تحرير الديمقراطية من معتقلاتها الليبرالية والعلمانية
معضلة الديمقراطية والغرب والإسلام.
جذور تعايش النقيضين..الديمقراطية والليبرالية
الحكم..وصناعة القرار..والإنسان
الخلفية العلمانية لانحرافات غربية
الطريق الديمقراطي طريق إسلامي؟..
علام يدعو الغربيون أحيانا إلى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته في بلدان إسلامية ثم ينكصون عن تلك الدعوات ويدعمون الاستبداد؟..
كيف تتوافق هذه الدعوات مع واقع التعامل الغربي مع الأسرة البشرية عبر الاستغلال الاقتصادي والهيمنة العسكرية وسواهما؟..
هل يمكن لدعاة التحرر من منطلق إسلامي أو أي منطلق في البلدان العربية والإسلامية الاعتماد على الغرب أو توقّع دعمه أو إقامة علاقات قويمة مع صانعي القرار فيه؟..
تبدو هذه التساؤلات وكأنّها تطرح معضلة عويصة، وبقليل من التأمّل في الواقع وخلفياته، التاريخية والمعاصرة، يظهر للعيان أنّها ليست معضلة.. إلا في حالة تجاهل الوقائع والشواهد من التاريخ ومن عالمنا المعاصر.
جذور تعايش النقيضين..الديمقراطية والليبرالية
بإيجاز شديد: يبدو أن عودة الغربيين إلى العصر الإغريقي وفلاسفته بشأن المهد الأوّل للديمقراطية، وحديثهم عمّا أسموه "ديمقراطية أثينا" ليست مجرّد حرص على ربط واقعهم بجذور تاريخية قديمة، تتجاوز حقبة العصور الوسطى وما كان فيها من استبداد إقطاعي وكنسي، بل هي علاوة على ذلك تعبير فكري عن نوعية الديمقراطية التي أصبحت ممارستها في الوقت الحاضر شاهدا على ارتباطها بالعصر الإغريقي فعلا!..
ديمقراطية أثينا كانت "ديمقراطية طبقة الأسياد المسيطرين" بينا كان فريق "الدهماء"، أي الشعب وفق مصطلحات المرحلة، رقيقا مستعبدا بالمعنى الفعلي للكلمة، أو من حيث الواقع، ولم يكن له الحق في مجرّد المشاركة بالحوار حول أمر من أمور السلطة، ويشهد على ذلك –مثلا من أمثلة عديدة- صدور حكم بالإعدام على سقراط، عندما دعا إلى مشاركة "الدهماء" في التفكير بأمورهم وأمور الدولة، من خلال فلسفته التي اشتهرت بالفلسفة التوليدية، كناية عن توجيهه الأسئلة للعامّة في الطرقات، لا سيما الشبيبة، ليستحثّهم على التفكير وبالتالي "توليد الإجابة" على ألسنتهم، وكان أوّل فيلسوف إغريقي تبنّى هذه الدعوة التي يمكن تصنيفها في خانة "حرية التعبير" وجرى تضخيمها بوصفها دعوة إلى الديمقراطية، وهي من أسباب اعتباره من "الحكماء السبعة" في العهد الإغريقي وفق التصنيف الغربي الحديث لفلاسفة ذلك العهد.
أمّا كبير الفلاسفة الإغريق أرسطو أو أرسطوطاليس، فكان أوّل من استخدم تعبير "الديمقراطية" نفسه، ولكن ليس على سبيل الدعوة إليها، بل على سبيل الاستهزاء بأصل الفكرة، أن يكون للدهماء رأي ويُستمع إليه، وما أشبه ذلك بأقوال المستبدين وحواشيهم اليوم: "لم يبلغ الشعب –أو صوت الشارع- مستوى كافيا من الوعي ليؤخذ بما يقول"!..
وبقي تمرّد أفلاطون على أرسطو –وكان تلميذه- بمثابة الحدّ الأقصى الذي مضى إليه فلاسفة الإغريق واعتُبر مصدر "الفكر الأوّل" للديمقراطية الغربية، وهذا ما حمله كتاب "المدينة الفاضلة"، وفيه يتم تثبيت حق "الديمقراطية" –بمعنى التشاور وصناعة القرار في نطاق السلطة الواحدة.. وليس في سلطات ثلاث- للطبقة الحاكمة وحدها، فالمدينة الفاضلة الأفلاطونية مدينة "تمييز عنصري" بمعنى الكلمة، والطبقة الثانية فيها هي طبقة المقاتلين، فلهم شرف الدفاع عن الدولة، أما الطبقة الثالثة، فهي طبقة العاملين من مختلف الفئات "الشعبية"، ويرى أفلاطون أنّها وُجدت لتعمل وتخدم هاتين الطبقتين، وليس لها حق الكلام أو الاعتراض ناهيك أن تصنع ما يسمى في العصر الحديث "انتخابا" أو "تداولا على السلطة" أو "فصلا بين السلطات الثلاث"، وسوى ذلك من العناصر الأساسية في نظام ديمقراطي.
