العولمة في المنظور السياسي..بقلم حمزة اللامي
تعني العولمة السياسية..أن الدولة لا تكون هي الفاعل الوحيد والمحرك الوحيد على المسرح السياسي العالمي، ولكن توجد إلى جانبها هيئات متعددة ومنظمات ومؤسسات عالمية وجماعات دولية مختلفة، وغيرها من التنظيمات الفاعلة التي تسعى إلى تحقيق مزيد من الترابط والتداخل والتعاون والاندماج الدولي بينها وبين الدول الأخرى،، مما يعني أن السيادة لا تكون لها الأهمية نفسها من الناحية الفعلية، فالدول قد تكون ذات سيادة من الناحية القانونية، ولكن من الناحية العملية قد تضطر إلى التفاوض مع جميع هذه الائتلافات الدولية، مما ينتج منه أن حريتها في التصرف بحسب مشيئتها تصبح ناقصة ومقيدة بشكلا كبير، أو بشكلا اخر فأن العولمة السياسية هي تقليص فاعلية الدولة أو تقليل دورها، واعتبار الشركات المتعددة الجنسية والمنظمات العالمية شريكاً للدولة في صنع قراراتها السياسية، وهنا نأخذ بعين الاعتبار رأي المنظر البريطاني ديفيد هيلد، خبير العلوم السياسية، عن كيفية تحقق العولمة السياسية. حيث يبدأ ديفيد هيلد من مستوى العلاقات غير السياسية بين المجتمعات، لإدراك هذا الأمر، ومن ثمّ يوجّه بحوثه خطوة خطوة إلى إضعاف الدولة القومية، وفي النهاية استقرار الحكومة العالمية بديلاً عن الحكومة القومية، ويشرح هذه المراحل على هذا المنوال:
- يُضعف ازديادُ العلاقات الاقتصادية والثقافية من قدرة الحكومات ونفعها في مستوى الدولة القومية. فلم تعد للدول السيطرة على نفوذ البضائع الاقتصادية وورودها من حدودها القومية.
-) يُضعف ظهور الشركات ما فوق القومية، والمؤسسات غير الحكومية (NGO) من قدرة الحكومات يوماً بعد يوم، ويُقلّص من خياراتها.
-) يجب أن تنسجم أغلب النطاقات التقليدية لمسؤولية الحكومة والأعمال الخاصة للدول الوطنية مع المعايير والمناهج الدولية، وأن يتم تعريفها (قضايا مثل: الأمن القومي، المصالح القومية، والتهديدات).
-) إن الدول مضطرة أن تعرف حاكميتها في إطار وحدة سياسية أكبر، مثل الاتحاد الأوربي، آسيان، أوبك، نفتا و… وأخيراً تتقلص السيادة القومية للبلدان في داخل مؤسسات دولية وإقليمية، وتضعف سيطرة الدول في حوادث سياسية، قومية، وإقليمية).
إن الغموض الذي يكتنف العولمة السياسية أكبر، قياساً إلى عولمة الاقتصاد. تشير آراء المفكّرين المختلفة إلى وجود تشتت وعدم انسجام، وفيما يعتبر البعض أنها تحققت أو ستتحقّق، يراها البعض مستحيلة الحدوث، وتعتقد فئة أخرى أنها نُفّذت إلى حدٍّ ما، وتركت آثاراً ملموسة، ولكن ثمّة اعتراضات عليها، بحيث لا يمكن توقع تحققها، ويوجد فريق آخر لا يعتقد أنّ العولمة السياسية تسبّبت في اندماج سياسيّ، وإنما يعتبرون أنّها قد أثارت حساسية الدول، ونمّت الشعور القومي وتسبّبت في معاداتها، كما ذهب البعض إلى أنّ العولمة السياسية تعني نقلاً لسلطة الدولة واختصاصاتها إلى مؤسسات عالمية تتولى تسيير العالم وتوجيهه، وهي بذلك تحلّ محلّ الدولة وتهيمن عليها.
