سُنّة الصراع بين الإصلاح و الفساد.
د. احسان الأمين.
..................
علاقة الإصلاح بالفساد، علاقة مقابلة و تضاد، و صراع و إصطكاك، فالمُصلح يُريد إزالة الفساد، و المُفسد يتشبّث للبقاء و الدفاع عن مصالحه و مكاسبه غير المشروعة.
و الفساد ليس ظاهرة فرديّة محدودة، بل هو منظومة إجتماعية متجذِّرة، تبدأ من الحاكمين و تمتد إلى سائر مرافق المجتمع، و فيها الآلاف من المنتفعين، و هؤلاء بيدهم القوّة و السلطة و أدوات الكبت و الفتك التي يستعملونها لإسكات الصوت الحُر الناقد و للقضاء على دعوات الإصلاح.
و إذا ما اشتدّت المواجهة و أحسّ الفاسدون بالخطر يُهدِّد عروشهم ومصالحهم، فإنّهم لا يتوانون في استعمال أبشع أنواع الظلم، من قتل و تشريد، و قمع و تهجير..أليس القتل من أبرز عناوين الفساد؟ و أليس الظلم من أكثر صوره شيوعاً؟
و هكذا نجد عبر التاريخ: صراعاً أبدياً بين الظالمين و الفاسدين و الكافرين من جهة، و بين عباد الله الصالحين و المُصلحين من جهة أخرى، و مَن يقرأ سيرة الأنبياء يجد المعركة واحدة و إن تعدّدت ساحاتها و اختلف رجالها، و لكنها هي هي، مع تغيُّر الزمان و المكان.
قال تعالى: (وَ كَذلِكَ جَعَلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً مِنَ المُجرِمِينَ و كَفَى بِرَبِّكَ هادِياً و نَصِيراً) (الفرقان/ 31).
و هكذا نقرأ في القرآن، من قصص النبيِّين و معاناتهم مع طغاة عصرهم و الفاسدين في زمانهم، نقرأ ألواناً من العذاب و التنكيل و العدوان و البغي الذي صبّ على الأنبياء و المؤمنين، لأنّهم أرادوا إصلاح أوضاع أُممهم و نجاتهم من الكفر و الظلم و الفساد الذي كانوا فيه.
نقرأ في قصّة أوائل المُرسلين: نوح كيف كان يدعو قومه إلى الإيمان و التقوى و يُذكِّرهم بآيات الله..و لكنّهم لم يكتفوا بتكذيبه، و الإستهزاء بمن تبعه من الناس الطيِّبين و البسطاء..لم يكتفوا بذلك، بل انتقلوا إلى مرحلة التهديد و الوعيد، حالهم حال الكافرين ممّن لا حجّة لهم و لا منطق إلاّ لغة الحديد..يقول تعالى: (قالُوا لَئِنْ لَم تَنتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرجُومِين * قالَ رَبِّ إنّ قَومِي كَذَّبُون * فَافتَحْ بَينِي وبَينَهُم فَتحاً و نَجِّنِي وَ مَن مَعِيَ مِنَ المُؤمِنِين) (الشُّعراء/ 117-119).
نقرأ عن بني إسرائيل و قتلهم الأنبياء و الإعتداء على المؤمنين و ما أصبحوا فيه من غضب الله..يقول تعالى: (...وَ ضُرِبَتْ عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ و المَسكَنَةُ وَ بَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلكَ بِأنّهُم كانُوا يَكفُرُونَ بِآياتِ اللهِ و يَقتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيرِ الحَقِّ ذلكَ بِما عَصَوا و كانُوا يَعتَدُون) (البقرة/ 61).
و العدوان اتّخذ أشكالاً أخرى، إضافة إلى القتل، التشريد و التهجير، كما يحدث في عصرنا، يقول تعالى: (ثُمّ أنتُم هؤُلاءِ تَقتُلُونَ أنفُسَكُم و تُخرِجُونَ فَرِيقاً مِنكُم مِن دِيارِهِم تَظَاهَرُونَ عَلَيهِم بِالإثمِ و العُدوَانِ و إنْ يَأتُوكُم أُسَارَى تُفادُوهُم و هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيكُم إخرَاجُهُم...) (البقرة/ 85).