في العصر الحديث كانت ولادة الأنظمة الديمقراطية في الدول القومية الغربية الناشئة عبر عصر التنوير، ثم ما لبثت أن واكبتها نشأة "الليبرالية"، بمعنى إعطاء الأولوية للحرية الفردية الشخصية.. في الميدان المالي تخصيصا، فهي الوجه الاقتصادي الثاني من ميدالية الرأسمالية، ومع تطوّر المسيرتين، الديمقراطية والليبرالية، وصل التطوّر الحديث إلى انفصام نكد ما بين (أ) شعارات تنطوي على ذكر الحقوق والحريات الإنسانية وتقنينها جزئيا –أو تقنينا مقيّدا- مع اعتبار الديمقراطية هي الآلية التطبيقية لتلك الشعارات (وهي مطبّقة.. ولكن).. وبين (ب) وقائع اقتصادية ومالية مادية صنعتها مسيرة الليبرالية فجعلت موازين القوى، وفي مقدّمتها قوّة المال، هي الأقدر على صناعة القرار، أو فرضه على الأجهزة السياسية، أو التأثير عليها بدرجات متفاوتة لصنعه كما تريد، ممّا أدّى إمّا إلى "إضعاف" الديمقراطية وفق أشدّ التعابير ديبلوماسيةً لدى المفكرين المحدثين في الغرب، أو إلى "تفريغها من محتواها"، وفق تعبير ما بقي من اليسار بعد أن ساهمت العولمة الرأسمالية الليبرالية في اضمحلاله إلى حدّ بعيد وجعله "يسارا رأسماليا" محضا.
وما يسري على تعامل الديمقراطيين الليبراليين مع دولهم الديمقراطية الغربية، يسري على التعامل مع الواقع البشري من حولهم، فمع جميع ما صدر من دعوات إلى نشر الديمقراطية إضافة إلى الحقوق والحريات الإنسانية وفق الرؤية الغربية لها، كان الحرص الأكبر متركزا على بقاء موازين القوى وفق ما صنعته الهيمنة المالية عبر الرأسمالية الليبرالية، فإذا تبيّن وجود خطر يهدّد هذه الهيمنة، تراجعت تلك الدعوات، وحلّ مكانها دعم أيّ نظام استبدادي يضمن استمرار علاقات الهيمنة.
أليس هذا ما ظهر أوضحُ مثالٍ حديثٍ عليه في مصير ما اعتُبر دعوات غربية إلى الديمقراطية في مواكبة أحدث الحروب الأمريكية العالمية الفتاكة في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن؟..
الحكم..وصناعة القرار..والإنسان
النظام الديمقراطي ومنظومة حقوق الإنسان وحرياته، كما تمارسهما دول الغرب، وتريد أن تمارسهما الدول الأخرى، الإسلامية وسواها، هما آلية للحكم ومبادئ للتعامل البشري، أصبحت مرتبطة ارتباطا محكما بآليات أخرى ومبادئ أخرى، يدور محورها (وفي أفضل الأحوال الصراع الفكري والعملي معها) حول سيادة المال لا الإنسان، وهيمنة النموّ الاقتصادي المتمثّل في الميزانيات والأرباح لصالح مَن يملك مؤسسات المال والأعمال وليس هيمنة الكرامة الإنسانية –بل الحياة الإنسانية نفسها- في المعيشة اليومية الفردية، سواء في نطاق البلد الواحد، أو على مستوى العلاقات الدولية.