ان الحركة المناهضة لعولمة السياسة.. هو اصطلاح يستخدمه بعض المعارضين لسياسة العولمة التي تعارض الشكل الليبرالي الجديد للعولمة مع استخدام أوجه النقد الموجهة للعولمة كجزء من الأسباب المتعلقة بتبرير هذا الموقف السياسي، وقد تتضمن "حركة مناهضة العولمة" أيضًا العمليات أو الإجراءات التي تتخذها الدولة لفرض سيادتها وتطبيق عملية صنع القرار بأسلوب ديمقراطي معاصر، وقد توجد حركة مناهضة العولمة من أجل الحفاظ على حدود ومعايير معينة متعلقة بانتقال الأفراد والسلع والمعتقدات على جميع دول العالم، خاصةً بعد إلغاء القيود المتعلقة بالسوق الحرة الأمر الذي شجع عليه كل من صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية.
علاوة على ذلك، وكما أوضحت "كلين" في كتابها (No Logo) فإن حركة مناهضة العولمة يمكن أن تشير إما إلى حركة اجتماعية واحدة أو إلى مصطلح شامل يتضمن عددًا من الحركات الاجتماعية المنفصلة مثل الحركة القومية أو الحركة الاجتماعية، في أي من الحالتين، يقف المشاركون في هذه الحركة في مواجهة مع القوة السياسية غير المنظمة للشركات الكبرى، وبما ان السياسة تعد من أبرز اختصاصات الدولة القومية التي تحرص على عدم التفريط بها ضمن نطاقها الجغرافي ومجالها الوطني، وهذا الحرص ضِمن المجال المحلي، وبعيد عن التدخلات الخارجية ترتبط أشد الارتباط، بمفهوم السيادة وممارسة الدولة لصلاحياتها وسلطاتها على شعبها وأرضها وثرواتها الطبيعية، والدولة القومية هي نَقيض العولمة، كما أن السياسة ونتيجة لطبيعتها ستكون من أكثر الأبعاد الحياتية مقاومة للعولمة التي تتضمن انكماش العالم وإلغاء الحدود الجغرافية وربط الاقتصادات والثقافات والمجتمعات والأفراد بروابط تتخطى الدول وتتجاوز سيطرتها التقليدية على مجالها الوطني والمحلِّي، وبالتالي فأن الدولة التي كانت دائماً الوحدة الارتكازية لكل النشاطات والقرارات والتشريعات أصبحت الآن وكما يوضح "ريتشارد فويك"، مجرد وحدة ضمن شبكة من العلاقات والوحدات الكثيرة في عالم يزداد انكماشاً وترابطاً، فالقرارات التي تتخذ في عاصمة من العواصم العالمية سرعان ما تنتشر انتشاراً سريعاً إلى كل العواصم، والتشريعات التي تخص دولة من الدول تستحوذ مباشرة على اهتمام العالم بأسره، والسياسات التي تستهدف قطاعات اجتماعية في مجتمع من المجتمعات تؤثر تأثيراً حاسماً في السياسات الداخلية والخارجية لكل المجتمعات القريبة والبعيدة..لقد أفرز الوضع الدولي الجديد عدة مفاهيم وتطورات من منظور عملية العولمة السياسية نذكر أبرزها:
1- توسع دور الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد العالمي، مما حدا بالبعض إلى اعتبار العولمة مرادفاً للأمركة بمعنى سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى إعادة صياغة النظام العالمي طبقاً لمصالحها وتوجهاتها وأنماط القيم السائدة فيها.
2- إن القوة الاقتصادية والمالية التي تمثلها الشركات متعددة الجنسيات خاصة مع اتجاه بعضها نحو الاندماج والتكتل في كيانات أكبر، إنما تسمح لها بممارسة المزيد من الضغط على الحكومات وبخاصة في العالم الثالث، والتأثير على سياساتها وقراراتها السيادية، وليس بجديد القول إن رأسمال شركة واحدة من الشركات العالمية العملاقة يفوق إجمالي الدخل القومي لعشر أو خمس عشرة دولة إفريقية مجتمعة، وهو ما يجعل هذه الكيانات في وضع أقوى من الدول.
وعلى الرغم من القيود التي تفرضها العولمة على الدول القومية والتي تحد من قدرتها على ممارسة سيادتها بالمعنى التقليدي، وعلى الرغم من أن الدولة لم تعد هي الفاعل الوحيد أو الأقوى في النظام العالمي، إلا أنه لا يوجد ما يدل على أن هذه التحولات ستؤدي إلى إلغاء دور الدولة أو خلق بديل لها، حيث سيبقى للدولة دور مهم في بعض المجالات وبخاصة في بلدان العالم الثالث.