و قد يأخذ الظلم شكلاً إقتصادياً بأكلِ أموال الناس بالباطل، بوسائل مختلفة، منها: الرِّبا..يقول تعالى: (فَبِظُلمٍ مِنَ الذينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيهِم طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُم و بِصَدِّهِم عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً * و أخْذِهِم الرِّبَا و قَد نُهُوا عَنهُ و أكلِهِم أموَالَ النّاسِ بِالبَاطِلِ و أعْتَدْنا لِلكافِرِينَ مِنهُم عَذاباً أليماً) (النِّساء/ 160-161).
و من خطط المُفسدين أيضاً: إثارة الفتنة و التآمر لغرض الإيقاع بالمؤمنين و النيل منهم، كما عمل اليهود مع رسول الله(صلى الله عليه و سلم) فتآمروا على قتله و إخراج المؤمنين من المدينة و حرّكوا المشركين من قريش للفتك بهم..يقول تعالى: (و قالَتِ اليَهُودُ و النَّصَارَى نَحنُ أبنَاءُ اللهِ و أحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَل أنتُم بَشَرٌ مِمَّن خَلَقَ يَغفِرُ لِمَن يَشَاءُ و يُعَذِّبُ مَن يَشاءُ و للهِ مُلكُ السَّموَاتِ و الأرضِ و ما بَينَهُما و إلَيهِ المَصِير) (المائدة/ 18).
إضافة إلى محاولات التشويه الإعلامي للرسالة و إظهارها بغير مظهرها الحق، كما قال تعالى: (...و إذْ كَفَفْتُ بَنِي إسرَائِيلَ عَنكَ إذْ جِئتَهُم بِالبَيِّناتِ فَقالَ الذينَ كَفَرُوا مِنهُم إنْ هذا إلاّ سِحرٌ مُبِين) (المائدة/ 110).
و هم يعملون على تحريف الأقوال و تغيير الألفاظ و نشر الأكاذيب لغرض صرف الناس عن اتباع المؤمنين و استماع أقوالهم (...و مِنَ الذينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَومٍ آخَرِينَ لَم يَأتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِن بَعدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُم هذا فَخُذُوهُ و إنْ لَم تُؤتَوهُ فَاحذَرُوا و مَنْ يُرِدِ اللهُ فِتنَتَهُ فَلَن تَملِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيئاً أولئِكَ الذينَ لَم يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم لَهُم في الدُّنيا خِزيٌ و لَهُم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيم) (المائدة/ 41).
و تشتد صور الصِّراع و تزداد ضراوة و عنفاً كلّما كان المفسدون أكثر قوّة و أعلى سلطاناً، فهذا فرعون يتوعّد المؤمنين (لأُقَطِّعَنَّ أيدِيَكُم و أرجُلَكُم مِن خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُم أجمَعِين) (الأعراف/ 124).
و لم يتوقّف بظلمه و عدوانه على الناس المؤمنين، بل تجاوز كلّ القيم و الحدود ليعتدي على أهاليهم، من النِّساء والأبناء: (و قالَ المَلأُ مِن قَومِ فِرعَونَ أتَذَرُ مُوسَى و قَومَهُ لِيُفسِدُوا في الأرضِ و يَذَرَكّ و آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أبنَاءَهُم و نَستَحِي نِساءَهُم و إنّا فَوقَهُم قاهِرُون) (الأعراف/ 127).
فكان بذلك مصداقاً بارزاً و تجسيداً كاملاً للفساد و الظلم و الطغيان، كما يقول تعالى: (إنّ فِرعَونَ عَلا في الأرضِ و جَعَلَ أهلَها شِيَعاً يَستَضعِفُ طائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أبناءَهُم و يَستَحيِي نِساءَهُم إنّهُ كانَ مِنَ المُفسِدِين) (القصص/ 4).
و نجد مشهداً آخر من مشاهد الصِّراع بين المُصلحين و المُفسدين في قصة النبي شعيب، و هو يواجه أكثر ما يواجه الفساد المالي و الإقتصادي الذي كان سائداً في زمانه – و لا زال – ، إذ يدعو قومه إلى رعاية حقوق الناس و الإلتزام بالموازين القسط..بالضوابط و القواعد التي تعطي كل ذي حق حقّه و ليس فيها ظلم لأحد، و لكنهم يزدادون عناداً و عتوّاً و ظلماً و بغياً فيُهدِّدون أمن الناس و يُهدِّدون المؤمنين كي يتراجعوا عن طريقهم و يتفرّق شملهم، فلمّا لم ينفع ذلك و استمرّ شعيب و مَن معه في دعوته و سبيله، لجأوا إلى سلاح الظالم الضعيف، و هو إستخدام القوّة و الإرعاب و الإرهاب (قال المَلأُ الذينَ استَكبَروا من قَومِهِ لَنُخرجَنّكَ يا شُعَيبُ و الذين آمنوا معكَ من قَريَتِنا أو لَتَعودُنَّ في مِلّتِنا قال أوَلَو كُنّا كارهين) (الأعراف/ 88).