النظام الديمقراطي باعتباره آلية للحكم، تقوم على أسس ثابتة، في مقدمتها إرادة الشعوب، وفصل السلطات، وسيادة القضاء، هو آليّة للحكم حدّد ملامحها الكبرى المفكّرون، وتعاني تطبيقاتها على أرض الواقع ممّا تصنعه طاحونة الهيمنة المادية محليا وعالميا، فلا ينبغي استغراب أن تبلغ معدلات الفقر والتشريد بين الأطفال والكبار في أثرى البلدان الغربية مبلغا لا يكاد يمكن تصوّره مقابل ما يُنشر من أرقام مذهلة حول "النموّ الاقتصادي" والثراء الفاحش، وميزانيات شركات ومصارف عملاقة، ومكائد المضاربين والمراهنين.. على حساب الإنسان، وما تصنعه الحكومات "المنتخبة" لصالح تلك القوى جنبا إلى جنب مع الضغوط القاهرة على الفئات الأضعف شعبيا، ولا ينبغي أيضا استغراب ما نرصده من كوارث بشرية كبرى في مقدّمة أسبابها الهوّة التي صنعتها الهيمنة المادية لصانعي القرار في الغرب أو في الشمال، على حساب المجموعات البشرية الأخرى في العالم.
أمّا حقوق الإنسان وحرياته، كما صاغتها أفكار المتنوّرين الأوائل في أواخر العصر الوسيط الأوروبي، ثم المواثيق التي ولدت في رحم الصراع الدموي على سريان مفعولها، كما كان في الثورة الفرنسية وحرب الاستقلال والحرب الأهلية الأمريكيتين، فقد كانت وما تزال ساحة "صراع" للوصول إليها، في جولات غير متكافئة، ما بين فئات كبرى ضعيفة مادية وأخرى محدودة مهيمنة ماديا، أو بين أسس وقواعد للتعامل البشري تنبثق عن مبادئ ومثل وقيم، وبين وقائع تصنعها موازين القوى والتنافس فيما بينها على السيطرة والهيمنة، وتملك من وسائل القوة ما يمكّنها من حسم كلّ جولة صراع لصالحها.
لا بدّ لاستيعاب الواقع القائم من الفصل بين صياغةٍ نظريةٍ لتلك الحقوق والحريات –بغض النظر عن التفاصيل- وبين الواقع التطبيقي في الغرب نفسه، ناهيك عن تعامل دوله، أو القوى المهيمنة على صناعة القرار فيها، مع مختلف شعوب العالم.. مع الإنسان الإفريقي، أو الإنسان المسلم، أو الإنسان في الفئات الأضعف ماديا في الغرب نفسه.
لهذا يمكن القول:
ليس المستغرب أن يدعو بعض المسؤولين في الغرب بين الحين والحين إلى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في البلدان الإسلامية، التي يسمّون بعضها شرق أوسطية وبعضها الآخر آسيويا وإفريقيا، فهم يعلمون ما يدعون إليه، ولا يَفْصِلون فيه –ولا يمكن أن يفصلوا- بين آلية الحكم سياسيا.. وصناعة القرار عبر الهيمنة المادية اقتصاديا وماليا وعسكريا، إنّما من المستغرب أن يربط أي فرد من تلك البلدان العربية والإسلامية والنامية، إذا بلغ درجة كافية من المعرفة والوعي، بين تطلّعه إلى حكم قويم وكرامة إنسانية شاملة، وبين تلك الدعوات.
إن كل ربط في دولة عربية أو إسلامية، بين الدعوة إلى الديمقراطية والحقوق والحريات الإنسانية، وبين الغرب وسياساته، لا يمكن أن يؤدّي إلى تحقيق الهدف، بغض النظر عن الاختلاف حول تفاصيله في الساحة العربية والإسلامية.
الخلفية العلمانية لانحرافات غربية
مسيرة الديمقراطية والليبرالية "معا" في الغرب وما وصلت إليه من خلل في تطبيق الديمقراطية والحقوق والحريات وتضخّم –إلى درجة التوغّل والتوحش وفق مفردات كتابات غربية- هي المسيرة التي صنعتها حاضنة العلمانية المفرطة في طريق الإلحاد، ولا حاجة إلى وقفة عند الأسباب التاريخية لهذا الإفراط، فقد أصبحت بداياته ومآلاته معروفة، منذ ظهور الدعوات الإمبريقية (التجربة الحسية) لتعطيل أي دور للوحي في صناعة القيم الجماعية وتوجيهها، انتهاء بالفلسفات الإلحادية الكبرى كالحتمية التاريخية والوجودية وما شابهها.
