كن كالشجر يقذفه الناس بالحجر فيجود بأطيب الثمر.
* د.سمير يونس
......
إن من مجالات الذوق البالغة الأهمية في حياتنا ما يلي:-
- أولاً: الامتناع عن مجاراة السفهاء و الجهلاء:
قد تُبتلى بالسفيه أو الجاهل في أي مكان،في الطريق،أو في العمل،أو في السفر..و غير ذلك،و ربما يؤذيك بسفاهته و جهله،فليس من الذوق أن تجاريه و تستثيره،تجنباً لما يخرج منه من قولٍ سيئ؛لذا كان التوجيه القرآني في هذا الشأن،حيث وصف رب العزة عباد الرحمن بقوله تعالى:
(وَ عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63).
و لله در الشاعر،إذ يقول:
لا ترجعنّ إلى السفيه خطابه ***** إلا جواب تحية حيالها
فمتى تحركه تحرك جيفةً ***** تزداد نتناً إن أردت حراكها.
و من الذوق تجنب مجاراة السفيه أيضاً حتى لا تكون مثله،يقول أبو تمام:
إذا جاريت في خلق دنيّاً ***** فأنت و من تجاريه سواء.
- ثانياً: التسابق في خدمة الزملاء:
قد تسافر مع بعض زملائك و تغترب للدراسة أو لأي غرض،و يتطلب الموقف أن تخدموا أنفسكم بأنفسكم،فإذا كانوا بصدد إعداد طعام مثلاً فيجب أن تكون سبّاقاً،و من الذوقً أن تشارك مشاركة فعّالة في خدمتهم،فخادم القوم سيدهم،بيد أن بعض الناس للأسف ينتظر غيره ليخدمه،و لا يشارك بأي مجهودٍ،و تلك قلة ذوق،فبأي منطق يجلس البعض متكئين،لا يشارك إلا في التهام الطعام،و يمتنع عن إعداده،أو وضعه على المائدة أو رفعه من عليها.
- ثالثاً: تجنب السخرية و التشفي من الغير:
هناك شخص توصف نفسيته في علم النفس بـ"نفسية الصراع"،فهو دائم الهمز و اللمز لمن خالفوه، و قد حذّر القرآن الكريم من ذلك و شدّد فيه،و توّعد صاحبه بقوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (الهمزه/ 1).
فمن الذوق أن نقدِّر الناس،و أن نحترم مشاعرهم،و أن نستوعب عاهاتهم،و نقدر ابتلاءاتهم،فربما يكون أحدهم مبتلى بداءٍ يصعب الفكاك منه،فإذا سخر منه الآخرون فتحوا بذلك مداخل للشيطان في إيغار صدره،و إثارة أحقاده على غيره.
و من الذوق أيضاً أن نرقى بأنفسنا عن الضغائن،و ألا نبحث عما قاله غيرنا في حقنا من مساوئ أثناء غيابنا،حتى لا نعيش في أجواء كلها صراعات،فيذهب هدوؤنا و ترحل سكينتنا،و يضعف إيماننا.
و ما أروع قول الشاعر العلاء بن الحضرمي و هو صحابي جليل معروف – حيث أنشد:
و حي ذوي الأضغان تسب قلوبهم ***** تحية ذي الحسنى فقد ترقع النقل
فإن دحسوا بالشر فاعف تكرماً ***** و إن كتموا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه سماعه ***** و إن الذي قالوا وراءك لم يقل.
و قد تكون واحداً في فريق عمل،فتجد مجموعة من هواة العيش في أجواء ساخنة تشبه الصراعات بين الجشعين من تجار الدنيا،و يتكتلون ضدك،و يكوّنون ما يسمى "اللوبي"،و تضيع منهم الموضوعية في تقييمك و تقييم أدائك،لأن لديهم اتجاهاً عدوانياً تجاهك و تجاه كل أعمالك و أفكارك،و هؤلاء ليس لهم نصيب من الذوق و ضعيفو الإيمان؛لأن نفس المؤمن الصافية تتعب عندما تعيش في هذه الأجواء المليئة بالتآمر و التعصب و العنصرية و الخصومة و الغيبة.