إنّه منطق العاجزين الفاشلين الذين لا يجدون جواباً في مقابل دعوات الإصلاح و لا حُجّة تُبرِّر فسادهم فيلجأون إلى القوّة لإسكات المؤمنين و إخماد صوت الحق..و لكن هذا المنطق لا يؤدِّي إلى نتيجة لأن مسيرة الإيمان مستمرة و رسالة المُصلحين منتصرة، يقول تعالى: (الذينَ كَذَّبُوا شُعَيباً كَأنْ لَم يَغنَوا فِيها الذينَ كَذَّبُوا شُعَيباً كانُوا هُمُ الخاسِرِين * فَتَوَلّى عَنهُم و قالَ يا قَومِ لَقَد أبلَغتُكُم رِسالاتِ رَبِّي و نَصَحتُ لَكُم فَكَيفَ آسَى على قَومٍ كافِرِين) (الأعراف/ 92-93).
و هكذا كانت سيرة سائر الأنبياء و المُرسلين، الذين أتوا لهداية المجتمع و إصلاحه..إنّهم كُذِّبوا و أُوذوا بأنواع الأذى من قِبَلِ الكافرين و الظالمين و المفسدين..و لكن كانت العاقبة دوماً: أنّ الله ينصر عباده المؤمنين و تبقى الرسالة حيّة و تنتهي حكومات الظلم و منظومات الفساد و لا تبقى إلاّ آثارها الغابرة و ذكرها السيِّئ عبرة للمُعتبرين.
يقول تعالى: (قَدْ نَعلَمُ إنّهُ لَيَحزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فإنّهُم لا يُكَذِّبُونَكَ و لكِنَّ الظالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجحَدُون * و لَقَد كُذِّبَت رُسُلٌ مِن قَبلِكَ فَصَبُروا على ما كُذِّبُوا و أُوذُوا حتّى أتاهُم نَصرُنا و لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ و لَقَد جاءَكَ مِن نَبَأ المُرسَلِين) (الأنعام/ 33-34).
و يقول تعالى: (و لَقَد سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنا المُرسَلِين * إنّهُم لَهُمُ المَنصُورُون * و إنّ جُندَنا لَهُمُ الغالِبُون * فَتَوَلَّ عَنهُم حَتّى حِينٍ * وأبصِرهُم فَسَوفَ يُبصِرُون) (الصافّات/ 171-176).
و تلك سنّة الله في الأرض، باقية ما بقي، من صراع الحقّ و الباطل، و مواجهة المفسدين مع المُصلحين..و إنّ مسيرة الإصلاح هي المستمرّة، مهما بلغت قوّة الفاسدين و طالت المسيرة، لأنّ إرادة الله تعالى تتدخّل و تدفع باتِّجاه الإصلاح و التغيير، حفاظاً على إستمرار الحياة و نهج الحق: (و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (البقرة/ 2).
و النصرُ بعد الصبر، سيكون حليفَ المؤمنين و عاقبة المصلحين، يقول تعالى: (قالَ مُوسَى لِقَومِهِ استَعِينُوا بِاللهِ و اصبِرُوا إنّ الأرضَ للهِ يُورِثُها مَن يَشَاءُ مِن عِبادِهِ و العاقِبَةُ لِلمُتَّقِين) (الأعراف/ 128).
و ليس هذا وعد للمؤمنين بموسى فحسب، بل هو لسائر المؤمنين الصالحين، يقول تعالى: (و لَقَد كَتَبنا في الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أنّ الأرضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُون * إنّ في هذا لَبَلاغاً لِقَومٍ عابِدِين * و ما أرسَلناكَ إلاّ رَحمَةً لِلعَالَمِين) (الأنبياء/ 105-107).
و هكذا يعمل الصالحون و يجد المُصلحون و هم يحدوهم الأمل و تشرق وجوههم بنور الله و هم يتطلّعون إلى تطهير الأرض من براثن الفساد و إصلاح المجتمع..بتأييد الله و نصره (...ولَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إنّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز) (الحج/ 40).
......................
المصدر: كتاب نظرية الإصلاح من القرآن الكريم.