ولأنّ عالمنا المعاصر لا يضمّ "العلمانية" و"الإلحاد" فقط.. ولأنّ مطامع الهيمنة الليبرالية الرأسمالية لا تقف عند حدود بلدان نشأتها الأولى.. كان لا بدّ أن تنتقل جولات الصراع العلماني إلى كل بلد فيه أيّ تصوّر من التصوّرات الدينية، المنبثقة عن الوحي وسواها، فليس المطلوب نشر الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان وحرياته ولا حتى النظام الرأسمالي الليبرالي، بل المطلوب أن يكون انتشارهما –أو عولمتهما- مقترنا بالحاضنة العلمانية المتطرّفة، وقد يخرج بعض المفكرين الغربيين عن هذا السياق، إنّما لا تخرج عنه الغالبية الكبرى لصانعي القرار الغربي في الوقت الحاضر.
من هنا أصبح إخفاق مسيرة العلمانية في معظم البلدان الإسلامية تخصيصا ينطوي على إخفاق الدعوات الغربية، ومن تبنّاها مع حاضنتها العلمانية، ومن هنا أيضا ينبغي استغراب موقف الذين يستغربون نكوص الغربيين عن تلك الدعوات، كما لو كانت بالفعل دعوات خالصة لنشر آلية الحكم الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان وحرياته من أسس ومبادئ قويمة!.
إن نكوصهم عن تلك الدعوات أمر طبيعي ونتيجة تلقائية لإخفاقها، بمعنى العجز عن نشرها بعجرها وبجرها، أي عبر مواكبتها لنشر الرأسمالية المتوحّشة والحاضنة العلمانية المتطرّفة، فالخطر كبير على هيمنة القوى المسيطرة في الغرب، لو أمكن انتشار الديمقراطية كآلية لحكم قويم، مع حقوق الإنسان وحرياته، دون خلفيّة علمانية ودون هيمنة مادية، فذاك نموذج يكفي ظهوره لزعزعة دعائم النموذج المنحرف عنه.. القائم في الغرب نفسه، والمهيمن من خلاله عالميا حتى الآن.
لا يمكن في الدائرة الحضارية الإسلامية ذات الجذور الدينية لجميع الأديان السماوية، المرتبطة بالوحي مصدرا لصناعة القيم الإنسانية، نشر تلك الدعوات بصياغتها الغربية الحالية، الوثيقة الصلة بحاضنتها العلمانية المتناقضة مع تلك الأديان تخصيصا، وليس مع الإسلام وحده.
وما أبعد الصواب عن مقولات ترى أن الإخفاق ناجم عن رفض الإنسان في الدائرة الحضارية الإسلامية لتلك الآلية الديمقراطية بحد ذاتها أو عن رفض الحقوق والحريات الإنسانية القويمة، فالرافضون هم المستبدون، وأنصار المستبدين، والمنتفعون من الاستبداد، وجميعهم وثيق الصلة بالغرب، والمهيمنين على القرار في الغرب، والحاضنة العلمانية المتطرفة في الغرب.
الطريق الديمقراطي طريق إسلامي؟..
لئن وجدت إشكالية بين دعاة الإسلام وبين الديمقراطية في الماضي فليس مجهولا أنّ غالبية دعاة الإسلام فكرا وحركة ممن تبنّوا الديمقراطية نهجا للحكم يدعون إليه، هم في هذه الأثناء في مقدمة ضحايا الاستبداد الرافض لهذا النهج.
لم يجد المفكرون والدعاة المحدثون في الإسلام ما يمنع من نظام حكم يقوم على الشورى في صيغة مجالس نيابية منتخبة، أو على العدالة في صيغة فصل بين السلطات، أو على الكرامة الإنسانية في صيغة دستورية وتقنينية تحفظ حقوق الإنسان وحرياته، وارتضوا إرادة الشعب حكما عبر صناديق التصويت للتداول على السلطة اقتناعا باستحالة "إكراه" الشعوب على سلطات لا تريدها.. فجميع ذلك له جذوره -الأفضل والأقوم- في الإسلام نفسه.
ولكن دعا أكثرهم وما يزال يدعو إلى ديمقراطية لا تحتضن انحراف العلمانية ولا يحتضنها، ولا يمتطيها استغلال الليبرالية الرأسمالية لتحقيق هيمنة فريق من البشر على البشر برداء ديمقراطي مزيّف، وهذا جوهر أزمة علاقتهم بالقوى المهيمنة في الغرب "العلماني الرأسمالي الليبرالي" ومظالمه محليا وعالميا.
لن تزول هذه الأزمة، فجذورها متأصّلة فيما صنعه انحراف المسيرة الحضارية الغربية عن منابعها الأولى في عصر التنوير، وفيما صنعته الحداثة بمسيرة الإلحاد الذي امتطت به العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته على السواء.
