلمين والكفار، بعبارات واضحة وأساليب جلية ووجدوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة وأتباعهم بإحسان تفسير ذلك بأخلاقهم الحميدة وأعمالهم المجيدة، فأحب الناس الإسلام وعظموه ودخلوا فيه أفواجاً، وأدركوا فيه كل خير وطمأنينة وصلاح وإصلاح.
والكلام في مزايا الإسلام وما اشتمل عليه من أحكام سامية وأخلاق كريمة، تصلح القلوب، وتؤلف بينها وتربطها برباط وثيق من المودة في الله سبحانه، والتفاني في نصر دينه، والتمسك بتعاليمه، والتواصي بالحق والصبر عليه، لا ريب أن الكلام في هذا الباب يطول والقصد في هذه الكلمة الإشارة إلى ما حصل على أيدي المسلمين من العرب في صدر الإسلام من الجهاد والصبر، وما أكرمهم الله به من حمل مشعل الإسلام إلى غالب المعمورة، وما حصل للعالم من الرغبة في الإسلام، والمسارعة إلى الدخول فيه، لما اشتمل عليه من الأحكام الرشيدة والتعاليم السمحة، والتعريف بالله سبحانه وبأسمائه وصفاته وعظيم حقه على عباده، ولما اتصف به حملته والدعاة إليه من تمثيل أحكام الإسلام في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، حتى صاروا بذلك خير أمة أخرجت للناس، وحققوا بذلك معنى قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[1] ومعنى الآية كما قال أبو هريرة رضي الله عنه كنتم خير الناس للناس.
لا يشك مسلم قد عرف ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام فيما ذكرناه، فهو من الحقائق المعلومة بين المسلمين، ولا يشك مسلم في ما للمسلمين غير العرب من الفضل والجهاد المشكور في مساعدة إخوانهم من العرب المسلمين في نشر هذا الدين والجهاد في إعلاء كلمته، وتبليغه سكان المعمورة، شكر الله للجميع مساعيهم الجليلة، وجعلنا من أتباعهم بإحسان، إنه على كل شيء قدير.
وإنما الذي ينكر اليوم ويستغرب صدوره عن كثير من أبناء الإسلام من العرب، انصرافهم عن الدعوة إلى هذا الدين العظيم، الذي رفعهم الله به، وأعزهم بحمل رسالته، وجعلهم ملوك الدنيا وسادة العالم، لما حملوا لواءه وجاهدوا في سبيله بصدق وإخلاص، حتى فتحوا الدنيا، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر، واستولوا على خزائن مملكتيهما، وأنفقوها في سبيل الله سبحانه، وكانوا حينذاك في غاية من الصدق والإخلاص والوفاء والأمانة والتحاب في الله سبحانه والمؤاخاة فيه، لا فرق عندهم بين عربي وعجمي، ولا بين أحمر وأسود، ولا بين غني وفقير، ولا بين شرقي وغربي، بل هم في ذلك إخوان متحابون في الله، متعاونون على البر والتقوى، مجاهدون في سبيل الله، صابرون على دين الإسلام لا تأخذهم في الله لومة لائم، يوالون في الإسلام، ويعادون فيه، ويحبون عليه، ويبغضون عليه، ولذلك كفاهم الله مكايد أعدائهم، وكتب لهم النصر في جميع ميادين جهادهم، كما وعدهم الله سبحانه بذلك في كتابه المبين حيث يقول سبحانه: وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[2] و قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[3]
ثم بعد هذا الشرف العظيم والنصر المؤزر من المولى سبحانه لعباده المؤمنين من العرب وغيرهم، نرى نفراً من أبنائنا يخدعون بالمبادئ المنحرفة، ويدعون إلى غير الإسلام، كأنهم لم يعرفوا فضل الإسلام وما حصل لأسلافهم بالإسلام من العزة والكرامة، والمجد الشامخ والمجتمع القوي الذي كتبه الله لأهل الإسلام الصادقين، حتى إن عدوهم ليخافهم وهو عنهم مسيرة شهر، نسي هؤلاء أو تناسوا هذا المجد المؤثل والعز العظيم والملك الكبير، الذي ناله المسلمون بالإسلام، فصار هؤلاء الأبناء يدعون إلى التكتل والتجمع حول القومية العربية، ويعرفونها بأنها اجتماع وتكاتف لتطهير البلاد من العدو المستعمر، ولتحصيل المصالح المشتركة، واستعادة المجد السليب.
وقد اختلف الدعاة إليها في عناصرها، فمن قائل: أنها الوطن والنسب واللغة العربية ومن قائل: أنها اللغة فقط ومن قائل: أنها اللغة مع المشاركة في الآلام والآمال ومن قائل غير ذلك وأما الدين فليس من عناصرها عند أساطينهم والصرحاء منهم، وقد صرح كثير بأن الدين لا دخل له في القومية، وصرح بعضهم أنها تحترم الأديان كلها من الإسلام وغيره وهدفها كما يعلم من كلامهم هو التكتل والتجمع والتكاتف ضد الأعداء ولتحصيل المصالح المشتركة كما سلف، ولا ريب بأن هذا غرض نبيل وقصد جميل.
فإذا كان هذا هو الهدف، ففي الإسلام من الحث على ذلك والدعوة إليه، وإيجاب التكاتف والتعاون لنصر الإسلام، وحمايته من كيد الأعداء ولتحصيل المصالح المشتركة، ما هو أكمل وأعظم مما يرتجى من وراء القومية ومعلوم عند كل ذي لب سليم أن التكاتف والتعاون الذي مصدره القلوب، والإيمان بصحة الهدف، وسلامة العاقبة في الحياة وبعد الممات كما في الإسلام الصحيح - أعظم من التعاون والتكاتف على أمر اخترعه البشر ولم ينزل به وحي السماء، ولا تؤمن عاقبته لا في الدنيا ولا في الآخرة. وأيضا فالتكاتف والتعاون الصادر عن إيمان بالله، وصدق في معاملته ومعاملة عباده، مضمون له النصر وحسن العاقبة - كما في الآيات الكريمات التي أسلفنا ذكرها - بخلاف التكاتف والتعاون المبني على فكرة جاهلية تقليدية، لم يأت بها شرع ولم يضمن لها النصر.
وهذا كله على سبيل التنزل لدعاة القومية، والرغبة في إيضاح الحقائق لطالب الحق وإلا فمن خبر أحوال القوميين، وتدبر مقالاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، عرف أن غرض الكثيرين منهم من الدعوة إلى القومية، أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع، ومن تلك الأمور، فصل الدين عن الدولة، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة - لا بلغهم الله مناهم - ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات، يرقص لها الاستعمار طرباً، ويساعد على وجودها ورفع مستواها - وإن تظاهر بخلاف ذلك - تغريراً للعرب عن دينهم، وتشجيعاً لهم على الاشتغال بقوميتهم، والدعوة إليها والإعراض عن دينهم.