البلاغ
د. احسان الأمين.
..................
علاقة الإصلاح بالفساد، علاقة مقابلة و تضاد، و صراع و إصطكاك، فالمُصلح يُريد إزالة الفساد، و المُفسد يتشبّث للبقاء و الدفاع عن مصالحه و مكاسبه غير المشروعة.
و الفساد ليس ظاهرة فرديّة محدودة، بل هو منظومة إجتماعية متجذِّرة، تبدأ من الحاكمين و تمتد إلى سائر مرافق المجتمع، و فيها الآلاف من المنتفعين، و هؤلاء بيدهم القوّة و السلطة و أدوات الكبت و الفتك التي يستعملونها لإسكات الصوت الحُر الناقد و للقضاء على دعوات الإصلاح.
و إذا ما اشتدّت المواجهة و أحسّ الفاسدون بالخطر يُهدِّد عروشهم ومصالحهم، فإنّهم لا يتوانون في استعمال أبشع أنواع الظلم، من قتل و تشريد، و قمع و تهجير..أليس القتل من أبرز عناوين الفساد؟ و أليس الظلم من أكثر صوره شيوعاً؟
و هكذا نجد عبر التاريخ: صراعاً أبدياً بين الظالمين و الفاسدين و الكافرين من جهة، و بين عباد الله الصالحين و المُصلحين من جهة أخرى، و مَن يقرأ سيرة الأنبياء يجد المعركة واحدة و إن تعدّدت ساحاتها و اختلف رجالها، و لكنها هي هي، مع تغيُّر الزمان و المكان.
قال تعالى: (وَ كَذلِكَ جَعَلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً مِنَ المُجرِمِينَ و كَفَى بِرَبِّكَ هادِياً و نَصِيراً) (الفرقان/ 31).
و هكذا نقرأ في القرآن، من قصص النبيِّين و معاناتهم مع طغاة عصرهم و الفاسدين في زمانهم، نقرأ ألواناً من العذاب و التنكيل و العدوان و البغي الذي صبّ على الأنبياء و المؤمنين، لأنّهم أرادوا إصلاح أوضاع أُممهم و نجاتهم من الكفر و الظلم و الفساد الذي كانوا فيه.
نقرأ في قصّة أوائل المُرسلين: نوح كيف كان يدعو قومه إلى الإيمان و التقوى و يُذكِّرهم بآيات الله..و لكنّهم لم يكتفوا بتكذيبه، و الإستهزاء بمن تبعه من الناس الطيِّبين و البسطاء..لم يكتفوا بذلك، بل انتقلوا إلى مرحلة التهديد و الوعيد، حالهم حال الكافرين ممّن لا حجّة لهم و لا منطق إلاّ لغة الحديد..يقول تعالى: (قالُوا لَئِنْ لَم تَنتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرجُومِين * قالَ رَبِّ إنّ قَومِي كَذَّبُون * فَافتَحْ بَينِي وبَينَهُم فَتحاً و نَجِّنِي وَ مَن مَعِيَ مِنَ المُؤمِنِين) (الشُّعراء/ 117-119).
نقرأ عن بني إسرائيل و قتلهم الأنبياء و الإعتداء على المؤمنين و ما أصبحوا فيه من غضب الله..يقول تعالى: (...وَ ضُرِبَتْ عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ و المَسكَنَةُ وَ بَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلكَ بِأنّهُم كانُوا يَكفُرُونَ بِآياتِ اللهِ و يَقتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيرِ الحَقِّ ذلكَ بِما عَصَوا و كانُوا يَعتَدُون) (البقرة/ 61).
و العدوان اتّخذ أشكالاً أخرى، إضافة إلى القتل، التشريد و التهجير، كما يحدث في عصرنا، يقول تعالى: (ثُمّ أنتُم هؤُلاءِ تَقتُلُونَ أنفُسَكُم و تُخرِجُونَ فَرِيقاً مِنكُم مِن دِيارِهِم تَظَاهَرُونَ عَلَيهِم بِالإثمِ و العُدوَانِ و إنْ يَأتُوكُم أُسَارَى تُفادُوهُم و هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيكُم إخرَاجُهُم...) (البقرة/ 85).