نبيل شبيب
مداد القلم
معضلة الديمقراطية والغرب والإسلام.
جذور تعايش النقيضين..الديمقراطية والليبرالية
الحكم..وصناعة القرار..والإنسان
الخلفية العلمانية لانحرافات غربية
الطريق الديمقراطي طريق إسلامي؟..
علام يدعو الغربيون أحيانا إلى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته في بلدان إسلامية ثم ينكصون عن تلك الدعوات ويدعمون الاستبداد؟..
كيف تتوافق هذه الدعوات مع واقع التعامل الغربي مع الأسرة البشرية عبر الاستغلال الاقتصادي والهيمنة العسكرية وسواهما؟..
هل يمكن لدعاة التحرر من منطلق إسلامي أو أي منطلق في البلدان العربية والإسلامية الاعتماد على الغرب أو توقّع دعمه أو إقامة علاقات قويمة مع صانعي القرار فيه؟..
تبدو هذه التساؤلات وكأنّها تطرح معضلة عويصة، وبقليل من التأمّل في الواقع وخلفياته، التاريخية والمعاصرة، يظهر للعيان أنّها ليست معضلة.. إلا في حالة تجاهل الوقائع والشواهد من التاريخ ومن عالمنا المعاصر.
جذور تعايش النقيضين..الديمقراطية والليبرالية
بإيجاز شديد: يبدو أن عودة الغربيين إلى العصر الإغريقي وفلاسفته بشأن المهد الأوّل للديمقراطية، وحديثهم عمّا أسموه "ديمقراطية أثينا" ليست مجرّد حرص على ربط واقعهم بجذور تاريخية قديمة، تتجاوز حقبة العصور الوسطى وما كان فيها من استبداد إقطاعي وكنسي، بل هي علاوة على ذلك تعبير فكري عن نوعية الديمقراطية التي أصبحت ممارستها في الوقت الحاضر شاهدا على ارتباطها بالعصر الإغريقي فعلا!..
ديمقراطية أثينا كانت "ديمقراطية طبقة الأسياد المسيطرين" بينا كان فريق "الدهماء"، أي الشعب وفق مصطلحات المرحلة، رقيقا مستعبدا بالمعنى الفعلي للكلمة، أو من حيث الواقع، ولم يكن له الحق في مجرّد المشاركة بالحوار حول أمر من أمور السلطة، ويشهد على ذلك –مثلا من أمثلة عديدة- صدور حكم بالإعدام على سقراط، عندما دعا إلى مشاركة "الدهماء" في التفكير بأمورهم وأمور الدولة، من خلال فلسفته التي اشتهرت بالفلسفة التوليدية، كناية عن توجيهه الأسئلة للعامّة في الطرقات، لا سيما الشبيبة، ليستحثّهم على التفكير وبالتالي "توليد الإجابة" على ألسنتهم، وكان أوّل فيلسوف إغريقي تبنّى هذه الدعوة التي يمكن تصنيفها في خانة "حرية التعبير" وجرى تضخيمها بوصفها دعوة إلى الديمقراطية، وهي من أسباب اعتباره من "الحكماء السبعة" في العهد الإغريقي وفق التصنيف الغربي الحديث لفلاسفة ذلك العهد.
أمّا كبير الفلاسفة الإغريق أرسطو أو أرسطوطاليس، فكان أوّل من استخدم تعبير "الديمقراطية" نفسه، ولكن ليس على سبيل الدعوة إليها، بل على سبيل الاستهزاء بأصل الفكرة، أن يكون للدهماء رأي ويُستمع إليه، وما أشبه ذلك بأقوال المستبدين وحواشيهم اليوم: "لم يبلغ الشعب –أو صوت الشارع- مستوى كافيا من الوعي ليؤخذ بما يقول"!..
وبقي تمرّد أفلاطون على أرسطو –وكان تلميذه- بمثابة الحدّ الأقصى الذي مضى إليه فلاسفة الإغريق واعتُبر مصدر "الفكر الأوّل" للديمقراطية الغربية، وهذا ما حمله كتاب "المدينة الفاضلة"، وفيه يتم تثبيت حق "الديمقراطية" –بمعنى التشاور وصناعة القرار في نطاق السلطة الواحدة.. وليس في سلطات ثلاث- للطبقة الحاكمة وحدها، فالمدينة الفاضلة الأفلاطونية مدينة "تمييز عنصري" بمعنى الكلمة، والطبقة الثانية فيها هي طبقة المقاتلين، فلهم شرف الدفاع عن الدولة، أما الطبقة الثالثة، فهي طبقة العاملين من مختلف الفئات "الشعبية"، ويرى أفلاطون أنّها وُجدت لتعمل وتخدم هاتين الطبقتين، وليس لها حق الكلام أو الاعتراض ناهيك أن تصنع ما يسمى في العصر الحديث "انتخابا" أو "تداولا على السلطة" أو "فصلا بين السلطات الثلاث"، وسوى ذلك من العناصر الأساسية في نظام ديمقراطي.