يقول الإمام النووي: "قال بعضهم: ما رأيتُ شيئاً أذهب للدين،و لا أنقص للمروءة،و لا أضيع للذة،و لا أثقل للقلب من الخصومة،و كم من كلمات الغيبة التي يزينها الشيطان تحت رونق النصح و معرفة الواقع،بينما هي في الحقيقة نفثات مصدور،و تمضمض بالأعراض،يكرّ على الحسنات فيفنيها" (الإمام النووي: الأذكار).
- رابعاً: التفسح في المجالس:
فقد تكون في مجلس علم أو غيره،و يأتي غيرك ليجلس فلم يجد مكاناً،فهنالك لابد أن تفسح له،و أن تسعه معك كأن توسع الدائرة،أو تقترب من جارك في المجلس على يمينك أو على يسارك حتى يجد مكاناً له،و قد أكّد القرآن الكريم هذا الذوق الرفيع في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَ اللَّهُ بِمَاتَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة/ 11).
و يقول الأصمعي: "كان الأحنف إذا أتاه إنسان وسّع له،فإن لم يجد موضعاً تحرّك ليريه أنه يوسع له" (عيون الأخبار).
-خامساً: تجنب النكت و الطرائف غير اللائقة:
جمعني قدر ربي في حين من الدهر بشخص كان زميلي في العمل،هذا الرجل لا يكف عن إلقاء النكت غير اللائقة،و لا يملّ أبداً،و يكثر من الحديث عن النساء،و يختلق في ذلك الأقاويل،و يفني من عمره الكثير،ليدخل على الإنترنت و يجمع النكات الهابطة!!
و الأدهى من ذلك و الأمرّ فساد ذوقه،و عدم تمييزه بين ثقافات الناس و مناهجهم في الحياة،فهو لا يفرق حين يلقي طرائفه "الممسوخة" بين شخص متدين ملتزم محترم لا يحب سماع هذا الهراء،و بين شخص مستهتر غير منضبط مثله!!
و ذات يوم قلت: لأكلمنّه بيني و بينه بأسلوب لطيف كما أمر رب العزة:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل/ 125)،و بعد أن هيّأت الجو لذلك،و حاولت أن أهز فيه النخوة و أذكّره ببعض آبائه و أجاده من العلماء الأفاضل و ببعض آي القرآن الكريم و هدي رسولنا الحبيب(صلى الله عليه و على آله و صحبه)،فكان ردّه: "كل الناس يلقون تلك النكت و أنت متشدد". فقلت له: فلنحتكم إلى خالقنا و هو أعلم بنا،و هدي رسولنا(صلى الله عليه و على آله و صحبه)،و لا نحتكم إلى الناس و لا إلى ما أقوله أنا،فكان رده: إن كان ما أقوله إساءة فقد كررته في سنوات عمري الماضية!!
فقلت: رحم الله ابن حزم الفقيه الأندلسي الظاهري،حيث يقول: "لم أر لإبليس أصيد و لا أقبح و لا أحمق من كلمتين ألقاهما على ألسنة دعاته، إحداهما:
اعتذار من أساء بأن فلاناً أساء قبله،و الثانية: استسهال الإنسان أن يسيء اليوم لأنه قد أساء أمس،أو أن يسيء في وجه ما لأنه قد أساء في غيره".
- سادساً: ذوقيات الحلاقة:
مما تراه و تعجب له أشكال من قصات الشعر،وفدت إلينا و قلدناها تقليداً أعمى،و ليس هذا من الذوق.و من هذه الصور ما شاع بين كثير من شبابنا،حيث يحلق الشباب بعض شعر الرأس و يترك بعضه،و قد ناقشت كثيراً من الشباب في هذا الأمر،فوجدتهم يخلطون بين سنّة إكرام الشعر و تصفيفه، و قد حث على ذلك رسولنا،و تجد الشاب يبادر بالرد عليك بأن هذا الذي يصنعه سنة عن رسول الله،و ربما لم يطبق من سنة النبي(صلى الله عليه و على آله و صحبه) إلا ما وافق هواه و كان في صالحه،و هو في ذلك يشبه المنافقين.