و قد يأخذ الظلم شكلاً إقتصادياً بأكلِ أموال الناس بالباطل، بوسائل مختلفة، منها: الرِّبا..يقول تعالى: (فَبِظُلمٍ مِنَ الذينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيهِم طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُم و بِصَدِّهِم عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً * و أخْذِهِم الرِّبَا و قَد نُهُوا عَنهُ و أكلِهِم أموَالَ النّاسِ بِالبَاطِلِ و أعْتَدْنا لِلكافِرِينَ مِنهُم عَذاباً أليماً) (النِّساء/ 160-161).
و من خطط المُفسدين أيضاً: إثارة الفتنة و التآمر لغرض الإيقاع بالمؤمنين و النيل منهم، كما عمل اليهود مع رسول الله(صلى الله عليه و سلم) فتآمروا على قتله و إخراج المؤمنين من المدينة و حرّكوا المشركين من قريش للفتك بهم..يقول تعالى: (و قالَتِ اليَهُودُ و النَّصَارَى نَحنُ أبنَاءُ اللهِ و أحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَل أنتُم بَشَرٌ مِمَّن خَلَقَ يَغفِرُ لِمَن يَشَاءُ و يُعَذِّبُ مَن يَشاءُ و للهِ مُلكُ السَّموَاتِ و الأرضِ و ما بَينَهُما و إلَيهِ المَصِير) (المائدة/ 18).
إضافة إلى محاولات التشويه الإعلامي للرسالة و إظهارها بغير مظهرها الحق، كما قال تعالى: (...و إذْ كَفَفْتُ بَنِي إسرَائِيلَ عَنكَ إذْ جِئتَهُم بِالبَيِّناتِ فَقالَ الذينَ كَفَرُوا مِنهُم إنْ هذا إلاّ سِحرٌ مُبِين) (المائدة/ 110).
و هم يعملون على تحريف الأقوال و تغيير الألفاظ و نشر الأكاذيب لغرض صرف الناس عن اتباع المؤمنين و استماع أقوالهم (...و مِنَ الذينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَومٍ آخَرِينَ لَم يَأتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِن بَعدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُم هذا فَخُذُوهُ و إنْ لَم تُؤتَوهُ فَاحذَرُوا و مَنْ يُرِدِ اللهُ فِتنَتَهُ فَلَن تَملِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيئاً أولئِكَ الذينَ لَم يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم لَهُم في الدُّنيا خِزيٌ و لَهُم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيم) (المائدة/ 41).
و تشتد صور الصِّراع و تزداد ضراوة و عنفاً كلّما كان المفسدون أكثر قوّة و أعلى سلطاناً، فهذا فرعون يتوعّد المؤمنين (لأُقَطِّعَنَّ أيدِيَكُم و أرجُلَكُم مِن خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُم أجمَعِين) (الأعراف/ 124).
و لم يتوقّف بظلمه و عدوانه على الناس المؤمنين، بل تجاوز كلّ القيم و الحدود ليعتدي على أهاليهم، من النِّساء والأبناء: (و قالَ المَلأُ مِن قَومِ فِرعَونَ أتَذَرُ مُوسَى و قَومَهُ لِيُفسِدُوا في الأرضِ و يَذَرَكّ و آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أبنَاءَهُم و نَستَحِي نِساءَهُم و إنّا فَوقَهُم قاهِرُون) (الأعراف/ 127).
فكان بذلك مصداقاً بارزاً و تجسيداً كاملاً للفساد و الظلم و الطغيان، كما يقول تعالى: (إنّ فِرعَونَ عَلا في الأرضِ و جَعَلَ أهلَها شِيَعاً يَستَضعِفُ طائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أبناءَهُم و يَستَحيِي نِساءَهُم إنّهُ كانَ مِنَ المُفسِدِين) (القصص/ 4).
و نجد مشهداً آخر من مشاهد الصِّراع بين المُصلحين و المُفسدين في قصة النبي شعيب، و هو يواجه أكثر ما يواجه الفساد المالي و الإقتصادي الذي كان سائداً في زمانه – و لا زال – ، إذ يدعو قومه إلى رعاية حقوق الناس و الإلتزام بالموازين القسط..بالضوابط و القواعد التي تعطي كل ذي حق حقّه و ليس فيها ظلم لأحد، و لكنهم يزدادون عناداً و عتوّاً و ظلماً و بغياً فيُهدِّدون أمن الناس و يُهدِّدون المؤمنين كي يتراجعوا عن طريقهم و يتفرّق شملهم، فلمّا لم ينفع ذلك و استمرّ شعيب و مَن معه في دعوته و سبيله، لجأوا إلى سلاح الظالم الضعيف، و هو إستخدام القوّة و الإرعاب و الإرهاب (قال المَلأُ الذينَ استَكبَروا من قَومِهِ لَنُخرجَنّكَ يا شُعَيبُ و الذين آمنوا معكَ من قَريَتِنا أو لَتَعودُنَّ في مِلّتِنا قال أوَلَو كُنّا كارهين) (الأعراف/ 88).