في العصر الحديث كانت ولادة الأنظمة الديمقراطية في الدول القومية الغربية الناشئة عبر عصر التنوير، ثم ما لبثت أن واكبتها نشأة "الليبرالية"، بمعنى إعطاء الأولوية للحرية الفردية الشخصية.. في الميدان المالي تخصيصا، فهي الوجه الاقتصادي الثاني من ميدالية الرأسمالية، ومع تطوّر المسيرتين، الديمقراطية والليبرالية، وصل التطوّر الحديث إلى انفصام نكد ما بين (أ) شعارات تنطوي على ذكر الحقوق والحريات الإنسانية وتقنينها جزئيا –أو تقنينا مقيّدا- مع اعتبار الديمقراطية هي الآلية التطبيقية لتلك الشعارات (وهي مطبّقة.. ولكن).. وبين (ب) وقائع اقتصادية ومالية مادية صنعتها مسيرة الليبرالية فجعلت موازين القوى، وفي مقدّمتها قوّة المال، هي الأقدر على صناعة القرار، أو فرضه على الأجهزة السياسية، أو التأثير عليها بدرجات متفاوتة لصنعه كما تريد، ممّا أدّى إمّا إلى "إضعاف" الديمقراطية وفق أشدّ التعابير ديبلوماسيةً لدى المفكرين المحدثين في الغرب، أو إلى "تفريغها من محتواها"، وفق تعبير ما بقي من اليسار بعد أن ساهمت العولمة الرأسمالية الليبرالية في اضمحلاله إلى حدّ بعيد وجعله "يسارا رأسماليا" محضا.
وما يسري على تعامل الديمقراطيين الليبراليين مع دولهم الديمقراطية الغربية، يسري على التعامل مع الواقع البشري من حولهم، فمع جميع ما صدر من دعوات إلى نشر الديمقراطية إضافة إلى الحقوق والحريات الإنسانية وفق الرؤية الغربية لها، كان الحرص الأكبر متركزا على بقاء موازين القوى وفق ما صنعته الهيمنة المالية عبر الرأسمالية الليبرالية، فإذا تبيّن وجود خطر يهدّد هذه الهيمنة، تراجعت تلك الدعوات، وحلّ مكانها دعم أيّ نظام استبدادي يضمن استمرار علاقات الهيمنة.
أليس هذا ما ظهر أوضحُ مثالٍ حديثٍ عليه في مصير ما اعتُبر دعوات غربية إلى الديمقراطية في مواكبة أحدث الحروب الأمريكية العالمية الفتاكة في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن؟..
الحكم..وصناعة القرار..والإنسان
النظام الديمقراطي ومنظومة حقوق الإنسان وحرياته، كما تمارسهما دول الغرب، وتريد أن تمارسهما الدول الأخرى، الإسلامية وسواها، هما آلية للحكم ومبادئ للتعامل البشري، أصبحت مرتبطة ارتباطا محكما بآليات أخرى ومبادئ أخرى، يدور محورها (وفي أفضل الأحوال الصراع الفكري والعملي معها) حول سيادة المال لا الإنسان، وهيمنة النموّ الاقتصادي المتمثّل في الميزانيات والأرباح لصالح مَن يملك مؤسسات المال والأعمال وليس هيمنة الكرامة الإنسانية –بل الحياة الإنسانية نفسها- في المعيشة اليومية الفردية، سواء في نطاق البلد الواحد، أو على مستوى العلاقات الدولية.