ومن زعم من دعاة القومية أن الدين من عناصرها، فقد فرض أخطاء على القوميين، وقال عليهم ما لم يقولوا لأن الدين يخالف أسسهم التي بنوا القومية عليها، ويخالف صريح كلامهم ويباين ما يقصدونه من تكتيل العرب، على اختلاف أديانهم تحت راية القومية.
ولهذا تجد من يجعل الدين من عناصر القومية يتناقض في كلامه، فيثبته تارة وينفيه أخرى، وما ذلك إلا أنه لم يقله عن عقيدة وإيمان، وإنما قاله مجاملة لأهل الإسلام، أو عن جهل بحقيقة القومية وهدفها، وهكذا قول من قال: إنها تخدم الإسلام أو تسانده، وكل ذلك بعيد عن الحقيقة والواقع، وإنما الحقيقة أنها تنافس الإسلام وتحاربه في عقر داره، وتطلي ببعض خصائصه ترويجاً لها وتلبيساً أو جهلاً و تقليداً.
ولو كانت الدعوة إلى القومية يراد منها نصر الإسلام وحماية شعائره، لكرس القوميون جهدهم في الدعوة إليه ومناصرته، وتحكيم دستوره النازل من فوق سبع سماوات، ولبادروا إلى التخلق بأخلاقه، والعمل بما يدعو إليه، وابتعدوا عن كل ما يخالفه؛ لأنه الأصل الأصيل والهدف الأعظم، ولأنه السبيل الذي من سار عليه، واستقام عليه، وصل إلى شاطئ السلامة، وفاز بالجنة والكرامة، ومن حاد عن سبيله باء بالخيبة والندامة، وخسر الدنيا والآخرة، فلو كان دعاة القومية يقصدون بدعوتهم إليها تعظيم الإسلام وخدمته، ورفع شأنه، لما اقتصروا على الدعوة للخادم دون المخدوم، وكرسوا لهذا الخادم جهودهم، وغضبوا من صوت دعاة الإسلام إذا دعوا إليه، وحذروا مما يخالفه أو يقف حجراً في طريقه.
لو كان دعاة القومية يريدون بدعوتهم إعلاء كلمة الإسلام، واجتماع العرب عليه، لنصحوا العرب ودعوهم إلى التمسك بتعاليم الإسلام، وتنفيذ أحكامه، ولشجعوهم على نصره ودعوة الناس إليه، فإن العرب أولى الناس بأن ينصروا الإسلام، ويحموه من مكايد الأعداء ويحكموه فيما شجر بينهم، كما فعل أسلافهم؛ لأنه عزهم وذكرهم ومجدهم، كما قال الله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ[4] وقال فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ[5] و إذا عرفت أيها القارئ ما تقدم، فاعلم أن هذه الدعوة: أعني الدعوة إلى القومية العربية، أحدثها الغربيون من النصارى، لمحاربة الإسلام و القضاء عليه في داره، بزخرف من القول، و أنواع من الخيال، و أساليب من الخداع، فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام، و اغتر بها كثير من الأغمار و من قلدهم من الجهال، و فرح بذلك أرباب الإلحاد و خصوم الإسلام في كل مكان.
و من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات، دعوة باطلة و خطأ عظيم، و منكر ظاهر، و جاهلية و كيد سافر للإسلام و أهله، و ذلك لوجوه:
الأول: أن الدعوة إلى القومية العربية تفرق بين المسلمين، و تفصل المسلم العجمي عن أخيه العربي، و تفرق بين العرب أنفسهم ؛ لأنهم كلهم ليسوا يرتضونها، و إنما يرضاها منهم قوم دون قوم، و كل فكرة تقسم المسلمين و تجعلهم أحزاباً فكرة باطلة، تخالف مقاصد الإسلام و ما يرمي إليه؛ و ذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع و الوئام، و التواصي بالحق و التعاون على البر و التقوى، كما يدل على ذلك قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَ كُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [6].
و قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [7]
و قال تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[8]
فانظر أيها المؤمن الراغب في الحق كيف يحارب الإسلام التفرق و الاختلاف، و يدعو إلى الاجتماع و الوئام، و التمسك بحبل الحق و الوفاة عليه، تعلم بذلك أن هدف القومية غير هدف الإسلام، و أن مقاصدها تخالف مقاصد الإسلام، و يدل على ذلك أيضا أن هذه الفكرة، أعني الدعوة إلى القومية العربية وردت إلينا من أعدائنا الغربيين، و كادوا بها المسلمين، و يقصدون من ورائها فصل بعضهم عن بعض، و تحطيم كيانهم، و تفريق شملهم، على قاعدتهم المشئومة (فرق تسد) و كم نالوا من الإسلام و أهله بهذه القاعدة النحيسة، مما يحزن القلوب و يدمي العيون.
و ذكر كثير من مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية، و منهم مؤلف الموسوعة العربية: أن أول من دعا إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سوريا، ليفصلوا الترك عن العرب، و يفرقوا بين المسلمين، و لم تزل الدعوة إليها في الشام و العراق و لبنان تزداد و تنمو، حتى عقد لها أول مؤتمر في باريس من نحو ستين سنة، و ذلك عام 1910 م، و كثرت بسبب ذلك الجمعيات العربية، و تعددت الاتجاهات، فحاول الأتراك إخمادها، بأحكام الإعدام التي نفذها جمال باشا في سورية في ذلك الوقت، إلى آخر ما ذكروا، فهل تظن أيها القارئ أن خصومنا و أعداءنا يسعون في مصالحنا، بابتداعهم الدعوة إلى القومية العربية، و عقد المؤتمرات لها، و ابتعاث المبشرين بها، لا و الله، إنهم لا يريدون بنا خيراً و لا يعملون لمصالحنا، إنما يعملون و يسعون لتحطيمنا و تمزيق شملنا، و القضاء على ما بقي من ديننا، و كفى بذلك دليلاً لكل ذي لب، على ما يراد من وراء الدعوة إلى القومية العربية، و أنها معول غربي استعماري، يراد به تفريقنا و إبعادنا عن ديننا كما سلف.
و من العجب الذي لا ينقضي، أن كثيراً من شبابنا و كتابنا - ألهمهم الله رشدهم - خفيت عليهم هذه الحقيقة، حتى ظنوا أن التكتل و التجمع حول القومية العربية، و المناصرة لها، أنفع للعرب و أضر للعدو، من التجمع و التكتل حول الإسلام و مناصرته، و هذا بلا شك ظن خاطئ، و اعتقاد غير مطابق للحقيقة.