- سابعاً: ذوقيات المسجد:
قد تكون جالساً في المسجد ساكناً خاشعاً،فإذا بشخص يتخطى رقاب الناس،و كأنه لا يتعامل مع بشر في بيت رب البشر،و حسب هذا الشخص أن يسأل نفسه: ماذا لو كان عنده ضيف في بيته،فدخل شخص آخر و أهان ضيفه في بيته؟ ما شعوره ساعتها؟ أليست هذه إهانة؟ فما عاقبة من أهان ضيوف الرحمن و آذاهم في بيته؟!!
و قد تكون جالساً في بيت الرحمن إذا بشخص متوضئ يتصبب ماءً،أو قادم من الخارج يتصبب عرقاً، فيأخذ بيده الماء أو العرق و ينثره يميناً و يساراً على المصلين بعد أن ينزعه من على جبينه و وجهه!!
و في أثناء استماعك لخطبة الجمعة أو عند الصلاة تفاجأ بصوت الموسيقى ترتفع من الهاتف أو صوت مطرب أو مطربة يعلو،في حين يتلو الإمام آية قرآنية أو حديثاً شريفاً،فيشوش على الإمام و المصلين!!
ألم يسأل هذا الشخص نفسه: بم يجيب ربه عندما يسأله عن هذا الخطأ؟ و ماذا يقول لهؤلاء جميعاً و كيف يعتذر إليهم؟
و قد تخرج فلا تجد حذاءك أو تجده قد ديس عليه و أصبح مشوهاً..و ليس ذلك كله من الذوق.
- ثامناً: ذوقيات قيادة السيارة و استعمالها:
قد تسير في طريقك فتجد من يطاردك و يلتصق بسيارتك من الخلف،و يعطيك أصواتاً مزعجة من آلة التنبيه،و ربما تسير ليلاً و معك زوجتك و أولادك،فيقلب أضواء سيارته المرتفعة من خلفك،لانه يريد أن يسير بسرعة 150 كم في الساعة مثلاً،في حين أنك تسير بأقصى سرعة يسمح بها الطريق!!
و قد تجد آخر يفتح باب سيارته و يلقي بالنفايات على الطريق،أو يبصق فيه!!
و قد تخرج من بيتك في عجالة لتلحق بعملك فتجد من سدّ الطريق على سيارتك فلا تستطيع الخروج.
- تاسعاً: ذوقيات المائدة:
علمنا الإسلام ذوقيات كثيرة خاصة بالمائدة،أهمها:
1- التسمية و الأكل باليمين و الأكل مما يلي الآكل،فقد وجه (صلى الله عليه و على آله و صحبه) غلاماً رآه لم يلتزم بهذه الذوقيات بقوله: "يا غلام،سمّ الله،و كل بيمينك،و كل مما يليك".
2- تجنب الشره و البطنة،فمن هدي الرسول (صلى الله عليه و على آله و صحبه): "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه".
3- الأكل من الطعام إن أعجبك،و الكف عنه و عن إبراز عيوبه إن لم يعجبك،فذلك من هدي النبي (صلى الله عليه و على آله و صحبه) في ذوقيات المائدة.
4- الانتهاء عن متابعة اللقلم و السرعة في الأكل،و لذلك نهى رسول الله (صلى الله عليه و على آله و صحبه) عن "القرآن" في التمر كما ورد في صحيح البخاري،و "القرآن": هو أكل تمرتين
معاً،لأنه يدل على النّهم و الشره و سرعة الأكل.
و من الطرائف في ذلك وصف الرصافي لشخص أكول،حيث أنشد فيه:
أكب على الخوان و كان خفاً ***** فلما قام أثقله القيام
و والى بينها لقماً ضخاماً ***** فما مرئت له اللقلم الضخام
و عاجل بلعهن بغير مضغ ***** فهنّ بفيه وضع فالتهام
فضاقت بطنه شبعاً و شالت ***** إلى أن كاد ينقطع الحزام
5- تجنب النظر لغيرك و هو يأكل،فقد روي أن أعرابياً حضر مأدبة أحد خلفاء بني أمية،فأنشأ يأكل و الخليفة ينظر إليه،فرأى الخليفة في لقمة الأعرابي
شعرةً،فنبهه إليها.فقال الأعرابي: أتنظر إليّ نظر من يرى الشعرة في اللقمة؟! و الله لا أصبت من طعامك بعد هذا.فقال الخليفة: استرها عليّ يا أعرابي و لك ألف دينار!!