النظام الديمقراطي باعتباره آلية للحكم، تقوم على أسس ثابتة، في مقدمتها إرادة الشعوب، وفصل السلطات، وسيادة القضاء، هو آليّة للحكم حدّد ملامحها الكبرى المفكّرون، وتعاني تطبيقاتها على أرض الواقع ممّا تصنعه طاحونة الهيمنة المادية محليا وعالميا، فلا ينبغي استغراب أن تبلغ معدلات الفقر والتشريد بين الأطفال والكبار في أثرى البلدان الغربية مبلغا لا يكاد يمكن تصوّره مقابل ما يُنشر من أرقام مذهلة حول "النموّ الاقتصادي" والثراء الفاحش، وميزانيات شركات ومصارف عملاقة، ومكائد المضاربين والمراهنين.. على حساب الإنسان، وما تصنعه الحكومات "المنتخبة" لصالح تلك القوى جنبا إلى جنب مع الضغوط القاهرة على الفئات الأضعف شعبيا، ولا ينبغي أيضا استغراب ما نرصده من كوارث بشرية كبرى في مقدّمة أسبابها الهوّة التي صنعتها الهيمنة المادية لصانعي القرار في الغرب أو في الشمال، على حساب المجموعات البشرية الأخرى في العالم.
أمّا حقوق الإنسان وحرياته، كما صاغتها أفكار المتنوّرين الأوائل في أواخر العصر الوسيط الأوروبي، ثم المواثيق التي ولدت في رحم الصراع الدموي على سريان مفعولها، كما كان في الثورة الفرنسية وحرب الاستقلال والحرب الأهلية الأمريكيتين، فقد كانت وما تزال ساحة "صراع" للوصول إليها، في جولات غير متكافئة، ما بين فئات كبرى ضعيفة مادية وأخرى محدودة مهيمنة ماديا، أو بين أسس وقواعد للتعامل البشري تنبثق عن مبادئ ومثل وقيم، وبين وقائع تصنعها موازين القوى والتنافس فيما بينها على السيطرة والهيمنة، وتملك من وسائل القوة ما يمكّنها من حسم كلّ جولة صراع لصالحها.
لا بدّ لاستيعاب الواقع القائم من الفصل بين صياغةٍ نظريةٍ لتلك الحقوق والحريات –بغض النظر عن التفاصيل- وبين الواقع التطبيقي في الغرب نفسه، ناهيك عن تعامل دوله، أو القوى المهيمنة على صناعة القرار فيها، مع مختلف شعوب العالم.. مع الإنسان الإفريقي، أو الإنسان المسلم، أو الإنسان في الفئات الأضعف ماديا في الغرب نفسه.
لهذا يمكن القول:
ليس المستغرب أن يدعو بعض المسؤولين في الغرب بين الحين والحين إلى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في البلدان الإسلامية، التي يسمّون بعضها شرق أوسطية وبعضها الآخر آسيويا وإفريقيا، فهم يعلمون ما يدعون إليه، ولا يَفْصِلون فيه –ولا يمكن أن يفصلوا- بين آلية الحكم سياسيا.. وصناعة القرار عبر الهيمنة المادية اقتصاديا وماليا وعسكريا، إنّما من المستغرب أن يربط أي فرد من تلك البلدان العربية والإسلامية والنامية، إذا بلغ درجة كافية من المعرفة والوعي، بين تطلّعه إلى حكم قويم وكرامة إنسانية شاملة، وبين تلك الدعوات.
إن كل ربط في دولة عربية أو إسلامية، بين الدعوة إلى الديمقراطية والحقوق والحريات الإنسانية، وبين الغرب وسياساته، لا يمكن أن يؤدّي إلى تحقيق الهدف، بغض النظر عن الاختلاف حول تفاصيله في الساحة العربية والإسلامية.
الخلفية العلمانية لانحرافات غربية
مسيرة الديمقراطية والليبرالية "معا" في الغرب وما وصلت إليه من خلل في تطبيق الديمقراطية والحقوق والحريات وتضخّم –إلى درجة التوغّل والتوحش وفق مفردات كتابات غربية- هي المسيرة التي صنعتها حاضنة العلمانية المفرطة في طريق الإلحاد، ولا حاجة إلى وقفة عند الأسباب التاريخية لهذا الإفراط، فقد أصبحت بداياته ومآلاته معروفة، منذ ظهور الدعوات الإمبريقية (التجربة الحسية) لتعطيل أي دور للوحي في صناعة القيم الجماعية وتوجيهها، انتهاء بالفلسفات الإلحادية الكبرى كالحتمية التاريخية والوجودية وما شابهها.