نعم لا شك أنه يحزن المستعمر و يقلق راحته كل تجمع و تكتل ضد مصلحته، و لكن خوفه من التجمع و التكتل حول الإسلام أعظم و أكبر، و لذلك رضي بالدعوة إلى القومية العربية، و حفز العرب إليها، ليشغلهم بها عن الإسلام، و ليقطع بها صلتهم بالله سبحانه. لأنهم إذا فقدوا الإسلام حرموا ما ضمنه الله لهم من النصر، الذي وعدهم به في الآيتين السابقتين، و في قوله تعالى: وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [9]
و معلوم عند جميع العقلاء أنه إذا كان لا بد من أحد ضررين، فارتكاب الأدنى منهما أولى، حذراً من الضرر الأكبر، و قد دل الشرع و القدر على هذه القاعدة، و قد عرفها المستعمر و سلكها في هذا الباب و غيره فتنبه يا أخي و احذر مكايد الشيطان و الاستعمار و أوليائهما، تنج من ضرر عظيم، و خطر كبير، و عواقب سيئة عافاني الله و إياك و المسلمين من ذلك.
و مما تقدم يعلم القارئ اليقظ أن الدعوة إلى القومية العربية - كما أنها إساءة إلى الإسلام و محاربة له في بلاده - فهي أيضا إساءة إلى العرب أنفسهم، و جناية عليهم عظيمة. لكونها تفصلهم عن الإسلام الذي هو مجدهم الأكبر، و شرفهم الأعظم و مصدر عزهم و سيادتهم على العالم، فكيف يرضى عربي عاقل بدعوة هذا شأنها و هذه غايتها:؟!
و لقد أحسن الكاتب الإسلامي الشهير: أبو الحسن الندوي في رسالته المشهورة: (اسمعوها مني صريحة: أيها العرب) حيث يقول في صفحة 27 و 28 ما نصه:
(فمن المؤسف المحزن المخجل أن يقوم في هذا الوقت في العالم العربي، رجال يدعون إلى القومية العربية المجردة من العقيدة و الرسالة، و إلى قطع الصلة عن أعظم نبي عرفه تاريخ الإيمان، و عن أقوى شخصية ظهرت في العالم، و عن أمتن رابطة روحية تجمع بين الأمم و الأفراد و الأشتات، إنها جريمة قومية تبز جميع الجرائم القومية، التي سجلها تاريخ هذه الأمة، و إنها حركة هدم و تخريب، تفوق جميع الحركات الهدامة المعروفة في التاريخ، و إنها خطوة حاسمة مشئومة، في سبيل الدمار القومي و الانتحار الاجتماعي) انتهى.
فتأمل: أيها القارئ كلمة هذا العالم العربي (الحسني الكبير)[10] الذي قد سبر أحوال العالم و عرف نتائج الدعوة إلى القوميات و سوء مصيرها، تدرك بعقلك السليم ما وقع فيه العرب و المسلمون اليوم، من فتنة كبرى و مصيبة عظمى، بهذه الدعوة المشئومة، وقى الله المسلمين شرها، و وفق العرب و جميع المسلمين للرجوع إلى ما كان عليه أسلافهم المهديون، إنه سميع مجيب.
ثم لا يخفاك أيها القارئ الكريم غربة الإسلام اليوم، و قلة أنصاره و المتحمسين لدعوته، و كثرة المحاربين له و المتنكرين لأحكامه و تعاليمه، فالواجب على أبناء الإسلام بدلاً من التحمس للقومية و المناصرة لدعاتها:
أن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام وتعظيمه في قلوب الناس، وأن يجتهدوا في نشر محاسنه وإعلان أحكامه العادلة، وتعاليمه السمحة الصافية، نقية من شوائب الشرك و الخرافات و البدع و الأهواء حتى يعيدوا بذلك ما درس من مجد أسلافهم، و حماستهم للإسلام، و تكريس قواهم لنصرته و حمايته، و الرد على خصومه بشتى الأساليب الناجعة، و أنواع الحجج و البراهين الساطعة و لا شك أن هذا واجب متحتم، و فرض لازم على جميع أبناء الإسلام، كل منهم بحسب ما أعطاه الله من المقدرة و الإمكانات، التي يستطيع بها القيام بما أوجب الله عليه من النصر لدينه و الدعوة إليه، فنسأل الله أن يمن على الجميع بذلك، و أن يصلح قلوبنا و أعمالنا، و أن يقر أعين المسلمين جميعاً بنصر الإسلام الصافي من الشوائب، و ظهوره على جميع خصومه في القريب العاجل، إنه سبحانه خير مسئول و أقرب مجيب.
الوجه الثاني: أن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية و حذر منها، و أبدى في ذلك و أعاد في نصوص كثيرة بل قد جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية، و أعمالهم إلا ما أقره الإسلام من ذلك، و لا ريب أن الدعوة إلى القومية العربية من أمر الجاهلية، لأنها دعوة إلى غير الإسلام، و مناصرة لغير الحق، و كم جرت الجاهلية على أهلها من ويلات و حروب طاحنة، وقودها النفوس و الأموال و الأعراض، و عاقبتها تمزيق الشمل و غرس العداوة و الشحناء في القلوب، و التفريق بين القبائل و الشعوب .
قال شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله (كل ما خرج عن دعوى الإسلام و القرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصهم مهاجري و أنصاري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، و قال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه و سلم..أبدعوى الجاهلية و أنا بين أظهركم .و غضب لذلك غضباً شديداً. انتهى.
و مما ورد في ذلك من النصوص قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ و آتِينَ الزَّكَاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ [11]
و قال تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [12]
و في سنن أبي داود ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية و ليس منا من قاتل على عصبية و ليس منا من مات على عصبية)) و في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد و لا يفخر أحد على أحد)) و لا ريب أن دعاة القومية يدعون إلى عصبية و يغضبون لعصبية و يقاتلون على عصبية، و لا ريب أيضا أن الدعوة إلى القومية تدعو إلى البغي و الفخر؛ لأن القومية ليست ديناً سماوياً يمنع أهله من البغي و الفخر، و إنما هي فكرة جاهلية تحمل أهلها على الفخر بها و التعصب لها على من نالها بشيء، و إن كانت هي الظالمة و غيرها المظلوم، فتأمل أيها القارئ ذلك يظهر لك وجه الحق.
و من النصوص الواردة في ذلك ما رواه الترمذي و غيره، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية و فخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي الناس بنو آدم و آدم خلق من تراب و لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)) و هذا الحديث يوافق قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أنْثَى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [13].