موقع البلاغ.
* د.سمير يونس
......
إن من مجالات الذوق البالغة الأهمية في حياتنا ما يلي:-
- أولاً: الامتناع عن مجاراة السفهاء و الجهلاء:
قد تُبتلى بالسفيه أو الجاهل في أي مكان،في الطريق،أو في العمل،أو في السفر..و غير ذلك،و ربما يؤذيك بسفاهته و جهله،فليس من الذوق أن تجاريه و تستثيره،تجنباً لما يخرج منه من قولٍ سيئ؛لذا كان التوجيه القرآني في هذا الشأن،حيث وصف رب العزة عباد الرحمن بقوله تعالى:
(وَ عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63).
و لله در الشاعر،إذ يقول:
لا ترجعنّ إلى السفيه خطابه ***** إلا جواب تحية حيالها
فمتى تحركه تحرك جيفةً ***** تزداد نتناً إن أردت حراكها.
و من الذوق تجنب مجاراة السفيه أيضاً حتى لا تكون مثله،يقول أبو تمام:
إذا جاريت في خلق دنيّاً ***** فأنت و من تجاريه سواء.
- ثانياً: التسابق في خدمة الزملاء:
قد تسافر مع بعض زملائك و تغترب للدراسة أو لأي غرض،و يتطلب الموقف أن تخدموا أنفسكم بأنفسكم،فإذا كانوا بصدد إعداد طعام مثلاً فيجب أن تكون سبّاقاً،و من الذوقً أن تشارك مشاركة فعّالة في خدمتهم،فخادم القوم سيدهم،بيد أن بعض الناس للأسف ينتظر غيره ليخدمه،و لا يشارك بأي مجهودٍ،و تلك قلة ذوق،فبأي منطق يجلس البعض متكئين،لا يشارك إلا في التهام الطعام،و يمتنع عن إعداده،أو وضعه على المائدة أو رفعه من عليها.
- ثالثاً: تجنب السخرية و التشفي من الغير:
هناك شخص توصف نفسيته في علم النفس بـ"نفسية الصراع"،فهو دائم الهمز و اللمز لمن خالفوه، و قد حذّر القرآن الكريم من ذلك و شدّد فيه،و توّعد صاحبه بقوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (الهمزه/ 1).
فمن الذوق أن نقدِّر الناس،و أن نحترم مشاعرهم،و أن نستوعب عاهاتهم،و نقدر ابتلاءاتهم،فربما يكون أحدهم مبتلى بداءٍ يصعب الفكاك منه،فإذا سخر منه الآخرون فتحوا بذلك مداخل للشيطان في إيغار صدره،و إثارة أحقاده على غيره.
و من الذوق أيضاً أن نرقى بأنفسنا عن الضغائن،و ألا نبحث عما قاله غيرنا في حقنا من مساوئ أثناء غيابنا،حتى لا نعيش في أجواء كلها صراعات،فيذهب هدوؤنا و ترحل سكينتنا،و يضعف إيماننا.
و ما أروع قول الشاعر العلاء بن الحضرمي و هو صحابي جليل معروف – حيث أنشد:
و حي ذوي الأضغان تسب قلوبهم ***** تحية ذي الحسنى فقد ترقع النقل
فإن دحسوا بالشر فاعف تكرماً ***** و إن كتموا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه سماعه ***** و إن الذي قالوا وراءك لم يقل.
و قد تكون واحداً في فريق عمل،فتجد مجموعة من هواة العيش في أجواء ساخنة تشبه الصراعات بين الجشعين من تجار الدنيا،و يتكتلون ضدك،و يكوّنون ما يسمى "اللوبي"،و تضيع منهم الموضوعية في تقييمك و تقييم أدائك،لأن لديهم اتجاهاً عدوانياً تجاهك و تجاه كل أعمالك و أفكارك،و هؤلاء ليس لهم نصيب من الذوق و ضعيفو الإيمان؛لأن نفس المؤمن الصافية تتعب عندما تعيش في هذه الأجواء المليئة بالتآمر و التعصب و العنصرية و الخصومة و الغيبة.