ولأنّ عالمنا المعاصر لا يضمّ "العلمانية" و"الإلحاد" فقط.. ولأنّ مطامع الهيمنة الليبرالية الرأسمالية لا تقف عند حدود بلدان نشأتها الأولى.. كان لا بدّ أن تنتقل جولات الصراع العلماني إلى كل بلد فيه أيّ تصوّر من التصوّرات الدينية، المنبثقة عن الوحي وسواها، فليس المطلوب نشر الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان وحرياته ولا حتى النظام الرأسمالي الليبرالي، بل المطلوب أن يكون انتشارهما –أو عولمتهما- مقترنا بالحاضنة العلمانية المتطرّفة، وقد يخرج بعض المفكرين الغربيين عن هذا السياق، إنّما لا تخرج عنه الغالبية الكبرى لصانعي القرار الغربي في الوقت الحاضر.
من هنا أصبح إخفاق مسيرة العلمانية في معظم البلدان الإسلامية تخصيصا ينطوي على إخفاق الدعوات الغربية، ومن تبنّاها مع حاضنتها العلمانية، ومن هنا أيضا ينبغي استغراب موقف الذين يستغربون نكوص الغربيين عن تلك الدعوات، كما لو كانت بالفعل دعوات خالصة لنشر آلية الحكم الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان وحرياته من أسس ومبادئ قويمة!.
إن نكوصهم عن تلك الدعوات أمر طبيعي ونتيجة تلقائية لإخفاقها، بمعنى العجز عن نشرها بعجرها وبجرها، أي عبر مواكبتها لنشر الرأسمالية المتوحّشة والحاضنة العلمانية المتطرّفة، فالخطر كبير على هيمنة القوى المسيطرة في الغرب، لو أمكن انتشار الديمقراطية كآلية لحكم قويم، مع حقوق الإنسان وحرياته، دون خلفيّة علمانية ودون هيمنة مادية، فذاك نموذج يكفي ظهوره لزعزعة دعائم النموذج المنحرف عنه.. القائم في الغرب نفسه، والمهيمن من خلاله عالميا حتى الآن.
لا يمكن في الدائرة الحضارية الإسلامية ذات الجذور الدينية لجميع الأديان السماوية، المرتبطة بالوحي مصدرا لصناعة القيم الإنسانية، نشر تلك الدعوات بصياغتها الغربية الحالية، الوثيقة الصلة بحاضنتها العلمانية المتناقضة مع تلك الأديان تخصيصا، وليس مع الإسلام وحده.
وما أبعد الصواب عن مقولات ترى أن الإخفاق ناجم عن رفض الإنسان في الدائرة الحضارية الإسلامية لتلك الآلية الديمقراطية بحد ذاتها أو عن رفض الحقوق والحريات الإنسانية القويمة، فالرافضون هم المستبدون، وأنصار المستبدين، والمنتفعون من الاستبداد، وجميعهم وثيق الصلة بالغرب، والمهيمنين على القرار في الغرب، والحاضنة العلمانية المتطرفة في الغرب.
الطريق الديمقراطي طريق إسلامي؟..
لئن وجدت إشكالية بين دعاة الإسلام وبين الديمقراطية في الماضي فليس مجهولا أنّ غالبية دعاة الإسلام فكرا وحركة ممن تبنّوا الديمقراطية نهجا للحكم يدعون إليه، هم في هذه الأثناء في مقدمة ضحايا الاستبداد الرافض لهذا النهج.
لم يجد المفكرون والدعاة المحدثون في الإسلام ما يمنع من نظام حكم يقوم على الشورى في صيغة مجالس نيابية منتخبة، أو على العدالة في صيغة فصل بين السلطات، أو على الكرامة الإنسانية في صيغة دستورية وتقنينية تحفظ حقوق الإنسان وحرياته، وارتضوا إرادة الشعب حكما عبر صناديق التصويت للتداول على السلطة اقتناعا باستحالة "إكراه" الشعوب على سلطات لا تريدها.. فجميع ذلك له جذوره -الأفضل والأقوم- في الإسلام نفسه.
ولكن دعا أكثرهم وما يزال يدعو إلى ديمقراطية لا تحتضن انحراف العلمانية ولا يحتضنها، ولا يمتطيها استغلال الليبرالية الرأسمالية لتحقيق هيمنة فريق من البشر على البشر برداء ديمقراطي مزيّف، وهذا جوهر أزمة علاقتهم بالقوى المهيمنة في الغرب "العلماني الرأسمالي الليبرالي" ومظالمه محليا وعالميا.
لن تزول هذه الأزمة، فجذورها متأصّلة فيما صنعه انحراف المسيرة الحضارية الغربية عن منابعها الأولى في عصر التنوير، وفيما صنعته الحداثة بمسيرة الإلحاد الذي امتطت به العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته على السواء.
نبيل شبيب
مداد القلم