3- إن الدول الصناعية الغربية وبعض دول العالم الثالث المصنعة حديثاً اتجهت نحو إقامة وتدعيم التكتلات الاقتصادية الإقليمية كجزء من استراتيجيتها لتتكيف مع عصر العولمة. كما هو الحال في التطورات التي لحقت بالمجموعة الاقتصادية الأوروبية، وكذلك ببادرة الولايات المتحدة الأمريكية بتأسيس "النافاتا" التي تضم إلى جانبها كل من كندا والمكسيك. كما حرصت دول جنوب شرق آسيا على تدعيم علاقاتها من خلال رابطة "الاسيان".
وإذا كان تعزيز التكتل الاقتصادي الإقليمي يمثل آلية مهمة لتمكين الدول الأعضاء في تلك التكتلات من تعظيم فرص وإمكانيات استفادتها من إيجابيات عملية العولمة، وتقليص ما يمكن أن تتركه عليها من سلبيات، فإن الكثير من مناطق العالم الثالث تعاني من ضعف وهشاشة أطر وهياكل التكتل والتكامل الإقليمي بين دولها.
4- على الرغم من زيادة اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم على صعيد الخطاب السياسي الرسمي وبعض الممارسات العملية إلا أن السياسة الأمريكية تتعامل مع هذه القضية بنوع من البركماتية والانتهازية السياسية التي تتجلى أبرز صورها مع المعايير المزدوجة التي تطبقها بهذا الخصوص، وعدم ترددها في التضحية بقيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان في حالة تعارضها مع مصالحها الاقتصادية والتجارية. وهكذا يتبين لنا أن أمريكا لا تتبنى قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان كرسالة أخلاقية عالمية بل تتخذها كأداة لخدمة مصالحها وسياستها الخارجية.
5- إن القوة العظمى الوحيدة في عالم مابعد الحرب الباردة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية تعمد إلى استخدام قواتها ونفوذها لتوظيف الأمم المتحدة ومؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين من أجل تحقيق مصالحها ومصالح حلفائها الغربيين بصفة عامة.
6- إن فرص وإمكانيات تحقيق المزيد من الاستقرار في النظام العالمي في عصر العولمة تبدو بصفة عامة محدودة، فالتأثيرات القائمة والمحتملة للعولمة على بلدان العالم الثالث وبخاصة فيما يتعلق بتهميش بعض الدول، وتوسيع الهوة بين الشمال والجنوب واستمرار تفاقم بعض المشكلات التي يعاني منها العالم الثالث. نظراً لذلك فإن بعض مناطق الجنوب ستبقى رهينة للحروب الداخلية والإقليمية التي يمثل بعضها عناصر لعدم الاستقرار في النظام العالمي.
ختاما نقول أضحت العولمة السياسية أمراً واقعيا فهي تمسك بإحدى يديها الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، وباليد الأخرى العصا، وبهذا التوجه فإنها تخترق كافة الحدود معتمدة على قواها الإعلامية والاقتصادية والعسكرية وأثرها على الرأي العام العالمي الجدير بالإعتبار بحيث أن القوانين الداخلية للدول أصبحت تخضع وتتكيف شيئاً فشيئاً مع آثار العولمة السياسية ومنظومتها الفكرية، إن نزعة العولمة السياسية ـ الأمركة ـ رافقها إحياء شعور غربي لقيادة العالم، وبأن المستقبل يجب أن يحسم نهائياً لمصلحة الغرب، إن هذه الحملة الدعائية التي توجّه الرأي العام الغربي وتنطلي على الرأي العام العالمي تؤهل أميركا أن تفعل ما تشاء وتجد لها الأعذار والمبررات، وكأن غلبة الغرب وعولمة العالم على طريق الأمركة أصبح أمراً محتوماً وعلى البشرية أن تسلم به، وكأنه قدر محتوم مما يضعف عند الجميع القدرة على المقاومة أو حتى التفكير بها.
.........