أوضح سبحانه بهذه الآية الكريمة أنه جعل الناس شعوباً و قبائل للتعارف لا للتفاخر و التعاظم، و جعل أكرمهم عنده هو أتقاهم، و هكذا يدل الحديث المذكور على هذا المعنى و يرشد إلى سنة الجاهلية التكبر و التفاخر بالأسلاف و الأحساب، و الإسلام بخلاف ذلك، يدعو إلى التواضع و التقوى و التحاب في الله، و أن يكون المسلمون الصادقون من سائر أجناس بني آدم، جسداً واحداً، و بناءً واحداً يشد بعضهم بعضاً، و يألم بعضهم لبعض، كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) و شبك بين أصابعه و قال صلى الله عليه و سلم: ((مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر))
فأنشدك بالله أيها القومي: هل قوميتك تدعو إلى هذه الأخلاق الفاضلة، من الرحمة للمسلمين من العرب و العجم، و العطف عليهم و التألم لآلامهم؟ لا و الله، و إنما تدعو إلى موالاة من انخرط في سلكها، و نصب العداوة لمن تنكر لها، فتنبه أيها المسلم الراغب في النجاة، و انظر إلى حقائق الأمور بمرآة العدالة و التجرد من التعصب و الهوى، حتى ترى الحقائق على ما هي عليه، أرشدني الله و إياك إلى أسباب النجاة.
و من ذلك ما ثبت في الصحيح أن غلاما من المهاجرين و غلاما من الأنصار تنازعا، فقال المهاجري: يا للمهاجرين و قال الأنصاري: يا للأنصار فسمع ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال: ((أبدعوى الجاهلية و أنا بين أظهركم)) فإذا كان من انتسب إلى المهاجرين و استنصر بهم على إخوانهم في الدين، أو إلى الأنصار و استنصر بهم على إخوانهم في الدين يكون قد دعا بدعوى الجاهلية، مع كونهما اسمين محبوبين لله سبحانه، و قد أثنى الله على أهلهما ثناءً عظيماً في قوله تعالى: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ[14] الآية، فكيف تكون حال من انتسب إلى القومية و استنصر بها و غضب لها؟ أفلا يكون أولى ثم أولي بأن يكون قد دعا بدعوى الجاهلية؟ لا شك أن هذا من أوضح الواضحات.
و من ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن الحارث الأشعري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس أن يعمل بهن و يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فذكرها))، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع و من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم)) قيل يا رسول الله و إن صلى و صام؟ قال ((و إن صلى و صام و زعم أنه مسلم)).
فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله و هذا الحديث الصحيح من أوضح الأحاديث و أبينها في إبطال الدعوة إلى القومية، و اعتبارها دعوة جاهلية، يستحق دعاتها أن يكونوا من جثي جهنم، و إن صاموا و صلوا، و زعموا أنهم مسلمون فيا له من وعيد شديد، و تحذير ينذر كل مسلم من الدعوات الجاهلية، و الركون إلى معتنقيها، و إن زخرفوها بالمقالات السحرية، و الخطب الرنانة الواسعة، التي لا أساس لها من الحقيقة، و لا شاهد لها من الواقع، و إنما هو التلبيس و الخداع و التقليد الأعمى، الذي ينتهي بأهله إلى أسوأ العواقب، نسأل الله السلامة من ذلك.
و هنا شبهة يذكرها بعض دعاة القومية أحب أن أكشفها للقارئ، و هي أن بعض دعاة القومية زعم أن النهي عن الدعوة إلى القومية العربية و التحذير منها يتضمن تنقص العرب و إنكار فضلهم.
و الجواب أن يقال: لا شك أن هذا زعم خاطئ و اعتقاد غير صحيح، فإن الاعتراف بفضل العرب، و ما سبق لهم في صدر الإسلام من أعمال مجيدة لا يشك فيه مسلم عرف التاريخ كما أسلفنا، و قد ذكر غير واحد من أهل العلم، و منهم أبو العباس بن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم) أن مذهب أهل السنة تفضيل جنس العرب على غيرهم، و أورد في ذلك أحاديث تدل على ذلك، و لكن لا يلزم من الاعتراف بفضلهم أن يجعلوا عمادا يتكتل حوله، و يوالي عليه و يعادي عليه، و إنما ذلك من حق الإسلام الذي أعزهم الله به، و أحيا فكرهم و رفع شأنهم، فهذا لون و هذا لون، ثم هذا الفضل الذي امتازوا به على غيرهم، و ما من الله به عليهم من فصاحة اللسان، و نزول القرآن الكريم بلغتهم، و إرسال الرسول العام بلسانهم، ليس مما يقدمهم عند الله في الآخرة، و لا يوجب لهم النجاة إذا لم يؤمنوا و يتقوا، و ليس ذلك أيضا يوجب تفضيلهم على غيرهم من جهة الدين، بل أكرم الناس عند الله أتقاهم، كما تقدم في الآية الكريمة و الحديث الشريف، بل هذا الفضل عند أهل التحقيق يوجب عليهم أن يشكروا الله سبحانه أكثر من غيرهم، و أن يضاعفوا الجهود في نصر دينه الذي رفعهم الله به، و أن يوالوا عليه و يعادوا عليه، و دون أن يلتفتوا إلى قومية أو غيرها من الأفكار المسمومة، و الدعوات المشئومة، و لو كانت أنسابهم وحدها تنفعهم شيئا لم يكن أبو لهب و أضرابه من أصحاب النار، و لو كانت تنفعهم بدون الإيمان لم يقل لهم النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح: ((يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً)).
و بذلك يعلم القارئ المسلم من الهوى أن الشبهة المذكورة شبهة واهية لا أساس لها من الشرع المطهر، و لا من المنطق السليم البعيد من الهوى.
يتبع في الرد.
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
http://binbaz.org.sa/
......................