يقول الإمام النووي: "قال بعضهم: ما رأيتُ شيئاً أذهب للدين،و لا أنقص للمروءة،و لا أضيع للذة،و لا أثقل للقلب من الخصومة،و كم من كلمات الغيبة التي يزينها الشيطان تحت رونق النصح و معرفة الواقع،بينما هي في الحقيقة نفثات مصدور،و تمضمض بالأعراض،يكرّ على الحسنات فيفنيها" (الإمام النووي: الأذكار).
- رابعاً: التفسح في المجالس:
فقد تكون في مجلس علم أو غيره،و يأتي غيرك ليجلس فلم يجد مكاناً،فهنالك لابد أن تفسح له،و أن تسعه معك كأن توسع الدائرة،أو تقترب من جارك في المجلس على يمينك أو على يسارك حتى يجد مكاناً له،و قد أكّد القرآن الكريم هذا الذوق الرفيع في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَ اللَّهُ بِمَاتَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة/ 11).
و يقول الأصمعي: "كان الأحنف إذا أتاه إنسان وسّع له،فإن لم يجد موضعاً تحرّك ليريه أنه يوسع له" (عيون الأخبار).
-خامساً: تجنب النكت و الطرائف غير اللائقة:
جمعني قدر ربي في حين من الدهر بشخص كان زميلي في العمل،هذا الرجل لا يكف عن إلقاء النكت غير اللائقة،و لا يملّ أبداً،و يكثر من الحديث عن النساء،و يختلق في ذلك الأقاويل،و يفني من عمره الكثير،ليدخل على الإنترنت و يجمع النكات الهابطة!!
و الأدهى من ذلك و الأمرّ فساد ذوقه،و عدم تمييزه بين ثقافات الناس و مناهجهم في الحياة،فهو لا يفرق حين يلقي طرائفه "الممسوخة" بين شخص متدين ملتزم محترم لا يحب سماع هذا الهراء،و بين شخص مستهتر غير منضبط مثله!!
و ذات يوم قلت: لأكلمنّه بيني و بينه بأسلوب لطيف كما أمر رب العزة:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل/ 125)،و بعد أن هيّأت الجو لذلك،و حاولت أن أهز فيه النخوة و أذكّره ببعض آبائه و أجاده من العلماء الأفاضل و ببعض آي القرآن الكريم و هدي رسولنا الحبيب(صلى الله عليه و على آله و صحبه)،فكان ردّه: "كل الناس يلقون تلك النكت و أنت متشدد". فقلت له: فلنحتكم إلى خالقنا و هو أعلم بنا،و هدي رسولنا(صلى الله عليه و على آله و صحبه)،و لا نحتكم إلى الناس و لا إلى ما أقوله أنا،فكان رده: إن كان ما أقوله إساءة فقد كررته في سنوات عمري الماضية!!
فقلت: رحم الله ابن حزم الفقيه الأندلسي الظاهري،حيث يقول: "لم أر لإبليس أصيد و لا أقبح و لا أحمق من كلمتين ألقاهما على ألسنة دعاته، إحداهما:
اعتذار من أساء بأن فلاناً أساء قبله،و الثانية: استسهال الإنسان أن يسيء اليوم لأنه قد أساء أمس،أو أن يسيء في وجه ما لأنه قد أساء في غيره".
- سادساً: ذوقيات الحلاقة:
مما تراه و تعجب له أشكال من قصات الشعر،وفدت إلينا و قلدناها تقليداً أعمى،و ليس هذا من الذوق.و من هذه الصور ما شاع بين كثير من شبابنا،حيث يحلق الشباب بعض شعر الرأس و يترك بعضه،و قد ناقشت كثيراً من الشباب في هذا الأمر،فوجدتهم يخلطون بين سنّة إكرام الشعر و تصفيفه، و قد حث على ذلك رسولنا،و تجد الشاب يبادر بالرد عليك بأن هذا الذي يصنعه سنة عن رسول الله،و ربما لم يطبق من سنة النبي(صلى الله عليه و على آله و صحبه) إلا ما وافق هواه و كان في صالحه،و هو في ذلك يشبه المنافقين.