إنّه منطق العاجزين الفاشلين الذين لا يجدون جواباً في مقابل دعوات الإصلاح و لا حُجّة تُبرِّر فسادهم فيلجأون إلى القوّة لإسكات المؤمنين و إخماد صوت الحق..و لكن هذا المنطق لا يؤدِّي إلى نتيجة لأن مسيرة الإيمان مستمرة و رسالة المُصلحين منتصرة، يقول تعالى: (الذينَ كَذَّبُوا شُعَيباً كَأنْ لَم يَغنَوا فِيها الذينَ كَذَّبُوا شُعَيباً كانُوا هُمُ الخاسِرِين * فَتَوَلّى عَنهُم و قالَ يا قَومِ لَقَد أبلَغتُكُم رِسالاتِ رَبِّي و نَصَحتُ لَكُم فَكَيفَ آسَى على قَومٍ كافِرِين) (الأعراف/ 92-93).
و هكذا كانت سيرة سائر الأنبياء و المُرسلين، الذين أتوا لهداية المجتمع و إصلاحه..إنّهم كُذِّبوا و أُوذوا بأنواع الأذى من قِبَلِ الكافرين و الظالمين و المفسدين..و لكن كانت العاقبة دوماً: أنّ الله ينصر عباده المؤمنين و تبقى الرسالة حيّة و تنتهي حكومات الظلم و منظومات الفساد و لا تبقى إلاّ آثارها الغابرة و ذكرها السيِّئ عبرة للمُعتبرين.
يقول تعالى: (قَدْ نَعلَمُ إنّهُ لَيَحزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فإنّهُم لا يُكَذِّبُونَكَ و لكِنَّ الظالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجحَدُون * و لَقَد كُذِّبَت رُسُلٌ مِن قَبلِكَ فَصَبُروا على ما كُذِّبُوا و أُوذُوا حتّى أتاهُم نَصرُنا و لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ و لَقَد جاءَكَ مِن نَبَأ المُرسَلِين) (الأنعام/ 33-34).
و يقول تعالى: (و لَقَد سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنا المُرسَلِين * إنّهُم لَهُمُ المَنصُورُون * و إنّ جُندَنا لَهُمُ الغالِبُون * فَتَوَلَّ عَنهُم حَتّى حِينٍ * وأبصِرهُم فَسَوفَ يُبصِرُون) (الصافّات/ 171-176).
و تلك سنّة الله في الأرض، باقية ما بقي، من صراع الحقّ و الباطل، و مواجهة المفسدين مع المُصلحين..و إنّ مسيرة الإصلاح هي المستمرّة، مهما بلغت قوّة الفاسدين و طالت المسيرة، لأنّ إرادة الله تعالى تتدخّل و تدفع باتِّجاه الإصلاح و التغيير، حفاظاً على إستمرار الحياة و نهج الحق: (و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (البقرة/ 2).
و النصرُ بعد الصبر، سيكون حليفَ المؤمنين و عاقبة المصلحين، يقول تعالى: (قالَ مُوسَى لِقَومِهِ استَعِينُوا بِاللهِ و اصبِرُوا إنّ الأرضَ للهِ يُورِثُها مَن يَشَاءُ مِن عِبادِهِ و العاقِبَةُ لِلمُتَّقِين) (الأعراف/ 128).
و ليس هذا وعد للمؤمنين بموسى فحسب، بل هو لسائر المؤمنين الصالحين، يقول تعالى: (و لَقَد كَتَبنا في الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أنّ الأرضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُون * إنّ في هذا لَبَلاغاً لِقَومٍ عابِدِين * و ما أرسَلناكَ إلاّ رَحمَةً لِلعَالَمِين) (الأنبياء/ 105-107).
و هكذا يعمل الصالحون و يجد المُصلحون و هم يحدوهم الأمل و تشرق وجوههم بنور الله و هم يتطلّعون إلى تطهير الأرض من براثن الفساد و إصلاح المجتمع..بتأييد الله و نصره (...ولَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إنّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز) (الحج/ 40).
......................
المصدر: كتاب نظرية الإصلاح من القرآن الكريم.
البلاغ