الحمد لله،و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد:
فلا يشك مسلم له أدنى بصيرة بالتاريخ الإسلامي في فضل العرب المسلمين، و ما قاموا به من حمل رسالة الإسلام في القرون المفضلة، و تبليغه لكافة الشعوب، و الصدق في الدعوة إليه، و الجهاد لنشره و الدفاع عنه، و تحمل المشاق العظيمة في ذلك، حتى أظهرها الله على أيديهم وخفقت رايته في غالب المعمورة، وشاهد العالم على أيدي دعاة الإسلام في صدر الإسلام أكمل نظام وأعدل حاكم، ورأوا في الإسلام كل ما يريدون وينشدون من خير الدنيا والآخرة، ووجدوا في الإسلام تنظيم حياة سعيدة تكفل لهم العزة والكرامة والحرية من عبادة العبيد، وظلم المستبدين، والولاة الغاشمين، ووجدوا في الإسلام تنظيم علاقتهم بالله سبحانه: بعبادة عظيمة تصلهم بالله، وتطهر قلوبهم من الشرك والحقد والكبر، وتغرس فيها غاية الحب لله وكمال الذل له والتلذذ بمناجاته، وتعرفهم بربهم وبأنفسهم، وتذكرهم بالله وعظيم حقه كلما غفلوا أو كادوا أن يغفلوا وجدوا في الإسلام تنظيم علاقتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وماذا يجب عليهم من حقه والسير في سبيله، ووجدوا في الإسلام أيضا تنظيم العلاقات التي بين الراعي والرعية، وبين الرجل وأهله، وبين الرجل وأقاربه، وبين الرجل وإخوانه المسلمين، وبين المسلمين والكفار، بعبارات واضحة وأساليب جلية ووجدوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة وأتباعهم بإحسان تفسير ذلك بأخلاقهم الحميدة وأعمالهم المجيدة، فأحب الناس الإسلام وعظموه ودخلوا فيه أفواجاً، وأدركوا فيه كل خير وطمأنينة وصلاح وإصلاح.
والكلام في مزايا الإسلام وما اشتمل عليه من أحكام سامية وأخلاق كريمة، تصلح القلوب، وتؤلف بينها وتربطها برباط وثيق من المودة في الله سبحانه، والتفاني في نصر دينه، والتمسك بتعاليمه، والتواصي بالحق والصبر عليه، لا ريب أن الكلام في هذا الباب يطول والقصد في هذه الكلمة الإشارة إلى ما حصل على أيدي المسلمين من العرب في صدر الإسلام من الجهاد والصبر، وما أكرمهم الله به من حمل مشعل الإسلام إلى غالب المعمورة، وما حصل للعالم من الرغبة في الإسلام، والمسارعة إلى الدخول فيه، لما اشتمل عليه من الأحكام الرشيدة والتعاليم السمحة، والتعريف بالله سبحانه وبأسمائه وصفاته وعظيم حقه على عباده، ولما اتصف به حملته والدعاة إليه من تمثيل أحكام الإسلام في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، حتى صاروا بذلك خير أمة أخرجت للناس، وحققوا بذلك معنى قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[1] ومعنى الآية كما قال أبو هريرة رضي الله عنه كنتم خير الناس للناس.
لا يشك مسلم قد عرف ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام فيما ذكرناه، فهو من الحقائق المعلومة بين المسلمين، ولا يشك مسلم في ما للمسلمين غير العرب من الفضل والجهاد المشكور في مساعدة إخوانهم من العرب المسلمين في نشر هذا الدين والجهاد في إعلاء كلمته، وتبليغه سكان المعمورة، شكر الله للجميع مساعيهم الجليلة، وجعلنا من أتباعهم بإحسان، إنه على كل شيء قدير.
وإنما الذي ينكر اليوم ويستغرب صدوره عن كثير من أبناء الإسلام من العرب، انصرافهم عن الدعوة إلى هذا الدين العظيم، الذي رفعهم الله به، وأعزهم بحمل رسالته، وجعلهم ملوك الدنيا وسادة العالم، لما حملوا لواءه وجاهدوا في سبيله بصدق وإخلاص، حتى فتحوا الدنيا، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر، واستولوا على خزائن مملكتيهما، وأنفقوها في سبيل الله سبحانه، وكانوا حينذاك في غاية من الصدق والإخلاص والوفاء والأمانة والتحاب في الله سبحانه والمؤاخاة فيه، لا فرق عندهم بين عربي وعجمي، ولا بين أحمر وأسود، ولا بين غني وفقير، ولا بين شرقي وغربي، بل هم في ذلك إخوان متحابون في الله، متعاونون على البر والتقوى، مجاهدون في سبيل الله، صابرون على دين الإسلام لا تأخذهم في الله لومة لائم، يوالون في الإسلام، ويعادون فيه، ويحبون عليه، ويبغضون عليه، ولذلك كفاهم الله مكايد أعدائهم، وكتب لهم النصر في جميع ميادين جهادهم، كما وعدهم الله سبحانه بذلك في كتابه المبين حيث يقول سبحانه: وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[2] و قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[3]
ثم بعد هذا الشرف العظيم والنصر المؤزر من المولى سبحانه لعباده المؤمنين من العرب وغيرهم، نرى نفراً من أبنائنا يخدعون بالمبادئ المنحرفة، ويدعون إلى غير الإسلام، كأنهم لم يعرفوا فضل الإسلام وما حصل لأسلافهم بالإسلام من العزة والكرامة، والمجد الشامخ والمجتمع القوي الذي كتبه الله لأهل الإسلام الصادقين، حتى إن عدوهم ليخافهم وهو عنهم مسيرة شهر، نسي هؤلاء أو تناسوا هذا المجد المؤثل والعز العظيم والملك الكبير، الذي ناله المسلمون بالإسلام، فصار هؤلاء الأبناء يدعون إلى التكتل والتجمع حول القومية العربية، ويعرفونها بأنها اجتماع وتكاتف لتطهير البلاد من العدو المستعمر، ولتحصيل المصالح المشتركة، واستعادة المجد السليب.
وقد اختلف الدعاة إليها في عناصرها، فمن قائل: أنها الوطن والنسب واللغة العربية ومن قائل: أنها اللغة فقط ومن قائل: أنها اللغة مع المشاركة في الآلام والآمال ومن قائل غير ذلك وأما الدين فليس من عناصرها عند أساطينهم والصرحاء منهم، وقد صرح كثير بأن الدين لا دخل له في القومية، وصرح بعضهم أنها تحترم الأديان كلها من الإسلام وغيره وهدفها كما يعلم من كلامهم هو التكتل والتجمع والتكاتف ضد الأعداء ولتحصيل المصالح المشتركة كما سلف، ولا ريب بأن هذا غرض نبيل وقصد جميل.
فإذا كان هذا هو الهدف، ففي الإسلام من الحث على ذلك والدعوة إليه، وإيجاب التكاتف والتعاون لنصر الإسلام، وحمايته من كيد الأعداء ولتحصيل المصالح المشتركة، ما هو أكمل وأعظم مما يرتجى من وراء القومية ومعلوم عند كل ذي لب سليم أن التكاتف والتعاون الذي مصدره القلوب، والإيمان بصحة الهدف، وسلامة العاقبة في الحياة وبعد الممات كما في الإسلام الصحيح - أعظم من التعاون والتكاتف على أمر اخترعه البشر ولم ينزل به وحي السماء، ولا تؤمن عاقبته لا في الدنيا ولا في الآخرة. وأيضا فالتكاتف والتعاون الصادر عن إيمان بالله، وصدق في معاملته ومعاملة عباده، مضمون له النصر وحسن العاقبة - كما في الآيات الكريمات التي أسلفنا ذكرها - بخلاف التكاتف والتعاون المبني على فكرة جاهلية تقليدية، لم يأت بها شرع ولم يضمن لها النصر.