شبكة النبأ المعلوماتية-17/كانون الأول/2011
تعني العولمة السياسية..أن الدولة لا تكون هي الفاعل الوحيد والمحرك الوحيد على المسرح السياسي العالمي، ولكن توجد إلى جانبها هيئات متعددة ومنظمات ومؤسسات عالمية وجماعات دولية مختلفة، وغيرها من التنظيمات الفاعلة التي تسعى إلى تحقيق مزيد من الترابط والتداخل والتعاون والاندماج الدولي بينها وبين الدول الأخرى،، مما يعني أن السيادة لا تكون لها الأهمية نفسها من الناحية الفعلية، فالدول قد تكون ذات سيادة من الناحية القانونية، ولكن من الناحية العملية قد تضطر إلى التفاوض مع جميع هذه الائتلافات الدولية، مما ينتج منه أن حريتها في التصرف بحسب مشيئتها تصبح ناقصة ومقيدة بشكلا كبير، أو بشكلا اخر فأن العولمة السياسية هي تقليص فاعلية الدولة أو تقليل دورها، واعتبار الشركات المتعددة الجنسية والمنظمات العالمية شريكاً للدولة في صنع قراراتها السياسية، وهنا نأخذ بعين الاعتبار رأي المنظر البريطاني ديفيد هيلد، خبير العلوم السياسية، عن كيفية تحقق العولمة السياسية. حيث يبدأ ديفيد هيلد من مستوى العلاقات غير السياسية بين المجتمعات، لإدراك هذا الأمر، ومن ثمّ يوجّه بحوثه خطوة خطوة إلى إضعاف الدولة القومية، وفي النهاية استقرار الحكومة العالمية بديلاً عن الحكومة القومية، ويشرح هذه المراحل على هذا المنوال:
- يُضعف ازديادُ العلاقات الاقتصادية والثقافية من قدرة الحكومات ونفعها في مستوى الدولة القومية. فلم تعد للدول السيطرة على نفوذ البضائع الاقتصادية وورودها من حدودها القومية.
-) يُضعف ظهور الشركات ما فوق القومية، والمؤسسات غير الحكومية (NGO) من قدرة الحكومات يوماً بعد يوم، ويُقلّص من خياراتها.
-) يجب أن تنسجم أغلب النطاقات التقليدية لمسؤولية الحكومة والأعمال الخاصة للدول الوطنية مع المعايير والمناهج الدولية، وأن يتم تعريفها (قضايا مثل: الأمن القومي، المصالح القومية، والتهديدات).
-) إن الدول مضطرة أن تعرف حاكميتها في إطار وحدة سياسية أكبر، مثل الاتحاد الأوربي، آسيان، أوبك، نفتا و… وأخيراً تتقلص السيادة القومية للبلدان في داخل مؤسسات دولية وإقليمية، وتضعف سيطرة الدول في حوادث سياسية، قومية، وإقليمية).
إن الغموض الذي يكتنف العولمة السياسية أكبر، قياساً إلى عولمة الاقتصاد. تشير آراء المفكّرين المختلفة إلى وجود تشتت وعدم انسجام، وفيما يعتبر البعض أنها تحققت أو ستتحقّق، يراها البعض مستحيلة الحدوث، وتعتقد فئة أخرى أنها نُفّذت إلى حدٍّ ما، وتركت آثاراً ملموسة، ولكن ثمّة اعتراضات عليها، بحيث لا يمكن توقع تحققها، ويوجد فريق آخر لا يعتقد أنّ العولمة السياسية تسبّبت في اندماج سياسيّ، وإنما يعتبرون أنّها قد أثارت حساسية الدول، ونمّت الشعور القومي وتسبّبت في معاداتها، كما ذهب البعض إلى أنّ العولمة السياسية تعني نقلاً لسلطة الدولة واختصاصاتها إلى مؤسسات عالمية تتولى تسيير العالم وتوجيهه، وهي بذلك تحلّ محلّ الدولة وتهيمن عليها.