- سابعاً: ذوقيات المسجد:
قد تكون جالساً في المسجد ساكناً خاشعاً،فإذا بشخص يتخطى رقاب الناس،و كأنه لا يتعامل مع بشر في بيت رب البشر،و حسب هذا الشخص أن يسأل نفسه: ماذا لو كان عنده ضيف في بيته،فدخل شخص آخر و أهان ضيفه في بيته؟ ما شعوره ساعتها؟ أليست هذه إهانة؟ فما عاقبة من أهان ضيوف الرحمن و آذاهم في بيته؟!!
و قد تكون جالساً في بيت الرحمن إذا بشخص متوضئ يتصبب ماءً،أو قادم من الخارج يتصبب عرقاً، فيأخذ بيده الماء أو العرق و ينثره يميناً و يساراً على المصلين بعد أن ينزعه من على جبينه و وجهه!!
و في أثناء استماعك لخطبة الجمعة أو عند الصلاة تفاجأ بصوت الموسيقى ترتفع من الهاتف أو صوت مطرب أو مطربة يعلو،في حين يتلو الإمام آية قرآنية أو حديثاً شريفاً،فيشوش على الإمام و المصلين!!
ألم يسأل هذا الشخص نفسه: بم يجيب ربه عندما يسأله عن هذا الخطأ؟ و ماذا يقول لهؤلاء جميعاً و كيف يعتذر إليهم؟
و قد تخرج فلا تجد حذاءك أو تجده قد ديس عليه و أصبح مشوهاً..و ليس ذلك كله من الذوق.
- ثامناً: ذوقيات قيادة السيارة و استعمالها:
قد تسير في طريقك فتجد من يطاردك و يلتصق بسيارتك من الخلف،و يعطيك أصواتاً مزعجة من آلة التنبيه،و ربما تسير ليلاً و معك زوجتك و أولادك،فيقلب أضواء سيارته المرتفعة من خلفك،لانه يريد أن يسير بسرعة 150 كم في الساعة مثلاً،في حين أنك تسير بأقصى سرعة يسمح بها الطريق!!
و قد تجد آخر يفتح باب سيارته و يلقي بالنفايات على الطريق،أو يبصق فيه!!
و قد تخرج من بيتك في عجالة لتلحق بعملك فتجد من سدّ الطريق على سيارتك فلا تستطيع الخروج.
- تاسعاً: ذوقيات المائدة:
علمنا الإسلام ذوقيات كثيرة خاصة بالمائدة،أهمها:
1- التسمية و الأكل باليمين و الأكل مما يلي الآكل،فقد وجه (صلى الله عليه و على آله و صحبه) غلاماً رآه لم يلتزم بهذه الذوقيات بقوله: "يا غلام،سمّ الله،و كل بيمينك،و كل مما يليك".
2- تجنب الشره و البطنة،فمن هدي الرسول (صلى الله عليه و على آله و صحبه): "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه".
3- الأكل من الطعام إن أعجبك،و الكف عنه و عن إبراز عيوبه إن لم يعجبك،فذلك من هدي النبي (صلى الله عليه و على آله و صحبه) في ذوقيات المائدة.
4- الانتهاء عن متابعة اللقلم و السرعة في الأكل،و لذلك نهى رسول الله (صلى الله عليه و على آله و صحبه) عن "القرآن" في التمر كما ورد في صحيح البخاري،و "القرآن": هو أكل تمرتين
معاً،لأنه يدل على النّهم و الشره و سرعة الأكل.
و من الطرائف في ذلك وصف الرصافي لشخص أكول،حيث أنشد فيه:
أكب على الخوان و كان خفاً ***** فلما قام أثقله القيام
و والى بينها لقماً ضخاماً ***** فما مرئت له اللقلم الضخام
و عاجل بلعهن بغير مضغ ***** فهنّ بفيه وضع فالتهام
فضاقت بطنه شبعاً و شالت ***** إلى أن كاد ينقطع الحزام
5- تجنب النظر لغيرك و هو يأكل،فقد روي أن أعرابياً حضر مأدبة أحد خلفاء بني أمية،فأنشأ يأكل و الخليفة ينظر إليه،فرأى الخليفة في لقمة الأعرابي
شعرةً،فنبهه إليها.فقال الأعرابي: أتنظر إليّ نظر من يرى الشعرة في اللقمة؟! و الله لا أصبت من طعامك بعد هذا.فقال الخليفة: استرها عليّ يا أعرابي و لك ألف دينار!!
موقع البلاغ.