وهذا كله على سبيل التنزل لدعاة القومية، والرغبة في إيضاح الحقائق لطالب الحق وإلا فمن خبر أحوال القوميين، وتدبر مقالاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، عرف أن غرض الكثيرين منهم من الدعوة إلى القومية، أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع، ومن تلك الأمور، فصل الدين عن الدولة، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة - لا بلغهم الله مناهم - ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات، يرقص لها الاستعمار طرباً، ويساعد على وجودها ورفع مستواها - وإن تظاهر بخلاف ذلك - تغريراً للعرب عن دينهم، وتشجيعاً لهم على الاشتغال بقوميتهم، والدعوة إليها والإعراض عن دينهم.
ومن زعم من دعاة القومية أن الدين من عناصرها، فقد فرض أخطاء على القوميين، وقال عليهم ما لم يقولوا لأن الدين يخالف أسسهم التي بنوا القومية عليها، ويخالف صريح كلامهم ويباين ما يقصدونه من تكتيل العرب، على اختلاف أديانهم تحت راية القومية.
ولهذا تجد من يجعل الدين من عناصر القومية يتناقض في كلامه، فيثبته تارة وينفيه أخرى، وما ذلك إلا أنه لم يقله عن عقيدة وإيمان، وإنما قاله مجاملة لأهل الإسلام، أو عن جهل بحقيقة القومية وهدفها، وهكذا قول من قال: إنها تخدم الإسلام أو تسانده، وكل ذلك بعيد عن الحقيقة والواقع، وإنما الحقيقة أنها تنافس الإسلام وتحاربه في عقر داره، وتطلي ببعض خصائصه ترويجاً لها وتلبيساً أو جهلاً و تقليداً.
ولو كانت الدعوة إلى القومية يراد منها نصر الإسلام وحماية شعائره، لكرس القوميون جهدهم في الدعوة إليه ومناصرته، وتحكيم دستوره النازل من فوق سبع سماوات، ولبادروا إلى التخلق بأخلاقه، والعمل بما يدعو إليه، وابتعدوا عن كل ما يخالفه؛ لأنه الأصل الأصيل والهدف الأعظم، ولأنه السبيل الذي من سار عليه، واستقام عليه، وصل إلى شاطئ السلامة، وفاز بالجنة والكرامة، ومن حاد عن سبيله باء بالخيبة والندامة، وخسر الدنيا والآخرة، فلو كان دعاة القومية يقصدون بدعوتهم إليها تعظيم الإسلام وخدمته، ورفع شأنه، لما اقتصروا على الدعوة للخادم دون المخدوم، وكرسوا لهذا الخادم جهودهم، وغضبوا من صوت دعاة الإسلام إذا دعوا إليه، وحذروا مما يخالفه أو يقف حجراً في طريقه.
لو كان دعاة القومية يريدون بدعوتهم إعلاء كلمة الإسلام، واجتماع العرب عليه، لنصحوا العرب ودعوهم إلى التمسك بتعاليم الإسلام، وتنفيذ أحكامه، ولشجعوهم على نصره ودعوة الناس إليه، فإن العرب أولى الناس بأن ينصروا الإسلام، ويحموه من مكايد الأعداء ويحكموه فيما شجر بينهم، كما فعل أسلافهم؛ لأنه عزهم وذكرهم ومجدهم، كما قال الله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ[4] وقال فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ[5] و إذا عرفت أيها القارئ ما تقدم، فاعلم أن هذه الدعوة: أعني الدعوة إلى القومية العربية، أحدثها الغربيون من النصارى، لمحاربة الإسلام و القضاء عليه في داره، بزخرف من القول، و أنواع من الخيال، و أساليب من الخداع، فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام، و اغتر بها كثير من الأغمار و من قلدهم من الجهال، و فرح بذلك أرباب الإلحاد و خصوم الإسلام في كل مكان.
و من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات، دعوة باطلة و خطأ عظيم، و منكر ظاهر، و جاهلية و كيد سافر للإسلام و أهله، و ذلك لوجوه:
الأول: أن الدعوة إلى القومية العربية تفرق بين المسلمين، و تفصل المسلم العجمي عن أخيه العربي، و تفرق بين العرب أنفسهم ؛ لأنهم كلهم ليسوا يرتضونها، و إنما يرضاها منهم قوم دون قوم، و كل فكرة تقسم المسلمين و تجعلهم أحزاباً فكرة باطلة، تخالف مقاصد الإسلام و ما يرمي إليه؛ و ذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع و الوئام، و التواصي بالحق و التعاون على البر و التقوى، كما يدل على ذلك قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَ كُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [6].
و قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [7]
و قال تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[8]
فانظر أيها المؤمن الراغب في الحق كيف يحارب الإسلام التفرق و الاختلاف، و يدعو إلى الاجتماع و الوئام، و التمسك بحبل الحق و الوفاة عليه، تعلم بذلك أن هدف القومية غير هدف الإسلام، و أن مقاصدها تخالف مقاصد الإسلام، و يدل على ذلك أيضا أن هذه الفكرة، أعني الدعوة إلى القومية العربية وردت إلينا من أعدائنا الغربيين، و كادوا بها المسلمين، و يقصدون من ورائها فصل بعضهم عن بعض، و تحطيم كيانهم، و تفريق شملهم، على قاعدتهم المشئومة (فرق تسد) و كم نالوا من الإسلام و أهله بهذه القاعدة النحيسة، مما يحزن القلوب و يدمي العيون.
و ذكر كثير من مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية، و منهم مؤلف الموسوعة العربية: أن أول من دعا إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سوريا، ليفصلوا الترك عن العرب، و يفرقوا بين المسلمين، و لم تزل الدعوة إليها في الشام و العراق و لبنان تزداد و تنمو، حتى عقد لها أول مؤتمر في باريس من نحو ستين سنة، و ذلك عام 1910 م، و كثرت بسبب ذلك الجمعيات العربية، و تعددت الاتجاهات، فحاول الأتراك إخمادها، بأحكام الإعدام التي نفذها جمال باشا في سورية في ذلك الوقت، إلى آخر ما ذكروا، فهل تظن أيها القارئ أن خصومنا و أعداءنا يسعون في مصالحنا، بابتداعهم الدعوة إلى القومية العربية، و عقد المؤتمرات لها، و ابتعاث المبشرين بها، لا و الله، إنهم لا يريدون بنا خيراً و لا يعملون لمصالحنا، إنما يعملون و يسعون لتحطيمنا و تمزيق شملنا، و القضاء على ما بقي من ديننا، و كفى بذلك دليلاً لكل ذي لب، على ما يراد من وراء الدعوة إلى القومية العربية، و أنها معول غربي استعماري، يراد به تفريقنا و إبعادنا عن ديننا كما سلف.