ان الحركة المناهضة لعولمة السياسة.. هو اصطلاح يستخدمه بعض المعارضين لسياسة العولمة التي تعارض الشكل الليبرالي الجديد للعولمة مع استخدام أوجه النقد الموجهة للعولمة كجزء من الأسباب المتعلقة بتبرير هذا الموقف السياسي، وقد تتضمن "حركة مناهضة العولمة" أيضًا العمليات أو الإجراءات التي تتخذها الدولة لفرض سيادتها وتطبيق عملية صنع القرار بأسلوب ديمقراطي معاصر، وقد توجد حركة مناهضة العولمة من أجل الحفاظ على حدود ومعايير معينة متعلقة بانتقال الأفراد والسلع والمعتقدات على جميع دول العالم، خاصةً بعد إلغاء القيود المتعلقة بالسوق الحرة الأمر الذي شجع عليه كل من صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية.
علاوة على ذلك، وكما أوضحت "كلين" في كتابها (No Logo) فإن حركة مناهضة العولمة يمكن أن تشير إما إلى حركة اجتماعية واحدة أو إلى مصطلح شامل يتضمن عددًا من الحركات الاجتماعية المنفصلة مثل الحركة القومية أو الحركة الاجتماعية، في أي من الحالتين، يقف المشاركون في هذه الحركة في مواجهة مع القوة السياسية غير المنظمة للشركات الكبرى، وبما ان السياسة تعد من أبرز اختصاصات الدولة القومية التي تحرص على عدم التفريط بها ضمن نطاقها الجغرافي ومجالها الوطني، وهذا الحرص ضِمن المجال المحلي، وبعيد عن التدخلات الخارجية ترتبط أشد الارتباط، بمفهوم السيادة وممارسة الدولة لصلاحياتها وسلطاتها على شعبها وأرضها وثرواتها الطبيعية، والدولة القومية هي نَقيض العولمة، كما أن السياسة ونتيجة لطبيعتها ستكون من أكثر الأبعاد الحياتية مقاومة للعولمة التي تتضمن انكماش العالم وإلغاء الحدود الجغرافية وربط الاقتصادات والثقافات والمجتمعات والأفراد بروابط تتخطى الدول وتتجاوز سيطرتها التقليدية على مجالها الوطني والمحلِّي، وبالتالي فأن الدولة التي كانت دائماً الوحدة الارتكازية لكل النشاطات والقرارات والتشريعات أصبحت الآن وكما يوضح "ريتشارد فويك"، مجرد وحدة ضمن شبكة من العلاقات والوحدات الكثيرة في عالم يزداد انكماشاً وترابطاً، فالقرارات التي تتخذ في عاصمة من العواصم العالمية سرعان ما تنتشر انتشاراً سريعاً إلى كل العواصم، والتشريعات التي تخص دولة من الدول تستحوذ مباشرة على اهتمام العالم بأسره، والسياسات التي تستهدف قطاعات اجتماعية في مجتمع من المجتمعات تؤثر تأثيراً حاسماً في السياسات الداخلية والخارجية لكل المجتمعات القريبة والبعيدة..لقد أفرز الوضع الدولي الجديد عدة مفاهيم وتطورات من منظور عملية العولمة السياسية نذكر أبرزها:
1- توسع دور الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد العالمي، مما حدا بالبعض إلى اعتبار العولمة مرادفاً للأمركة بمعنى سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى إعادة صياغة النظام العالمي طبقاً لمصالحها وتوجهاتها وأنماط القيم السائدة فيها.
2- إن القوة الاقتصادية والمالية التي تمثلها الشركات متعددة الجنسيات خاصة مع اتجاه بعضها نحو الاندماج والتكتل في كيانات أكبر، إنما تسمح لها بممارسة المزيد من الضغط على الحكومات وبخاصة في العالم الثالث، والتأثير على سياساتها وقراراتها السيادية، وليس بجديد القول إن رأسمال شركة واحدة من الشركات العالمية العملاقة يفوق إجمالي الدخل القومي لعشر أو خمس عشرة دولة إفريقية مجتمعة، وهو ما يجعل هذه الكيانات في وضع أقوى من الدول.
وعلى الرغم من القيود التي تفرضها العولمة على الدول القومية والتي تحد من قدرتها على ممارسة سيادتها بالمعنى التقليدي، وعلى الرغم من أن الدولة لم تعد هي الفاعل الوحيد أو الأقوى في النظام العالمي، إلا أنه لا يوجد ما يدل على أن هذه التحولات ستؤدي إلى إلغاء دور الدولة أو خلق بديل لها، حيث سيبقى للدولة دور مهم في بعض المجالات وبخاصة في بلدان العالم الثالث.