و من العجب الذي لا ينقضي، أن كثيراً من شبابنا و كتابنا - ألهمهم الله رشدهم - خفيت عليهم هذه الحقيقة، حتى ظنوا أن التكتل و التجمع حول القومية العربية، و المناصرة لها، أنفع للعرب و أضر للعدو، من التجمع و التكتل حول الإسلام و مناصرته، و هذا بلا شك ظن خاطئ، و اعتقاد غير مطابق للحقيقة.
نعم لا شك أنه يحزن المستعمر و يقلق راحته كل تجمع و تكتل ضد مصلحته، و لكن خوفه من التجمع و التكتل حول الإسلام أعظم و أكبر، و لذلك رضي بالدعوة إلى القومية العربية، و حفز العرب إليها، ليشغلهم بها عن الإسلام، و ليقطع بها صلتهم بالله سبحانه. لأنهم إذا فقدوا الإسلام حرموا ما ضمنه الله لهم من النصر، الذي وعدهم به في الآيتين السابقتين، و في قوله تعالى: وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [9]
و معلوم عند جميع العقلاء أنه إذا كان لا بد من أحد ضررين، فارتكاب الأدنى منهما أولى، حذراً من الضرر الأكبر، و قد دل الشرع و القدر على هذه القاعدة، و قد عرفها المستعمر و سلكها في هذا الباب و غيره فتنبه يا أخي و احذر مكايد الشيطان و الاستعمار و أوليائهما، تنج من ضرر عظيم، و خطر كبير، و عواقب سيئة عافاني الله و إياك و المسلمين من ذلك.
و مما تقدم يعلم القارئ اليقظ أن الدعوة إلى القومية العربية - كما أنها إساءة إلى الإسلام و محاربة له في بلاده - فهي أيضا إساءة إلى العرب أنفسهم، و جناية عليهم عظيمة. لكونها تفصلهم عن الإسلام الذي هو مجدهم الأكبر، و شرفهم الأعظم و مصدر عزهم و سيادتهم على العالم، فكيف يرضى عربي عاقل بدعوة هذا شأنها و هذه غايتها:؟!
و لقد أحسن الكاتب الإسلامي الشهير: أبو الحسن الندوي في رسالته المشهورة: (اسمعوها مني صريحة: أيها العرب) حيث يقول في صفحة 27 و 28 ما نصه:
(فمن المؤسف المحزن المخجل أن يقوم في هذا الوقت في العالم العربي، رجال يدعون إلى القومية العربية المجردة من العقيدة و الرسالة، و إلى قطع الصلة عن أعظم نبي عرفه تاريخ الإيمان، و عن أقوى شخصية ظهرت في العالم، و عن أمتن رابطة روحية تجمع بين الأمم و الأفراد و الأشتات، إنها جريمة قومية تبز جميع الجرائم القومية، التي سجلها تاريخ هذه الأمة، و إنها حركة هدم و تخريب، تفوق جميع الحركات الهدامة المعروفة في التاريخ، و إنها خطوة حاسمة مشئومة، في سبيل الدمار القومي و الانتحار الاجتماعي) انتهى.
فتأمل: أيها القارئ كلمة هذا العالم العربي (الحسني الكبير)[10] الذي قد سبر أحوال العالم و عرف نتائج الدعوة إلى القوميات و سوء مصيرها، تدرك بعقلك السليم ما وقع فيه العرب و المسلمون اليوم، من فتنة كبرى و مصيبة عظمى، بهذه الدعوة المشئومة، وقى الله المسلمين شرها، و وفق العرب و جميع المسلمين للرجوع إلى ما كان عليه أسلافهم المهديون، إنه سميع مجيب.
ثم لا يخفاك أيها القارئ الكريم غربة الإسلام اليوم، و قلة أنصاره و المتحمسين لدعوته، و كثرة المحاربين له و المتنكرين لأحكامه و تعاليمه، فالواجب على أبناء الإسلام بدلاً من التحمس للقومية و المناصرة لدعاتها:
أن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام وتعظيمه في قلوب الناس، وأن يجتهدوا في نشر محاسنه وإعلان أحكامه العادلة، وتعاليمه السمحة الصافية، نقية من شوائب الشرك و الخرافات و البدع و الأهواء حتى يعيدوا بذلك ما درس من مجد أسلافهم، و حماستهم للإسلام، و تكريس قواهم لنصرته و حمايته، و الرد على خصومه بشتى الأساليب الناجعة، و أنواع الحجج و البراهين الساطعة و لا شك أن هذا واجب متحتم، و فرض لازم على جميع أبناء الإسلام، كل منهم بحسب ما أعطاه الله من المقدرة و الإمكانات، التي يستطيع بها القيام بما أوجب الله عليه من النصر لدينه و الدعوة إليه، فنسأل الله أن يمن على الجميع بذلك، و أن يصلح قلوبنا و أعمالنا، و أن يقر أعين المسلمين جميعاً بنصر الإسلام الصافي من الشوائب، و ظهوره على جميع خصومه في القريب العاجل، إنه سبحانه خير مسئول و أقرب مجيب.
الوجه الثاني: أن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية و حذر منها، و أبدى في ذلك و أعاد في نصوص كثيرة بل قد جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية، و أعمالهم إلا ما أقره الإسلام من ذلك، و لا ريب أن الدعوة إلى القومية العربية من أمر الجاهلية، لأنها دعوة إلى غير الإسلام، و مناصرة لغير الحق، و كم جرت الجاهلية على أهلها من ويلات و حروب طاحنة، وقودها النفوس و الأموال و الأعراض، و عاقبتها تمزيق الشمل و غرس العداوة و الشحناء في القلوب، و التفريق بين القبائل و الشعوب .
قال شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله (كل ما خرج عن دعوى الإسلام و القرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصهم مهاجري و أنصاري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، و قال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه و سلم..أبدعوى الجاهلية و أنا بين أظهركم .و غضب لذلك غضباً شديداً. انتهى.
و مما ورد في ذلك من النصوص قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ و آتِينَ الزَّكَاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ [11]
و قال تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [12]
و في سنن أبي داود ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية و ليس منا من قاتل على عصبية و ليس منا من مات على عصبية)) و في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد و لا يفخر أحد على أحد)) و لا ريب أن دعاة القومية يدعون إلى عصبية و يغضبون لعصبية و يقاتلون على عصبية، و لا ريب أيضا أن الدعوة إلى القومية تدعو إلى البغي و الفخر؛ لأن القومية ليست ديناً سماوياً يمنع أهله من البغي و الفخر، و إنما هي فكرة جاهلية تحمل أهلها على الفخر بها و التعصب لها على من نالها بشيء، و إن كانت هي الظالمة و غيرها المظلوم، فتأمل أيها القارئ ذلك يظهر لك وجه الحق.
و من النصوص الواردة في ذلك ما رواه الترمذي و غيره، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية و فخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي الناس بنو آدم و آدم خلق من تراب و لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)) و هذا الحديث يوافق قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أنْثَى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [13].
أوضح سبحانه بهذه الآية الكريمة أنه جعل الناس شعوباً و قبائل للتعارف لا للتفاخر و التعاظم، و جعل أكرمهم عنده هو أتقاهم، و هكذا يدل الحديث المذكور على هذا المعنى و يرشد إلى سنة الجاهلية التكبر و التفاخر بالأسلاف و الأحساب، و الإسلام بخلاف ذلك، يدعو إلى التواضع و التقوى و التحاب في الله، و أن يكون المسلمون الصادقون من سائر أجناس بني آدم، جسداً واحداً، و بناءً واحداً يشد بعضهم بعضاً، و يألم بعضهم لبعض، كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) و شبك بين أصابعه و قال صلى الله عليه و سلم: ((مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر))
فأنشدك بالله أيها القومي: هل قوميتك تدعو إلى هذه الأخلاق الفاضلة، من الرحمة للمسلمين من العرب و العجم، و العطف عليهم و التألم لآلامهم؟ لا و الله، و إنما تدعو إلى موالاة من انخرط في سلكها، و نصب العداوة لمن تنكر لها، فتنبه أيها المسلم الراغب في النجاة، و انظر إلى حقائق الأمور بمرآة العدالة و التجرد من التعصب و الهوى، حتى ترى الحقائق على ما هي عليه، أرشدني الله و إياك إلى أسباب النجاة.
و من ذلك ما ثبت في الصحيح أن غلاما من المهاجرين و غلاما من الأنصار تنازعا، فقال المهاجري: يا للمهاجرين و قال الأنصاري: يا للأنصار فسمع ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال: ((أبدعوى الجاهلية و أنا بين أظهركم)) فإذا كان من انتسب إلى المهاجرين و استنصر بهم على إخوانهم في الدين، أو إلى الأنصار و استنصر بهم على إخوانهم في الدين يكون قد دعا بدعوى الجاهلية، مع كونهما اسمين محبوبين لله سبحانه، و قد أثنى الله على أهلهما ثناءً عظيماً في قوله تعالى: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ[14] الآية، فكيف تكون حال من انتسب إلى القومية و استنصر بها و غضب لها؟ أفلا يكون أولى ثم أولي بأن يكون قد دعا بدعوى الجاهلية؟ لا شك أن هذا من أوضح الواضحات.
و من ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن الحارث الأشعري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس أن يعمل بهن و يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فذكرها))، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع و من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم)) قيل يا رسول الله و إن صلى و صام؟ قال ((و إن صلى و صام و زعم أنه مسلم)).
فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله و هذا الحديث الصحيح من أوضح الأحاديث و أبينها في إبطال الدعوة إلى القومية، و اعتبارها دعوة جاهلية، يستحق دعاتها أن يكونوا من جثي جهنم، و إن صاموا و صلوا، و زعموا أنهم مسلمون فيا له من وعيد شديد، و تحذير ينذر كل مسلم من الدعوات الجاهلية، و الركون إلى معتنقيها، و إن زخرفوها بالمقالات السحرية، و الخطب الرنانة الواسعة، التي لا أساس لها من الحقيقة، و لا شاهد لها من الواقع، و إنما هو التلبيس و الخداع و التقليد الأعمى، الذي ينتهي بأهله إلى أسوأ العواقب، نسأل الله السلامة من ذلك.
و هنا شبهة يذكرها بعض دعاة القومية أحب أن أكشفها للقارئ، و هي أن بعض دعاة القومية زعم أن النهي عن الدعوة إلى القومية العربية و التحذير منها يتضمن تنقص العرب و إنكار فضلهم.
و الجواب أن يقال: لا شك أن هذا زعم خاطئ و اعتقاد غير صحيح، فإن الاعتراف بفضل العرب، و ما سبق لهم في صدر الإسلام من أعمال مجيدة لا يشك فيه مسلم عرف التاريخ كما أسلفنا، و قد ذكر غير واحد من أهل العلم، و منهم أبو العباس بن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم) أن مذهب أهل السنة تفضيل جنس العرب على غيرهم، و أورد في ذلك أحاديث تدل على ذلك، و لكن لا يلزم من الاعتراف بفضلهم أن يجعلوا عمادا يتكتل حوله، و يوالي عليه و يعادي عليه، و إنما ذلك من حق الإسلام الذي أعزهم الله به، و أحيا فكرهم و رفع شأنهم، فهذا لون و هذا لون، ثم هذا الفضل الذي امتازوا به على غيرهم، و ما من الله به عليهم من فصاحة اللسان، و نزول القرآن الكريم بلغتهم، و إرسال الرسول العام بلسانهم، ليس مما يقدمهم عند الله في الآخرة، و لا يوجب لهم النجاة إذا لم يؤمنوا و يتقوا، و ليس ذلك أيضا يوجب تفضيلهم على غيرهم من جهة الدين، بل أكرم الناس عند الله أتقاهم، كما تقدم في الآية الكريمة و الحديث الشريف، بل هذا الفضل عند أهل التحقيق يوجب عليهم أن يشكروا الله سبحانه أكثر من غيرهم، و أن يضاعفوا الجهود في نصر دينه الذي رفعهم الله به، و أن يوالوا عليه و يعادوا عليه، و دون أن يلتفتوا إلى قومية أو غيرها من الأفكار المسمومة، و الدعوات المشئومة، و لو كانت أنسابهم وحدها تنفعهم شيئا لم يكن أبو لهب و أضرابه من أصحاب النار، و لو كانت تنفعهم بدون الإيمان لم يقل لهم النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح: ((يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً)).
و بذلك يعلم القارئ المسلم من الهوى أن الشبهة المذكورة شبهة واهية لا أساس لها من الشرع المطهر، و لا من المنطق السليم البعيد من الهوى.
يتبع في الرد.
عدل سابقا من قبل In The Zone في الثلاثاء ديسمبر 16, 2014 5:40 pm عدل 4 مرات