3- إن الدول الصناعية الغربية وبعض دول العالم الثالث المصنعة حديثاً اتجهت نحو إقامة وتدعيم التكتلات الاقتصادية الإقليمية كجزء من استراتيجيتها لتتكيف مع عصر العولمة. كما هو الحال في التطورات التي لحقت بالمجموعة الاقتصادية الأوروبية، وكذلك ببادرة الولايات المتحدة الأمريكية بتأسيس "النافاتا" التي تضم إلى جانبها كل من كندا والمكسيك. كما حرصت دول جنوب شرق آسيا على تدعيم علاقاتها من خلال رابطة "الاسيان".
وإذا كان تعزيز التكتل الاقتصادي الإقليمي يمثل آلية مهمة لتمكين الدول الأعضاء في تلك التكتلات من تعظيم فرص وإمكانيات استفادتها من إيجابيات عملية العولمة، وتقليص ما يمكن أن تتركه عليها من سلبيات، فإن الكثير من مناطق العالم الثالث تعاني من ضعف وهشاشة أطر وهياكل التكتل والتكامل الإقليمي بين دولها.
4- على الرغم من زيادة اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم على صعيد الخطاب السياسي الرسمي وبعض الممارسات العملية إلا أن السياسة الأمريكية تتعامل مع هذه القضية بنوع من البركماتية والانتهازية السياسية التي تتجلى أبرز صورها مع المعايير المزدوجة التي تطبقها بهذا الخصوص، وعدم ترددها في التضحية بقيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان في حالة تعارضها مع مصالحها الاقتصادية والتجارية. وهكذا يتبين لنا أن أمريكا لا تتبنى قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان كرسالة أخلاقية عالمية بل تتخذها كأداة لخدمة مصالحها وسياستها الخارجية.
5- إن القوة العظمى الوحيدة في عالم مابعد الحرب الباردة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية تعمد إلى استخدام قواتها ونفوذها لتوظيف الأمم المتحدة ومؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين من أجل تحقيق مصالحها ومصالح حلفائها الغربيين بصفة عامة.
6- إن فرص وإمكانيات تحقيق المزيد من الاستقرار في النظام العالمي في عصر العولمة تبدو بصفة عامة محدودة، فالتأثيرات القائمة والمحتملة للعولمة على بلدان العالم الثالث وبخاصة فيما يتعلق بتهميش بعض الدول، وتوسيع الهوة بين الشمال والجنوب واستمرار تفاقم بعض المشكلات التي يعاني منها العالم الثالث. نظراً لذلك فإن بعض مناطق الجنوب ستبقى رهينة للحروب الداخلية والإقليمية التي يمثل بعضها عناصر لعدم الاستقرار في النظام العالمي.
ختاما نقول أضحت العولمة السياسية أمراً واقعيا فهي تمسك بإحدى يديها الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، وباليد الأخرى العصا، وبهذا التوجه فإنها تخترق كافة الحدود معتمدة على قواها الإعلامية والاقتصادية والعسكرية وأثرها على الرأي العام العالمي الجدير بالإعتبار بحيث أن القوانين الداخلية للدول أصبحت تخضع وتتكيف شيئاً فشيئاً مع آثار العولمة السياسية ومنظومتها الفكرية، إن نزعة العولمة السياسية ـ الأمركة ـ رافقها إحياء شعور غربي لقيادة العالم، وبأن المستقبل يجب أن يحسم نهائياً لمصلحة الغرب، إن هذه الحملة الدعائية التي توجّه الرأي العام الغربي وتنطلي على الرأي العام العالمي تؤهل أميركا أن تفعل ما تشاء وتجد لها الأعذار والمبررات، وكأن غلبة الغرب وعولمة العالم على طريق الأمركة أصبح أمراً محتوماً وعلى البشرية أن تسلم به، وكأنه قدر محتوم مما يضعف عند الجميع القدرة على المقاومة أو حتى التفكير بها.
.........
شبكة النبأ المعلوماتية-17/كانون الأول/2011